الإسلام والعلم
أولاً ــ الإيمان والمعرفة
لا يرى الإسلام في مفهوم “الإيمان” مفهوماً مضاداً لمفهوم “المعرفة” كما هو الحال في مفهوم الإيمان المسيحي[1]، حتى ولو أراد المرء أن يفهم من الإيمان ما يسمى بـ “الاستعداد” لأن الأمر هنا لا يتصل بنهج البحث العلمي ولا بفرض للتفسير التاريخي. وإنما يتصل بمبدأ المعرفة نفسه. فالاستعداد لا ينبغي أن يبرر مفهوماً كذا للإيمان بل ينبغي أن ينظر إليه كضرب من المعرفة المسبقة.
إن المفهوم الإسلامي المقابل لمفهوم “المعرفة” – أو العلم بالمعنى الواسع – ليس هو مفهوم الإيمان بل مفهوم “الظن”، وبهذا المعنى فإن الإسلام يرى بأن المعرفة ينبغي أن تكون شرطاً لا يستغنى عنه للإيمان. ذلك أن المعرفة يمكن أن تكون مرحلة سابقة للإيمان، ولكن كيف يمكن للإيمان أن يكون مرحلة سابقة للمعرفة ويظل مع ذلك إيماناً؟
وإذا كان الإيمان إيماناً بشيء ما أو تصديقاً لشخص ما فإنه لا بدّ وأن يستند في شقه الأول إلى العقل وفي شقه الثاني إلى اليقين التاريخي. وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن يكون مرحلة سابقة على المعرفة.
لذلك لم يكون عبثاً أن يبقى القرآن الكريم ثلاث عشرة سنة[2] وهو يحث المكّيين على التأمل ويدعوهم إلى النظر. لم يكن عبثاً أن ناشدهم فحص عقائدهم الموروثة وأن تحداهم أن يبطلوا تعاليمه إن استطاعوا وأن يدلوا بحججهم.
وإن هذا لا يتعارض مع إيماننا بإعجاز القرآن اللغوي والبلاغي وتحدّيه للعرب. وهو ما يقصده علماء القرآن الكريم بكلمة “إعجاز”. ولكن ينبغي أن نلاحظ أن هذا التحدي إذا نظرنا إليه من الناحية البلاغية الصرفة –كما نفعل إلى الآن وهو صحيح– فإنما نتناول الأسلوب فحسب أو ما نسميه “الشكل”. أما الدعوة إلى النظر والتفكير في حقائق القرآن فهو تحدٍّ في “المضمون” وهو ما نعنيه هنا. إن التحدي الأول يثبت لنا أن هذا الكلام من حيث كلام هو من عند الله. أما الثاني فيثبت لنا من حيث فحواه أنه إلهي أيضاً. وبلغة المؤرخين التحدي الأول يثبت لنا مصدره الإلهي من المرحلة الأولى للبحث وهي “الوقوف على النص” (وذلك باستخدام “العلوم المساعدة” وأهمها بالطبع بالنسبة للنصوص علوم اللغة والبلاغة)؛ والتحدي الثاني ثبت لنا مصدره الإلهي من المرحلة الثانية للبحث وهي “فهم النص”. ولا شك أن العرب لم يؤخذوا ببلاغة القرآن الكريم فحسب بل أخذتهم الدهشة أمام المضمون أيضاً.
هذا القرآن المكي يمكن أن نعتبره “دعوة إلى التفكير” وأن ننظر إليه كـ “مدخل” إلى القرآن الكريم. وعندما أعرض المكيُّون عن تلبية هذه الدعوة وأصروا بعناد على معتقداتهم، فإن ذلك لم يكن يعني غير شيء واحد: أنهم لا يريدون المعرفة. وعدم الرغبة في المعرفة يستوي تماماً والرغبة في إبقاء الحقيقة مخفية مستورة. وإنّ كلمة أخفى أو ستر أو غطى هي إحدى مرادفات “كفر” في العربية مثال ذلك: كفر السحاب السماء، كفر الليل بظلامه… إلخ ذلك أن “الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد وهو الستر والتغطية. يقال لمن غطى درعه بثوبه قد كفر درعه”[3].
فمادة كفر تعني في العربية – آنذاك – دائماً ستر أو غطى، ومعنى “جحد”[4] وإن كان صحيحاً لكنه ليس هو الأصل في الاستعمال العربي آنذاك ولا هو كذلك في القرآن الكريم. وها نحن نورد الأوجه الثلاثة التي ينصرف إليها معنى كفر:
1. الكفر كنقيض للإيمان وذلك إذا قصد بالكفر تغطيته الحق وستره واخفائه، وهذا هو المصطلح القرآني والإسلامي لمعنى الكفر. والحقيقة المقصودة هنا “التوحيد الخالص”، وبهذا المعنى يشمل الكفر:
ا) الإشراك بالله باتخاذ شريك له من غير البشر – كقوى الطبيعة أو الأصنام وهذا يشمل الوثنية وبه خوطب مشركو العرب في الجاهلية.
ب) إذا كان هذا الشريك بشراً – كالمسيح أو عزير – شمل الخطاب أهل الكتاب أيضاً وبه وردت نصوص واضحة: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم}، {وقالت اليهود عزير ابن الله …}.
2. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن مفهوم “أهل الكتاب” مفهوم حقوقي خالص، يعطيهم وضعاً خاصاً في الدولة الإسلامية ولكنه ليس بحال من الأحوال مفهوم ذو صلة بالعقيدة، حتى ولو سألنا عن أسباب هذا الوضع الخاص.
3. إذا اعتبر الإيمان نعمة من نعم الله – وهو استعمال مجازي لا أصلي – فإنه يصح أن يعتبر الكفر نقيضاً للشكر أيضاً، لأنه جحود بهذه النعمة. ولكن المهم أن نلاحظ هنا أننا بهذا الاستعمال المجازي انتقلنا من دائرة المعرفة إلى دائرة الأخلاق. وقد استعمل القرآن الكريم الكفر بالمعاني الثلاثة حسب ما فصلناها…
ففيما يتصل بالحقيقة وفي علم الاصطلاح الإسلامي كلمة كفر للدلالة على المعنى الذي ذكرناه. وأصبح للكفر مفهوماً مضاداً لمفهوم “الإيمان” ووفق ذلك أصبح مفهوم الإيمان في الإسلام يعني: كشف الحقيقة أي إظهارها، في مقابل الكفر الذي أصبح يعني: إخفاءها وتغطيتها.
وهكذا فقد ربح الإسلام الإنسان لا بالخوارق ولكن بقوة العقل البشري. ولم يقم التفكير في الإسلام على تصورات صوفية بل على بداءة عقلية.
ثانياً ــ المعرفة والعلم
ها نحن باختصار ما نراه أساساً لنظرية الإسلام في المعرفة.
1- من حيث موضوع المعرفة:
يشمل حقل المعرفة حسب النظرية الإسلامية مجالين:
أ) مجال المرئيات: وهو حسب المصطلح القرآني “عالم الشهادة”.
ب) مجال غير المرئيات: وهو مقابل مصطلح “عالم الغيب”:
ونحن نلاحظ هنا دقة المصطلح القرآني وأفضليته على أي مصطلح آخر. فعالم الشهادة هو العالم الذي نشهد وجوده. وعالم الغيب هو عالم موجود أيضاً ولكنه غائب عنا. والمفهوم المقابل (المرادف) للغيب ليس هو العدم بل “الحضور”. فغياب شيء لا يعني أنه معدوم أي لا وجود له؛ بل يعني أنه غير حاضر لأنه غير مشاهد لأنه غير ظاهر. ولكن كونه غير “مشاهد” يعني أنه غير داخل في مجال “عالم الشهادة” ولا يعني أنه غير ممكن المعرفة، بل غير ممكن المعرفة بوسائل المعرفة في عالم الشهادة، أو بها وحدها على الأقل.
2- من حيث مصدر المعرفة:
إن مصادر المعرفة هي هنا وسائلها، فما هي هذه الوسائل حسب النظرية الإسلامية؟ إنها أيضا نوعان:
أ) السمع والبصر والتفكر هي الوسائل التي تجعل تحصيل المعرفة في مجال “عالم الشهادة ” ممكناً. ويمكن أن نقول حسب مصطلحنا اليوم: الحواس والعقل.
ب) الإلقاء أو الحدس والإلهام والوحي أو هي الوسائل التي تجعل تحصيل المعرفة في مجال “عالم الغيب” ممكناً. وهنا ينبغي أن نلاحظ:
(1) إن الوسائل الأولى “ملكات”[5] أي أننا نملكها فهي داخلة في ملكنا. وما هو داخل في ملكنا نستطيع أن نستعمله دائماً. أما الثانية فهي “وقائع” أمامنا. ومن هنا يبطل كل سؤال في إمكانية الوحي تماماً كما يبطل السؤال عن إمكانية الموت وسقوط الأجسام.
ولذا كان استخدام العقل في إثبات “ظاهرة الوحي” هو استخدام غير مشروع.
(2) لكن إذا كان إثبات سقوط الأجساد ممكناً دائماً لأننا يمكن أن نشاهده ونكرره دائماً فنثبت بذلك وقوعه متى شئنا. فما هي الوسيلة لإثبات وقائع الوحي والإلهام والإلقاء. لا شك أنها هي تتكرر أيضاً ولكن تكرارها ليس خاضعاً لإرادتنا. فما هي الوسيلة لإثبات وقوعها لمن لم يشهدوا وقوعها.
إنه “اليقين التاريخي” المستند إلى “عنصر التصديق” و “الثقة” وليس هناك من طريق غيره أن نصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) كما فعل أبو بكر رضي الله عنه. ولكن لماذا: “لأننا ما جربنا عليه كذباً ” ولأنه: “الأمين”.
ومن هنا كان دفاع القرآن الكريم عنه بأنه ليس بشاعر ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون، وبكلمة واحدة أن عنصر الكذب لا يمكن أن يدخل إليه من أي باب. ففي الشعر كثير من الاختلاق. والسحر تمويه الحقائق. والكهانة تشويهها. والجنون فقدان التمييز بينها وبين الأوهام، فهو إذاً “الصادق الذي لا يمكن أن يدخل في أي ظن أنه غير ذلك. ولذلك فهو موضع “الثقة المطلقة”.
كذلك بالنسبة لسلسلة الرواية التاريخية. ومن هنا نشأ “علم الرجال” ومفهوم “الجرح والتعديل” وذلك لمعرفة “الثقات”.
وبالنسبة للظاهرة القرآنية فقد تأكد وقوع الوحي من جانبين: صدق الرسول عليه الصلاة والسلام كإنسان جربه قومه وعرفوه، وإعجاز النص الذي جاء تأييداً لذلك.
ومن هنا نعود فنشير مرة أخرى إلى أهمية علم “إعجاز القرآن” بالنسبة لواقعة الوحي. ونضيف هنا أهمية دراسة الأحوال النفسية للرسول عليه الصلاة والسلام أثناء فترة الوحي نفسها. وهذا ما بدأه الأستاذ مالك بن نبي في كتابه “الظاهرة القرآنية”.
(3) إذا كان استعمال العقل غير مشروع في إثبات ظاهرة الوحي لأنها “واقعة” أو “حادثة” كما ذكرنا. فإن استعماله يكون مشروعاً في تأمل “مضمون الوحي”. ذلك أن هذا المضمون يزودنا بمعرفة عن “عالم الغيب” أو بمعرفته. وهذه المعرفة لا ينبغي أن تتضمن بحال من الأحوال معرفة عن “عالم الشهادة” تتعارض مع معارفنا التي حصلناها عنه بوسائل المعرفة في مجاله. أعني شهادة الحس وصريح العقل. بل أن تكملها.
ومن هنا فإن العقل هو المعيار الأخير لكل يقين عندنا بشرط أن يستعمل في حدوده المشروعة. وهل ترانا نملك وسيلة أخرى لفهم “مضمون الوحي” غيره. وهل وهبنا الله ملكة أعلى منه لاستعمالها في الوصول إليه. ألم يسِم الله سبحانه أولئك الذين لهم أعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها وعقول لا يفقهون بها بالأنعام؟
بهذه النظرية التي سميت قديماً “تطابق العقل والنقل” استحق الإسلام أن يسمى بجدارة دين العقل ودين الحرية أيضاً. وبذلك وفّر علينا ابتداع تأويلات مختلفة لعقلنة مضمون لا عقلي لدين من الأديان.
3- من حيث اليقين في المعرفة وحدودها:
إن النظرية الإسلامية تؤمن بإمكان المعرفة وبصحة استخدام وسائلها في المجالات المشروعة لها وبالتالي بإمكانية اليقين. وبعد هذا الاستعراض للخطوط العامة[6] للنظرية الإسلامية في المعرفة كما نراها، لا بد من التساؤل أين يقع مفهوم العلم بالنسبة لمفهوم “المعرفة”. هذا الذي بيناه؟ والجواب أن مفهوم “المعرفة” هو المفهوم الأعلى الذي يندرج تحته مفهوم “العلم” وهو المفهوم الأدنى من حيث الشمول.
فإذا ما أطلقنا على كل ما لا نعرفه اسم “المجهول”. واعتبرنا المعرفة إما كشفاً عن مجهول أو عن جوانب مجهولة في المعروف، فإن ميدانها الواسع، الذي يشمل عالم الشهادة وعالم الغيب، يمكن أن نسميه “ميدان التساؤل“.
ونحن في ميدان التساؤل بحاجة دائماً إلى بداية جديدة وعودة متكررة. فنحن غالباً في حالة “لم نفرغ بعد…”، أما العلم فإنه يودّ أن يُخرِجَ من ميدان التساؤل بعض القضايا التي يريدها مسلماتٍ له بحيث يستطيع أن يقول عنها قول المؤمن الذي بلغ غاية اليقين: هذه مفروغ منها. وعلى أساسها يبدأ بالسير أو ما نسميه بـ “البحث” وهو غالباً ما يتناول موضوعات عالم الشهادة لأن وسائل معرفته طيّعة – أي ملك اليد – ومجاله أضيق.
فإذا كان لي أن أسمي الفلسفة بفن “السؤال” فإن العلم بالمقابل هو “فن البحث“. والفرق بينهما: أن الفلسفة تود أن تسأل دائماً وأن تطرح الأسئلة دون قيد أو شرط مسبق. أما العلم فلا يطرح الأسئلة إلا في “نطاقه” أي ضمن شروط وقيود مسلماته. وهو لا يطرحها دائماً، بل عندما تعييه وسائل البحث. وهكذا يتبين لنا أن الفرق بين المعرفة والعلم كمفهومين يقودنا إلى التفرقة بين الفلسفة والعلم.
لكن أي سؤال عن الفروق ينبغي أن يسبقه سؤال عن جوهر كل منهما. فما هو جوهر العلم يا ترى، وما هو جوهر الفلسفة؟ إننا نصوغ الجواب في ست قضايا دون أن نخوض في التفاصيل:
أن جوهر العلم هو البحث،
أن جوهر البحث هو الطريقة،
أن جوهر الطريقة هي الأطروحة الفلسفية.
وهنا تنتهي حدود العلم وتبدأ حدود الفلسفة:
أن جوهر التفلسف هو التفكير،
أن جوهر التفكير هو التساؤل،
أن جوهر التساؤل هو الدهشة.
حسبنا الآن هذه القضايا الست كي لا ينصرف ذهننا إلى خارج حدود هذا البحث. ولكن ماذا نستنتج من هذه القضايا؟ إننا نستخلص النتائج الآتية:
(1) أن العلم دائرة “محدودة” من مجال المعرفة الواسع منطقة “مقتطَعة”؛
(2) أن هذا التحديد تمّ على أساس ما سميناه “الأطروحة الفلسفية” التي تمد المسلمات العلمية الأولية بمفاهيمها الأساسية، بحيث لا يبدأ البحث إلا إذا وضعت هي موضع اليقين، ولا يستمر إلا ما دامت هي كذلك، ويتوقف حيثما يتزعزع التسليم بها.
(3) إن التسليم بمفاهيم أساسية معناه إعطاء إمكانية للسير في البحث والمضي في السير فيه أي للتقدم – ومن هنا جاءت إحدى الدعامتين اللتين ترتكز عليهما دعوى التقدم في العلم الحديث، أما الثانية فهي في جوهر العملية الصناعية آخر التحليل – والسير يبدأ بخطوات ومجموعة الخطوات تعين الطريق. فإذا ما وضعنا قواعد لهذه الخطوات كي تمكن إعادتها فقد وضعنا قواعد الطريق أو المنهج، بحيث تشكل الطريقة فيما بعد – لا شرط البحث في – بل جوهره أيضاً.
(4) إن هذه الأطروحة الفلسفية التي قلنا إنها تمد المسلمات العلمية الأولية بمفاهيمها الأساسية التي تنهض عليها، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمنظومة المفاهيم الأساسية للحضارة التي نشأ فيها ذلك العلم.
وهذا أمر في غاية الأهمية. فإذا ما عرفنا أن لكل “منظومة حضارية” نظامين “نظام أفكار” و “نظام قيم” تبين لنا أن تأثير هذه المنظومة يختلف باختلاف موضوع العلم. فهي دونما شك أشد تأثيراً في العلوم التي تعالج قضية الإنسان أو الإله مثلاً منها في العلوم التي تعالج مشكلة الطبيعة. على أن هذا لا يعني بحال أن العلوم الطبيعية بمنجى من هذا التأثير. ومن ناحية أخرى فإن تأثير “نظام القيم” سيكون حاسماً في مجال العلوم الإنسانية بحيث أننا حينما نقتبس مسلمات علم من العلوم الإنسانية الغربية[7] مثلاً كعلم الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة أو الفن أو اللغة فإننا نبدأ في نفس الوقت سواء شعرنا أو لم نشعر في التحرك ضمن المنظومة الغربية أي في التفكير حسب نظام الأفكار فيها، وبالتقييم وفق نظام القيم. وأضرب مثلاً لذلك ببعض القضايا التي سلمنا بها في فترة من الفترات – وما نزال نسلم ببعضها أو نستبدلها بمسلمات جديدة – على أنها علم، وليست في الحقيقة غير انعكاس لنظام القيم الغربي على تلك الموضوعات. النظرية العرقية مثلاً، نظرية “الشعوب البدائية ” – استبدلت أخيراً بـ “المتخلفة” “العقلية البدائية”. فتعارض الدين مع العلم – عدم إمكانه قيام نظام اقتصادي لا ربوي – اللغات السامية والعقل السامي. الفن لا صلة له بالأخلاق… إلخ.
ولقد كان إدمون هُسرل Husserl على حق حينما عنون كتابه القيم الثمين هكذا: “أزمة العلوم الأوربية”.
لقد حان موعد تساؤلنا: أين يقع مفهوم “العلم الحديث” من هذا الذي أشرنا إليه. أي إلى حد ينطبق عليه. بكلمات أخرى: كيف نحدد مفهوم العلم الحديث بالنسبة لمفهوم العلم الذي ذكرناه وخصائصه التي عددناها.
إذا تأملنا ماهية العلم الحديث من حيث نشأته والأسس التي قام عليها والطريق التي سار بها والمآل الذي آل إليه أمكننا أن نلاحظ ما يلي: إن مفهوم “العلم الحديث” مفهوم أوروبي، وكلمة “حديث modern” التي ينتسب إليها هذا العلم كما تنتسب إليها “الفلسفة الحديثة” و”الفن الحديث” و”الصناعة الحديثة” إلخ، جاءت في مطلع ما يسمى في التاريخ الأوربي “العصر الحديث” أو الجديد. أقول جاءت هذه الكلمة من اللاهوت. وقد ظهرت أول ما ظهرت في رسالة لرجل اللاهوت (فاتر هرن دفنتر Faterherrn Von Deventer) والمسماة Devotiio moderna والذي خرَّج من مدرسته فيما بعد نيكولاوس كوزانوس [8]Nikolas Kusanus ثم ظهرت الكلمة في الجدال اللاهوتي في العصر المدرسي المتأخر Spaetscholastik [9] وذلك بين ما يسمى بالطريقة القديمة Via antiqua والطريقة الحديثة Via moderua التي عارض بها اللاهوتيون المتأثرون بالإسمية مذهب توما[10] ودون سكوت[11].
إن مفهوم “العصر الحديث” مفهوم أوربي خالص مستخرج من تأمل التاريخ الأوربي وتقسيمه إلى قديم ووسيط وحديث لغرض الدراسة على أن هناك خلافاً بين المؤرخين الغربيين في تعيين هذه الحقبة بالضبط منهم من يرى أنها سقوط القسطنطينية (1453) ومنهم من يرى اكتشاف كولومبس لأفريقيا (1492) ومنهم من يرى في نشوء الإمارات الأوربية أو بزوغ النهضة وحركة الإنسانوية وحركة الإصلاح الديني وظهور مارتن لوثر كينغ.
ليس مفهوم العلم الحديث مفهوماً أوربياً فحسب، بل هو من حيث الواقع “علم أوربي” أيضاً. بمعنى أن الأطروحة الفلسفية التي أخذته بمسلماته الأولية التي قامت عليها مفاهيمه الأساسية هي أطروحة فلسفية أوربية نشأت من تحول “منظومة الفكر الأوربي” من العصر الوسيط المتأخر إلى العصر الحديث وذلك على يد المدرسين المتأخرين ثم بشكل حاسم على يد ديكارت “إلى منظومة جديدة” تختلف اختلافا بيّناً عن تلك، وهو ما يمكن أن يلخَّص تحت “مذهب الذاتية”.
فمن المعلوم لدى الباحثين في أصول العلم الحديث أنه قام على دعامتين:
(1) فكرة فرنسيس بيكون Francic Bacon (1561 – 1626) في سيطرة الإنسان على الطبيعة، وفكرته في الدعوة إلى المنهج التجريبي.
(2) على فلسفة ديكارت الذي يُعتبر مذهبه الأساس الميتافزيقي للعلم الحديث[12]. ولنشر بإيجاز شديد إلى أهم النقاط في تفكيره فيما يتصل بذلك:
أ- في تفكيره التصوري الذي يلخصه الكوجيتو المشهور عنه “أنا أفكر، أنا إذاً موجود” نقل مصدر الحقيقة إلى الذات وأصبح اليقين قائماً في تصوراتها، فالذات تتصور ما هو حق بالنسبة إليها ما هو يقين. الذات إذاً هي الأساس الوطيد الذي لا يتزعزع.
ب- نتيجة لذلك فصل ديكارت فصلاً واضحاً بين الذات المفكرة وبين العالم أو بين النفس العاقلة والمادة الممتدة (العالم) وأقام بينهما تفرقة متوازية.
جـ- أن جوهر العالم أو المادة هو الامتداد.
د- أن منهج التفكير الرياضي هو المنهج الوحيد المعتبر.
من تطبيق هذه النقاط الأربع نحصل على النتائج التالية:
1- إن الطبيعة لم تعد “عالم أشياء” كما كانت في العصر المدرسي بل “عالم موضوعات لتصورات الذات”. وكل موضوع تمكن صياغته صياغة رياضية دقيقة؛
2- إن جوهر العالم هو الامتداد وهذا يعني – وفق المنهج الرياضي – أنه خاضع لقوانين الحركة (الميكانيكية)؛
3- إن كل ما هو ممتد يمكن أن يخضع للقياس وما يخضع للقياس يخضع للحساب، وما يخضع للحساب يخضع للإحصاء وبالإحصاء يمكن الضبط أو الدقة وهكذا قام “علم الطبيعة الرياضي الدقيق” وعليه قامت الصناعة.
فلو افترضنا أن مفهوم المادة بقي على ما كان عليه عند اليونان أو في العصر الوسيط لما أمكن أن نتدرج إلى هذه النتائج. إن منهج التفكير الرياضي الذي كان أساساً لفهم الطبيعة ولنشوء علم الفيزياء هو الذي يفسر لنا – ولعله وحده – لماذا نشأت أزمة علم الفيزياء الحديثة الذرية من مشكلات رياضية.
والمهم بالنسبة إلينا أن نعلم:
1- إن هذا “العلم الحديث” هو أيضاً دائرة محدودة أو “منطقة محصورة” من المعرفة وليس هو المعرفة أو العلم على الإطلاق. فلا يصح إطلاق أحكامه خارج هذه الدائرة ولا استخدام نتائجه في استدلالات ساذجة خارجة على مجاله[13]، فمن الواضح كما رأينا أن العلم الحديث نشأ عن أطروحة فلسفية لفكر تصوري للوجود ينحو في فهمه نحواً رياضياً في التفكير لا عن فكر إدراكي للوجود كما كان فكر العصر الوسيط، أو فكر تأملي في الوجود كما هي الحال الفكر اليوناني بوجه الإجمال. هذا من حيث نقطة الانطلاق. أما في التفاصيل حيث تحدد المفاهيم تحديداً دقيقاً فإن الاختلاف سيكون أكبر بالطبع.
2- إن هذا العلم “أوروبي” في أصله ونشأته وتطوره التاريخي فهو بهذا المعنى مرتبط بمنظومة الفكر الأوربي. ومن الواضح أنه إلى اليوم ما يزال يسير من مفكرين وباحثين أوربيين على أن هذا ينبغي أن لا يخدعنا عن الحقائق التالية:
ا) إن التقدم الذي أحرزه البحث في شتى فروع العلم الحديث قد وفّر مادة وطور منهجاً لا يمكن إلا أن تعتبر أساساً في أي بحث كان؛
ب) إن ارتباط هذا العلم بالصناعة ثم ارتباط الصناعة به قد أديا إلى نتائج عظيمة الأهمية وبالغة الخطورة لا يمكن إغفال تأثيرها في فهمنا للعالم وللإنسان أيضاً أو التقليل من أهميتها في أي نهضة نتصورها. ذلك أن ارتباط الصناعة بالعلم الحديث لم يزد في معارفنا عن العالم فحسب بل غيّر تصوراتنا له تغييراً جذرياً، وفي عملية التغيير الصناعي تغير الإنسان أيضاً على أن الصناعة نفسها كمشكلة فلسفية ينبغي أن تخص وحدها بدراسات كافية.
ج) لكن لكل ما ذكرناه في النقطتين السالفتين شروطاً لعل أهمها على الإطلاق هو هذا الشرط: أن تظل المنظومة الحضارية لنا مصونة وخاصة “منظومة القيم” ومن هنا غاية التحفظ في موقفنا من العلوم الإنسانية في الغرب، ولا نعني من كلمة تحفظ خوفاً مرضياً وإنما “تخطيطاً واعياً”[14]، بمعنى أن يدور كل ذلك في منظومتنا الحضارية الخاصة بنا أي أن نتمثله في “نظام أفكارنا وأن نقيمه حسب معايير” نظام القيم عندنا. ولن يتم ذلك إلا بشروط أيضاً أهمها على الإطلاق هو هذا الشرط: أن نعرف نحن أنفسنا ما هي منظومة أفكارنا ومنظومة قيمنا أو بكلمة واحدة: أن نعرف من “نحن” أي ماذا كنا وماذا نريد أن نصير؟
3- إن هذه الأطروحة الفلسفية كانت تتمثل في فئة معارضة لنظرية الكنيسة الكاثوليكية آنذاك، وذلك عند بعض رجال اللاهوت كمذهب لاهوتي معارض وبصورة حاسمة عند رجال العلم فيما بعد على أسس مختلفة وهذا ما سينقلنا إلى الحديث مباشرة عن العلم والدين.
ثالثاً ــ العلم والدين
حسب النظرية التي أشرنا إليها عن المعرفة لا يمكن للعلم أن يأخذ دور الدين في حياة الإنسان كما لا يمكن للدين أيضا أن يقوم بدور العلم.
إن مهمة العلم أن يبيِّن لنا كيف نستطيع أن نخفف عنا عبء العيش؛ أي كيف نستطيع أن نجعل حياتنا ممكنة وسهلة وأن نجعلها دائماً أفضل[15]، لكن القيام بهذه المهمة لا تكفيها قدرتنا على ذلك. إنها بحاجة إلى إرادتنا أيضاً، وهنا تكمن مهمة الدين وأعني هنا في إعطائه حياتنا معنى ولأفعالنا هذه مغزىً.
وعلى هذا النحو يتفق العلم والدين في كونهما أساسين لا غنى عنهما لكل حضارة بحيث لا يعود للحديث عن تعارض – بله عن تناقض – بينهما معنى.
إن ما يدعي بالتعارض بين العلم والدين هو بالحقيقة تعارض بين “اللاهوت” والعلم الحديث، وبشكل أدق: تعارض بين نظرية لاهوتية عن العالم أكرهت الكنيسة الكاثولوكية الدين المسيحي عليها واستعملتها كسلاح للدفاع عن سلطتها المطلقة آنذاك هذا من جهة، وبين النظريات العلمية الأخرى التي انتقدت هذه النظرية وأعلنتها نظرية باطلة.
إن هذا لا صلة له على الإطلاق لا بـ “مصادر” الدين المسيحي الأساسية ولا بالدين من حيث هو دين. لكن موقف الكنيسة هذا قد أدى بالطبع إلى جرح عميق غير قابل للشفاء عند المفكرين الأحرار في أوربة وتسبب بإيجاد عقبة أو “عقدة” في وعي وضمير الغربي تجاه الدين، وبالتالي فقد أضرَّت ضرراً كبيراً بمكانة الدين من حيث هو.
وهكذا وتبعاً لما ذكرناه فإن النظرية الإسلامية لا ترى في الأزمة الحالية للعلوم الأوربية تدعيماً لموقف الدين. دعك من الحديث عن كونها برهاناً على حقائقه تماماً كما أنها لا ترى في انتصار العلم الحديث في مطلع عهد النهضة الأوربية على نظرية لاهوتية عن العالم حجة على الدين. والسبب في ذلك أن هذا النحو من التفكير يقوم دائماً على تصور تعارض بين الدين والعلم لا تعرفه النظرية الإسلامية ولا يمكن التماس أساسه التاريخي إلا في الغرب. بل على العكس من ذلك فإن الإسلام يرى في الأزمة الحالية دعماً لنظريته العامة في المعرفة والتي ترى أن “العلم الحديث” ليس إلا دائرة محدودة لا غير ينبغي أن يظل دائماً كمفهوم يندرج تحت المفهوم الأعلى للعلم وكلاهما تحت المفهوم الشامل لـ “المعرفة” بحيث لا يجوز الخلط بينها أو اعتبارها مترادفات. إن المعنى الذي يعطيه الدين لحياتنا لا يمكن إلا وأن يرتبط بغاية نهائية لها. والمحاولة الإنسانية لتحقيق ما تستلزمه هذه الغاية في الأرض – عن طريق تغيير الطبيعة (الصناعة) وتغيير الإنسان نفسه (التربية) – هي الحضارة. وهذه الغاية هي الأساس لما سميناه نظام القيم لتلك الحضارة؛ أي أنها هي القيمة العليا لمجتمع تلك الحضارة وبالتالي فإنه لا يمكن بحال من الأحوال فهم أي وجه من أوجه النشاط الإنساني لذلك المجتمع إلا من خلال منظومة القيم هذه.
وتبعاً لذلك فإن النظرية الإسلامية لا تعترف بالفصل بين العلم وبين نظام القيم للمجتمع الذي نشأ ذاك العلم في حضارته، وتطور بحيث يبقى ذلك العلم مشروطاً بمنظومة القيم تلك. وتبعاً لذلك تحدثنا عن “علم أوربي”. إن هذا الارتباط بين العلم ومنظومة القيم هو بالنسبة للعلوم الإنسانية أمر واضح ومفروغ منه. ولكنه أيضاً – كما رأينا في تبيان أساس علم الطبيعة الحديث – عميق الأثر في العلوم الطبيعية.
إن هذه الصلة بين العلم ونظام القيم للحضارة التي نشأ فيها ذلك العلم لا ينبغي أن يفهم على أنه عقبة في طريق التبادل والتعامل بين الحضارات. وكذلك فإنه سيكون من سوء الفهم لما نقصده إذا فهم المرء تحت كلمة نظام القيم “رقابة سياسية” معينة على العلم كما كان الحال مثلاً أيام النازية في ألمانيا وكما هي الحال في الدول الشيوعية إلى الآن.
نريد الآن أن نضرب مثلاً على ما ذكرناه من “الاستشراق” وموقف علماء الإسلاميات من المستشرقين من الإسلام. وذلك في نقطة أساسية من عقائده، كيما ننظر إليها على أنها نموذج لدراساتهم. ونعني بذلك: تأكيد الإسلام على أن جوهر الدين يكمن في جانبه العملي أكثر من النظري – وهذا ما يفرقه عن الفلسفة – وذلك من خلال تعاليمه.
لقد فهم المستشرقون هذا وفسروه على أنه “فقر في النظرية” وكاد ينعقد إجماعهم على ذلك في هذه النقطة. وبلغ التطرف أقصى مداه في صياغة ت ج ده بور T.J. De Boer: جاء القرآن للمسلمين بدين ولم يجئهم بنظريات وتلقوا فيه أحكاماً ولم يتلقوا فيه عقائد[16].
ومن الواضح بطلان ذلك لكل من نظر في “الموضوعات” التي يتناولها الدين الإسلامي في مبحث العقائد أو ما يسمى بعلم أصول الدين أو علم التوحيد. من حيث أنه يشكل نظرية كاملة في منشأ المعرفة ورسائلها وموضوعاتها بصرف النظر عن نشاط علماء الكلام وعن أبحاث هذا العلم بالذات، فإن في القرآن الكريم موقفاً ورأياً في كل “الموضوعات” التي يمكن أن يتناولها الدين. ولعل في ما أشرنا إليه في مطلع بحثنا دلالة على ذلك. فالسؤال إذن: لماذا فسّر المستشرقون ذلك التفسير، ولماذا فهموا ذلك الفهم؟
والجواب أنه كان في تصورهم شيء آخر لا يجوز أن يطالب به أي دين من الأديان، لأنه يتجاوز حدود مهمته أعني: أن يمدنا الإسلام بنظام عقائده – مصوغاً صياغة – فلسفية خالصة. أشبه بمذهب فلسفي. وهذا بالطبع يعني أن نجعل للدين مهمة الفلسفة. وعندها فإن النتائج التي لا معدى عنها هي:
إما أن تبقى الفلسفة خادمة اللاهوت كما كان الحال في أوربا في العصر الوسيط،[17]
أو الإلحاد كاعتقاد مضاد وذلك في العصر الحديث.
ولكن إذا مضينا خطوة أخرى فتساءلنا لماذا كان يطلب المستشرقون ذلك من الدين؟
والجواب أن المستشرقين كانوا يفهمون الإسلام كدين من خلال “منظومة الفكر الغربي” نفسه. هذه المنظومة التي تعيِّن المفاهيم الأساسية للتفكير. ومن بينها مفهوم “الدين”. بحيث لا يمكن للأوربي – أو الغربي – أن يفهم أي نشاط خارجها إلا من خلالها. أي أنه لا يدرك الفكرة إلا بعد تغريبها. وهذا واضح لا في فهم الأوربيين للدين فحسب بل وللإنسان وللتاريخ البشري مثلاً.
وهكذا ينبغي لنا أن نفهم جهود المستشرقين أي “بحوث الاستشراق ونعني الإسلاميات خاصة” على أنها فهم الإسلام ضمن نظام المفاهيم الأوربي هذا لا الإسلام نفسه. أي الإسلام كما يبدو من خلال الفهم الغربي له لا كما هو عليه في الواقع.
وإننا إذا عكسنا الموقف – ولا يحول بيننا وبين ذلك غير عائق نفسي هو مركب النقص وعائق آخر فني هو عدم وقوفنا بعد على هذا المجهود الضخم – فإن بالإمكان أن نذهب خطوة أبعد فنحاول نحن أن نتعرف من خلال هذا الإنتاج على مفهومهم عن “الدين”، ثم نتساءل إلى أي حد استطاع مفهوم كهذا أن يؤثر على خاصية “التدين” عند الغربي سلباً أو إيجاباً. فإذا ما مضينا في تساؤلنا فقلنا: ولكن من الذي كوَّن مفهوم “الدين” عند الغربيين؟ أي من أين استمد أصوله واكتسب صبغته هذه في نظام الفكر الغربي، كان الجواب بالطبع: من المسيحية. أو بشكل أدق من اللاهوت المسيحي.
وهكذا فبالقياس إلى الاستشراق فإن بحوث المستشرقين ما هي إلا تطبيق لمفاهيم اللاهوت المسيحي على تعاليم الإسلام سواء كانوا هم رجال لاهوت بالفعل – وهم الأكثرية الغالبة – أو كانوا ممن يسمون ليبراليين أو أحراراً. ذلك أن هذا لا يغير من واقع الأمر شيئاً وهو أن كليهما يفكرون في إطار “المنظومة الغربية” نفسها التي كوّنت المسيحية كل مفاهيمها المتصلة بالدين ودمغتها بطابعها، والفرق عندئذ بينهما أن أحدهما يفكر مع اللاهوت والآخر ضد اللاهوت.
لذلك فلسنا نعجب إذا تحدثنا مع ملحد بالدين غربي أن نرى من خلال أحكامه وتصوراته أنه يعالج المفهوم المسيحي للدين ويتخذ مواقفه في النظر والحكم بالقياس إليه. وعلى هذا فإن بالإمكان أن نسمّي إلحاده “إلحاداً مسيحياً ” بمعنى إنكار وجود إله حسب التصور الذي تقدمه المسيحية. وهذه نقطة خطيرة يجب أن نتيقظ لها كل اليقظة فيما يصلنا من الغرب الآن. ذلك أن تفكيرنا بمفاهيم غربية يستدعي تصورات لموضوعات الفكر غربية أيضاً وهي سواء أتت مع أو ضد خطر جسيم على “منظومة أفكارنا” الإسلامية، ذلك أن التصورات المتماثلة تستدعي مواقف متماثلة أيضاً.[18]
إن السؤال الذي يجب أن نجيب عليه بعد كل هذه التساؤلات هو: ما هو مفهوم الدين في منظومة الفكر الغربي؟ وما هي ماهية تصوره وما هي حقائق هذا التصور؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال ينبغي أن نورد عدة ملاحظات:
1) تحت مصطلح “الفكر الغربي” ينبغي أن يفهم الفكر الإغريقي واللاتيني الحديث. نسبة إلى مفهوم الغرب الذي يتضمن تراث الإغريق والرومان والشعوب الأوربية الحديثة، كما صاغتها المسيحية؛
2) نقول كما صاغتها المسيحية ونعني بذلك:
أ- إن المسيحية أدخلت مفاهيم جديدة على تراث اليونان لم يكن يعرفها اليونان أصلاً ولم يعرفها فكرهم ولا فلسفتهم كمفهوم “اللانهائي” أو مفهوم “الخلق من عدم”، وكمفهوم “الإيمان” أضف إلى ذلك مفهوم الدين ومفاهيم المسيحية الأساسية كالخطيئة الموروثة و”الخلاص” و”السقوط” و”النداء” والنعمة وفكرة الوحي على أساس تجسد الإله، إلخ.
ب- بالنسبة لموضوع الدين ويهمنا هنا مفهوم “الإيمان” منذ دخوله كمفهوم مسيحي مفهوم مضاد للعلم أو المعرفة والفكر الأوربي يتحرك بين قطبين إما/أو. أي إما إيمان أو معرفة. ولنا أن نلاحظ أن اليونان لم يعرفوا هذا عن الإيمان، بل كانوا يعرفون ثلاثة مفاهيم: المعرفة، الظن، الشك. كذلك لم يعرفوا مفهوم الإلحاد[19]؛
جـ- إن هذا التحرك بين قطبين إما المعرفة أو الإيمان، وخاصة عندما ارتبطت المعرفة باللاهوت وارتبط اللاهوت بسلطة الكنيسة التي تختار المذهب الرسمي، أصبح أمام المفكرين في أوربا طريقان كضربة لازب: إما أن يكون مؤمناً فيخضع لسلطة الكنيسة، أو أن يكون حراً أي أن يعد ملحداً؛
والمتتبع لمفهوم “الإلحاد” وخاصة فيما يسمونه في ألمانيا “الخصومة حول الإلحاد” يتبين صدق هذا القول. ويعرف لماذا يمكن أن نقول بكل اليقين بأن الفلسفة الحديثة ‑ وخاصة الألمانية ‑ ما هي إلا محاولة التخلص من أسر اللاهوت، وأن الدافع الأساس لها هو الكفاح ضد اللاهوت، ومن هنا المبالغة في تقديس المفكرين الأحرار للتراث اليوناني واعتمادهم عليه في كل محاولة تفلسف جدية عميقة. ومن هنا أيضاً حركة إحياء التراث اليوناني كبداية ومقدمة لعصر النهضة وهي حركة الإنسانيين ومن هنا أيضاً تقدير الشعوب الجرمانية خاصة لحركة الإصلاح المسيحي على أساس أنها “إنقاذ حرية الضمير الأوربي”.
د- لقد زاد من حدة ذلك التعارض ما سمي بالصراع بين العلم والدين في مطلع عصر النهضة والذي أشرنا إليه. وعلى ضوء ما ذكرنا الآن نستطيع أن نجيب على سؤالنا: ما هو الدين في “التصور الغربي”؟ فنقول بكلمة واحدة، إنه “اللامعقول”.
والإيمان تبعاً لذلك إما تسليم مطلق كإيمان عامة الأوربيين أو “محاولة عقلنة اللامعقول” كتلك الجهود التي يبذلها اللاهوتيون منذ عهد آباء الكنيسة إلى اليوم، والتي يلخصها قول القديس أوغسطين أحسن تلخيص: أدين بهذا لأنه لا معقول.
وتحت كلمة “اللامعقول” هذه ينبغي أن نفهم أمرين هما بمثابة خطوتين متتاليتين:
الأولى: مبدأ الإيمان نفسه، على أنه شيء مخالف للعقل؛
الثانية: عقائد هذا الإيمان أو مضمونه. أي العقائد المسيحية ذاتها وما تستند إليه من خوارق.
ومن هنا فإن الدين سيبدو للغرب دائماً ظاهرة معقدة غاية التعقيد غامضة غاية الغموض ظاهرة غير مفهومة. إذ لا شك في أن شرح “المعقول” سيظل أبسط وأوضح وأجلى من محاولة عقلنة اللامعقول، لو كان ذلك ممكناً.
ومن هنا سبب طغيان الجدال اللاهوتي في تاريخ الكنيسة وسبب الخلافات حول أمهات العقائد ومسائلها التفصيلية معاً. ومن هنا أيضاً حاجة الكنيسة الكاثوليكية إلى تبني مذهب فلسفي معين – كمذهب توما مثلاً مع أن توما يعتبر أرسططاليسياً أكثر منه مسيحياً إذا نظرنا إلى جوهر فكره – على أنه “هو المسيحية”.
ومن هنا أيضاً نفهم سبب زعم المستشرقين أن الإسلام “فقير في النظرية”، وذلك حينما فاجأهم بوضوحه وجلائه وبداهة عقائده إلى جانب أصالتها، بينما تصورهم السابق للدين على أنه ظاهرة غامضة ومعقدة وهو التصور السائد في الغرب والذي بينا أسبابه.
وهكذا وبدلاً من أن يلتمس المستشرقون السبب في طبيعة الدين المسيحي كما يؤدى إليهم، ظنّوه في طبيعة الدين نفسه، وعكسوا تصورهم هذا على الإسلام فاستغلق عليهم فهمه. وقد عجبوا أن يروا تاريخ النشاط العقلي في الإسلام يمكن التماسه في البحوث العلمية كالفقه وأصوله أكثر من التماسه في علم الكلام والجدال اللاهوتي، وحينما رأوا اختلاف المذاهب الإسلامية ناشئاً عن مواقف مختلفة من مسائل العمل لا عن مواقف مختلفة من أصول العقائد.
بهذا نكون قد استوفينا شرح هذه المسألة التي اتخذناها كنموذج. ويبقى أن نورد ملاحظة ختامية حولها. إن من المسلمين المعاصرين من يرى ضرورة صياغة الإسلام في مذهب، أو على الأصح صياغته صياغة مذهبية. ويعتبرون أن ذلك بالنسبة إلينا في الوقت الحاضر أمر ضروري. وأنه يشكل نقطة ضعف تجاه المذاهب الأخرى. ونحن لا نرى ذلك بل نرى العكس تماماً. إن نقطة الضعف في موقفنا الحالي فيما يتصل بمنظومة أفكارنا وقيمنا هو توقف البحث والسكوتية والجمود الذي أصاب الفكر الإسلامي. والنتائج الخطيرة لذلك في طريقة التفكير وفيما نريد أن نسميه “فوضى المفاهيم”.
وسبب ذلك الجمود والتوقف عن البحث هو “التمذهب” والإصرار على “التقليد”. أفيكون علاج ذلك أن نتبنى مذهباً جديداً نطرب لمصطلحاته الفنية الحديثة تفرضه علينا سلطة مهما كانت، على أنه هو النظرية الإسلامية أو هو الإسلام. أم أن الأزمة تكمن في سؤالنا: كيف يمكن ” تحريك” هذا الفكر. كيف يمكن “إحياؤه”؟ ولن يكون ذلك إلا بأن ينهض رجال ونساء منا لجهاد حقيقي جهاد “البحث”، وأن يتحول العاملون في هذا الحقل وخاصة الشباب المتخرج من الجامعات من جيلهم ومن الخطباء والمصنّفين… إلى حشد من العلماء والباحثين لأن هذه المهمة لن يضطلع بها إلا الأفراد الذين يتفرغون لها ومعاهد البحث التي تلتقي فيها جهودهم.
وبثروة هذه الجهود “يتجدد الفكر” ويتنفس من جديد، وتدب فيه روح الحياة. وعندها يمكن الخروج من “فوضى المفاهيم”. وهذا هو ما نعنيه عندما نقول: عودة إلى القرآن الكريم… إلى الأصول. وهذا النداء هو نداء كل أمة تريد أن تبعث من جديد، وكل حضارة تحاول أن تولد من جديد. ولم يحدث في تاريخ الإسلام – إلا في عصر المأمون والمعتصم – أن أقرت السلطة وهي الخلافة مذهباً أو نظرية وأكرهت المسلمين عليها على أنها “العقيدة الرسمية”.[20] وإننا لنلتمس أسباب الجمود الذي أصاب الفقه الإسلامي في تبني الدولة العثمانية لمذهب معين وإقراره على أنه المذهب الرسمي على الرغم مما كان لذلك من فوائد من جهة أخرى. إننا بحاجة إلى محاولات إلى بحوث كـ “رسالة التوحيد” لمحمد عبده وكـ “تجديد التفكير الديني” لإقبال و”النبأ العظيم” و”أخلاق القرآن” لعبد الله دراز و”الظاهرة القرآنية ” لمالك بن نبي.
إن ما يجب أن يظل شاخصاً أمام أبصارنا – خاصة الشباب – هو أن الكفاح الحالي هو كفاح على الوجود. وإن الصراع في المستقبل صراع حاسم ونهائي. وهو ككل يدور النصر فيه على “القوة”. لكن الحاسم في الصراع المقبل لن يكون “ميادين القتال” بل “ميادين الفكر”. ولن تكون الغلبة فيه للقنبلة بل للروح.
رابعاً ــ خاتمة
إذا ما تبصرنا في هذا كله ووقفنا نتساءل في خاتمة المطاف هل صحيح أن الإسلام ضد العلم؟ هل صحيح أنه ضد التقدم؟ هل صحيح أنه ضد حركة النهضة؟
أم أن الإسلام ضد “الاستبداد” في السياسة و”الفوضوية” في الفكر، تلك الأداتان اللتان تودان إكراه المسلمين على نظام اجتماعي معين تفرضانه عليهم بالقوة. ثم تحاولان التستر خلف مثل هذه الألفاظ. وأن الإسلام ضد “أنصاف المتعلمين” الذين يستخدمون كلمة “العلم” أو التقدم كشعارات يودون من ورائها الظفر بمركزٍ ما في المجتمع وتدعيم هذا المركز.
إن مشكلة المجتمع الإسلامي المعاصر مشكلة ينبغي فهمها في نطاق حضارتنا وطرحها على هذا الأساس. إن العلم والتقدم لن تكون “هدايا” يقدمها لنا نظام معين. وليست هي أيضاً شعارات للمهاترات الكلامية، ولا هي ضرب من السحر والشعوذة واصطناع الخوارق. إن العلم والتقدم مهمة شاقة و”جهد ذاتي” يجب أن ينهض بها الشباب المسلم بروح الجد والحزم وعلى ضوء “تخطيط واع” فتتفتح على كل ما هو حق وما هو خير وما هو جميل.
ولكن أي شباب؟ إنه ذاك الذي اكتشف دوره في عالمنا المعاصر الرهيب ووعى مهمته في هذه الحياة.
* نشرت هذه الدراسة في مجلة حضارة الإسلام، على جزأين، أعداد شوال 1382 هـ / آذار ونيسان 1963م.
[1] لا شك في اللاهوت المسيحي منذ عهد آباء الكنيسة Patristik إلى الآن بعض الاتجاهات التي تحاول إعطاء تفسيرات مختلفة لمفهوم الإيمان بحيث ينسجم مع العقل. لكن جوهر الدين المسيحي وموضوعات الإيمان فيه تجعل من هذه المحاولات جهداً ضائعاً بالنسبة للمفهوم نفسه وإن كان لهذا الجهد أثر في التقريب من الفلسفات السائدة والمسيحية، وسنشير إلى ذلك فيما بعد.
[2] نذكر ذلك على وجه التقريب أما فترة الوحي المكي بالضبط فهي 12 سنة و5 أشهر و13 يوماً.
[3] المجمل لابن فارس، ج5، ص 191. كذلك اللسان والقاموس والأساس نفس المادة حيث الأمثلة كثيرة.
[4] كفر: تعني في العربية – آنذاك – دائماً ستر أو غطى كما ذكرنا وليس جحد كما ظن ردوي باريت Rudi paret في كتابه (محمد والقرآن Muhammed und der Koran ص 74 أوربان 32.
[5] ورد في القرآن الكريم للدلالة على ذلك لفظ جعل أو أنشأ والعكس أخذ. {هو الذي جعل لكم السمع والأبصار} 16/28 – 32/9 – 67/23. {أنشأ لكم السمع والأبصار} 23/76. “{أن أخذ منكم سمعكم وأبصاركم} 6/46.
[6] نقول الخطوط العامة رغم أهمية النتائج التي ستترتب عليها، والتي تثير مشكلات مختلفة كمشكلة العلاقة بين الحواس والعقل أو ما سماه القدماء “تطابق عالم الأعيان مع عالم الأذهان”. أو مشكلة التفريق بين ظاهرتي الإلقاء والإلهام اللتين ندرجهما تحت مفهوم “الرؤية” ونرى أن جوهرها “الكشف” ومن مفهوم “الوحي” الذي ندرجه تحت مفهوم “النبوة” ونرى أن جوهره “الأمر” إلى آخر تلك الفروق. كذلك مشكلة اليقين ومداه وحدوده. إلى ما هنالك من مشكلات لا مجال لتفصيلها هنا لأنها تستلزم مقارنة واسعة مع مذاهب كثيرة لم تتهيأ لنا بعد كل الوسائل لاستكمالها.
[7] نعني من كلمة غرب هنا Abendiand المفهوم الحضاري لا المفهوم السياسي بحيث يشمل ما يسمى بالدول الشرقية والغربية على السواء. فكلمة شرق Osten وغرب Westen هما مفهومان سياسيان يندرجان تحت مفهوم “الغرب” Abendiand أو Oksident الحضاري. ويقابل هذا المفهوم مفهوم “الشرق” Orient ويقصد به العالم الإسلامي. وقد يقصد به في السياسة مفهوماً أوسع فيقسم عندئذ إلى أدنى وأقصى للتفرقة بين العالم الإسلامي وعالم الصين واليابان.
[8] 1401-1464 لاهوتي وفيلسوف. عمل أسقفاً وكاردينالاً. فلسفته هي على الحدود بين المدرسية وما يسمى بالمذهب الإنساني Humanismus . تأثر كثيراً بالتصوف وخاصة بـ مايستر اكهارت (1260-1327) الصوفي الألماني الكبير. كما تأثر بالمذهب الأسمى Norminalismus كما أشاعه وليم اوكهام أشهر ممثلي هذا المذهب (1300 – 1349 – 50 ). وقد قامتٍ أكاديمية العلوم في هايدبرج بإحياء تراثه وإبراز أهميته فأصدرت طبعة نقدية بمؤلفاته في عشرين جزءاً في اللاتينية و 24 في الألمانية. وأفضل الدراسات الأخيرة عنه هي ما قدمه الأستاذ ارنست هوفمان Ernst Hoffman. ومن الجدير بالذكر أن له رسالة عن القرآن الكريم بعنوان De cribratione Alchorani بمعنى “إيضاح القرآن” على زعمه.
[9] هي فترة القرن الرابع عشر والخامس عشر.
[10] هو توما الأكويني (1225 أو 26 – 1274) يعتبر المعلم الأول بالنسبة للكنيسة وهو منذ عام 1879 فيلسوف الكنيسة الرسمي. الذي ربط بين نظريات الكنيسة المسيحية – وخاصة أوغسطين – وبين أرسطو. وفي العربية فصل عنه كتاب الأستاذ يوسف كرم عن تاريخ الفلسفة الغربية وهو في الجزء الثاني “الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط”، وقد وفاه الأستاذ كرم شرحاً ودافع عنه على أنه هو المذهب الصحيح إذ كان هو نفسه تومائياً. وقد ترجمت بعض مؤلفاته إلى العربية كما صدرت مؤخراً دراسات حديثة عنه. ومصدر الاهتمام به هو أن حركة “التومائية الحديثة” هي من المدارس الفلسفية المعاصرة في الغرب.
[11] دون سكوت Duns Scotus ( 1626 أو 1270 – 1308 ) ولد في ماكستور في اسكوتلندا ومات في كُلن في ألمانيا. وله مدرسة باسمه “الدون سكوتية” وهو زعيم الفرنسيسكان. من أشد نقاد توما الأكويني. وقد كان يعتقد بخلاف توما تماماً بأن الإرادة ليست هي المتعلقة بالعقل بل العقل هو المتعلق بالإرادة Primat des Willens .
[12] من المفكرين من يريد رد هذه الأصول إلى ما قبل ديكارت إلى نيكولاوس كوزانوس مثلاً كما فعل أرنست هوفمان خاصة في محاضرتين قيمتين ألقاهما في 12 و 17 تموز 1940 ثم جمعتا في كتاب واحد تحت عنوان “نيكولاوس كوزانوس” وطبعتا لأول مرة عام 1947 في هايدلبرج F.H.Kehrle Verlag وأمثال مثل هذا المفكر محق في ذلك لأن بذور هذه الأفكار ولذا أكثرها في فترة التحول من العصر الوسيط المتأخر إلى ما يسمى بعصر النهضة، ولكن ذلك لم يبلغ حد الوصول إلى فلسفة كاملة إلا على يد ديكارت.
[13] كأن يستدل مثلا ًمن إطلاق صاروخ إلى الفضاء الخارجي على عدم وجود الله كما تفعل الدعاية الشيوعية. أو على وجوده من قبل دعاية معارضة.
[14] إن ما يحدث في بلادنا للأسف هو العكس فنحن لم نفهم الفكر الأوربي الحديث فهماً صحيحاً ولا أخذنا بمناهج البحث فيه رغم ما نلوكه من كلام في هذا الموضوع، ولعل من أسباب ذلك أن روادنا إلى الغرب لم يكونوا مفكرين ينهش حب المعرفة أحشاءهم ولا علماء تأخذ عليهم لذة البحث حياتهم. وإنما كانوا سواحاً أو فنانين أما السائح فلا عجب أن يستهويه الجديد، وأما الفنان فلا بد أن تستهويه أوربا أكثر من الشرق بحكم طبيعته وبحكم اختلاف الحضارتين، ولكن هذا الاستهواء قد امتد إلى من سماهم “مالك بن نبي” “هواة الأفكار “.
[15] نعني بذلك ما اصطلح عليه علماء الانتروبولوجيا بكلمة “عبء” ويقصدون به ما يراه البيولوجيون من أن الإنسان يأتي إلى الحياة وهو “غير جاهر بعد” أي أنه غير قادر على العيش مباشرة كسائر أنواع الحيوان. ولكنه بخلاف الحيوان يأتي منفتحاً على الوسط المحيط به وهكذا يبدأ نموه ومن ثم تغييره للأشياء المحيطة به للتخفيف من هذا العبء Entlastung وجعل العيش ممكناً.
وفي رأيي إن عندنا مفهوماً قرآنياً رائعاً للتعبير عن ذلك كله يفوق في معانيه كلمة “أفضل”، وهو مفهوم “الضعف”، قال تعالى: {وخُلق الإنسان ضعيفاً}؛ {خلقكم من ضعف} وهو حسبما نرى أشمل لأنه يتضمن معنى الضعف البيولوجي – قلة الوسائل – الذي يتغلب عليه الإنسان بتغيير الطبيعة (الصناعة) من خلال نشاطه العقلي، والضعف الاجتماعي أيضاً، وهو كون الطفل عاجزاً بدون التغيير الذي يمارسه عليه المجتمع (التربية) أن يقوم بالمهمة الأولى. وهذا ما يعنيه علماء التربية حينما يقولون بأن طفولة الإنسان طويلة.
[16] راجع “تاريخ الفلسفة في الإسلام”، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، القاهرة، 1374 – 1954، ص 52.
[17] هذه حقيقة لا تتأثر مطلقاً بنظرة الباحثين الأوربيين المحدثين الجديدة إلى العصر الوسيط ونفورهم من تسميته بالقرون المظلمة. وذلك أن هذه النظرة صحيحة تماماً ولعل تسمية العصر الوسيط بالقرون المظلمة هو رد فعل لدى المفكرين الأحرار في مطلع عصر النهضة ولدى العلماء فيما بعد: فتلك العصور لم تكن مظلمة بحق. وهذا ما لا ندعيه. وكل ما نقوله هو تقرير واقع. إن الفلسفة في تلك القرون كانت في خدمة اللاهوت، فأبحاث المفكرين الجديدة في هذا الموضوع تصحح تقييمنا لتلك الفترة. ولكنها لا تقوى على تغيير الواقع.
[18] الملاحظ في الاتجاهات الأدبية الحديثة عندنا منذ ما يسمى ببداية النهضة الحديثة العربية إلى الآن أن عملية اقتباس المفاهيم الغربية في الأدب سائرة على قدم وساق – راجع مثلاً: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين أستاذ الأدب الحديث في جامعة الإسكندرية جزءان – ولكنها على أية حال لم تبلغ الحد الذي بلغته فيما يسمى بـ “الشعر الحديث أو الحر” في السنوات العشر الماضية بالذات حين ترى المفاهيم المسيحية تغص بها مادة هذا المسمى شعراً، كالخطيئة. والصلب. السقوط، النعمة. والفداء… إلخ. فإذا ما عرفنا أن الاتجاهات الأدبية في الأدب العربي الحديث هي التي تعين الاتجاهات الفكرية لا العكس تبين لنا مدى خطورة ذلك. وليس شرطاً أن يكون الكاتب ملحداً أبداً، بل قد يكون العكس أحياناً، كما هو الحال في هذا الكتاب مثلاً: “العقل المؤمن” الذي يكفي عنوانه للدلالة على التصور الذي أوصى به.
[19] المراجع في هذا الموضوع كثيرة نخص منها بالذكر كتاب كارل لوفت لامتيازه بالدقة والعمق والإيجاز.
Karl Loewith Wissen Glaube und Skepsis. Vandenhoeck & Ruprecht in Goettingen – 1958
[20] نعني نظرية في العقائد كمسألة خلق القرآن وهذا ما فعله المأمون. والفرق واضح بين فرض “مذهب كلامي” وبين “إقرار مذهب فقهي”، ومع ذلك فقد رفض أئمة المذاهب ذلك. وقصة الإمام مالك مع المنصور مشهورة.