العربية واقعها وواقعنا

234

ربما كانت اللغة العربية لغة معيارية، تشدّ طلابها بشكل دائم إلى الماضي، إلى الجذر والشاهد المستعمل في قرون الاحتجاج، ربما كانت معيارية لاتصالها بلغة القرآن خلافاً للغات الأخرى التي يمكن القول عنها بأنها وصفية بمعنى أنها تتطور وتتغير بشكل مرحلي، لكنّ هذا ليس مسوغاً كافياً لفهم القطيعة بين اللغة وأثرها في الواقع.

سأسرد قليلاً من قصة العربية وأحاول فهم موضعها من المعنى والسلوك والفكر، وسأبدأ من القرن الثالث الهجري، وتحديداً من الصورة التخيّليّة في القرآن التي استفزّت عقلَ أبي عبيدة مَعْمَر بن المثنى المتوفى عام 209هـ، عندما سُئِل عن قوله تعالى: {طلْعها كأنه رؤوس الشياطين}، كيف يشبّه القرآن معلوماً بمجهول؟ فالعرب لم ترَ رؤوسَ الشياطين، إنما تخيّلتْ قبحَها فقط! فأجاب بأنّ العرب تعرف هذا النوع من الأساليب كما في قول امرئ القيس “كأنياب أغوال” والعرب لم ترَ الغول لكنّها تخيّلته.

هذه الصورة التخيّلية التي سمّاها علماء البلاغة فيما بعد “تشبيه المحسوس بالمتخيّل” كانت حافزاً مستفزاً لأبي عبيدة -كما أخبر عن نفسه- ليكتب كتابه “مجاز القرآن” الذي يعدّ تدشيناً لعلم البلاغة العربية، جمع فيه الأساليب القرآنية غير المباشرة في الكلام كالاختصار والحذف وغير ذلك، وكانت دراسته منطلقاً للعلماء من بعده في دراسة أساليب البيان العربي كله، وهذا ما فعله الإمام أبو عثمان الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين”.

إن حضور الخيال كان جسراً من جسور المعرفة قديماً وحديثاً، وقدرة البشر على التخيل تساوي بشكل أو بآخر قدرتهم على الانعتاق من واقع ما وتصوّر واقع جديد أو بناء واقع جديد، وإذا انتقلنا من الخيال إلى الواقع، فنجد في سيرة أبي الأسود الدؤلي أنّ ابنته قالت له يوماً: يا أبت ما أشدُّ الحرّ، (وضمّت حرف الدّال)، فقال لها: شهرُنا هذا، فقالت له: لم أسألك! ولكنني أخبرُك! فعلم أنها تقصد التعجّب ولا تستفهم عن أيّ الشهور أشدّ حراً، إلا أنها أخطأت في حركة الدّال، فقال لها قولي: ما أشدَّ الحر، (بفتح الدّال).

هذا الخطأ استفزّ أبا الأسود ليبدأ في تأسيس علم من أهمّ علوم العربيّة وهو علم النحو، ونلحظ أنّ محلّ الاستفزاز ليس خطأ اللسان في الحركة فقط، بل تغيّر المعنى الذي حدث بتغيّر الحركة، فنحن عندما نرفع كلمة أو ننصبها فإننا نمارس عملية عقلية في اختيار المعنى المناسب للرفع أو للنصب، أي في كونه فاعلاً أو في كونه مفعولاً به، في كونه أسلوب استفهام أو أسلوب تعجب، لذلك نحن في العربية نفهم أولاً حتى نقرأ بشكل صحيح وليس العكس، ومن هنا كان الإعراب صورة من صور توضيح المعنى، ومن هنا كان البحث عن المعنى وتقديمه على اللفظ أساساً قيّماً في عمل النحويين والبلاغيين، وهذا ما ظهر بوضوح أكثر مع نظرية النظم للإمام عبد القاهر الجرجانيّ صاحب كتاب “دلائل الإعجاز”، الذي جعل حسن البلاغة راجعاً إلى معاني النحو وليس إلى مبانيه.   

ولعلّ أمر النحو العربي كان أكبر من ملاحظة المعاني فقط، فكتاب إمام النحو “سيبويه” الذي سمّاه “الكتاب”، لم يكن مجرّد قواعد لتعليم النطق الصحيح، بل كان سيبويه وأمثاله من النحويين يتتبّعون قوانين الفكر داخل اللغة، لذلك وُصِفَ علم النحو بأنه “منطق العرب” أي منطقها العقليّ، وهذا نراه في ملاحظتهم لمفهوم “الكمّ” وتسميته بـ “مبالغة اسم الفاعل” أو “اسم المرّة”، وملاحظتهم لمفهوم “الكيف” وتسميته بـ “الصفة المشبهة” أو “اسم التفضيل”، وملاحظتهم للزمان والمكان وتسميتهما بـ “اسم الزمان” و “اسم المكان”، بل إننا نجد قولاً عجيباً للفقيه الجرميّ يقول: “أفتيت الناس ثلاثين سنة من كتاب سيبويه”، وكتاب سيبويه ليس فيه حلال أو حرام ولكنه يعلم طرق التفكير والنظر والاستنباط.

وهذا يدفعنا للحديث عن ارتباط اللغة بالفكر وأنها لم تعد وسيلة لنقل الأفكار، بل صارت هي بيت الوجود، فنحن نفكر من خلال اللغة، وأي محاولة للتفكير خارج اللغة محاولة غير ممكنة، وأنّ الأدب إنما وجد لكسر الاعتيادية والشرعية التي تصنعها اللغة في الفكر والواقع، فالأدب استعمال غير مألوف للغة، لذلك كانت الأقلام وماتزال مصدر رعب لأي سلطة، ومصدر تنوير وثورة.

كما أن ارتباط العربيّة بالهويّة ارتباطٌ وثيق، فمن الممكن أنْ يغيّرَ المرءُ دينَه لكنْ من غير الممكن أنْ يغيّرَ لغته الأمّ التي تعلّمها من أمّه في مهده، والهويّة العربيّة ليست هويّة لفظية فقط، وليست أصواتاً وحروفاً فقط، هي انتماء للثقافة العربية والإسلامية لأنّ اللغة مستودَع الفكر، والدّالّات اللغوية ليست مقطوعة عن دوالّها الفكرية، لقد وَضَعَ ابنُ جنّي في كتابه الخصائص باباً سمّاه “باب في الردّ على من ادّعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفال المعاني”، قال فيه “فإنّ المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها”، وربما كان من الصعب اليوم أن نتخيّل أدباً عربياً مكتوباً بغير اللغة العربيّة، لكننا نرى أدباً مكتوباً بالعربيّة ولا يعبّر عن الثقافة والقيم العربية والإسلامية، هو ينتمي أكثر لثقافات أخرى لا تمثل قيمنا، إنّ لذة النّص كما يصطلح “رولان بارت” ليست فقط في الظاهر اللغويّ والنصيّ، بل بما يتبعهما من أفكارٍ ومعانٍ خاصة، كما أنّ لذة الجسد ليست في الظاهر العضوي فقط، وإسقاط هذه اللذة التي تمسّ هوية الأمة يكون بالتسطيح اللغوي والأدبيّ، أو بجعل اللغة لغة أقليات نخبوية وثقافية.

وإذا كانت اللغة غير مقطوعة عن الفكر والثقافة فهي أيضاً ليست مقطوعة عن السلوك اللغويّ، فالبيان العربيّ في جانب كبير منه بيان محرّك، وبلاغة دافعة للعمل والإنجاز، واللفظ الشريف والمعنى الرفيع إنما وُجِدا لغاياتٍ سلوكيّة تنهضُ بالأمّة أخلاقاً وفكراً، قال ابن جنّي “ألا ترى أنّ المثل إذا كان مسجوعاً لذّ سامعه فحفظه، فإذا هو حفظه كان جديراً باستعماله، ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس به… وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيء به من أجله”.

بعد هذه المقاربة لموضع اللغة من المعنى والسلوك والتفكير يمكن أن نقول من المؤسف أن يكونَ طالبُ العربيّة في عيون كثير من الناس طالباً نمطياً، يعالج ما هو قديم وبعيدٌ عن الواقع، اللغة عنده هي لغة الإسناد فقط، ووصْفُهُ على ألسنة الناس بالحذلقة وصفٌ شائعٌ، لأنّ مدارَ اهتمامِهِ عادة تصويبُ الجملة، عمدتِها وفضلتِها وإملائِها! أمّا الأديب فهو كالعصفور، صوته جذّاب، لكنْ بواقع خاصّ، خاصّ جداً، لا يسمع فيه شيئاً مما نسمعه، ويصرّ دوماً على التحليق عالياً فوق رؤوسنا وقضايانا!

في مقال مهمّ نشره الفيزيائيّ الدكتور علي مصطفى مشرفة تحت عنوان “اللغة العربية كأداة علمية” قال فيه “إنّ اللغة العربية الحديثة ما تزال في دور التكوين، فمن المؤسف أنه قد مضت تسعة عقود على تأسيس أول مجمع للغة العربية، وكان في دمشق عام 1919م، ومازالت المجامع على جهدها المبذول أقلّ بكثير من حاجة المجتمع إليها، بسبب البطء الشديد في التعريب، ثمّ العزلة الاجتماعية التي تفرضها المجامع على نفسها، والتي يعترف بها المجمعيّون أنفسهم، فالمجمعيّ الدكتور إبراهيم مدكور يرى أنّ المجمعيّين لا يخاطبون الجماهير بعلمهم وأنّ هدفهم هو مخاطبة الخاصة والمسؤولين! وهذا يغفل التواصل مع شريحة كبيرة من المثقفين والفنانين وأساتذة الجامعات والمعلمين الذين من الممكن أن يذودوا عن اللغة ويخدموها دون أن يكونوا أعضاء في المجمع!

وبنظرة أكبر للمعجم اللغوي فأظن أنه علينا أن ندرك أيضاً أن كمية المفردات التي كان الإنسان يتلقاها من بيئته هي التي تشكل وعيه تجاه ذاته والمجتمع والعالم كلّه، وأن الإنسان سابقاً لم تكن لديه القدرة على تجاوز ما يعطى له من معجم، أما الإنسان اليوم فبفضل الانفتاح الكبير الذي نعيشه صار أقدر على الانعتاق من محدودية المعجم المعطى له، وصار أقدر على تجاوز الصور النمطية تجاه ذاته والمجتمع والعالم، وحتى تجاه الدين أيضاً، وهذا بلا شك يحمل جوانب إيجابية لكنه يجعل اللغة في غربة عن سياقها الثقافي والاجتماعي، ويدفع الإنسان لأن يولّد منها ما لا يتّسق مع الثقافة التي تحملها اللغة نفسها.

لعلّ من أهمّ المشكلات التي تواجه العربية هي العامية في أذهان كثير من المختصّين، وأظنّ أن تقليل الفجوة بين العربية والعامية أفضل بكثير من تعزيز الفجوة والقطيعة، فالعاميات ظاهرة طبيعية في كل اللغات، فلكل لغة حالة رسمية يستعملها أهلها في ظروف خاصة، وحالة شعبية يستعملها أهلها في أكثر الأحيان، وهذا وإن كان أوضح في العربية من غيره من اللغات، لكنّ الفجوة بين الفصيحة والعامية لعلها فجوة إنتاج واستعمال أكثر من فجوة قراءة وكتابة وسماع، فالناس تفهم خطبة الجمعة بالفصيحة وإن لم تكن قادرة على إنتاجها، لذلك إن محاولة جسر الهوة وتقريب الفصيحة من العامية، وصون اللغة عن الابتذال الشديد الموجود في العامية خطوات مهمة في هذا المجال. 

مقاومة الخشب أو مطاوعته تختلف حسب المكان الذي ندقّ فيه المسمار، الخشبُ ليس متشاكلاً، والواقع أيضاً كذلك، من الضروريّ أنْ نعرفَ أين نضعُ جهودَنا ونصوصَنا؟ أين نحضر؟ وأين نغيب؟ كثيرون لا يزعجهم أن تكون العربيّة من غير ظلّ، وآخرون يريدونها مظلمة “كالسينما” لا بأس إن كانت “هوليودية”، لكن في غرف مغلقة، من الممكن جداً أن يصير الأديب أو اللغويّ عالة على المجتمع، بربطة عنق أنيقة وبرتبة جامعيّة عالية، لأنه ببساطة لا ينتج اللغة، إنما يستهلكها، بل يتكسّب من ورائها.

أظنّ أنّ مشاريعنا لأجل العربية لا تختزل في رسالة التعليم على جلالتها وعظمتها، بل يجب أن تكون ألصق بالحياة، وألصق بأدوات الحياة، وأظنّ أنّ وصْلَ العربيّة مبنًى ومعنًى بعالم الصورة له أثرٌ كبيرٌ في خدمة العربية، حتى لا تبقى اللغة حبيسة فئة ونخبة أكاديمية، وحتى يكون لها وقعها في الحياة، اللغة شيء جديد في حياتنا كلّ لحظة، وكل زمن، هي تتغلّب على الظروف والعوائق إذا اعتنينا بها عناية غير منفّرة، عناية تراعي الأدوات الواقعية الصحيحة.

وفي النهاية أظنّ أنه لا بدّ من قول شيء مهم، وهو أنه لا يوجد في رأيي نموذجٌ مفرِطٌ في الاستقلالية والمثالية اسمه “النهضة باللغة العربية”، نتخيّله في أذهاننا ونجلد ذاتنا على عدم الوصول إليه، لأنّ اللغة العربية لا يمكن أن تكون مقطوعة عن كل الظروف الأخرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في إنتاجها وفي قوتها، والخلل الواقع في موقع اللغة العربية هو خلل مرتبط بكل هذه الظروف، وإصلاحها متصلٌ بإصلاح شامل، وهذا لا يعني إعفاء الجامعات والقيّمين على العربية من مسؤوليتهم تجاه حال اللغة العربية بقدر ما هو إدراك لحجم المشكلة وسبُل التعامل معها، وهذا لا يعني أيضاً التفريط بأيّ شكل إصلاحيّ ينبغي الوصول إليه من تقويم للمناهج الدراسية وأساليب تدريسها ومن طرق تعزيز العربية في المجتمعات.