الـتجـديــد وواقع المسلمين

288

مازال موضوع التجديد الديني من الموضوعات المهمة التي يكثر الحديث عنها، وسنحاول في هذا البحث أن نلقي بعض الأضواء على هذا الموضوع الشائك، ولا ندعي الاحاطة والعصمة. وحسبنا أن ندلي بدلونا لشرح بعض القضايا المتعلقة بالتجديد والتي نشعر أنها مازالت تحوم في فلك من المعاني الإجمالية والعمومات المطلقة التي تحتاج إلى الأمثلة التطبيقية التي تعين على الفهم وتساعد على إيجاد جو من الشجاعة لريادة آفاق ومستويات من التجديد يصدّ عنها تهيب متردد وورع بارد.

تنطلق فكرة التجديد من مقدمة أساسية وهي أن الاسلام رسالة رب العالمين إلى الناس كافة، وهذا العموم يشمل الزمان والمكان، فالإسلام هو الرسالة الخاتمة للرسالات ولا وحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

فمن لوازم خاتمية الرسالة أن تنسجم طريقة فهمهما والتدين بها مع الأوضاع العالمية المتغيرة والمتجددة في كل يوم. فليس من المعقول الوقوف عند ما قاله أقدمون أو ما قاله السلف بحرفيته في كل المسائل التي خاضوها وتكلموا فيها انطلاقاً من خلفيتهم في البيئة والثقافة والزمان والمكان، لأن تفسيرهم وتطبيقهم أو تنـزيلهم للنصوص على واقعهم هو فهم وعمل إنساني غير معصوم، والوحي أو النص بإطلاقه ومضمونه خالد معصوم.

ومن هنا فإن عدم صلاحية أو مناسبة ما نراه في كتب التراث بشأن بعض المشكلات الجديدة أو عدم وجود أي طرح لهذه المشكلات أصلاً لا يعني أن الإسلام لا شأن له بهذه المشكلات ولا يعني المسلمين الخوض فيها والوقوف على وجه المصلحة والعدل فيها، ولكن هذا يعني أن هناك واجباً لم يقم به أحد بعد.

ويبدأ الخلاف عادة من تحديد من يقوم بهذا الدور؛ فالذين يعترفون بضرورة التجديد لمواجهة الأوضاع الجديدة المتغيرة يتساءلون: أين المجدد؟ فالمجدد -كما يرون- له شروط ومواصفات وإحاطة بعلوم الآلة من عربية ومعاني ونحو وبلاغة وأصول وحديث و…، إلى آخر هذه القائمة الطويلة. فلعدم وجود من يوثق بإحاطته بهذه العلوم جميعاً ويُعترف له من الجميع بهذه الإحاطة يقولون إن الأمر مغلق، ليس لأننا نحن الذين أغلقناه ولكن لعدم وجود المؤهل للقيام بهذه الوظيفة.

وهنا نحب أن نوضح أن هذه النقطة ليست محل خلاف، ‍ فالتجديد الذي ندعو إليه هو تجديد لا يتعلق باستنباط الأحكام من النصوص ولكنه يتعلق بتنـزيل الأحكام. فاستيعاب الأحكام الشرعية الثابتة في القرآن والسنة وما ذهب إليه الأئمة يُعد مرحلة أولى ومقدمة يستطيعها كثير من الناس- كل في مجال عمله واختصاصه.

ونضيف إلى هذا أن فهم الواقع وعناصر هذا الواقع لتنـزيل الحكم الشرعي عليه هو الأمر الذي لم يقم به الناس بعد.

وقد نقل ابن القيم كلاماً لطيفاً في (إعلام الموقعين) عند شرح رسالة عمر بن الخطاب في القضاء إلى أبي موسى الأشعري والتي قال فيها: الفهمَ الفهمَ فيما أدلي إليك فإنه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له.

قال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.

ففهم الواقع شرط أساس لتنـزيل الحكم الشرعي (الذي هو الواجب في الواقع). لقد اعتدنا أن نفهم الأحكام الشرعية مجردة عن الواقع، وندعي مناسبتها لأي واقع دون فهم هذا الواقع وعناصره ومقدماته وسياقه وقرائنه.  فما ندعو إليه هو فهم للواقع والصلة الحقيقية بالأمة وأحوالها وما يجري فيها من توجهات وأعراف وميول ونوازع، ثم محاولة فهم للواجب في الواقع من خلال الأحكام الشرعية الثابتة.  فالجهد المطلوب في كثير من القضايا لا يتعلق باستنباط حكم جديد وإنما يتعلق باستنباط ما يصلح لهذا الواقع من الأحكام الشرعية الثابتة. وكلام سيدنا عمر في آخر الفقرة التي أشرنا إليها يقول: الفهم الفهم فيما أدلي إليك فإنه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له.  فإذا كنتُ أتكلم بكلام هو حق في نفسه إذا تجرد عن مقتضيات الزمان والمكان، ولكن الواقع يأباه ولا يناسبه فلا ينفع هذا الكلام، وهذه هي المشكلة التي نعانيها مع صياغة الفكر الاسلامي أو الفقه الاسلامي حيث يُتكلم فيما يجب -لا فيما يمكن- مـما لا نفاذ له. فكلام بشريعة لا علاقة لها بفهم الواقع كلام في فراغ.

وقد تكلم الإمام الشاطبي بما يلقي أضواء على هذا الفهم لمعنى التجديد عندما تحدث عن الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، “وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله”؛ وقال في موضع آخر: “قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية، لأن المقصود في هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به”. (الموافقات، ج4، ص29).

ويقرر الشاطبي في مكان آخر أن الاجتهاد في تحقيق المناط لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه. فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا.  فوقعت له في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه. وكذلك سائر تكليفاته، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنـزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن لأنها مطلقات وعمومات… فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان. إذ لا يمكن التكليف إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمجال وغير ممكن شرعاً كما أنه غير ممكن عقلاً (ج4، ص94).  فالذي نقوله إن الأحكام قد تكون ثابتة ومؤصلة ومستنبطة ولكن تنـزيلها على الواقع مشكل كبير، وكثير من الناس ينـزلون على الواقع أحكاماً لا تتعلق به أبداَّ.  ولا يمكن تحقيق المصالح التي شرعت لأجلها أو تحقيق مقتضى الحكم فيها. هذا الاجتهاد في فهم الواقع والاجتهاد في تنـزيل الحكم المناسب على هذا الواقع هو التجديد الذي نطالب به وندعو إليه.

ونضرب لذلك أمثلة يتبين منها أن التجديد هو تطبيقٌ للحكم الثابت في صورة جديدة تتناسب مع واقع جديد.

  • حكم الزكاة حكم شرعي ثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا مجال للكلام فيه. وقد قرر الفقهاء أن الزكاة يجمعها ويوزعها الأمير ذو السلطان وهذا واجب الدولة والأمراء.

ولما آلت ظروف المسلمين إلى وضع تعطلت فيه هذه الوظيفة الاساسية للدولة، انبرى كثير من صلحاء الناس ووجهائهم إلى تشكيل جمعيات ومؤسسات للقيام بهذه المهمة في أخذ الزكاة من الأغنياء وردها على الفقراء.

إذا نظرنا إلى هذا الأمر نجد فيه خروجاً على نص الفتاوى المدونة في كتب الفقه إلى طريقة جديدة في تطبيق الحكم، ولم نسمع بأي معترض على هذا الخروج على الفتوى المدونة إلى شكل آخر من تحقيق مناط الحكم الشرعي الثابت، فإذا لم تقم الدولة بهذا الواجب ينبري فريق من الناس من أهل الأمانة والثقة والمعرفة بالواقع الاجتماعي للقيام بهذه الفريضة ولا ننتظر حتى يقيض الله عالماً بمقاصد الشريعة وعلوم الآلة والأصول ليقول لنا أن من الممكن تحقيق الفريضة بطريقة أخرى تتناسب مع ظروف الواقع الاجتماعي.

  • والمثال الآخر: قرر الفقهاء أن الجهاد ومجاهدة الكفار والدفاع عن بلاد المسلمين هو من واجبات ومسؤوليات الأمير ذو السلطان أو الحاكم المسلم والدولة المسلمة.

لما جاء الاحتلال الأوروبي إلى أكثر بلاد المسلمين وغابت في الواقع السلطة المحلية وغابت إمكانية تجنيد الناس من قبل سلطة حاكمة قادرة ومعترف بها. انبرى كثير من العلماء والوجهاء والكبراء لحمل مسؤولية هذا العبء، وكثير من بلاد المسلمين تم تحريرها بثورات خاضتها الجماهير بقيادات شعبية على رأسها العلماء والمشايخ ومن لا علاقة لهم بصورة حكم ولا حكومة.  ولم نسمع بمعترض على هذا التجديد ولم تسمع الأمة أن السنوسيين أو المهديين أو الخطابين أو أتباع الأمير عبد القادر الجزائري أو الشيخ محمد الأشمر في دمشق وغيرهم كثير… لم نسمع أن هؤلاء لما نذروا أنفسهم لسد الثغرة والقيام بالواجب خالفوا ما نصت عليه كتب الفقه وأنهم بذلك متجاوزون. لما ظهرت الحاجة لرد العدوان وتحرير الأوطان، ورد العدوان والجهاد بالشكل الذي صيغت به كتب الفقه غير ممكن فماذا نفعل؟ لا بد من فهم الواقع الجديد واختراع وسيلة جديدة لتطبيق الحكم الشرعي الثابت. هل يحتاج هذا الأمر إلى إنسان عنده كل علوم الآلة ليقوم بهذا الواجب؟ والجواب أن لا، فهذا اجتهاد في تحقيق المناط يقوم به من ابتلي بمثل هذا الموقف، ولا عليه أنه خالف ما عرفه الناس مما دون في كتب الفقه والشريعة من وسائل. هذا المعنى من التجديد هو عين ما نريد في كل ما ثبت أن واقع المسلمين قد تغير عما كانت عليه الحال عند تدوين الأحكام أو الفتاوى الشرعية.

فالمطلوب أن نفهم المعنى والمقصد من الحكم، وننـزل المعنى والمقصد الثابت على الواقع الجديد المتغير بابتكار وسيلة جديدة مناسبة للواقع والحال.

 وقد عقد ابن القيم في (إعلام الموقعين) فصلاً بعنوان تغيير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد. وقال فيها: هذا فصل عظيم جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل”. (ج3، ص41).

ثم أتى ابن القيم بأكثر من ثمانين مثالاً لأحكام شرعية ثبتت بأحاديث صحيحة ثم نظر الصحابة والسلف إلى ما تغير من أحوال فتغيرت الفتوى لاختلاف المناط والأحوال والأزمان والعوائد. ويعجب المرء من وجود ثمانين مثال على تغير الفتوى لتغير الأحوال ضمن جيل واحد، ويتساءل في الوقت نفسه ألم يتغير من الأحوال والعوائد بعد ثمانمائة سنة عدد أكبر من هذه القضايا؟

فالمطلوب هو المحافظة على المعنى والمقصد في الحكم وتنـزيل ذلك المعنى وتطبيقه ليتناسب مع الواقع.

وأحد الأمثلة التي ساقها ابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ضالّة الإبل، فقال للسائل: دعها معها حذاؤها وسقاؤها، فلا يخشى على الإبل الضالة هلاكاً من جوع أو عطش أو افتراس فكان الأمر بتركها. جاء عثمان رضي الله عنه وأمر بأخذ ضالة الإبل، لما رأى من اختلاف الأحوال والعوائد، فإذا كان الأمر النبوي بترك ضالّة الإبل ينطلق من حفظ المال في مجتمع غلبت عليه الأمانة فإذا قلّت الأمانة صار إتلاف المال بتسلط الأيدي العادية وارداً ومحتملاً، فالأمر بالأخذ هنا حقق نفس المصلحة من الأمر بالترك هناك. وهذا مثال واضح عن تغير الحكم بتغير الواقع، وهذا يمثل اعترافاً من سيدنا عثمان أن الواقع الاجتماعي الذي حقق المقصد الشرعي أول مرة لم يعد موجوداً لتحقيق المقصد الشرعي في المرة الثانية.

رأى الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (كيف نتعامل مع السنة) أن اعتماد الحساب في إثبات الهلال هو أولى من اعتبار الرؤية المنصوص عليها. فالقضية عنده لا تعدو مسألة نص على وسيلة تتناسب مع واقع عصر النبوة، وليس هناك من مانع شرعي ولا عقلي من اختيار وسيلة أعلى منها وأثبت في تحقيق مقصد الإثبات ووحدة الكلمة بين المسلمين.

فما يشهد به الواقع أن اعتماد الرؤية في الإثبات كان يضمن الوحدة عندما كانت المسألة تتعلق ببلدة أو قرية ليس هناك من وسيلة للعلم بما صنع بلد آخر على مسافة قصيرة لا تتجاوز عشرات الأميال، فإذا صار الكون كله قرية صغيرة بعد ثورة الاتصالات وإمكانية تبادل المعلومات بالهاتف والأقمار الصناعية، أصبح اعتماد الرؤية مدعاة للتفرق وليس وسيلة وحدة كما كان الأمر قبل ثورة الاتصالات. فالحادثة الكونية التي تحدث في كل الدنيا في لحظة واحدة هي الولادة الكونية للهلال، فهذا أمر لا يمكن الاختلاف عليه، فقول الشيخ القرضاوي باعتماد الحساب يُسمع لأنه يريد تحقيق مقصد الشريعة في الوحدة من خلال اعتبار المقصد لا عين الوسيلة المنصوص عليها، وهذا هو التجديد المطلوب كما نراه.

يتردد في كتب الفكر الاسلامي كلام طيب عن ضرورة التجديد وضرورة تحويل القيم إلى برامج وضرورة الانتقال من الحماس إلى الاختصاص وهذا كله من صميم ما ندعو إليه من تجديد، ولكني أخشى أن يكون في عمومات هذا الطرح ما يدفع الإنسان إلى الوقوع في الوهم بأن أمر التجديد يعالجه مختصون -بالمصطلح الغربي الأكاديمي- وهؤلاء وإن وجدوا على ندرتهم لا نكاد نجد من تبلورت منهجيتهم ومرجعيتهم الاسلامية وتوجههم إلى هموم الأمة وهويتها وذاتيتها. بالإضافة إلى أن الحديث عن البرامج يوحي بأن التجديد المطلوب ‑حصراً- هو تجديد في أعلى درجات السلم السياسي أو العلمي أو الاقتصادي فنرجع من الدعوة إلى التجديد -إن فهمت بهذا الشكل- صفر اليدين لا نستطيع أن نخطو خطوة واحدة على طريق تأمين الكفاية ورفع العجز والوهن، ويتصور الناس أن لا دخل لهم  بهذه الدعوة إلى التجديد وأنهم ليسوا مخاطبين بها، والجميع ينتظر المعجزة وأن يلهم الله من يتصدر سدة القرار السياسي أو الاقتصادي أو العلمي أن يتوجه إلى صياغة البرامج واستشارة أهل الخبرة ممن نطمئن إلى إسلامية توجهه وانتمائه إلى هموم الأمة.

فإذا أضفنا إلى ذلك الفهم الشائع لبشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله سيبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، بأن المجدد المقصود مجدد موسوعي يفقه كل شيء ويستطيع أن يعالج كل شيء، كان من الصعوبة بمكان أن نعرف من أين نبدأ، وكيف تتحول الدعوة إلى التجديد حافزاً للأمة على مختلف طبقاتها للتعبئة لرفع الوهن والعجز والتخلف.

التجديد واجب فردي – جماعي

وأتصور أن التعريف الذي قدمناه لمعنى التجديد والأمثلة التي أوضحت هذا التعريف بحاجة إلى مرحلة أخرى من التبسيط والتوضيح لتؤدي الدعوة إلى التجديد دورها على كل مستوى.

يتعارف الناس ضمن كل مهنة من المهن على طبيعة المشكلات التي تحيط بتلك المهنة، وتتأصل من خلال المعاناة اليومية أعراف وتقاليد تصبح مع تقدم الزمن المرجع والحكم عند التنازع والاختلاف. فمعرفة عيوب كل صنف من البضائع ومعرفة مداخل الغبن والغرر في كل نوع من أنواع التعاملات، ومعرفة الجهالة في العقود التي يتسامح بها والجهالة الفاحشة التي تؤدي إلى الخلاف والتنازع…‍ هذه خبرات لا بد منها عند محاولة تنـزيل الحكم الشرعي الثابت بمنع الغش ومنع الغرر ومنع الجهالة وتفادي ما يؤدي إلى الخصومة بين الناس.

إن إيجاد وسائل متجددة ضمن أعراف كل مهنة لتنـزيل الحكم الشرعي الثابت هو عمل من صلب معنى التجديد وهو عمل يشمل مختلف شرائح الأمة وفعالياتها الاقتصادية والعلمية، فاجتماع أرباب كل مهنة واختصاص لمراجعة أو اقتراح لوائح تنفيذية تحقق المعنى الشرعي في رفع الغش والغبن والغرر ضمن أعراف المهنة والاختصاص ومراجعة القوانين النافذة المتعلقة بهذه الأمور… هذا أمر مطلوب إن أردنا لمطلقات الأوامر الشرعية أن تترجم إلى واقع اجتماعي وبرنامج يستشعر الناس أهميته في تسهيل حياتهم وقضاء حاجاتهم. وهو أمر يحتاج إلى جرأة في طرح المشكلات وجرأة في بيان عدم كفاية الوسائل المقترحة في كتب التراث لمعالجة هذه المشكلات بحجمها ومداها الجديد، ثم عقلية مبدعة تحاول إيجاد الحلول من خلال عمومات المعاني الشرعية الثابتة. فالذي يحكم أن هناك ضرر ومفسدة وإيذاء والذي يحكم أن المصلحة في صورة من صور التعامل متحققة أو منتفية، ليس هو عالم الشريعة بصورته التراثية بل هو الذي يعاني هذه الأمور من أرباب كل مهنة وحرفة وكل اختصاص من الاختصاصات، ولا بد من بيان ذلك وتشجيع كل من له صلة بتيار الصحوة الإسلامية للمشاركة والمساهمة في هذا الطرح التجديدي لمشكلات الواقع الاقتصادي.

وإذا انتقلنا إلى أفق المشكلات الاجتماعية وجدنا أن معنى التجديد فيها هو أهم وآكـد.

 فكثير من الممارسات والأعراف والتقاليد الاجتماعية خرجت عن معناها الذي وضعت له إلى أن تكون أغلالاً وإصاراً وتكلفاً ومدعاة للحرج والمشقة. فإذا نظرنا إلى أصل الآداب الشرعية في الواقع الاجتماعي من تزاور وتهادي وتهنئة وتعزية ومواساة وعيادة مريض وضيافة وتحية وما إلى ذلك وجدنا أن المعنى المطلوب شرعاً لأمثال هذه الآداب والفضائل هو بناء لحمة اجتماعية متماسكة مدارها التكافل والتعاون على الخير والمساعدة والمواساة ليجد المرء في محيطه الاجتماعي ما يعينه على تخطي الصعوبات والمحن. ويعطيه الشعور بالانتماء إلى بيئته وقومه.

والناظر إلى الواقع الاجتماعي يرى ضموراً واضحاً في هذه المعاني، وقد يصل الأمر إلى أن بعض الأعراف والممارسات الاجتماعية تعود بنوع من الخلل على المعنى المطلوب شرعاً من الأعراف والآداب الاجتماعية. ولا يحتاج الأمر هنا إلا إلى عقلية عملية تربط بين السلوك وما يؤول إليه في الواقع الاجتماعي، للرجوع إلى المعنى وطرح الأشكال والطقوس، والتمسك بروح الآداب ومدلولها الاجتماعي لا بحرفية ما اعتدنا على فعله تقليداً للآباء وتمسكاً بالقديم. هذا المعنى من التجديد الاجتماعي يستطيعه كل من عنده الجرأة على ترك القديم من العادات التي فسد معناها واقتراح بديل جديد لتحقيق المعنى الاجتماعي من باب “من سنّ سنة حسنة”.

هذا المعنى من التجديد يعم الأمة جميعاً ولا يختص بفئة ولا مهنة ولا مستوى علمي ولا غير ذلك، ولا أبالغ إذا قلت إن هذا المعنى من التجديد هو المقدمة الأولى والخطوة الأولى التي تشكل الأرضية والمناخ الاجتماعي والنفسي للتهنئة لأجواء تتقبل الآفاق الأخرى من معاني التجديد الشرعي والعلمي.

الصيغة العملية للتجديد

ولعل الصيغة العملية للتجديد ولتغيير ما خرج عن أصل وضعه الشرعي من المعاملات والممارسات تكمن في إحياء معاني الأحكام ومقاصدها ونشرها بين مختلف طبقات الأمة، ثم توثيق الصلة بين الأمة وعلماء الشريعة، فالتفاعل المستمر بين معاني الأحكام والمقاصد الشرعية وبين واقع الأمة بمختلف خبراتها واختصاصاتها تولد تلقائياً مشاريع واقتراحات لحل مشكلات الواقع الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والسياسي، ولا بد من أن يتفاعل علماء الشريعة مع هذا الواقع وتلك المقترحات لتتكامل الصياغة العلمية ويجري عرض ذلك كله على النصوص والأصول لإقرار ما وصل إليه الناس من حلول أو لإرشادهم إلى خلل في فهم المعنى والمقصد وتشجيعهم على تدارك ما وقع من خلل في الفهم أو التطبيق أو قصور في فهم آفاق المعاني والمقاصد. أما مجرد الخروج عن صور التطبيقات التاريخية للأحكام أو الخروج عن الاختيارات المذهبية لبعض العلماء، فليس بعيب قادح ولا تهمة يجب التبرؤ منها، بل هي الضرورة العملية والتجديد الذي ندعو إليه ونلح على تشجيعه ومباركته. فليس من المعقول أن ندعي أن الاسلام رسالة خالدة خاتمة ثم نصر على ثبات الفتوى وإن اختلف الزمان والمكان والواقع والسياق وكل القرائن.

إن من غير المعقول أن نتصور إمكان إحاطة عالم الشريعة بفروع جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية وغير ذلك فإن فرعاً واحداً من هذه المجالات يستغرق سنوات طويلة ليحيط المرء بدقائقه وخفاياه ويتمكن فيه وينال منـزلة الخبير الموثوق، فيكاد أن يكون الأمر مستحيلاً أن نطلب من العالم بالشريعة أن ينفرد بالقول في كل مسألة وأن ينفرد باقتراح الحلول لكل معضلة. فلكل أمر أربابه وأهل الفهم فيه وهم أدرى بتنـزيل عمومات الأحكام الشرعية على واقع مهنتهم وعملهم الذي علموه بالتفصيل. ويبقى دور عالم الشريعة هو الصياغة العلمية أو التوثيق والربط بعمومات الكتاب والسنة مما يمكن أن نسميه الإقرار الدستوري -إن صح القول.

ولعل من المفيد أن نذكر أن بعض علماء الأمة وعوامها ينفرون من مصطلح التجديد ويكرهون نشره واستعماله لارتباطه في واقع الأمة المعاصر بالحملة المسعورة التي يشنها الغرب ودعاة التغريب في بلاد المسلمين لتمييع الهوية الاسلامية للأمة وتذويب شخصيتها وذاتيتها لإحلال القيم الغربية ونموذج الحياة الغربي محل الإسلام وقيم الإسلام في حياة الأمة. وقد انتشر استعمال مصطلح التجديد بين هؤلاء ليغطوا سوء مقصدهم وما يبيتون من فكر فكان رد فعل الأمة في ظروف المواجهة السياسية مع الغرب هو التمسك بكل قديم والنفور من كل تغيير وكل جديد، وهو تصرف مفهوم معقول في بدايات المواجهة وصخب الصراع للتحرر من الاستعمار.

ولكن استمرار الرفض لكل جديد ومحاولة التمسك بكل قديم وادعاء أن هذا القديم هو الإسلام الذي يجب الدفاع عنه، أصبح مرضاً مميتاً وظاهرة خطيرة يجب التصدي لها، فإساءة استخدام مصطلح التجديد وزجّ هذا المصطلح في إطار التمويه لعملية دفع الأمة إلى التيه وإبعادها عن قيمها وذاتيتها يجب أن لا تلفتنا عن الواجب الدائم في فهم العصر وتنـزيل القيم والمعاني والأحكام بما يتلاءم مع حقائق الواقع، ولا ضير في تلاقي بعض أشكال الوسائل مع ما يماثلها في حضارة وثقافات الشعوب الأخرى، فالمسلم يعطي الوسائل هويتها ويعطي الوسائل وجهتها لا العكس. واستعارة عمر بن الخطاب لنظام الديوان لتنظيم عمليات الجهاد لم يمنع منه أنه نظام فارسي المنشأ، عندما تمت عملية التكيف المناسب للوسيلة المستعارة مع الواقع الاجتماعي والقبلي للعرب المجاهدين. 

إن اطمئنان الأمة إلى هوية وانتماء واهتمامات المتحدثين عن التجديد والتطوير أو الذين يبادرون إلى اقتراح وسيلة عملية لحل أزمة واقعية، إن اطمئنان الأمة إلى قضية الهوية والانتماء هو الـضامن لتفاعل الأمة مع معنى التجديد والمضي معه بتجاوب كامل تماماً كما حدث في الجهاد ضد المستعمرين أو في إنشاء المؤسسات والجمعيات للإغاثة أو في كل صور حركات التجديد الإسلامي التي جمعت أعداداً هائلة من صفوف الأمة لترشيد صحوتها وقيادة مسيرتها إلى الاستقلال والكفاية.

 إن قضية التجديد تتعلق بفهم الواقع الذي تغير، لذلك يصعب أن نفهم أو نتصور إمكانية أن يتعلق التجديد بالمقاصد الشرعية التي تمثل الثوابت في التوجهات والأطر العامة يصعب أن يتناولها التفكير البشري بالتعديل، وهذه الثوابت هي المركز الذي يحدد الرؤية ويشكل المرجع ضمن معطيات الوحي المعصوم.

أما إن كنا نعني أن تجديد المقاصد يعني توسيع آفاق المقاصد حتى لا تنحصر صورة تطبيقها وتنـزيلها على الواقع والتدين بها بصورة التطبيق التاريخي أو الرؤية البشرية التاريخية لهذه المقاصد فهذا أمر مُسلّم لا بد منه.

فالمسلم الذي يعتقد أن التدين بالأحكام الشرعية لا يمكن إلا بصورتها المدونة في كتب الفقه، يعيش جواً من الفصام والشعور بالإثم يحمّله أغلالاً وإصاراً وحرجاً لأنه يعتقد أنه يعيش وضعاً لا يرضى الله سبحانه عنه، لأن الفتاوى إذا لم يكن تنـزيلها على الواقع فمعنى هذا أننا لا نعيش الإسلام.

إن تحرير المسلم من هذا الضغط النفسي الهائل برفع العصمة عن صور التطبيق التاريخية لأوامر الوحي والرجوع به إلى أصول المعاني والمقاصد الحاكمة على الفتاوى والموجهة لتنـزيل الأحكام على الواقع… هذا كله من الواجبات الضرورية لإعادة العافية إلى العقل المسلم وإخراجه إلى الفاعلية والواقعية.

إن توسيع آفاق المقاصد ليستطيع المسلم أن يواجه التحديات العملية والفكرية التي يواجهها، أمر أشار إليه الإمام الشاطبي عندما تناول الأوامر المطلقة التي وردت في القرآن الكريم وقرر أن المكلف هو المطالب بتنـزيلها على واقعه وبيان مداها ومدلولها وآفاق التدين بها في بيئته وزمانه ومكانه وأعرافه الاجتماعية. عندما قال: كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقاً غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف. وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات، وكل دليل ثبت فيه مقيداً غير مطلق وجعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره. (الموافقات، ج3، ص52).

التجديد في آفاق المفاهيم

قبل أن نختم هذا الحديث لا بد من الإشارة إلى نوع من التجديد لا يتعلق بتنـزيل الأحكام على الواقع وإنما يتعلق بطرح آفاق جديدة للمفاهيم والأطر الكلية ليتمكن المسلمون من الانتقال إلى مستويات أعلى في شكل ومضمون الخطاب الإسلامي وتقرير المفاهيم الإسلامية.

ومن الواضح أن مثل هذا التجديد والانتقال إلى آفاق جديدة في الخطاب الإسلامي وصياغة المفاهيم القرآنية أمر لا يحسنه إلا أصحاب الخبرة والاختصاص ممن استوعبوا معطيات الإنتاج الفكري والثقافي في موضوع اختصاصهم ثم قدموا مساهمتهم في التجديد نقلة نوعية في كيفية النظر إلى المعنى الإجمالي والإطار العام الذي تتكيف به الجزئيات وآحاد الأفكار والأحكام.

إن المتتبع لقضية إعجاز القرآن في الثقافة الإسلامية يدرك كيف تدرج مفهوم الإعجاز وحقيقته إلى أن انتهى إلى القفزة النوعية التي قدمها سيد قطب رحمه الله في -التصوير الفني في القرآن-، وكذلك موضوع وحدة موضوع السور القرآنية لم تصل إلى التأصيل والاستقرار إلا بما كتبه سيد رحمه الله في مقدمات وشروح السور في ظلال القرآن.

إن ما قدمه الإمام الشاطبي في نظريته عن المقاصد يعد نقلة نوعية في النظر إلى النصوص واستنباط الأحكام. وهذه النظرة إلى الشريعة تسهم مساهمة كبيرة في الخروج من الحرفية وتعطي البصيرة في النظر إلى حقيقة الواقع وما يتحقق فيه من مصالح. 

وإن ما قدمه الإمام الغزالي رحمه الله في – تهافت الفلاسفة- هو انتقال نوعي في كيفية التعامل مع الفلسفة في إطارها العام، حيث غيرت مساهمة الإمام التوجه العام في التعامل مع هذه القضية. ويعد ما قدمه ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن المنطق انتقالاً نوعياً في تأصيل المنطق الإسلامي وتحريره من وثنيات المنطق الإغريقي. 

وإن ما قدمه الامام حسن البنا رحمه الله من الإنتاج الفكري يعد انتقالاً نوعياً للخطاب الإسلامي الذي اتصف في بدايات القرن العشرين بالاعتذارية واعتبار النموذج الغربي مقياساً لإثبات صلاحية الإسلام لاحتوائه فصائل الحضارة الغربية.  لقد بدأ الإمام البنا مدرسة جديدة في الطرح الإسلامي والخطاب الإسلامي تتحدث عن الإسلام بذاتية وأصالة ولا تستعير المشروعية من مشابهة أو موافقة لجزئيات وآحاد الأفكار في الإطار الغربي.

ويعد ما كتبه الشيخ القرضاوي في كتاب -فقه الزكاة- خطوة موفقة في اتجاه التجديد عندما تحدث عن أنواع جديدة من الأموال المُزكاة والتي لم تكن تعد فيما مضى لاختلاف طبيعة الاستثمار وحجمه ودوره في الحياة الاقتصادية للأمة.

وفي العالم الإسلامي اليوم صحوة، وفي العالم الإسلامي اليوم تيارات وطروح متعددة للخروج من أزمة التخلف والاختلاف والتناحر والهيمنة الغربية في كل المجالات ولا بد أن تسري روح التجديد في جسم الأمة لتسترد العافية في عقلها وصلتها بكتابها وتتلمس خطواتها في واقع تعرفه وتدركه وتتطلع إلى مستقبل راشد على منهاج النبوة.

إن التجديد في المفاهيم وآفاق المقاصد الشرعية ضرورة ملحة يجب أن تجند لها العقول والإمكانات ولا ينفعنا أن نتقاعس عن هذا الواجب لاحتمال أن نقع في خطأ وتجنباً لما قد يحدث من اختلاف.

والله سبحانه وتعالى قد حفظ دينه، والأمة في مجموعها معصومة لا تجتمع على ضلالة ولا يستمر فيها إلا ما وافق الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].

والحمد لله رب العالمين

2005