المهدوية عقيدة مستقبلية خطرة

454

 لم يكن الإلحاح القرآني المتكرر على أنه لا يعلم أحد غيب المستقبل – حق العلم – إلا الله سبحانه، وأن ساعة القيامة ونهاية العالم هي بالخصوص من الغيوب التي استأثر الباري بها، حتى أخفاها عن أحب خلقه إليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم… لم يكن هذا الإلحاح عبثاً، ولا أمراً ثانوياً…

لقد شغلت أفكار نهاية العالم خاصة – ومستقبل الإنسان عامة – البشرية من قديم، ولايزال هذا الانشغال قائماً… فجاء القرآن وبين للناس القول الفصل في هذا الموضوع، وبذلك وضع حداً لكل الأوهام القديمة – الجديدة عن المستقبل وما يحمله من أحداث.

ولذلك لم يعرف المسلمون الحركات المنذرة بالنهاية أو المبشرة بالمخلِّص الذي رأت فيه موعدها المنتظر على رأس كل ألف أو مائة سنة، ولئن وجد شيء من هذا – في التاريخ الإسلامي – فقد كان محدوداً، في زمانه ومكانه وآثاره.

لقد قامت عقيدة الغيب في الإسلام، والتي بمقتضاها لا يعلم المستقبل حق العلم إلا الله تعالى… قامت بتحصين الأمة الإسلامية من هذه الأوهام التي تهبط بالإنسان إلى ما هو أدنى ولا تدفع بالحياة إلى الأحسن لما فيها من تعطيل للجهد الإنساني وإغفال مسؤوليته عن التغيير. لكن بعض المسلمين فتحوا ثغرة في هذا البناء العقدي المحكم، وذلك بترويجهم لفكرة المهدي تبرماً بظلم وغبن لا يدافعونه بما يجب من سنن التغيير، وبتأثير من الفكرة التي لا ترى التغيير في الأمة ممكناً إلا عن طريق السلطة والحكم.

 

اختلاف العلماء في شأن المهدي

المهدي – في الصيغة الأكثر انتشاراً – هو رجل يسمى محمد بن عبد الله، من ولد فاطمة بنت نبينا صلى الله عليه وسلم، يظهر في آخر الزمان حين تكون الساعة وشيكة الحلول، ثم يحكم هذا الرجل مدة سبع سنين، تكون أمناً وسلاماً حيث يعم الخير ويسود العدل ويهيمن الإسلام على العالم، وفي عهده ينـزل عيسى عليه السلام إلى الأرض، ويعينه في هذه المهمة[1]. والذين رسموا هذه الصورة، قالوا إن هذا ما يتحصل من أحاديث مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع، أهمها في سنن الترمذي وأبي داود وابن ماجه.

قال السيوطي: “الأحاديث في المهدي مختلفة وكذلك العلماء، ففي بعضها (لامهدي إلا عيسـى بن مريم) وأكثر الأحاديث على أنه غيره وأنه من أهل البيت، ثم في بعضها أنه من ولد فاطمة وفي بعضها أنه من ولد العباس”[2].

 وقد انقسمت آراء العلماء حول قصة المهدي إلى ثلاثة:

الأول: تصحيح بعضها، وأن قصة المهدي حقيقية، وأنها ستقع كما أخبرت بذلك الأحاديث. وهذا رأي الكثيرين من علماء الحديث.

وقد لخص السيوطي الأحاديث والآثار – عن الصحابة والتابعين – التي جمعها الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، وأضاف إليها ما في كتاب الفتن للحافظ نعيم بن حماد شيخ البخاري، ثم زاد على ذلك ما تحصل عنده من غيرهما، وجمع ذلك في رسالته: “العرف الوردي في أخبار المهدي”[3].

الثاني: تضعيف جميع أخبار المهدي، وهذا صنيع ابن خلدون في المقدمة، فقد جمع الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المهدي وأوردها بأسانيدها ثم بيَّن موضع الضعف من كل سند بالاعتماد على أقوال أئمة الجرح والتعديل، وانتهى إلى الحكم على أحاديث المهدي جميعها بالضعف بما في ذلك الحديث الذي يستدل به من يرد قصة المهدي، أعني حديث: “لا مهدي إلا عيسى بن مريم”، فلا يصح في هذا الباب شيء، لا بالنفي ولا بالإثبات[4]. ثم قال: والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه، وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية. فقد حكم على الأحاديث من طريق مناقشة أسانيدها ومن طريق مخالفتها لما تقرر عنده من مخالفتها لطبائع العمران وسنن التداول.    

الثالث: أحاديث المهدي موضوعة مكذوبة، وهذا رأي جماعة منهم ابن عاشور[5]، والشيخ عبد الله آل محمود الذي كتب رسالة طويلة في رد قصة المهدي، وتكلم في طرقها على نحو ما فعل ابن خلدون، وسماها: “لا مهدي ينتظر، بعد بعث النبي الرسول محمد خير البشر”[6].

وقد اشتهر بحث ابن خلدون وتلقاه الكثيرون بالقبول، فرأى الشيخ أحمد بن الصديق[7] أن يرد عليه، وقال: “لم أر أحداً يتصدر للرد عليه فيما علمت، ولا بلغني ذلك عن أحد فيما رويت وسمعت”.  وجاء رده في كتاب أحسب أنه مخطوط لم يطبع إلى اليوم، وعنوانه: “المرشــد المهدي لرد طعن ابن خلـدون في أحاديث المهدي”[8]

وذكر ابن الصديق في البداية نقولاً متعددة عن جمع من المحدثين الذين قالوا بصحة بعض أحاديث المهدي، بل قال بعضهم إنها بمجموعها – أي ما بين الصحيح والحسن والضعيف فيها – تبلغ حد التواتر المعنوي، ولذلك تكلم الشيخ عن حد التواتر، وذكر جماعة الصحابة الذين أسندت إليهم أخبار المهدي، فبيَّن مخارج هذه الطرق عن هؤلاء الصحابة واحداً واحدا[9]. ثم شرع في إيراد فقرات من كلام ابن خلدون والتعقيب عليها، وشغل هذا أكثر الكتاب[10]، فذكر كلام ابن خلدون في كل حديث على حدة وتعقبه.  وفي هذا الرد نقول كثيرة عن المحدثين وتحقيقات متعددة في المصطلح، كمسائل رواية المبتدع، وحال الضعيف الذي تلقته الأمة بالقبول، وأحكام المتابعات والشواهد، والاختلاف في الجرح والتعديل… إضافة إلى بحث حال كثير من الرواة المختلف فيهم كعبد الله بن لهيعة وأضرابه…

ثم ذكر الشيخ ابن الصديق الأحاديث والآثار الواردة في المهدي غير تلك التي أوردها ابن خلدون – وعددها ثمانية وعشرون – فأوصلها جميعاً إلى مائة حديث وأثر، بعضها من كلام الصحابة أو التابعين[11].  وقال في حديث لا مهدي إلا عيسى، والذي رواه محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح عن الحسن البصري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس الحديث من حيز الضعيف، بل هو باطل موضوع مختلق مصنوع، لا أصل له من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من كلام أنس ولا الحسن البصري، وبيان ذلك وإيضاحه من وجوه…”[12]. وبهذا الإيضاح ختم الكتاب.

كيف نتعامل مع الاختلاف في أخبار المهدي

إن الذي ينبغي أن نفهمه جيداً أن علينا أن نختط طريقاً في قبول الأحاديث أو ردّها، طريقاً منهجياً واضحاً، فإن تم ذلك كان علينا أن نلتزم بآثار هذا المنهج، وإلا لم تعد له فائدة ولا مصداقية. وقد حدد العلماء المسلمون قواعد قبول الأحاديث ثم سبروها وقسموها على أساس من هذه القواعد. ولذلك لست متفقاً مع الرأي الذي يرى أن جميع ما ورد في المهدي موضوع. ومن المفيد أن نذكر أن علماء الحديث في تصنيفهم للأحاديث كانوا معنيين – في الأكثر- بالأسانيد وأحوال الرواة ولم يكن مضمون الأحاديث ومعانيها من جملة معايير القبول للروايات بل تولّى الفقهاء تفسيرها ونقدها من خلال وسائلهم في الترجيح والرد أو الإعتبار مما أطلقوا عليه علم الدراية والذي يعتني عند النظر إلى الروايات بالرؤية الكلية والقواعد القرآنية الحاكمة.

ومن ثم لا نجد سبباً للتحرج من رد بعض العلماء لأحاديث تعارض الرؤية القرآنية أو القواعد الكلية التي استقرأها العلماء من جملة التوجيهات القرآنية والسنة النبوية. وإن من الأيسر أن ننسب الوهم أو الغلط إلى غير المعصوم من أن نعبث بالمعاني المستقرة للتكليف أو السنن المستقرة في الكون والتي أطلق عليها العلماء طبائع العمران أو مجاري العادات. فإن ثبتت صحة حديث ما رجعنا إلى العلماء المحققين ليفسروا الإجمال ويرفعوا التعارض، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

وأحاديث المهدي من هذا الباب وقد كان موقف ابن خلدون من هذه الحيثية أقوى وأولى… فهو لم يقل إن أخبار المهدي موضوعة اعتماداً منه على ما لاحظه من آثارها السلبية في التاريخ الإسلامي. بل أضاف إلى فهمه الكلي لحركة التاريخ تحليلاً دقيقاً للروايات فدرسها وبين ضعفها من وجوه مختلفة كغفلة الراوي أو سوء حفظه أو تشيع قوي فيه أو اختلاف في رفعه أو وقفه. فجمع ابن خلدون بين تمكنه في علم الدراية وخبرته في علم الرواية.

ومما يدعم اجتهاد ابن خلدون في موضوع المهدي أن العلماء – حتى من صحح أخبار المهدي منهم – اعتبروا أن الاعتقاد في المهدي أمر ثانوي ليس له كبير شأن ضمن العقائد الإسلامية، فليس هو من عقائد الدين ولا مما يجب أن يعلم من الدين بالضرورة، ولا أهمية له بالنسبة إلى حاضر الإسلام ولا إلى مستقبله. فليس المهدي نبياً، ولن يأتي بوحي جديد، ولن يغير من شريعة الإسلام شيئاً، فلا يزيد فيها ولا ينقص… إنما هو رجل متبع للكتاب والسنة اللذين هما بين أيدينا الآن. فالمهدي – لمن أراد أن يعتبر بعض الأخبار الواردة بشأنه – أشبه بزعيم أو مصلح ديني عادي ولو أردنا مثالاً عن المهدي في تاريخ الإسلام لكان عمر بن عبدالعزيز رضي الله تعالى عنه وعن جميع العلماء والأئمة المجاهدين.

وعليه فإن انتظار المهدي وبناء الآمال العظام على بروزه، وصرف الأزمان في الكسل والسلبية بدعوى انتظاره… كل هذا بدعة في الدين وتحريف لروحه وشيء لا يجوز.  لقد جاء في رواية أبي داود وابن حبان أن المهدي يمكث في المسلمين سبع سنين. ألحكم رجل سبع سنوات تتوقف حياة الأمة ويعلق مصيرها وتركد حركتها ويتوقف جهادها… سبعين قرناً؟

 

فكرة المهدي عند الشيعة

ومن ناحية أخرى نرى أنه من المفيد التعرف على اهتمام الشيعة بهذا الموضوع ويظهر من كلام النوبختي – أحد رؤوس الإمامية في زمانه – أن عبد الله بن سبأ وأتباعه أول من قالوا – حين قتل علي – إنه لم يمت، ولن يموت حتى يحكم العرب ويملأ الأرض عدلاً…[13]. ثم تتابع ظهور المهديين، وما أكثرهم في تاريخ التشيع، فما من رجل بارز من أهل البيت، إلا وقالت فيه طائفة من الشيعة حين مات: إنه لم يمت، ولن يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً[14].

وقد افترقت الشيعة – وإن اتفقوا على خروج المهدي آخر الزمان – في أثر هذه العقيدة المستقبلية على حاضرهم هم، وما ينبغي عمله فيه… ويمكن أن أصنف هذا الاختلاف إلى ثلاثة آراء رئيسة:

الأول: رأي الزيدية، قالوا إن الإمامة مستمرة في ولد فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى يوم القيامة والمهدي هو حلقة فقط في سلسلة الأئمة، وكل واحد من نسل فاطمة رأى نفسه أهلاً للخلافة وقام فدعا لنفسه فهو إمام[15].  ولذلك فإن الإمامة لم تنقطع في الزيدية، إلا من أقل من نصف قرن، فيما يعرف بـ”ثورة اليمن” [16]. لكن هذا الانقطاع شأن سياسي عارض، ولذلك يمكن دائماً أن تعود الإمامة في الزيدية.

الثاني: رأي الإسماعيلية الذين فهموا من وقت باكر أن عقيدة المهدوية والانتظار تؤدي بأصحابها إلى باب مسدود، فقالوا بعد وفاة إسماعيل بن جعفر الصادق، أن الإمامة في عقبه إلى يوم القيامة، والأئمة نوعان: أئمة الظهور، حين تكون الدعوة الشيعية قوية ولها سلطان وهذا حال أئمة الفاطميين – أو العبيديين – بمصر، وأئمة الستر، حين تكون الشوكة ضعيفة، وهو دور الستر. لكن الإسماعيلية لم يتركوا لعقيدة المهدي أي أثر عملي على الحاضر، وذلك كانت هاتان الفرقتان أكثر فرق الشيعة حركة وديناميكية وتأثيراً، فأسسوا دولاً وأمارات.

الرأي الثالث: الإمامية، ووفق هذا التوجه فإنه ليس هناك شيء يمكن عمله غير انتظار خروج المهدي[17] وهو محمد بن الحسن العسكري الذي غاب في مدينة سامراء العراقية.  وهذا ما قاد إلى العزلة ومنع الجهاد والانشغال – في انتظار المهدي – بالجدل والقيل والقال وتجميد حركة التاريخ عند حوادث الفتنة الكبرى.

وبهذا وقعت الإمامية في مأزق خطير، فقد ظلت قرنين من الزمان تردّ على خصومها بالتأكيد على إثبات وصاية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بالإمامة: إنه لا يجوز أن يترك الله سبحانه الأمة بلا إمام معصوم، فتختلف وتتهارج… وهل يعقل أن يبين الدين للناس كل شؤون حياتهم، ثم يدعهم يتخبطون ويتيهون في أخطر هذه الشؤون: الحكم والخلافة؟ كذا قالوا زمانا وأكثروا، ثم طلعوا على المسلمين، وقالوا لهم: لم يعد لكم إمام، لقد غاب وعليكم انتظاره، وتدبروا أمركم أثناء ذلك. فجعلوا – كما قال ابن أبي العز– الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في دين لا دنيا.  لقد كان هذا التناقض صارخاً ومؤلماً حتى قال عبد القاهر البغدادي عن إمامية القرن الخامس الذين عاصرهم: “هؤلاء اليوم حيارى في التيه”[18].

ولقد دخلت الإمامية في طور الانتظار منذ سنة 254 هـ، زمن غياب الابن المزعوم للحسن العسكري… وطال الانتظار، ولم يظهر صاحب الزمان ‍وبدأ الملل والسآمة يتسرب إلى بعض الإمامية فتركوا المذهب وانضموا إلى الذين أقاموا “دولة المهدي” فعلاً، إلى القرامطة والإسماعيلية الذين كانوا في أوج سلطانهم. وعمَّر هذا المأزق طويلاً، حوالي أحد عشر قرناً… حتى عصرنا هذا، حيث اقترح بعض الإمامية حلاً نسبياً لهذا المأزق.

ولاية الفقيه العامة: التفاف ذكي حول عقيدة انتظار المهدي

جاء أحمد الخميني – من علماء الإمامية – ودرس مشكلة المذهب وقدم حلاً للوضع السلبي الذي طبع تاريخ الإمامية. وهذا الحل سمح بإطلاق الشيعة من إسار عقيدة انتظار المهدي… وخلاصته أنه يجب تمهيد الأرضية للمهدي، وإعداد الناس لظهوره، وكذا يجب تصريف الشؤون العامة وفق الفقه الإمامي… والذي يقوم بذلك هم علماء المذهب، الذين لهم نوع من الولاية على الجمهور، هي قبس من ولاية المهدي العامة.  فالفقيه هو بمثابة نائب عن المهدي المنتظر، ولكنه يتمتع بأكثر صلاحياته، ولذلك ليس من حقه مثلا إعلان الجهاد، فهذا من اختصاصات المهدي فقط.

قال الخميني: لا فرق بين ولاية المعصوم وولاية المجتهد العادل من حيث العموم والشمول. أجل إن منـزلة المهدي أرفع من منـزلة المجتهد، ما في ذلك ريب، ولكن وظيفتهما واحدة حتى في السلطة والإمارة [19]. وقد اختلف الإمامية في هذا الاجتهاد على رأيـين:

الأول: قبول الفكرة وتحويلها إلى واقع، وهو ما تحقق في ثورة إيران سنة 1979، ولذلك فإن دولة إيران حالياً هي دولة ولاية الفقيه، التي تمهد لظهور المهدي.

الثاني: رفض الفكرة، واعتبارها إما بدعة، وإما اجتهاداً خاطئاً[20].

والاختلاف في مبدأ ولاية الفقيه سبب رئيس في النـزاع الذي قام بين الخميني وخليفته السابق حسين علي منتظري، والذي اتخذ أحياناً بعداً وطنياً[21].  وهذا الخلاف-وغيره- يكشف لك عن استمرار المشكلة، ولذلك قلت إن فكرة: “ولاية الفقيه” قدمت حلاً نسبياً وليس نهائياً للمأزق. تفسيره أنك لو نظرت إلى الفكرة من الناحية التاريخية، وجدت أن “ولاية الفقيه” حل ذكي ومناسب لمأزق فكرة انتظار المهدي، لكن لو نظرت إليها من الناحية المذهبية العلمية؛ أعني بعرضها على عقائد المذهب ونسقه العام، وجدت أنها بدعة فعلاً. فكثير من ممارسات الشيعة الإمامية اتكأت على انتظار المهدي، وعلى الارتباط بهذا الانتظار الذي يحكم أكثر الشؤون السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية، حتى صلاة الجمعة أوقفت انتظاراً للإمام… وأحاديث الإمامية كثيرة في التحذير من مدعي المهدوية، وفي التحذير من تجاوز هذا الانتظار… ولذلك يروون في الكافي عن جعفر الصادق أنه قال: كل راية قبل خروج المهدي فهي طاغوت. ويقول المعاصرون منهم: إذا قلنا بولاية الفقيه ماذا نترك للمهدي، وماذا سيفعل حين يظهر. ولذلك لم تعد الآن لفكرة المهدي المنتظر أهمية عملية في حياة الإمامية.

والخلاصة أن فكرة “ولاية الفقيه” حل ذكي للمشكلة التاريخية للإمامية، ولكن مشكلته أنه قد يتعارض مع بعض مسلماتها… وأحسب – والله تعالى أعلم – أن هذا المخاض الجديد للإمامية لم ينته بعد لأنه من الصعب جداً التخلص – بشكل كامل – من امتدادات الفكرة المهدوية الراسخة في التراث. ولكن علماء الشيعة اليوم يراجعون النظر في فكرة ولاية الفقيه ذاتها من جملة المراجعات المبدعة التي نراها في الفكر الإسلامي عامة –في قسمه السني والشيعي على حدّ سواء- والتي تمحّص في الكيفية العملية لتسيير شؤون المسلمين وتحقيق القيم الإسلامية في واقع الحياة. ولعل تجربة الشيعة مع هذا المفهوم مفيدة جداً إذ يمكن أن تعتبر دليلاً إضافياً على صواب ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون ومن تابعه من العلماء والأئمة من تضعيف أخبار المهدي، أو ما ذهب إليه غيرهم من العلماء أن هذه الاخبار تدخل في البشارة وضمن علامات الساعة ولا ينبني عليها عمل، فالأحرى أن تقيّد حركة الأمة ومستقبلها. ويبدو أن الصواب لا يخرج عن هذين الرأيين بحال، والله تعالى أعلم.

*              *              *

وختاماً فإنا نؤكد ما استفتحنا به المقال من تحرير الإسلام الناس من الأوهام وتأكيده على أن الواقع الصالح –كما تشهد له سيرة النبي صلى الله عليه وسلم- إنما يتحقق نتيجة جهد الناس أنفسهم، وليس بالخوارق وما جاراها. وإن التحقيق العلمي في قضية المهدي يشير إلى أنها فكرة مغرية في ساعات الضعف خصوصاً. وسواء أخذنا بعين الاعتبار الفكرة المهدية الشائعة عند السنة أو عند الشيعة، فإن هذا الصنف من التفكير يهرب من الواقع بالتعلق بأحلام المستقبل… وحري بأمة اليوم أن تعي التحديات التي تواجهها مُعملة العقل في بناء واقع زاهر يلتمس سـنن الأنفس والآفاق.

12-1424 هـ / 02-2004 م


المصادر

التحرير والتنوير من التفسير لمحمد الطاهر بن عاشور، نشر مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة، دون ذكر رقم الطبعة أو تاريخها.

التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، لأبي عبد الله القرطبي، اعتنى به فواز زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة 4، سنة 1995.

تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، دار المعرفة ط 2، بيروت.

الخميني والدولة الإسلامية لمحمد جواد مغنية، ط 1، 1979، دار العلم للملايين، بيروت.

الزيدية، لأحمد محمود صبحي، الناشر: الزهراء للإعلام العربي، القاهرة ط2، 1984.

شرح العقيدة الطحاوية، لعلي بن أبي العز، تحقيق عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت ط1، 1987.

العرف الوردي في أخبار المهدي، ضمن “الحاوي للفتاوى” لجلال السيوطي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر ط 3، 1959.

الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت.

فرق الشيعة، للحسن النبوختي، تحقيق عبد المنعم الحنفي، دار الرشاد، القاهرة، ط1 1992.

الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق محمد ابراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، ارالجيل، بيروت 1985.

مجموعة رسائل عبد الله آل محمود، مؤسسة دار العلوم، الدوحة، قطر ط 3، 1990.

المرشد المهدي لرد طعن ابن خلدون في المهدي لأحمد بن الصديق، مخطوط بالخزانة تامة بالرباط رقمه: د 1878، صفحاته 169، بخط مغربي عادي.

معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، مكتب المثنى، ودار إحياء التراث العربي، بيروت.

المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون، مطبعة عاطف القاهرة.

الاتحاد الاشتراكي – جريدة يومية تصدر من الغرب.

المراجع:

[1] راجع “باب في الخليفة الكائن في آخر الزمان المسمى بالمهدي وعلامة خروجه”، في كتاب التذكرة لمحمد القرطبي، 2/287 إلى 306.

[2] الحاوي للفتاوى، 2/7.

[3] وهي مطبوعة ضمن: الحاوي للفتاوى 2/123 إلى 166.

[4] راجع المقدمة ص 242 إلى 245. ومن الذين ضعفوا أحاديث المهدي: الدارقطني والذهبي، بحسب ما في رسالة عبد الله آل محمود: “لا مهدي ينتظر” المطبوعة ضمن مجموع رسائله 3/584.

[5][5] التحرير والتنوير، المطبوعة ضمن مجموعة رسائله 1/628 (البقرة 100).

[6] صرح الكاتب بأن هذه الأحاديث موضوعة في مواضع من رسالته، منها: ص 544، وص 547، راجع الرسالة ضمن “مجموعة رسائل عبد الله آل محمود”، 3/543 إلى 614.  والشيخ هو رئيس الإدارات الشرعية بقطر، له كتب ومقالات مختلفة، منها دراسة فقهية عن التأمين.  وهو من أهل البيت كما ذكر في رسالته.

[7] هو أبو الفيض أحمد بن الصديق، محدث حافظ من طنجه بالمغرب، ثم هاجر إلى مصر وعاش بها، توفي سنة 1960، كما هو معجم المؤلفين 13/368.

[8] ولهذا المخطوط عنوان آخر هو: “إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون”.  

[9] راجع: المرشد المهدي، ص 3 إلى 12.

[10] مخطوط: المرشد المهدي لرد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي، ص 14 إلى 131، وقارن ذلك بفصل: التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر، في رسالة عبد الله آل محمود: “لامهدي ينتظر” 3/568 فما بعدها.

[11] انظر: المرشد المهدي …ص 139 إلى 161.

[12] المرشد المهدي، ص 163، انظر حول هذا الحديث أيضاً: العرف الوردي، ص 165، وقد أورد القرطبي حديثاً طويلاً في خروج المهدي من الغرب الأقصى، قال فيه السيوطي: لا أصل لذلك، انظر: العرف الوردي في أخبار المهدي، ص 166، التذكرة 2/300.

[13] فرق الشيعة، ص 32-33.

[14] راجع على سبيل المثال: فرق الشيعة، للنوبختي، صفحات: 35-36، 41، 45، 47، 75…

[15] انظر “الزيدية” لأحمد محمود صبحي، ص 101، 104.

[16] آخر أئمة الزيدية، من أسرة حميد الدين، هو محمد البدر المنصور بالله، وقد أزيح عن الحكم يوم 26 شتبر 1962 حين قامت الثورة وأعلنت الجمهورية بدعم من مصر، انظر: الزيدية، ص 598.

[17] انظر: فرق الشيعة، للنوبختي، عند كلامه عن الإمامية، ص 105 إلى 108.

[18] الفرق بين الفرق، ص 268.

[19] نقله محمد جواد مغنية في كتابه: “الخميني والدولة الإسلامية” ص 61.

[20] راجع كتاب محمد جواد مغنية – وهو من الشيعة الإمامية الذين لا يرون ولاية الفقيه –  “الخميني والدولة الإسلامية، خصوصاً صفحة 59 إلى 75، ففيه نصوص عن بعض علماء الإمامية الذين رفضوا فكرة الولاية العامة.  ومحمد مغنية أصله من لبنان وله عدد من المؤلفات في التفسير وأصول الفقه…

[21] راجع الصحف الوطنية والدولية لأيام 27 نوفمبر 1997 فما بعدها. منها: صحيفة الاتحاد الاشتراكي، 28 نوفمبر 1997 و14 دجنبر 1997.