الوجود المسلم في الغرب والعلاقات الإثنية

284

لقد سبق للمسلمين أن عاشوا أقليةً عددية في بلاد غير مسلمة، ولكن لعل حقبتنا التاريخية المعاصرة كانت الأولى التي عاش فيها المسلمون في مثل هذا الوضع وثقافتهم ليست الثقافة الغالبة. ولقد أفرز هذا الوضع ويفرز تحدياتٍ من نوع خاص ويشكل مفاصل نمط التعامل مع الآخر –وهذا متوقعٌ ومفهوم– ولكنه فوق ذلك يؤثر في تصور الهوية الذاتية للمجموعة المسلمة. وهذا التصور بدوره يساهم في تحديد أنماط العلاقات الاجتماعية ويوجه الأنشطة السياسية في اتجاهٍ أو آخر حسب الطبيعة والمضمون الذي تُعكس فيه الشخصية الجماعية كأقليةٍ لغوية مثلاً أو مجموعة إثنية أو تكتل انتماء ديني.

ولكن الأمر الذي أود التركيز عليه من البداية أن تحديد ملامح وصفات الهوية الجماعية عمليةٌ إراديةٌ إلى حدٍ كبير، وتساهم المجموعة الإثنية نفسها في رسمها وعكسها، ومتى رسمت وحددت هذه الهوية فإنه يصعب تغييرها لأن طرق التعامل الاجتماعي والتفاعل الاقتصادي والتداخل السياسي تكون قد انتظمت على شكل يفرز تلك الصورة الأصلية ويعيد توليدها.

وهنا يطرح السؤال نفسه: هل المسلمون في الغرب مجموعات إثنية؟  وبالطبع فإن الجواب الإسلامي المعتاد هو رفض مثل هذا الوصف والتأكيد على أننا مسلمون وحسب.  ولكن مثل هذا الوصـف لا يكفـي قبوله أو رفضه نظرياً، وإنما يتـحدد من خـلال تصرفات الأفراد أنفسهم في عالم الواقع.  وهناك عاملان أساسيان يقومان بتحديد وتشكيل الوضع الإثني الذي تأخذه مجموعة ما: ((نية الخير للآخر)) و ((الثقة بالهوية الثقافية)).  فنية الخير في ذهن الأقلية العددية كموقف نفسي وعملي يمكن أن يتراوح بين رغبة حصرهِ في الأقلية ذاتها وبين رغبة عمومه ليكون شاملاً لجميع عناصر المجتمع، أما الثقة بالنفس فتتراوح بين القوة والضعف. ويتقاطع هذان البعدان ليفرزا أربع حالات نموذجية كما يبينها الجدول التالي:

جدول (1): المواقف الإثنية من المجموعة الغالبة

   
الثقة بالهوية
    ضعيفة قوية

 

نية الخير

ضحلة

خضوع انفصال
عميقة ذوبان تكامل

الحالة الأولى هي تلك التي يكون للمجموعة فيها مستوى متدنٍ من الثقة بالهوية الثقافية، فإن مالت الأقلية العددية نحو موقف أخلاقي محلي ينحصر في المجموعة ذاتها فإن الناتج يكون ((خضوعاً)) لأن الأفراد ليس عندهم رصيد ذاتي يتكئون عليه وليس عندهم الأمل في الامتداد نحو الآخر، وحيث أن الآخر هو المسيطر ثقافياً ومادياً فإن رد الفعل الطبيعي هو الخضوع والخزي الظاهر والمضمر. أما إذا ترافق ضعف الثقة بالهوية الثقافية مع توجه أخلاقي واسع عالمي فإن الناتج الطبيعي هو محاولة ((الذوبان)) التام المترافق مع الانسحاب والتبرؤ من المجموعة الخاصة التي ينتمي إليها أصلاً لأنه لا يشعر أن عنده ما يعطيه رغم الرغبة في ذلك.

أما الحالة الثانية فتتمثل في أن يكون هناك ثقة قوية بالهوية الثقافية ولكن مع إرادة خيرٍ محصورة في أفراد الأقلية نفسها.  وفي هذه الحالة فإن التصرفات تتوجه بشكل طبيعي نحو الموقف ((الانفصالي))… فما دام عند الأفراد اعتدادٌ بالنفس ورغبةٌ  في المحافظة على الذاتية، فإن الناتج الطبيعي هو التركيز الداخلي المطلق والتوجه نحو الانفصالية. وهذا التوجه يحدد نمط تفكيرٍ وتصرف بغض النظر عن تحقق الانفصال واقعاً وبالكلية أم لا وإمكانيته أو لا.  أما إذا اختارت الأقلية العددية لنفسها نية الخير والإصلاح المفتوح وغير المنحصر في الأقلية ذاتها فان الناتج يتوجه نحو التكامل مع المجتمع الكبير.

ولنأخذ الآن هذه المواقف كمداخل تحليلية لتصرفات المسلمين في الغرب ولتوضّعهم كمجموعةٍ في ديار الآخرين.

ولنبدأ بالتوجه الأول وهو حالة ((الخضوع)) التي كانت تُلاحظ في الأفراد الذين هاجروا مبكراً قبل الانتعاش الإسلامي أو ما يسمى بالصحوة، وهؤلاء خرجوا مهزومين ثقافياً من بلادهم ودخلوا بلاد الغرب بهذا الموقف النفسي وليس عندهم همّ إلا أنفسهم… فخضعوا بالتمام للثقافة الغالبة، وكلما واجه أحدهم صعوبةً نزلت على رأسه ضربة يستجيب لها بقولتـه: أستحق هذا لأني متخلفٌ وهم متقدمون، بل إنه يوظّف مثل هذه المواقف من الإيذاء والخوف من الآخر القوي في زيادة ضعفه وضرورة تأكيد خضوعه واستسلامه. 

أما التوجه الثاني فهو ((الذوبان)) ويتوجه نحوه عادة أولئك الذين ليس عندهم ثقةٌ قوية بهويتهم الثقافية ولكن عندهم نيةُ خيرٍ عامة. ويترافق هذا مع انسحاب (جزئي) من المجموعة الذاتية ونزوعٍ إلى نكران الأصل لأنه يريد الامتداد نحو الآخر برصيد فارغ. فهو انسلاخٌ من الذات وانحلال بالآخر لكن من غير الخضوع والذل الكاملين. ومثل هذا يعيش في نوعٍ من الازدواجية، يلبس القبعة الغربية إذا خرج للشارع، ويلبس الطربوش إذا دخل بيته. ويبالغ هؤلاء عادةً في نقدهم للنفس فيتجاوزون حد إدراك التقصير والاعتراف بالخطأ إلى حد حرمان المجموعة من ميزاتها وبخس النفس بل ربما تحويل تصور المزايا إلى رزايا.

أما التوجه الثالث فهو ((الانفصال)) حيث تدفع الثقة بالهوية الثقافية التي ترافقت مع تمحورهم حول أنفسهم ونظرتهم أن عالمهم الصغير هو ساحة الإصلاح الوحيدة إلى بناء جدران من العادات وأساليب التعامل وأنواع المؤسسات التي تبعدهم وتفصلهم عن الآخرين وترسخ انفصاليتهم.

أما التوجه الرابع فهو ((التكامل)) والذي يسعى إليه أولئك الذين يجمعون بين عمومية إرادة الخير وبين الثقة بالهوية الثقافية فيتوجهون نحو التكامل مع المجتمع في نمطٍ يسعى نحو المحافظة على الخصوصية الثقافية، وفي نفس الوقت السعي للتعاون مع الآخر على مطلق الخير.

وميزة هذا المدخل التحليلي أنه يمكّننا من فهم المواقف العملية – وليس فقط النفسية – للمجموعات المسلمة في الغرب، وسوف أختار أربعة من تلك المواقف العملية : مسألة إنشاء مدارس خاصة، ومسألة النشاط والمشاركة السياسية، وقضية الدعوة للإسلام، والموقف من البلد الأصلي.

إن توجه ((الخضوع)) توجهٌ حزين يترافق عادة مع الذخيرة الثقافية الفقيرة والأحوال المادية السيئة والوضع النفسي اليائس.  وفي مثل هذه الظروف لا يُتوقع إمكانية إنشاء مدارس أصلاً ولا الدعوة للإسلام ففاقد الشيء لا يُعطيه ناهيك عن إمكان المشاركة السياسية.  وجلّ ما يتمسك به هذا التوجه هو حنين للوطن ومحافظة على بعض عادات أكله.  ولا يخفى أن هذا الوضع خطير وأنه إذا استدام لمجموعة ما فإن قاعدتها الثقافية تتحطم ويكاد يستحيل بعدها قيامها ونهوضها وتكاد تُؤسر أبدياً في حلقة مفرغة من العجز عن النهوض وعدم القدرة على بناء مستلزماته، بل والعجز عن الاستفادة مما قد يُقدم لها من معونة لافتقادها قدرة التمثل الذاتي التي ولّت مع ثقافتها المتحطمة.

 أما توجه ((الذوبان)) فلكونه هارباً من صبغة قومه فإنه يميل إلى تشكيل مؤسسات تؤكد أنه إفرنجي، وحيث أن صدفة الزمان صبغتهُ بلون جلدٍ مختلف فهو يسعى جهده لتخفيف سواده. ولا يؤسس هذا التوجه المؤسسات إلا عند امتلاك قوة مادية تبرر له تمرداً محدوداً، وحيث أنه ليس عندهم قاعدة ثقافية متينة تسمح بالتميز المؤسساتي، فإن هذا التوجه يسارع إلى بناء مؤسسات موازية لمؤسسات الأغلبية مع إضافة كلمة لعنوان المؤسسة تحمل الصفة الإثنية… كمثل المستشفى الفلاني الإثني أو نادي الرقص الفلاني الإثني. ويتيه أصحابه فخراً بأننا على طريق الوصول إلى الأعالي ما دام عندنا مؤسسات مشابهة لمؤسسات الأغلبية بغض النظر عن الحاجة لهذه المؤسسات. وبالطبع فإنه يبدو غريباً أن يتوجه هؤلاء لبناء مؤسسات وهم من التوجه الانحلالي الانسحابي ولكن ما يفسر القضية أنه يغلب عليها أن تكون مؤسسات (مغازلة اجتماعية) وليست مؤسسات بناء وتجذير لمجموعة مسلمة لها أولوياتها المتميزة.

وقد يتردد هؤلاء في إنشاء المدارس الخاصة بهم ولكن ما يميز مذهبهم هو صب الاهتمام على الإخراج التقني اللائق بالمدرسة ونسيان لبّ عملية التدريس المتركزة حول المنهاج والمدرسين، فلا هناك تفكير في تركيب منهج دراسي متميز يحيي الخصائص الثقافية ولا هناك انتباه إلى الدور الفاصل التي تقوم به المدرسّات في نقل الحس الثقافي الإسلامي بغض النظر عن المعلومات المقدمة. ويُتوهم أن الأمر الفاصل في المدارس هو السيطرة على الإدارة المادية في المدير والمسؤولين وليس في الإدارة المعنوية المتمثلة في المدرسّات والمنهج.

والدعوة الإسلامية ليست أولويةً في حساب هذا التوجه، ولكن حين يفعلونه فإنه يتمحور حول التأكيد على تشابه الإسلام مع الديانات الأخرى أو يتمحور حول المدخل النفسي السلوكي المعروف باسم “أنا سليم أنت سليم”، أي إذا كنت على استعداد على الاعتراف بي بأني سويّ فسوف أسارع إلى الاعتراف بك بأنك سويّ، فيحمي شخصيته الضعيفة من انتقاد لا يطيقه عن طريق الإقرار للآخر كيفما كان.

أما موقف هذا التوجه من البلد الأم ومن المجموعة التي ينتمي إليها فهو موقف المتعالي، فهو يتعالى عما ينتمي إليه بإبعاد نفسه عن هذا الانتماء… ولكنه ليس تعالي غطرسة ولكنه تعالي حب انفصامي يصِف لمشاكل قومه وبلده من عقاقير الحداثة الجاهزة ما يناسب وما لا يناسب الحالة المشخصة مفترضاً في تعجّله أن كل ما صلح للآخر يصلح لقومه ويمكن بسهولة تشذيب بعض الآثار “الجانبية” السلبية التي قد تترتب على هذا النقل الأعمى.

أما التوجه ((الانفصالي)) فهو أسرعهم لإنشاء المدارس الخاصة بغض النظر عن امتلاك مؤهلات إنشائها. ذلك أن الهم الطاغي على التفكير هو “العزل” من شرور المجتمع الكبير وليس غرس الصفات الصالحة القادرة على التعامل مع الواقع. ويغلب على هؤلاء استيراد المناهج الدراسية من البلاد الأصلية بغض النظر عن ملاءمتها للطلاب. بل وقد تستخدم غرابة المناهج الدراسية هذه وعدم ملاءمتها لتأكيد الرغبة الانفصالية، ويُقرأ تمرد الطلاب على هذه المناهج العاجزة على أنه دليلٌ إضافي على خطر الموقف وضرورة زيادة الانعزال لرد التأثير الذي تسرب لفقدان البديل. وتحرص هذه المدارس على تعليم لغة النشأة الأولى كالعربية أو الأردية على أنها اللغة الإثنية ويحرصون بالذات على لغة التخاطب العادي وليس على إمكانية الفهم اللغوي.

والانفصاليون يمكن أن يكونوا نشيطين سياسياً أو لا، ولكنهم حين يرغبون في التحرك سياسياً فإنهم يتطلعون نحو تحقيق “مكاسب” إثنية يجيّرونها لصالحهم ليدعموا بها واقعهم الاِنعزالي وليعطيهم إمكانات أكبر على الانعزال والتعامل عن بعد.  وذلك أن الحلم النهائي لهذا التوجه أن يكون للمجموعة استقلال شبه تام، فيتكلمون بمشاريع إنشاء قرية للمسلمين أو حارة خاصة بهم، الخ…

وأكبر ورطة يوقع هؤلاء أنفسهم وغيرهم فيها هو مطالبتهم السياسية لامتيازات (خاصة) مثل تلك التي تحظى بها مجموعات الأفارقة الأمريكان مثلاً أو اللاتينيين الأمريكان أو الهنود الحمر. ولكن هذه المجموعات عانت من ظلم تاريخي يُعقل معه أن تطالب الآن بامتيازات تعيد الحقوق، بينما لا يعقل هذا لمجموعات هاجرت خياراً ولم تُظلم كمجموعات.

والانفصاليون هؤلاء هم أكثر الناس كلاماً عن الدعوة للإسلام ولكنهم يصرفون أكبر جهدهم لإقناع أنفسهم به ويتخيلون أنهم يدعون للإسلام من خلال جهود متفرقة قليلة الأثر. وبالطبع فإنهم مغرمون بالنـزال الجدلي بين المسلمين والنصارى أو غيرهم، ويتخيلون الانتصار في كل مرةٍ يثيرون فيها ضغينة الآخر. والدعوة للإسلام في هذا المذهب هي إلى حدٍ كبير دعوة لتبني العادات الوطنية لبلد المنشأ بما فيه تغيير الزي والانغماس في بعض العادات المحلية لبلد المنشأ ذاك.

ولعل أدبيات هذا المذهب هي أخطر انعكاساتها، حيث أنها أدبيات تعكس الإسلام بصورة ضيقة جداً تنفر الناس، أو تقدم الإسلام بصورة ساذجة تدعي حل مشكلات العالم بعصا سحرية، أو تعكس الإسلام على أنه مجموعة من القيود التي تكبل الحياة من غير سبب ولا هدف.

وأخيراً فإن هذا التوجه يكثر الكلام عن الوطن الأم ورغبة العودة إليه بغض النظر عن الإمكانية الموضوعية للعودة، ويقف حاجزاً في وجه استخدام الطاقات وتوظيفها في مواجهة الواقع حيث تتبدد الطاقات في أوهام العودة إلى وطنٍ تغير عما كان عليه حين تركه أهلوه…  وطنٍ أمٍ تُسبغ عليه أوصاف المبالغة لتُبعد عن المهاجر وصم الخيانة والتباعد عن البلد الأم.

أما التوجه ((التكاملي)) فإنه ذلك الذي يبتدأ من عالمية الإسلام وشمول رحمته للخلق أجمعين، يعتز بانتمائه الثقافي بقدر ما يدرك النسبية المكانية والزمانية للتطبيقات التي أنتجها ذلك الانتماء الثقافي. وهو مذهب يمدّ جسور التعارف مع الآخر لا ليتماهى به بل ليعمّق التفاهم الذي يمكّن من بناء صيغ تعايش سلمي يحفظ الخصوصيات الثقافية بنفس الوقت الذي يحدد القواسم المشتركة.

ومدارس أهل هذا المذهب تهتم أولا وقبل كل شيء بالبناء الثقافي للتلامذة والتشكيل العقلي والعاطفي المتصف بالتوازن الذي يبغيه الإسلام. ونشاطهم السياسي نشاط تمكين لذوي القربى المسلمة من جهة ومشاركةٌ صادقة لدعم وإقرار أي حق جزئي للعموم من الفقراء والمستضعفين من غير المسلمين، حيث أن الناظم الذي يوجه حركتهم هو إقامة العدل والإنصاف وإرساء نظم الرحمة والتآلف العالمي. أما دعوتهم للإسلام فهي أبعد ما تكون عن الرغبة في تغيير اللافتات وتكثير الأعداد بل هي أولاً وقبل كل شيء تسعى نحو تحقيق البلاغ المبين الذي تستبين فيه سبيل المؤمنين وتتميز فيه مسالك الفجور والإفساد في الأرض.

وهؤلاء أقلّ الجميع هياماً في بلاد منشئهم، لا شحاً في الحب ولكن رضىً بقضاء الله الذي أراد لعباده الانسياح في الأرض وجعله سنةً من سنن الظهور. والحدود الجغرافية في حسّ هؤلاء التكامليين خطوطٌ باهتة تخترقها الأفكار والإحساس بآلام إنسان العالم أجمع وأزماته المتشابهة، ويقف الفرد منهم على الحدود فيخرج الجواز الأمريكي من جيـبه كأمر عادي يُيسّر جريان الأمور، بينما يضع صاحب المذهب الانحلالي الجواز الأمريكي في جيب قميصه ويرفعه قليلاً حتى يظهر الشعار ويُعرف بأنه فوق مستوى البشر، بينما يشعر الانفصالي بالخزي بجوازه الأمريكي فيخفيه غالب الوقت ثم يشهره فجأة كسلاح يريد أن يحمي به بيضته الصغيرة.

وأخيراً فإنه من الطريف بالذكر التعريج على الموقف النفسي لبلاد الأكثرية المسلمة بهذه الأنماط الأربعة، فإنها لا تحب بالطبع مذهب الخضوع ولكن ترتاب ولا ترتاح بنفس الوقت للمذهب التكاملي!  أما إعجابها فإنه ينصب إما على المذهب الانعزالي الذي يوحي بالعنتـرية الإثنية ويستنقذ للنفس بعض شعور الإحباط بأنه حتى في وسط أمريكا هناك أناس مثلنا بالضبط، أو بالمذهب الانحلالي على أنه اختصر مسافة النهوض الحضاري وحققها بقفزة بهلوانية واحدة وأنه أخيراً وجد من يدثر وجهنا الثقافي ويغرزه في تربة الآخر عسى أن نلعق منه فضلات مفيدة.

وفي الختام فإني سألت نفسي عن مناسبة هذا المقال للرشاد ذات الخطاب العالمي وفيما إذا كان فيه فائدة مرجحة لغير قرائنا في أمريكا. وأحسب أنه آن الأوان أن ندرك الترابط العالمي اليوم وأن عافية أي مجموعة في أي قطر هي عافية للمجموع وأن الأقليات المسلمة الموجودة في غير بلاد المسلمين لها أهمية استراتيجية. وبعيداً عن الأوهام والنظرات الجزئية التي تفترض إمكانية قدوم النصر الإسلامي العام أو عدمه من تواجد المجموعات المسلمة في الغرب فإنه لا مراء بأثر الانسياح الحضاري التي تحدثه الهجرات.  إن تمكّن المسلمين في الأقاصي يُقويهم في المحلات الدانية، وإن فهم المسلمين في بلاد المسلمين لأوضاع مسلمي الغرب يُساهم في فعالية هذه المجموعات لأنها لا تفتأ تستقبل مجموعات هجرات جديدة تؤثر انعكاساتها ومواقفها المُسبقة على المسيرة العامة.  وإني لأؤكد أن المسلم العالمي يأنف أن يحصر نفسه بوصف إثني… وإن مسلماً ينتمي لأمةٍ ضاربة الجذور في التاريخ ليأبى أن يحصر نفسه أو أن يجعل سياساته قريبة المدى تسجنه في بوتقة أقليةٍ تربح بعض المكاسب المحلية على حساب منبع تماسكها الزاخر الممتدّ عبر المكان والزمان وإنه ليأبى أن نكون أقل من أمة رحمة للعالمين.   

رمضان 1420 هـ / 12-2009