حول الفجوة بين التدين الشبابي والعلماء

162

أثناء تصفحي لمواقع التواصل الاجتماعي، وعند بروز أي حدث يستدعي النقاش عن الأحكام الشرعية، مثل صدور فتوى معينة، أو موقف اجتماعي يثير التباسا بين واقع العصر وأحكام الشريعة – مثل مصافحة المرأة، أو تصدُّر نوع جديد من الخطباء مثل عدنان إبراهيم، أو أي حدث مشابه لذلك؛ سرعان ما كان يتجه النقاش بين الوسط الشبابي إلى هذا السؤال الاستنكاري: ما الذي يلزمني أن أتبع ما يقول الشيخ فلان، أو القول إن علماء العصر القدامى لهم اجتهادهم ونحن من حقنا أن نجتهد، أو مجرد التهكم على أقوال وأفكار العلماء.

وقد كنت أظن أن هذا الشكل من النقاش محصور على الشباب المثقف المنشغل بقضايا التجديد، ولكني لاحظت فيما بعد أنه لا ينحصر عندهم فقط، بل يتسع إلى غيرهم ممن يمسهم موضوع الفتوى أو كلام الخطيب فلان، وهذا أمر يمكن تتبعه بوضوح على مواقع التواصل الاجتماعي.

وهذا يظهر في أنه لا يتم دائماً استدعاء معارضات فكرية في هذا النوع من النقاش، بل يكفي بأن يتم الرد على قول عالم، أو الإعجاب به أو رفضه لأسباب ذاتية وفردية، وهذا إن كان يكشف عن شيء، فهو يكشف عن أن هناك تغير اجتماعي في الأوساط الشبابية وليس مجرد تغير فكري.

وبشكل عام، يفصح هذا الواقع عن تشكل فجوة بين علماء العصر ومجموعة من جيل الشباب، وأقول مجموعة لأن هذه الفجوة لا يمكن تعميمها على كل جيل الشباب، ولكنها تظهر عند بعض الأوساط، ومع غياب العمل البحثي الإحصائي في العالم العربي – مع الأسف – فإن مثل هذه الحالات تبقى خارج مدار البحث، وتحفها نوع من الضبابية التي تؤخر فهم مساحة انتشارها ورصد حركتها.

ولكن يبقى هذا الواقع جديراً بالفهم والتحليل، بغية فهم أسباب تشكل هذه الفجوة وعوامل اتساعها، وفي هذا المقال سنحاول تحليل أسباب تشكل هذه الفجوة، والتي يمكن إحالتها إلى حدوث تغير على مستويين: مستوى واقع العلماء، ومستوى واقع الأوساط الشبابية الناشئة.

تغير واقع العلماء
لكي نفهم التغير الذي طرأ بالنسبة لواقع العلماء ينبغي أن نفهم أولاً السياق التاريخي لتشكل هذه الأزمة، وكيف انعكست على واقع الشريعة بشكل عام، وعلى ممثليها من العلماء بشكل خاص.

مثَّلت الشريعة طيلة الاثنى عشر قرناً -أي بعد وفاة النبي وحتى بداية القرن التاسع عشر- نموذجاً أخلاقياً وقانونياً منظِّماً للمجتمع، نعم لقد تذبذب حضورها تاريخياً ولم يكن ثابتاً، إلا أنها حافظت على وجودها كمركز في المجتمع، وأقول المجتمع لأنها نابعة منه، فقد كان الفقهاء/العلماء هم المسؤولون عن تقنين الشريعة وبيان تشريعاتها، وكانت الدولة تابعة لهذه المنظومة وخاضعة لها.

واستطاع الفقهاء/ العلماء أن يحافظوا على ارتباطهم بالمجتمع، من خلال المتابعة الحثيثة لمستجداته والبحث في تفاصيل الأحكام الفقهية المناسبة لواقع معين، والأهم من كل ذلك، العمل على ابتكار أدوات الاستدلال والتعامل مع الواقع، وهو ما تمثل في منظومة أصول الفقه، وهي منظومة تم تجديدها والتنظير لها بشكل مستمر حتى تحافظ على تفاعلها مع الواقع، ومن أجل أن تتقوى ركيزة الاجتهاد.

ما أريد قوله هو أن الفقيه/ العالم كان دائم الارتباط بالواقع، كان حريصاً على تجديد هذه العلاقة وأن يحافظ على رسوخها، وكان هدف هذا السعي تحقيق غاية حفظ الدين وتجديده، وتعزيز دوره في تدبير شأن المجتمع، وذلك في مقابل استبداد السلطة الحاكمة وسعيها نحو تملك سلطة التدبير، إلا أنها كانت ذا نفوذ ضيق في مقابل المجتمع وفقهائه. (فصَّل في هذه العلاقة الدكتور عبد المجيد الصغير في كتبه المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية، وستظهر له مراجعة في مجلة الرشاد) ولكن لأسباب خارجية متعلقة بتفكيك الاستعمار للبنى الداخلية والمجتمعية للشريعة (كالأوقاف والأصناف)، وتوسع نفوذ الدولة في العالم العربي حتى حازت على مؤسسات الأوقاف والتعليم التي كانت ملكاً للمجتمع، وأسباب أخرى داخلية متعلقة بتكلس أدوات الفقيه/العالم وضعف قدرته على الاجتهاد مع متغيرات الواقع الجديدة عليه؛ أدى كل ذلك إلى ضعف حضور الشريعة في المجتمع.

وهذا الضعف أثر على دور الفقيه/ العالم الاجتماعي والتدبيري، وأفقده قدرته على الاجتهاد وفهم الواقع والتفاعل معه، مما جعله خاضعاً لضغط الواقع، تتشكل فتاواه بطريقة مُخِّلة تبعاً لتغير الظروف، ويبقى ملاحقاً لهذا الواقع من غير أن يشكل موقفاً متماسكاً منها، وهذا نراه في فتاوى العلماء في أمور بسيطة مثل حكم التصوير والتلفزيون، أو في القضايا السياسية مثل الديموقراطية وشكل الحكم، ومروراً بالعلاقات الاجتماعية خاصة بين الجنسين.

كما ظهر أيضاً في أهم حدث في تاريخنا الجاري، وهو الربيع العربي، الذي أبدا الكثير من العلماء تردداً في موقفهم منهم، واتخذ بعضهم موقفاً معارضاً له واعتبروه فتنة ووقفوا في صف الأنظمة في مقابل الشباب الثائر (مثل موقف الشيخ البوطي)، وهو ما كان له أثر كبير في تعميق الفجوة التي نتحدث عنها.

ويمكن الحديث عن ثلاثة أزمات يعاني منها خطاب طبقة العلماء، والتي أعتقد أنها تنطبق على الغالبية منهم، ويشعر بها الكثير من أفراد الأوساط الشبابية:
1) لم تتعرض أدوات العالم للتجديد بما يتلاءم مع تغيرات العصر، ويبقى تلقي هذه الأدوات مرهوناً بما تشكلت عليه من دون السعي نحو استئنافها والبناء عليها، مثل أصول الفقه ومقاصد الشريعة، ويظهر هذا في تأخر فهم العالِم لتغيرات الواقع المستمرة والتي يبقى لاحقاً لها، كما ذكرنا في الأمثلة أعلاه.
2) يبدو الواقع بالنسبة للعالم كمساحة جديدة يبدو وكأنه غريباً عنها، وهذا أمر يمكن فهمه بعد الحديث عن سياق تشكل الأزمة، وذلك أن بنية طبقة العلماء تأسست على منظومة قائمة على الشريعة ومبادئها وإفرازاتها الاجتماعية، أما اليوم فواقع مسار التحديث والعولمة هو الذي يفرض نفسه وينافس مجال الشريعة، لذا يقف العالم متحيراً أمام إفرازات هذا الواقع الجديد، كالمجال السياسي الحديث، أو بروز تخصصات معرفية جديدة، ووسائل التكنولوجيا المتجددة، وغيرها من المستجدات التي اقتحمت جيل الشباب.
3) يغلب على الخطاب الديني بشكل عام تلك النبرة الدفاعية، هناك هوية معينة ينبغي الدفاع عنها أمام هجمات الملحدين أو العلمانيين أو المذاهب المخالفة، فتكثر فيه كلمات مثل” تصحيح الصورة” و”رد الشبهات” وغيرها، وهو ما يعيقه عن التجدد والتغير الذي تزمه الجرأة التي تؤخرها النبرة الدفاعية.

هذا التشخيص الذي حاولنا القيام به يفسر في جانب كبير منه سبب بروز هذه الفجوة، وهي ذات الفجوة التي تفصل بين خطاب العلماء والواقع.

التغير في الأوساط الشبابية
إذا كانت الفجوة من جهة واقع العلماء قد تجلت في التأخر عن التفاعل مع مستجدات الواقع، فإنها من جهة واقع الأوساط الشبابية فقد تجلَّت في انخراط الشباب في مستجدات الواقع، بل وفي تحول هذه المستجدات إلى مؤثر في حياتهم المعاشية.

ولعل أهم هذه المستجدات هي الثورة التي حدثت على مستوى وسائل التواصل، وهو ما ظهر في مواقع التواصل الاجتماعي التي ازدادت رقعة مساحتها وتحولت إلى جزء أساسي من الحياة اليومية، خاصة بعد الـ 2011، أي بعد ثورات الربيع العربي.

ولكن كيف كانت مواقع التواصل الاجتماعي سبباً في تشكل هذه الفجوة؟ يمكن أن نقول أن هذه المواقع كانت الأداة الرئيسية للتعبير عن رؤية الكثير من الشباب والتعبير عن نقدهم لواقع العلماء، فالفارق الأساسي الذي أحدثته مواقع التواصل هو أنها نقلت النقاشات الدائرة حول القضايا المختلفة – ومن بينها الدين والعلماء – من كونها دائرة داخل اجتماعات واللقاءات الخاصة بين الشباب ودائرة النقاشات الشخصية بين من يجمعهم توجهٌ ما، إلى دارة أوسع داخل فضاء عام متسع، يتيح منابر للجميع، ويقدم مساحات حرة لتشكيل وجهات نظر تحظى باعتبار عند عدد كبير من المتابعين/ الجماهير، بغض النظر عن المتانة الفكرية والمنهجية لوجهات النظر تلك.

وأقول إنها مساحات حرة لأنها لبت حاجة الحرية عند قطاع واسع من الشباب الذي كان يتعرض للنقد أو التشكيك عندما يعبر عن وجهة نظره أمام الدوائر الداخلية التي يعيش فيها، سواء أكانت بيئة تعيش على إحدى أنماط التدين السائدة التي ما زالت تتخذ طبقة من العلماء كمرجعية لهم، أو أسرة متدينة أو جماعة إسلامية ما، وهو ما كان يُشعر طيفاً واسعاً من الشباب بنوع من التضييق، ثم انفتح لهم الباب في مواقع التواصل الاجتماعي.

ومن تابع تعليق الأوساط الشبابية على مؤتمر الشيشان الذي عُقد مؤخراً يدرك فحوى هذا التحليل، فقد أبدى طيف واسع من الشباب نقدهم لهذا المؤتمر، سواء من جهة بعد ممثليه عن مجريات الواقع، وتحالف نخبة منه مع أنظمة سياسية ديكتاتورية، وهو ما يتعارض على طول الخط مع الشباب الذي تربى على ثورية الربيع العربي.

والأهم من كل ذلك، هو أن موضوع المؤتمر يناقش قضايا بعيدة عن القضايا المعرفية التي تشغل واقع الشباب، فالجدالات الكلامية والمذهبية التي تعرِّف المسلم ضمن دوائر تراثية محددة لم تعد تعني هذا الطيف من الشباب الذي ينزع نوع شكلٍ أكثر فردية في تعريفه لتدينه، والذي يتحاور في قضايا معرفية معاصرة مختلفة عن المساحة التي يتناقش في العلماء، قضايا العلم والدين والحرية والفلسفة والممارسة السياسية الحديثة وغيرها.

وما كان هذا التفاعل من قِبَل الشباب إلا تعبيراً عن بروز حالة نقدية من جهة الشباب نحو الخطاب الديني والعلماء، وحاجتهم لخطاب يلبي مقتضيات العقلانية والرشد والاستقلالية الفردية، ويتواصل مع النمط المعرفي الذي يعايشه الشباب، والذي بات منخرطاً مع الأفق المعاصر وأسئلته، والتي تعود في أصولها إلى مرجعيات من التراث الفكري الغربي، وتوجه الشباب نحو هذا النمط نابع عن حاجتهم لفهم الواقع الجديد ومقتضياته المعرفية المتحدرة عن السياق الحديث.

من هنا يمكن أن نفهم المساحة التي اكتسبها خطاب عدنان إبراهيم ضمن هذه الفجوة بين التدين الشبابي والعلماء، فهو يقدم خطاباً ذا طباع تجديدي، ويعبر عن حالة انفتاح اتجاه الغرب بشكل عام، ويجد المستمع له أسماء مثل فولتير وستيفن هوكنغ، بجانب الغزالي والأعلام التراثية، ويقدم في خطبه مضموناً معرفيا جديداً مختلفاً، ويناقش قضايا ذات طابع معاصر وبرؤية نقدية، كواقع الخطاب الديني اليوم –وهو ما يعبر عن ما في دواخل الكثير من الشباب– والإشكالات الفلسفية التي تكتسب راهنيتها اليوم، مثل الإلحاد وسؤال الشر وقضايا العلم والدين، وتلف خطابه نزعة إنسانية منفتحة على الآخر ومتفهمة له.

طبعاً هذا الكلام هو محاولة لتوضيح مضمون خطابه والمواضع التي عبَّر فيها عن استجابة بالنسبة للكثير من الشباب الذين هبوا لمتابعة خطبه ومحاضراته المتاحة على اليوتيوب، مدركين في نفس الوقت مواضع النقد التي تستلزم خطابه في جوانب عدة، خاصة وأنه يعبر عن حالة غير مكتملة من الخطاب، فلا هو خطاب الحداثيين ولا هو خطاب العلماء التراثيين، وكأنه نصف شيخ ونصف حداثي!

ولكن يبقى النموذج الذي قدَّمه تعبيراً عن تطلع الكثير من الشباب نحو خطاب ديني جديد، وبحثهم عن حاضنة فكرية تعبر عن شواغلهم وقضاياهم، وهو تغفل عنه أحياناً طائفةٌ واسعة من العلماء، ولكن واقع اليوم يشي بضرورة السعي نحو ردم هذه الفجوة بين التدين الشبابي والعلماء.