موضوع لسنا بحاجة إلى مناقشته
ألقيت محاضرة عن التنمية مستعرضاً فيها تجربة جنوب شرق آسيا، وغمرني شعور من الارتياح بعد الانتهاء من المحاضرة بأني قد نصحت لأمتي من زاوية تخصصي. ولكن لم تطل فرحتي حتى أفهمني أحد الحضور بلباقة أني أتعبت نفسي فيما ليس للمسلمين إليه حاجة. ولم تمنعني الصدمة من أن أقول “لكن أحسب أن المحاضرة احتوت على بعض النقاط المهمة جداً والمحورية في حياة المسلمين…”، وقاطعني بقوله إن المحاضرة خلت من أية آية أو حديث أو قول فقهي. لقد أفحمني بحجته؛ فعلاً لم يكن في محاضرتي (الإسلامية) أية آية أو حديث أو مناقشة فقهية.
عدت إلى منزلي مثقلاً بخيبة الأمل وقررت أن أكتب الخلاصات التي تضمنتها محاضرتي، والتي كانت بعنوان (هل يمكن استنساخ تجارب التنمية: قراءة في تجارب دول جنوب شرق آسيا)؛ قررت أن أقوم بهذا لأتأكد فيما إذا كان في المحاضرة شيء ينفع أم لا. وقبل أن أقوم بهذا أشير إلى أني اخترت بلاد جنوب شرق آسيا لأنها أصبحت مضرب المثل في قضية التنمية، حتى أنه أطلق على هذه التجربة اسم (معجزة جنوب شرق آسيا). ولقد قارنت التجارب التي مرت بها النمور الكبيرة الأربعة أولاً: كوريا وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ، ثم النمور الأربعة الصغيرة: تايلاند وماليزيا وإندونيسيا والفليبين. ابتغاء للاختصار سوف أعرض النتائج هنا على شكل دروس وعبر ومن غير ذكر الشواهد التي قدمتها في المحاضرة. والقصد من ذلك بيان حاجة العقل المسلم أن يُدخل في حيز اهتمامه مثل هذه المواضيع وأن يتعامل مع الواقع على هذا المستوى.
إن وراء النجاح النسبي لهذه الدول خمس سياسات اجتماعية اقتصادية موفقة، وكان نجاح كل دولة متناسباً مع ما أتقنته منها.
أولاً: اتبعت جميع هذه الدول سياسات حاولت تضييق التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين شرائح المجتمع المختلفة. والذي تميزت به هذه السياسات بأنها لم تطرحه من المنظور الشيوعي الانتقامي، وإنما من منظور عدالة شاملة مغروزة في الثقافات الشرقية، لذلك فقد لاقت القبول عموماً.
ثانياً: أنشأت معظم هذه التجارب مجالس للتدبر ومناقشة السياسات المقترحة، ويشارك في هذه المجالس الموظفون الحكوميون وأصحاب العمل وغيرهم.
ثالثاً: اعتنت معظم هذه الدول عناية خاصة بتطوير ما يسمى (رأس المال البشري)، فراجعت مناهجها الدراسية ووضعت خططاً مدروسة للرفع من مستوى كفاءة المدرسين. كما أنها أعطت الأولوية في الإنفاق على الصفوف والدرجات التعليمية الدنيا. أي أنها بدل من أن تركز النفقات على التعليم العالي ركزت أولاً على تخريج قاعدة شعبية واسعة ذات مستوى تعليمي مقبول سواء في تحصيل المرحلة الابتدائية على الأقل أو الدرجة الثانوية. ولكنها في الوقت نفسه أمنت منحاً دراسية للتعليم العالي لمن لا يطيق التكلفة.
رابعاً: شجعت هذه الدول الادخار الفردي، كما قامت الحكومة نفسها بالادخار العمومي. ومما فعلوه فرض ضرائب عالية على الكماليات باهظة الثمن. وبتشجيع الادخار من قبل الأفراد والأسر، توفّر للناس رأسمال محلي للاستثمار.
خامساً: شجعت كثير من هذه الدول على الاستثمارات الصغيرة وسهلت تعامل القرويين وصغار الكسبة مع المصارف المُقرضة.
فهذه دروس خمسة عن سياسات عملية اتبعتها هذه الدول لدرجة أو أخرى وجنت بسببها ثمرات يانعة. فهل يتوجب في حقي كباحث أن أجلب دليلاً “شرعياً” على كل منها ليكون بحثي مفيداً للمسلمين؟ ولكن للذين يصرون على طلب هذا، سوف أسعى لأن أبحث لهم عن دليل وألصقه على ما قدمت. وبدون كثير عناء وجدت ما أُطهِّر به محاضرتي!
أما بالنسبة للنقطة الأولى فقد خطر ببالي نباهة عمر بن الخطاب للآثار الوخيمة للتفاوت الكبير، فقال قولته المشهورة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من أموال هؤلاء ورددتهم على هؤلاء). وللنقطة الثانية أسعفتني آية الأمر بالشورى بدليل قوي جداً. وكذلك لم أعترك طويلاً بالنسبة للنقطة الثالثة لأنه سبحانه يرفع الذين أوتوا العلم درجات، ولكن تذكرت أن البعض يذهب أن العلم هنا محتكر للعلم الشرعي. ولم تنقذني إلا الآيات التي تدعو للنظر في الكون.
ولما وصلت للنقطة الرابعة، لم أتذكر أي حديث أو آية عن الادخار رغم وجود كثير من الِحكَم على هذا، واعتراني الخوف عندما تذكرت أن الآية تذم الكنز… ولم يزل عني الرهب حتى أدرجت هذه النقطة تحت ذم السرف والتبذير. أما النقطة الخامسة فلم أجد شيئاً يدعمها. فهل أطلب ممن سمع محاضرتي أن يمحيها من ذاكرته؟!
السؤال هنا، هل استقراء التاريخ والاستفادة من تجارب البشر وعرض نتائج ذلك كاجتهاد يحتاج إلى فتوى ولا يمكن أن ينظر إليه بعين الاعتبار حتى يصادق عليه شيخ أو خريج دراسات شرعية؟ وهل القلق على واقع الفقر والعنت في بلاد المسلمين أمر لا يستدعي دراسة الشروط الموضوعية التي تساعد على الخروج من ذلك. أم أن الوعظ بإصلاح النفوس والجدل في المبادئ هو الخطاب الوحيد المقبول بين المسلمين. ولابد هنا من الإشارة أن منهج طلب دليل شرعي على جزئيات كل شيء من العاديات فيه إشكال كبير حيث قد يوقع في عملية قراءة انتقائية في النصوص وعملية توظيف تلوي أعناق النصوص. وإبقاء العاديات في خانة (أنتم أعلم بأمور دنياكم) أسلم وأقوم، والشرع في أمور العاديات مصدّق لا منشئ.
أحسب أني قد أدليت بحجتي باختصار، وبقي عليك يا أيها القارئ الكريم أن تحكم. ولكن قبل أن أتركك أريد أن أسرد بعض النقاط المهمة الأخرى التي تضمنتها المحاضرة، ولكني لن أبحث لها عن دلائل شرعية هذه المرة:
• لقد كان نجاح الدول السبع (يعني الثمان باستثناء الفلبين) متكئاً إلى اعتمادها على طبيعة بنيتها الاجتماعية وخصوصياتها الثقافية.
المعنى: إن مسألة التنمية ليست مسألة تقليد أعمى.
• لم تتبع هذه الدول (باستثناء هونغ كونغ) النموذج الرأسمالي الحر غير المقيد، بل تدخلت الدولة في تصميم وتنفيذ الخطط التنموية بشكل كبير (ولكنها لم تكن على النمط الاشتراكي أيضاً).
المعنى: ليست رأسمالية اللاضوابط هي بالضرورة الطريق إلى النمو.
• أبدت هذه الدول مرونة كبيرة في وضع الخطط والسياسات ثم تعديلها أو تغييرها.
العبرة: لابد من المراجعة الدائمة للخطط التنفيذية وأن لا تتحول إلى شعارات عقائدية صلبة.
• لقد تميزت معظم هذه الدول بحيازتها على جهاز بيروقراطي ذو كفاءة عالية ساهم بفعالية في رسم سياسات حكيمة.
العبرة: لابد من استنقاذ شرف الجهاز الإداري وإعطائه التقدير الكافي كمنزلة اجتماعية وكتعويض مالي.
• لا يوجد عند أكثر هذه الدول نجاحاً أي موارد طبيعية (كوريا، تايـوان وســــنغافورة).
العبرة: ليست المسألة مجرد وفرة.
وبعد فهذه خمس ملاحظات حقلية في مسيرة الدول في العصر الحديث، أتبعتها بخمسة دروس محددة غائبة عن الأذهان رغم محوريتها. وقد يذهب البعض على أنها خطأ وليست صائبة. ولا بأس عندي بهذا ما دام النقد علمياً وما دمنا نفكر بجدية في واقعنا.
ولكن ابتغاء لزيادة الفائدة فإني سوف أتبع ذلك بملاحظات تتعلق بالعقلية السائدة بين المسلمين وكيف تتلقى مثل هذا الخطاب الذي قدمته. فهناك الذين لا يستطيعون إلا التفكير في التقليد الأعمى للآخر رغم سماع كل الشواهد والدلائل، بل ربما يحرمون عقولهم من التفكير في خصوصيات من يقلدون (مثلاً يصرّون على تقليد النموذج الأمريكي رغم الاختلاف النوعي الكبير في الشروط الموضوعية المتوفرة بينها وبين معظم البلدان).
ومقابل هذا التوجه هنالك الذين ينادون بالأصالة والحل الإسلامي ولكن لا يريدون أن يقرؤوا في الواقع الذي سيطبقون فيه هذا الحل، ولا يريدون أن يفكروا في شروط تبدو أنها مطردة في حركة البشر؛ وكأن الملائكة سوف تدير المصانع وتحرث الأرض بالنيابة عنهم. ولكي لا تظن بأني أبالغ فإني أسأل بالله عن حركة إسلامية رفعت شعار محو الأمية كبند رئيس في برامجها!
وهناك بالمقابل من يبالغ ويهول من شأن نجاح هذه الدول. والمشكلة أن تراكم خيبات الأمل كاد أن يقتل أي حافز من جهة، ولكن التهويل له أثره السلبي أيضاً لأنه يحدث تعلقاً غير واقعي بأي بصيص أمل. ولقد ارتكبت ماليزيا مثلاً أخطاءً كبيرةً تحت الرغبة الملحة في النمو السريع، والذي بدأ المجتمع الماليزي يشعر بنتائجها. ودراسة مطبات هذه التجربة وغيرها أمر قيّم بحد ذاته، ويجب أن يكون له حيز في جملة ما تهتم به عقولنا.
وهناك من يصرّ على فهم الأمور من الزاوية السياسية البحتة، ليكرر إسطوانة التخوين والتفسيرات التآمرية. ولكن يجب أن لا ننسى أن هذه الدول لم تكن ديمقراطية بالمقياس الدولي (كما أنها لم تكن ديكتاتورية). ويجب أن نتذكر أن الذي وضع السياسات الحكيمة نسبياً إنما هم أفراد من أفراد هذا المجتمع… موظف هنا أو موظف هناك… جمعية هنا وجمعية هناك… ولجنة هنا ولجنة هناك. وهذا ليس دفاعاً عن الاستبداد السياسي ولكنه إشارة إلى أن التفكير بالمسألة من باب قلة العلم أو الجهل بالسنن أجدى، لأن الجهل بآليات الانجاز يخرب البيوت بوجود الاستبداد وعدمه.
وأخيراً، هناك الاستدراك المعهود بأنه لابد وأن نوعية الفرد كان لها أثر في نجاح هذه الدول. ولا أحسب أن أحداً يستطيع إنكار قيمة النوعية العالية للفرد. ولكننا هنا بحاجة إلى توسيع مفهوم (صلاح الفرد) وأن نخرجه من الانحصار بمعنى الأخلاق الفردية الحسنة وأن لا نختـزله إلى مجرد الالتزام بالآداب رغم فضل ذلك. ولعل أهم ما يجب أن نبرزه في معنى صلاح الفرد هو قيمة الاتقان والروح الجماعية والتعاون وشعور المسؤولية عن الشؤون الحياتية اليومية للمسلمين.
وختاماً فإني أؤكد أن من المفيد أن يجري النظر في أحوال الأمم والتفكير في الشروط الموضوعية لصيرورة الحياة البشرية جنباً إلى جنب مع التفكير في العموميات والمجردات. ولقد تجاوزت قصداً في هذا المقال التطرق إلى الإشكال النظري لمفهوم التنمية واستعملته كمصطلح شائع لا أكثر، وناقشت الموضوع على مستوى تطبيقي في مساحة تحليلية محدودة. وهنا أقول أن الكلام في الإطار النظري للتنمية أمر مطلوب ويجب أن لا يكون خارج قضايا الهمّ الإسلامي في حال من الأحوال.