نـداء اســتـغاثــة

219

في الكتاب الذي صدر للدكتور “جفري لانج” يعرض المؤلف مشكلة تواجه مستقبل الجالية المسلمة في الولايات المتحدة الأمريكية. وتتلخص المشكلة في أن أبناء المسلمين المهاجرين إلى الولايات المتحدة يُعرضون عن المساجد والمراكز الإسلامية وصلتهم مقطوعة بالجالية ونشاطاتها، وذلك لأن الأجواء والممارسات السائدة في المساجد والمراكز هي أجواء تقصي أبناء الجيل الثاني من المسلمين ولا تشجع العقلية النقدية ولا تسمح بمجال للرأي المخالف ولا تجذب إليها المعتنقين الجدد. فالمساجد والمراكز هي تجمع للمهاجرين الجدد والطلاب الأجانب؛ أما الجيل الثاني فلا وجود له، ولا شك أن هذا هو الخطر الذي يتهدد مستقبل المسلمين في هذا الموطن الجديد.

لقد بدأت الموجة الجديدة من هجرة المسلمين إلى الولايات المتحدة في أوائل الستينات من القرن الماضي. ومنذ ذلك الوقت إلى الآن مضى ما يكفي لتكوين جيل من أبناء المهاجرين، وإذا أضفنا إلى ذلك موجة الاعتناق للإسلام من الأفارقة الأمريكيين وغيرهم من الأعراق والأجناس، فإن هناك جيلاً كاملاً من المسلمين الأمريكيين مولداً ونشأة، ولكنهم قرروا أن يبقوا بعيدين عن المساجد والمراكز الإسلامية التي تضيق بهم وبطريقة تفكيرهم.

ويضرب الدكتور “لانج” مثالاً على هذا التحليل مسجد “لورنس” في ولاية كنساس، فهناك أكثر من سبعمائة من أبناء الجيل الثاني من أبناء المسلمين لا يحضر منهم صلاة الجمعة سوى عشرون، ومن بين طلاب جامعة “لورنس” هناك أكثر من مائتين وخمسين من أبناء المسلمين لا يحضر منهم أحد، أما رواد المسجد فهم الطلاب الأجانب.

وقد بدأ الكاتب مقدمة كتابه ببيان الفجوة التي تفصل أبناء الجيل الثاني من المسلمين عن المجتمع الأمريكي وكيف تشكل هذه الفجوة أزمة يشعرون بثقلها وضغطها. ولقد استهل الكاتب بيان هذه الفجوة بنقل حوارٍ مثيرٍ جرى بينه وبين ابنته جميلة –تسع سنوات– أثناء جولة في الحي أحد أمسيات الصيف عندما فاجأته بسؤال غريب: يا أبتِ ماذا تفعل لو أني أصبحت نصرانية في يوم من الأيام؟ وبعد حوار متماسك رصين حاول الأب أن يخفي خلاله استغرابه للسؤال وخيبة أمله، أفصحت الفتاة الصغيرة عن حقيقة مشاعرها بقولها: يا أبت أنا لا أفكر جدياً بالانتقال إلى النصرانية ولكني أظن أن الحياة ستكون أكثر يسراً إذا لم أكن مسلمة.

يعيش الجيل الجديد حياته في أمريكا والمدارس على وجه الخصوص في مجتمع ينظر إلى الإسلام بطريقة دونية متوجسة حيث تصطدم رغبة الأطفال الفطرية في الانتماء والاندماج بانتسابهم إلى جالية من الغرباء غير المرغوب بهم.

ورغم أن هناك فرقاً واضحاً بين الإسلام والثقافة العامة في أمريكا، إلا أن هذا الفرق يتضخم كثيراً عند الخلط بين الإسلام وأعراف وتقاليد شعوب بلاد الأكثرية المسلمة، وخاصة أن أكثر المساجد في أمريكا تدار من مهاجرين وطلاب أجانب كثير منهم يساوي بين الإسلام وتقاليد بلده الأم والتي قد تحوي الكثير من التوجهات والممارسات غير الإسلامية، أو الممارسات المبالغة في التشدد والحيطة والحذر وخاصة في القضايا التي تخص التعامل مع النساء، إلى جانب التوجس من توجهات الثقافة الأمريكية التي تبدو متفلتة.

يعيش الناشئون المسلمون أزمة تعارض بين عقليتين لا يمكن تعايشهما: فالمسجد يضع تأكيداً مبالغاً فيه على التقاليد والأعراف والتجانس والانصياع، بينما ثقافة المجتمع تُعلي من شأن العقلانية والفردية. ويؤكد المسلمون على الأمور التقليدية وضوابط السلوك التي تـُعطى صفة الخلود والدوام، بينما يعتمد المجتمع الأمريكي على التكيف والإبداع. ويؤكد نظام التعليم في أمريكا على البحث والنقد الموضوعي، ويبدي المسلمون مقاومة شديدة لهذه التوجهات وخاصة عندما يتعلق بالإسلام. وتشجع المدارس الطلاب على التحدي والتساؤل، بينما تعلم المساجد أطفال المسلمين ألا يتساءلوا عن أمور الدين.

وبالطبع، تعاني كل الأديان في أمريكا من مثل هذه الضغوط ولكن الفرق في ما يتعلق بالإسلام أن كثيراً من الأعراف تمت بلورتها بشكل يـُبقي مجالاً ضئيلاً لإعادة التفسير والتكيف ليترك مجالاً كبيراً للتساؤلات والشكوك في عقول الشباب المسلمين. وبهذا ينشأ الأطفال المسلمون في أمريكا في ظروف صدام بين ثقافتين متعارضتين بشكل صارخ، الثقافة الأمريكية وثقافة أجواء المساجد، ونستطيع أن نحكم من خلال غياب الجيل الثاني من أبناء المسلمين عن نشاطات الجالية أن الأغلبية العظمى منهم اختارت عدم المواجهة والانسحاب بعيداً عن فعاليات المساجد وكل فعاليات المسلمين الأخرى.

إن الجيل الثاني من أبناء المسلمين ينشأ في أشد الثقافات حيوية في العالم حيث تمتلك القدرة على الاختراق والتأثير في أنحاء الأرض بما في ذلك أبناء بلاد المسلمين. وتبدو المساجد والمراكز الإسلامية على هذا وكأنها النقيض للمجتمع الكبير الذي سيعيش فيه أباء المسلمين ويتعلمون ويعملون. وإذا كانت إدارات المساجد تعتقد أنها تمثل صورة الإسلام الصحيحة، فالأجيال الناشئة لا ترى أية علاقة بين حياتهم وهذا الإسلام، ولن يكون مستغرباً على هذا أن يتساءل الشاب الأمريكي المسلم عن قضايا تتعلق بمصداقية الإيمان وتطبيقاته في الحياة.

إن أزمة الثقة وعدم الارتياح متبادلة بين جيل الناشئين والجيل القديم؛ فكثير من مهاجري الجيل الأول ينـزعجون بشدة للفجوة الثقافية التي تفصلهم عن الجيل الثاني الذي اندمج مع عادات الأمريكيين وطريقة تفكيرهم، أما الناشئة من أبناء الجيل الثاني فغالباً ما يشكون أن الكبار يسألون باستمرار عن إخلاصهم وولائهم لعادات الوطن، وغالباً ما يتعرضون للتشهير والتقريع عندما لا يتصرفون كأقرانهم في الوطن الأم. وعلى النقيض من هذا، فعلى الرغم من الجهل والتحامل الذي يبديه المجتمع الأمريكي تجاه المسلمين فإن أكثر الشباب الذين اتصل بهم المؤلف أكدوا له أن غير المسلمين هم على الأغلب أكثر تفهماً وقبولاً لهم من أبناء جاليتهم من المسلمين. وبهذا يظهر سبب آخر يساهم في إقصاء أبناء الجيل.

إن الهجرة الجماعية لأبناء المسلمين والمعتنقين الجدد عن المساجد ستستمر حتى تقرر الجالية أن تتصدى لهذا الأمر وتتفهم أسبابه. ولا يعذر القائمين على أمر المساجد والمراكز زعمهم أن الذين اختاروا الابتعاد هم الذين يستحقون اللوم لأنهم آثروا متاع الدنيا على الواجبات والتبعات الدينية، فمن الممكن أن تتعلق المشكلة بعدم القدرة على التواصل مع هذا الجيل وفهمه وفهم ما يمثله، وأن هناك أخطاء مهمة ترتكبها الجالية ورواد المساجد في هذا المجال.

وعندما نشر المؤلف كتابه (حتى الملائكة يسألون؛ Even Angels Ask ) بدأ يتلقى كثيراً من المراسلات من أناس ينحدرون من آباء مسلمين أو معتنقين جدد يسألون عن موضوعات دينية متنوعة ويعبرون عن شكوك وتساؤلات تحملهم على ترك الدين بالكلية.

وقد جمع المؤلف هذه المراسلات وما ورده من أسئلة مع إجاباته عليها في ملف توسع مع الأيام ليصبح مادة هذا الكتاب الذي يستعرض نداءات الاستغاثة وما دار حولها من نقاش، والذي رأى من الفائدة أن يعم الاطلاع عليها ومواجهة المشكلة التي تمثلها.

وقد كان قسم كبير من الأسئلة يتعلق بالعقائد الإسلامية، وقد يبدو هذا الأمر مستغرباً إذ يؤكد الدعاة دائماً على بساطة العقيدة الإسلامية وتماسكها. وحقيقة المسألة أن صياغة العقيدة هي عمل بشري لشرح طبيعة وكيفيات أفعال الله سبحانه، وهو أمر لا يمكن إلا أن يكون قاصراً مهما حاول البشر واجتهدوا في ذلك. ويبدو أن ميول المسلمين لإدعاء الكمال لآراء وشروح العلماء السابقين في عصر كتابة علم الكلام هي السبب في كثير من التساؤلات عن الأزمة بين العقل والإيمان. ولذلك حاول الكاتب أن يكون واضحاً صريحاً عندما صرّح أنه في كل ما كتب وأجاب لا يدعي أنه يقدم الحقيقة النهائية، بل كان يستجيب للأسئلة بعرض خبرته وتجربته الشخصية وكيف عالج الأمور واستقر على رأي عبر دراسة للقرآن الكريم بعد المعاناة مع الموضوعات التي حجبته عن الله في وقت من الأوقات.

وهناك موضوع آخر أثاره سيل المراسلات التي تلقاها الكاتب وهو ما يتعلق بتصنيف الحديث النبوي. وقد كان الكاتب قد عاهد نفسه ألا يتحدث في هذا الموضوع مرة أخرى بعدما رآه من ردود الفعل السلبية التي تلقاها بعد أن حاول في كتابه الأول (صراع حتى الاستسلامStruggling To Surrender ) أن يحرر هذا الموضوع مستنداً إلى أنضج ما كـُتب من الردود الأكاديمية الإسلامية على دراسات المستشرقين عن هذا الموضوع.

وبعد نشر كتابه الثاني (حتى الملائكة يسألون) تلقى الكاتب جملة من الأسئلة تتعلق بالشكوك حول الحديث النبوي والتي تعكس ظلال الشك على الدين كله. ويؤكد الكاتب أن انطباعاته التي جمعها خلال جولاته في البلاد تشير إلى أن موضوع فقدان الثقة بالحديث النبوي يسري بشكل سريع بين المسلمين المولودين في أمريكا، ويأسف أنه ليس هناك صدىً لهذه الشكوك لمعالجتها والإجابة عليها في المؤتمرات أو المنشورات الإسلامية في أمريكا.

وحيث تشتد الحاجة إلى دراسات أكاديمية في الحديث النبوي تصمد لانتقادات العلماء الغربيين، يؤكد الكاتب أن ما كتبه ليس أكثر من محاولة مسلم عادي يعالج هذا الموضوع ليتفهم مجالاً من الفكر يتصل بتاريخ ممتد وظاهرة ثقافية وحضارية معقدة.

وهناك موضوعات متفرقة أخرى أثارها السائلون، وهناك بعض الإفادات والرسائل الشخصية سجلها الكاتب لتعرض صورة حقيقية عن أزمة حادة تلف الجالية المسلمة في أمريكا حيث تتعرض المحاولات الجادة لبناء جالية إسلامية حية ومستمرة في هذا الجزء من العالم إلى خطر يتحدى تلك المحاولات ويقودها إلى الفشل المتمثل بنضوب معين الاستمرار عندما ينفر أبناء المسلمين من الجيل الجديد عن المساجد والمراكز ونشاطات الجالية.

وقد أقر الكاتب منذ البداية أنه لم يحاول تجنب الموضوعات التي تثير الخلاف عادة، ولم يحاول أن يتجنب الطروحات التي تتحدي الأعراف السائدة وذلك لأن أمانة العلم وأمانة النصيحة تحتم على المرء أن لا يكتم ما علمه من مشكلات تهم إخوته في الإيمان، ولأن تجنب الخلاف ومحاولة التلطف مع الأعراف السلبية تزيد من المشكلة وتزيد من الإقصاء والإبعاد لجيل نتمنى له العودة إلى هويته وثقته بدينه في صورته العالمية التي تتجاوز خصوصيات الثقافات والأعراق والألوان.

والكتاب بكل فقراته وجولاته يمثل طرحاً جريئاً لظاهرة يتهيب الكثيرون من طرحها ومواجهتها ويفضل الأكثرون تجاهلها وتجاهل إحراجاتها.

إن الإسلام الذي يواجه تحديات العولمة والعالمية لا بد أن يستجيب أبناؤه لهذا التحدي بما يؤكد خلود الرسالة وشمولها وعالميتها، وقد يكون المسلمون في أمريكا – بما تمثله من موقع متقدم في الانفتاح وإمكانيات التواصل والتأثير – هم المؤهلون لإثبات جدارة الإسلام وصلاحه وقدرته على إصلاح الحياة وتزكيتها وذلك بإبراز معالم خطاب ديني عالمي متجدد قادر على التحرر من عبء الممارسات التاريخية لمجتمعات المسلمين.

ورب ضارة نافعة –كما يقال– وهذا الكتاب بأسلوبه الرصين ومحاكماته المشوقة يفتح العين على كثير من ممارسات المسلمين ويحرض العقل على التفكير في أمور لا بد من تحريرها وإعادة صياغتها ليعود الشاردون ويتم البيان وتقوم الحجة وينعم الذين كواهم الشك ببرد اليقين.