أين رجالات الثورة من الرجال وعلمهم؟

165

عرف تاريخ العلوم الإسلامية علماً من أجلّ العلوم وأكثرها تدقيقاً وتمحيصاً وتحقيقاً، هو علم الحديث بقسميه: علم الحديث الرواية وعلم الحديث الدراية. فأما الأول فهو: “علم يشتمل على أقوال النبي وأفعاله وصفاته، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها، ومعرفة حال كل حديث من حيث القبول والرد، ومعرفة شرحه ومعناه وما يُستنبط منه من فوائد. وأما الثاني فهو: العلم بالقواعد المُعَرِّفة بحال الراوي والمروي من حيث القبول أو الرد”. (الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ت: 463 ه). ويتفرع عن هذا العلم علم أحوال الرجال الذي يعدّ من العلوم الجوهرية لمعرفة مسار الحوادث التاريخية وتطورها، فكان أئمة المسلمين يُخضعون الراوي وحاله للاختبار ويتتبعون سلوكه إن كان عاصياً أم طائعاً، حتى يتبين لهم إن كان مِن مَن يؤخذ عنه أو يُردّ. وقد جاء في القرآن الكريم إشارة لهذا العلم لعظم شأنه، فأثنى على رجال، وذم آخرين من المنافقين، وجرح أفراداً محددين كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. وحادثة نزول هذه الآية في الوليد بن عقبة معلومة، حيث بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى بني المصطلق، ثم رجع من طريقه ظناً منه أنهم سيقتلونه لما كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، ولما لقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال له: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي. فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهمَّ أن يغزوهم…” الحديث. فبسبب هذا الرجل كادت أن تقع غزوة وقتلاً وسفكاً لدماء معصومة. وفي جملة موضوع التثّبت جاء قوله تعالى أيضاً: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النّور: 15]. وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. وعن النبي -صلى الله عليه وسلّم-قال: “التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ”. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ”، وقال: “مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِين”.

 

في علم الرجال هناك أمران يجب التدقيق فيهما قبل الأخذ عن الراوي: عدالته وضبطه. فإن عُرف عنه الكذب أو اُتهم به، أو عُرف عنه الفسق والجهالة والبدعة، فإن عدالته مجروحة. أما مجرِّحات الضبط فهي: الغفلة، والوهم، وسوء الحفظ، وفُحش الغلط، ومخالفة الثقات. وقد كان السفر إلى الأمصار والتنقل بين البلدان ضرورة واجبة اتبعها رجال ذاك الزمان، والتي قد تستهلك شهوراً، للتأكد من الرواية الواحدة ومطابقتها مع غيرها في صدور رجال تلك الأمصار إلى أن يتمّ التحقق منها فتنتقل إلى التدوين والحفظ، أو يتمّ نبذها وتركها لوجود خلل أو ضعف ما في سواء في الرواية أو الراوي.

 

وللتقريب للأفهام نورد ما ذكره ابن الصلاح (ت:643ه) في مقدمته في علم الحديث: “روينا عن مؤمل أنه قال: حدثني شيخ بهذا الحديث – يعني حديث فضائل القرآن سورة سورة – فقلت للشيخ: من حدّثك؟ فقال حدثني رجل بالمدائن وهو حيّ، فصرت إليه، فقلت: من حدّثك؟ فقال: حدّثني شيخ بواسط، وهو حيّ؛ فصرت إليه، فقال: حدّثني شيخ بالبصرة، فصرت إليه، فقال: حدثني شيخ بعبادان، فصرت إليه، فأخذ بيدي، فأدخلني بيتاً، فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدّثني، فقلت يا شيخ من حّدثك؟ فقال لم يحدّثني أحد، ولكننا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن”. 

 

في ثورتنا، في عصر تغلّب القوى الصلبة، والناعمة، وتوحّش السلطات السياسية، والتكالب على المال والشهوات، والجهر بالخيانات والعمالات، افتقدنا لعصرِ الرجال واغتربنا عن الأخلاق والفضيلة، وأهملنا أفضل علومنا وأدقّ مناهجنا ومنها: علم الرواية وعلم الرجال، العِلمان اللذان ما إن استقينا منهجهما وأدواتهما وطبقّناهما على روايات الأخبار والحوادث والقصص ورواتها في زمننا هذا، لوقفنا على الكثير من التلبيس والتدليس، وربما الكذب والفسوق. 

 

لن أتطرق في مقامي هذا إلى عناصر التهويل والمبالغة والمراهقة الإعلامية في إعلامنا الثوري، أو إلى أخطائه وضعفه وقلّة خبرة القائمين عليه، كنشر مواقع الثوار وأماكن تخزين الأسلحة والنقاط الحساسة مما سهل على العصابة الحاكمة مهمّتها في تعقّبهم وقصفهم، أو إعادة رفع العديد من الفيديوهات قديمة بتاريخ جديد وعنوان جديد… على سبيل المثال. بل ما يهمني هنا الإشارة إلى جانب مختلف (يحتاج منا الوقوف مطولاً لمراجعته)، أقارب فيه بين المنهج العلمي الذي اتبعه العلماء والمحدثين في نقل الروايات وتدوينها وبين الكيفية التي يتمّ بها تداول روايات وقصص وأخبار الثورة. وقد يستغربه البعض أو قد لا يستسيغه الآخر، إلا أنني سأدّعي -أنا التي كنت وسط الميدان الإعلامي الثوري مؤثرة ومتأثرة، مراقبة ومترقبة، منذ ولادة الثورة إلى يومي هذا- أن تلك الروايات والأخبار تحمل أثراً كبيراً لعظم ما تُخلّفه تداعياتها من فتن، وربما إراقة دماء معصومة واعتداء على الحرمات، فهل كنا نتثبت ونتأكد قبل تناول الأخبار والمرويات والقصص؟

 

لا نبالغ حين نقول إن الأخبار المتداولة بين الثوار والناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الكثيرة الأخرى ليست إلا حقلاً غنياً مليئاً بالشائعات، حتى غدا حالها كصاحب “ميزان الاعتدال في نقد الرجال” في وصفه للأصفهاني (356ه) ونقد كتابه “الأغاني” لما يحوي من قصص كاذبة ملفقة عن الخلفاء المسلمين بأنه: “يأتي بالأعاجيب بحدّثنا وأخبرنا…”.

 

إنّ أغلب واقع إعلامنا الثوري مؤلم ومحبط ومسخّف للقضية والثورة بشكل خاص، لفرط غلبة طابع التنطّع والاستهزاء والتهكّم عليه. ولكثر ما خلع الناشطون صفة الاستخفاف على ما نحن في خضمّه من حرب كونية وجودية في تسخيفهم للقصص والأخبار المتداولة عن إجرام النظام الحاكم وحلفائه وميليشياته العسكرية والسياسية، نخال أنفسنا ونحن نطالع تلك المواقع أننا أمام برامج ترفيهية قاتمة كرتونية كوميدية، تعيدنا إلى البرامج والمسلسلات والمسرحيات التهكمية والكوميديا السوداء التي عمل نظام البعث في سورية -والنظم الاستبدادية بشكل عام- على دعمها والسماح لها بتناول أكثر القضايا حساسية في مجتمعنا: السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية وبثّها للجمهور لتقديم صورته وكأنه يشعر بمآسي الشعب ومتطلباته ويعترف بها، بل وأن هناك مساحة مسموحة من حرية النقد تطال القيادة السياسية والمسؤولين والعالم أجمعين. هذا بالإضافة إلى ضخٍ هائل للطروحات المتعسفة والأفكار المبتذلة والقيم السطحية من جهة، أو طرح تفسيرات جاهزة نمطية، وأفكار لا تخلو من أجندات موجهة للأحداث الجارية دون الوقوف عليها أو إعمال العقل فيها من جهة أخرى، التي ما أن تُنشر حتى يتمّ نقلها وتبنّيها والترويج لها من قبل المتلقّين، بل والدفاع عنها دفاعاً مستميتاً. أضف إلى ذلك تنامي حالة الاستقطاب المجتمعي الحادّ بين معسكرين كبيرين: المعسكر العَلْماني والمعسكر الإسلامي وضمن هذا الأخير معسكرات كثيرة، ما غذى حالة التشيّعات والتحزّبات، وخلق حالةً من صراع المواقع والأخبار والمصادر وفوضى قيمية وأخلاقية، و”كل حزب بما لدهم فرحون”.

 

ولربما نجد قول الفيلسوف الإيطالي Umberto Eco في ذلك مناسباً بما فيه من تطرّف، حين وصف تويتر و فيسبوك أنها أدوات “تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلّمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبّبوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”.

 

إن كنا نعترف ضمنياً أن الإعلام لا يمكن أن يكون محايداً أبداً، ولم يعد هناك إعلام نقي لأن الإعلام في المنظومة المعاصرة أصبح أداةً وظيفية لأصحاب السلطات وصانعي الأفكار والسياسيين… يعمل على ضخ أيديولوجيات ورسائل معينة في عقول الناس. وإننا من جهة أخرى نتعامى فعلياً عن حقيقة طغيان التدليس على أغلب إعلام اليوم، بالإضافة إلى التغيير الممنهج المبطن الناعم والمعلن في بنية القيم الاجتماعية والثقافية، دون مساءلة أخلاقية أو وقفة حقيقية مع الذات. فالعاقل هو الذي يُخضع الخبر إلى عملية تقييم وتمحيص، وكما قال ابن خلدون: “ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبعته وله أسباب تقتضيه، فمنها التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا طاولها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يُوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتمتنع في قبول الكذب ونقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح…” (المقدمة).

 

قد يكون أحد أهم أسباب تفشي الكذب والخداع والمواربة هو الركون إلى حال الذلّ والهوان والضعف؛ فأصبح التحوير صفة ملازمة للسياسي والإعلامي وصاحب السلطة، متراوحاً بين حدّي الانتقاء  والإيهام و التدليس والكذب، لفرض قواهم على الناس والتحكّم بعقولهم ومسار حياتهم، وكما قال الرافعي يوماً: “لا يَفْشو الكذبُ إلا في الأمم الذليلة؛ فإذا فَقَدوا سلطة الحكم واستشعروا في الحياة معنى فَقْدها، سلّطوا أنفسهم على ما يَسهُلُ الحكم عليه لكل ضعيف: على المعاني في ألفاظها… ولكن هذا أيضاً كذبٌ في الحكم”.

 

الملفت للنظر أننا أصبحنا في ألفة وتآلف عجيبين، وتسليم مطلق لآلية عمل إعلامٍ غير بريء من التحزّبات والأيديولوجيات والتدليس والكذب والتلفيق…، من تداول لمعلومات مجهولة المصدر، إلى التعامي عن تزييف متعمّد للحقائق والقرائن القاطعة، حتى آلية نقل الأخبار عن أسماء غالبيتهم مجاهيل. ولا ننكر هنا أن أغلب من اشتغل بالإعلام الثوري لتدوين الأحداث وتوثيق جرائم النظام كان معرضاً للاعتقال أو القتل. فهذا مفهوم تماماً، وليس كل من أخفى اسمه الحقيقي مُدلّس، إلا أن ذلك شكّل مجالاً واسعاً للفوضى المعلوماتية والإخبارية ناهيك عن أن استقاء المعلومات لبعض المواقع الإخبارية ينحصر بجهات معينة توافق الأهواء والتوجهات والرؤى لتلك المواقع، فكل مصدرٍ مخالف يتمّ غضّ الطرف عنه أو تشويهه وشيطنته، ولا يكلّف النفس قيد أنملة للاطلاع عليه وإنزاله منزلته التي يستحقّها لتحكيمه منطقياً، فلربما يحمل شيئاً من الحقيقة.

 

ولم نكتف بذلك، بل وصلنا إلى حالة مستساغة من التلاعب على الوعي الجمعي حين أخذ أغلب الإعلام الاجتماعي والمواقع الإخبارية الأخبار وزيّنها بعبارات “عن/من مصدر موثوق”… “مصادر خاصة للـ….”، “مراسلنا في…”، مفترضاً في عقله الساذج وعقل من يصدقّه، أنها عبارات تنزل بمنزلة صكّ الأمن من الكذب والتكذيب أو غياب الصورة كاملة، حتى وصل التفريط من قبلنا أن ننقل ونكتب “عن الفاسق في فعله المذموم في مذهبه، وعن المبتدع في دينه المقطوع على فساد اعتقاده…”  كما جرى في مهاترة إعلامية.

 

الإعلام مرآة ذات وجهين: الأول يعكس ما يريد أصحاب السلطة ضخّه في عقول الناس وتشكيل وعيٍ جمعيٍ يحمل طابع انصياع القطيع، والثاني يعكس وضع المجتمع واهتزاز منظومته الأخلاقية. فإن أردت أن تتعرف على حال ثورتنا ما عليك إلا النظر في المرآة بوجهيها لتدرك أنا نُؤتى من داخلنا أيضاً.

 

 

01-09-1437 هـ/06-06-2016 م