إشـكالية التـدابر بـين الشـرعيـين والاجتماعيـين

676

قد لا يكون من المبالغة القول إن الهوة الفاصلة بين ما يُطلق عليه وصف الشرعيين والاجتماعيين تُعدّ من أخطر التحديات التي تواجه الأمة، ذلك لأنه إذا لم يكن هناك خلاف بأن حال الأمة يعاني على صُعُد شتى من الاقتصاد إلى الاجتماع إلى السياسة؛ فإن أزمة العلاقة التدابرية بين شرائح العلماء تشير إلى أن الزلزال شمل مواقع الإسعاف التي يُرتجى منها النجدة، تاركاً بينها شروخاً وأودية تحجب التفاهم والتواصل. وسوف أسعى في هذا المقال إلى تحديد أبعاد هذه الإشكالية وأوجهها، مما أرجو أن يُوطئ إلى تلمس مخرجٍ من الوضع الحالي المؤسف. وسوف أعالج إشكالية التفارق بين الشرعيين والاجتماعيين في أربعة أوجه: المنـزع البحثي وأدوات التحليل والمجال البيئي والاستناد المؤسسي، إلى جانب الإشارة إلى أرجى مساحات التشارك.

المنـزع البحثي

في الوقت الذي يُجمع العلماء من التوجهين على أحقية الدين وثوابت الإسلام ومرجعية الشرعية، إلا أنهم يختلفون فيما بينهم في:

مساحة جولان العقل حول النص؛

استغناء التراث الشرعي عما هو خارج عنه، ومدى وكيفية استيعاب ما ليس من مادته؛

تصور القنوات التي تسري من خلالها المفاهيم الدينية لتتحقق في واقع البشر.

فرغم أن الشرعيين والاجتماعيين يجتمعون على أرض راسخة من توجيهات الإسلام وثوابته، إلا أن مقتضيات الإسلام وامتداد مفاهيمه وتنـزيله على الواقع تأخذ معاني مختلفة بينهم وتوجههم نحو وجهات متباينة.

فالاجتماعي الجادّ يحاول أن يُفعّل مفهوم التوحيد ويتتبع مقتضياته وانعكاساته في شتى مجالات الحياة. كما يحاول أن يبني مفاهيماً تجريدية تنتظم من خلالها رؤية الواقع ونظرة الماضي واستشراف المستقبل، وذلك من خلال نحت نموذج تصوري مستند إلى التوحيد عموماً وإلى ثوابت الإسلام خصوصاً. وفيما عدا ذلك فإن الاجتماعي يجدُ في الحياة الإنسانية – في عوالم الاقتصاد والسياسة والتاريخ والاجتماع والجغرافيا- مساحات مفتوحة لتقليب النظر ورصد السمت واكتشاف السنن وترقّب التحولات وتقدير المآلات وتفحّص مواضع الخلل وتخرُّص تقلب الأحوال وتبدل المواقع وتجدد الوقائع.

أما العالم الشرعي الجادّ فإنه يحاول تفعيل مفهوم حاكمية النص وانعكاسات هذا في شتى مجالات الحياة. كما يحاول بناء قواعد عامة تنتظم من خلالها عملية تنـزيل النص من خلال استقراء تجربة الماضي (المسلم) والمستقبل المنتظر (المسلم). ويجول الشرعي في مجالات المعاني وتلمّس معالم الاستجابة البشرية للهداية الربانية ورصد مداخل استنقاذ الإنسان وتوجيهه نحو المُثُل العليا مع تغيّر الأزمنة والأمكنة.

فإذا كان بين الفريقين -بين الشرعي والاجتماعي- مواضع اشتراك وافتراق، وبما أن الاشتراك والافتراق يتعلق بقراءة النص وقراءة الوجود، فإنه تجدر الإشارة إلى ثلاثة مداخل للفهم الوجودي: الإسقاطي السكوني والعالمَاني الانفصامي والاهتدائي التفاعلي (انظر مخطط رقم 1).

يتعامل المدخل “الإسقاطي السكوني” مع النص على أنه كنـز مُقفل يحاول فتح أسراره بمفاتيح معترف بها (لغوية عادة). وتتشكّل من خلال تكرارِ محاولة الفهم صورةٌ ذهنية ملتصقة بالنص (فرضاً) يُحسب أنها تكاد تكون مقطوعة عن دور الوسيط الإنساني والمسبقات الفكرية التي تساهم في تشكيل المعنى. ثم تُفرض هذه الصورة الذهنية على الوجود ويفترض أن الوجود قد فُهم وقد فُسِّر “تفسيراً دينياً” صحيحاً لأن التفسير والفهم قد استندا إلى النص. كما يُفترض أن الصورة الذهنية المتولّدة نهائية إلى درجة تكاد تنعدم المسافة بين الحق والحقيقة.

 مخطط رقم 1: مداخل الفهم الوجودي

ويقابل هذا المدخلَ المدخلُ العالمَاني الانفصامي بشقّيه الوضعي الاختزالي والتأملي الهلامي.  ويبتدأ الشقُّ الوضعيُّ من ملاحظة الوجود مفترضاً أن الملاحظة غير متأثرة بمسلمات فكرية ولم تحوّر فهمَها ميولٌ ونزعات ثقافية. وهكذا يعتبر أن الصورة الذهنية التي انطبعت في العقل “موضوعية” خالصة، ولا يعبأ قليلاً أو كثيراً بالنص إذ أنه يقع خارج حيز اهتمامه. أما الشق التأملي الهلامي الذي يتهكّم بالموضوعية ويؤكد على الذاتية المطلقة فإنه يعتبر أن ليس للنص أحقّية مستقلة وأن النص مجرد ترسّـبات تاريخية يمكن التنقيب عنها، وينتهي إلى فرض تفسيره التشرذمي على أنه تفسير تاريخاني مركّب. أي أن النص في المدخل العالمَاني –بأطيافه المتعددة-  ليس مصدر هداية وإنما “إشكال” يجب التعامل معه بشكل أو آخر. ولكن يعترف المدخلُ العالمَاني عادة بأن الصورة الذهنية التي يُقدمها مؤقتة، إلى درجة تغيب صورة الحقائق المطلقة بين إفرازات مستمرة لتفسيرات قسرية -موضوعية أو تأملية- سرعان ما تُستبدل بتفسيرات أخرى تحاول اكتشاف الحقيقة وهي تهرب منها، وهكذا يتشكل الفصام الحادّ بين الحق والحقيقة.

أما المدخل الثالث -المدخل الجدير بالجادّين من الشرعيين والاجتماعيين- فهو مدخل “اهتدائي تفاعلي” يقرأ الوجود مستنيراً بإلهامية النص ويقرأ النص مستفيداً من سنّية الوجود،[1] لتنبثق من خلال هذا العمل الإبداعي صورة ذهنية فيها الثبات وفيها التأقيت في آنٍ معاً، فيها إدراك القصور البشري وفيها جهاد الفهم السُنني الذي تصونه هداية النص.

فإذا افترضنا أن المدخل الاهتدائي التفاعلي هو الذي يتوجه إليه كلٌ من الاجتماعيين الجادين والشرعيين الجادين، فهل يعني هذا أنه قد رُدمت الفجوة بينهما والتقيا على صعيد واحد؟  لا أحسب هذا، بل أحسب أنه سوف يبقى تحليق الشرعي في النص أكبر وتحليق الاجتماعي في الوجود أوسع. ورغم أن كلاًّ من الفريقين قد يوافقا نظرياً على فكرة القراءة في الكتاب المقروء والكون المفتوح -بل وربما يوافقا على القراءة المزدوجة الآنية في الكتاب، والقراءة المزدوجة الآنية في الكون- فإن هناك بينهما تفارق كبير في المواقف عندما يتجاوز الأمر الطرح التجريدي. ومردّ معظم هذا التفارق إلى اختلاف أدوات التحليل، وهذا ما تعالجه الفقرة التالية.

أدوات التحليل

أدوات التحليل هي المجال الثاني الذي يرسم حدود التفارق بين الشرعيين والاجتماعيين.  ويمتلك كـلٌ من هذين الفريقين ذخيرة من أدوات التحليل خاصة به. فمثلاً تُعدُّ قواعد الترجيح بين العام والخاص والمطلق والمقيّد وما أسسته علوم الشرعية في الفقه وأصوله والتفسير والحديث أدوات بالغة النضوج والتراكبية. ويمتلك الاجتماعيون أيضاً ذخيرة واسعة من أدوات التحليل سواء منها أدوات المداخل الكمية الاستنتاجية كالمسح والاستبيان والتجارب المخبرية والتي تستعمل الإحصاء عادة، أو أدوات المداخل النوعية الاستقرائية كالدراسات الحقلية ودراسات تحليل المضمون والتحليل اللغوي إلى جانب مداخل المقارنة التاريخية.

ولا يخفى أن المجموعة الأولى انبثقت في التجربة المسلمة من التعامل مع النص، أما أدوات الاجتماعيين فإن قسماً منها انحدر من تجربة الحداثة (القسم الكمي بالخصوص) وقسماً منها ساهمت فيه أقوام عبر التاريخ وإن كان قد امتلك زمامه اليوم وكيّفته وفرضت ضوابطه مناهج البحث الغربية المعاصرة.

ويمكننا اعتبار وسائل البحث حيادية “ذلك أن الخلاف بين الإسلام والمنهج الوضعي المعاصر ليس خلافاً في الأشكال والوسائل بل هو بالأساس خلاف في المصادر والمنطلقات والغايات، أو بالأحرى خلاف في فلسفة العلم ذاته وأسسه وغاياته ونظريته، بل لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الخلاف في الوسائل قد يتضاءل أو ينعدم إذا وضحت الرؤية على مستوى الأصول والمنطلقات والغايات، حيث إن الوسيلة ما هي إلا أداة محايدة قابلة – في كثير من الأحيان – لإعادة التشكيل والتعديل والتوجيه…”. [2]  أي أن جذر الإشكال يأتي من المسلمات التي استـبطنها البحث والمنطلقات التي اعتمدها، أما الإشكال من ناحية الوسائل فإنه يأتي من استعمالها في غير موضعها.

إن جلّ إشكال أدوات تحليل العلوم الاجتماعية الحديثة يأتي من ناحية عدم مناسبتها للظاهرة المدروسة، مثل تكْميم ما ليس قابلاً للقياس الكمّي وتَمْدِية (أي اعتباره مادة) المعاني المجازية المضمرة التي لا يمكن أن تحيط به ثنائيات صلدة. وحتى إذا أخذنا الهرمنطقية التأويلية -من ناحية وجهها الأدواتي لا من ناحية وجهها المنهجي- فإن الإشكال يقع في تطبيقها على نص إلهي موحى -ولو استعملت لتفكيك الخرافات الشعبية لما كان هناك ذاك الإشكال- فمنبع الإشكال هنا هو اعتبار النص المنـزل ليس إلا خرافة بليغة. ولا يخفى أن اختيار الوسيلة ينمُّ عن منـزع فلسفي، وقد قيل إذا كانت وسيلتك الوحيدة هي المطرقة فسوف ترى كلّ مشكلة مسماراً.[3]

والسؤال هنا: هل يمكن لأدوات فريق أن تستعمل في حقل الفريق الآخر؟ وقد يقال إن أدوات فريق الشرعيين أنسب لفهم النص وأدوات الفريق الثاني أليق لفهم الواقع. ولكن ألا يرجعنا هذا إلى نقطة الصفر الانفصامية؟ ومع ملاحظة الحضور الواسع للنشاط العقلي في استكناه النصوص، فإن علينا أن نستحضر ما سبق ذكره من تفاعل فهم النص مع فهم الواقع وأن نناقش بالخصوص أسس الفهم العقلي للوحي والنص.

ذهب د. عبد المجيد النجار في كتابه الرائد (خلافة الإنسان بين الوحي والعقل)[4] إلى أن هناك أسساً خمسة: الأساس اللغوي والأساس الظرفي والأساس المقاصدي والأساس التكاملي والأساس العقلي. ويمكننا اعتبار أن لكلٍّ من هذه الأسس مساحة اجتهاد وجهاد يمكن أن يسهم فيها كلٌ من الشرعيين والاجتماعيين (انظر مخطط 2).

مخطط 2: أسس الفهم العقلي للنص

فالأساس اللغوي يختص بالقراءة الفنية ويحدد مساحة احتمال المعنى وحدود التأويل عن الظاهر، كما يمكن أن يستوعب ملاحظة أوجه الإعجاز. أما الأساس الظرفي فإنه يختص بالقراءة الفقهية، ومن خلال هاتين القراءتين (اللغوية والظرفية) ينبثق الحكم الشرعي. أما الأساس المقاصدي فيختص بالقراءة التنضيديّة الأولويّاتيّة التي ينبثق عنها “الإصلاح” عبر التنـزيل. أما الأساس التكاملي فإنه يختص بالقراءة الانسجامية الترابطية، وهي التي تنبثق عنها “المنظومة” الإسلامية كتصميم متميز للحياة الإنسانية. أما الأساس العقلي فيختص بالقراءة المعرفية الكُنْهيّة، وهي التي ينبثق عنها “النموذج” الإسلامي، وتتعلق بالتنظير المجرد.

ولعله يصح القول إن قوة أدوات فريق الشرعيين هي المعتمد في استخراج الأحكام بخاصة.  ويزداد فهم دور هذه الأدوات إذا استحضرنا تطورها التاريخي؛ فقد نمتْ هذه الأدوات استجابة لواقع مُعاش استلهم رسالة الإسلام ويممّ وجه نحو أهدافه الكبرى ثم طوّر ما يُنظّم هذه الحياة ويضبطها على وجه مقعّد أشبه بطبيعة القانون. ولا يخفى أنه لمن الغلط تصور الواقع التاريخي المسلم أنه تأسس على الفقه ومادته، وذلك لأن وجود المجتمعات سابق للتقنين من جهة ومتجاوز له من جهة أخرى. ولعل هذا التجاوز أوضح ما يتجلى في تفسير القرآن الكريم، وإلا كيف نفهم قلّـة الموروث في تفسير القرآن إذا نسبناه إلى سعة الإسلام أو إذا نسبناه إلى سعة القرآن وهيمنته ومركزيته في حياة المسلمين؟ وبالطبع فهذا ليس قدحاً في قيمة تراث التفسير وإنما برهاناً على أن الجهد البشري لا يستطيع الإحاطة بنصٍّ لا تنقضي عجائبه ولا يبلى على كثرة الردّ. ومثل ذلك يقال في علوم الحديث حيث خُدمت مهمة نقل النص أكثر من غيرها من الأوجه. فإما أن نقول إنه عاش المسلمون بعيدون عن قرآنهم وحديثهم (وهو الذي لا يصح)، أو نقول إن نصوص الأصليين العظيمين كانتا حيّتين في واقع بشري متحرك لا يمكن للمدوّن من صنع البشر أن يحيط به.

وإذا انتقلنا خارج دائرة الفقه والتفسير وعلم الرواية (وإلى حد ما أصول الفقه) فإن العقل قد تمّ تفعيله إلى أقصى منتهاياته. فحين نتفحّص مثلاً القواعد الأصولية (وليس أصول الفقه) فنجد بُعد الحكْمة بارزاً فيها إلى أبعد الحدود بشكل يصعب ربطها المباشر بالنص رغم أنها نمت في ظل النص وترعرعت على بركته. ومثل ذلك مباحث العقيدة التي عالجت معضلات ملتصقة بتصور المسلم لله والوجود، ولكنها لم ترتبط برابط مباشر بالنص رغم أنها بقيت في مساحة إشعاع النصوص. ومثل ذلك علوم السلوك والرقائق التي بقيت في المساحة المغناطيسية للنص واهتمت بما يعتلج النفس المسلمة من مشاعر وإلهامات، مُفعِّلةً بذلك بصيرة العقل وإلهام النفس المسلمة.  

وقد يُقال إنه حدث الشطط في كثير من هذه العلوم، ولكن عدم حدوث الشطط في نتاج البشر أمر غير متصور، وهو أمر لا ضير منه ما بقي الشطط على الحواشي فحسب، أما المروق عن النص فهو أمر آخر. ولا بد من الإشارة إلى أن وضع حواجز عالية بين مختلف العلوم التراثية أمر لا يستقيم -ولكن بعض التصنيف لإمكان المعالجة مقبول- ويُمكن تتبع النفائس والومضات العقلية والزفرات النفسية في جميع العلوم الشرعية.

وأخيراً يجب التنبيه إلى أن أسس الفهم العقلي للوحي والنص الخمسة مرتبة كما ذكرت، بحيث يفتقر كلٌ لما تحته من المراتب، فمثلاً يفتقر الأساس المقاصدي لكل من الظرفي واللغوي. ولعله يصح القول إن النشاط العلمي للشرعيين ألصق بالأساس اللغوي والظرفي للنص، وأن الأساسين التكاملي والعقلي ألصق بالنشاط العلمي للاجتماعيين، أما الأساس المقاصدي فهو الذي تستوي عنده مهمة الفريقين. وبالطبع فليس هناك ما يحجب ضرورةً إسهام فريق في المساحة الأليق للفريق الآخر إذا استوفى هذا الجهد شرط العلمية (فالمسألة مسألة أهليّة معرفيّة وليست مسألة منصب ديني)، وما ذكرته إنما يتعلق بالغالب مما توجهت إليه هِمَمُ أهل العلم وما فتح الله لهم ويسر لهم فيه.

المجال البيئي

إلى هذه النقطة جرت مناقشةُ بعض الأوجه الفكرية لكل من نشاط الشرعيين والاجتماعيين. ولكن هؤلاء الناس لا يعيشون في فراغ وإنما يتحركون في مجال بيئي يشكّل حدود الإمكان العملي للحركة والنشاط، ويحْفز الباحثَ نحو جملة من الاهتمامات ويثنيه عن غيرها، ويُنشئ توقعات بين الناس لا يمكن تجاهلها، ويوقع في ملابسات تحيط بالعالِم فتؤطّر حركته ونشاطه؛ ويقع كلٌ من الشرعيين والاجتماعيين تحت ضغوط مختلفة. فمثلاً يكاد لا يفلت الشرعيون من مهمة التطمين والتوفيز، وما دامت الحياة البشرية قد جُبلت على كبد، فإن الناس تتعلق بمن يحمل شارة الدين وتتوقع أن يدلّهم على الطريق وينصحهم في أمور حياتهم اليومية، بل وربما يُسألوا في أمور ووقائع يتمنون لو أنهم لم يسألوا عنها.[5] ويُعتب أحياناً على الشرعيين عدم إقدامهم على القول الباتّ في بعض الأمور المهمة وتعلقهم بأقوال الأقدمين من العلماء. ولكن ربما يُعذروا في ذلك أحياناً إذ أنهم يستشعرون مسؤولية التوقيع عن ربّ العالمين، ولا سيما أن من يستفتونهم قد يُعلوا أقوالهم فوق ما يستحقه كلام البشر ويمدّونها إلى مجال لم يرده أصحابه ولم يدخل في حسابهم.

 ورغم أن الاجتماعيين لا يقعون عادة تحت هذه الضغوط إلا أنهم أيضاً يُطلب منهم الوصفة السحرية لحل مشكلات يحتاج رتقها إلى العمر المديد، كما أنهم بعض الأحيان يتمُّ تجاهلهم في أمور هم متخصصون فيها، بناء على أنهم ليسوا المتكلمين الرسميين للإسلام.

ولكن أهم عامل بيئي يؤثر على طبيعة نتاج الشرعيين أو الاجتماعيين هو ارتباطهم بجماعة أو حركة إسلامية، أو مدى القرب والبعد من هذه الجماعات ولو لم يرتبطوا بها رسمياً. ولعله ليس هناك خلاف في أن الارتباط بحركة أو مشروع سياسي يحفز الطاقات ويساهم في نشر رسالة العالِم، ولكنه في الوقت نفسه يُقيدّ آفاق العالم بظروف الحركة وأولوياتها، إلى جانب احتمالٍ أكبر لحصول التحيز الانجرافي. 

وإذا أخذنا بعين الاعتبار المنـزع البحثي والموقع البيئي لكلٍّ من فريقي العلوم الشرعية والاجتماعية فإنه يمكننا أن نلخص جملة فوارق حاسمة بين الفريقين (انظر جدول رقم 1).

جدول رقم 1: موجّهات فريقي العلماء

فما دام الاجتماعي يحتاج بالضرورة إلى مواجهة طروحات العلوم التي نمت في الغرب فإن هاجسه يرتكز بالضرورة حول اختزالية هذه العلوم وإكراهاتها المعرفية وتعسفها المنهجي. أما الشرعيون فإن هاجسهم التغلب على الجمود الفقهي المتمثل بالأخذ بأقوال المجتهدين الغابرين من غير فهم ولا رويّة، وتحميل اجتهاداتهم ما لم يقصدوه ابتداء. وفي حين يغلب على الشرعيين دافع إحياء الشريعة الغرّاء التي تنصلح بها أحوال البشر، فإن دافع الاجتماعيين المقابل هو إحكام فهم السُنن التي لو خولفت لما نفعت نيّة طيّبة ولا جُهد مبذول. ويختلف هذان الفريقان في الهدف الأعلى لنشاطهم الفكري، فيميل الشرعيون إلى رؤية التجديد هدفاً أسمى، مع غلبة توجه الصياغة القانونية لذلك التجديد وربما بالإضافة إلى استحضار هدف التزكية النفسية. وبالمقابل يميل الاجتماعيون إلى بناء منهجية عامة للفهم تستقيم من خلالها أمور الدنيا ولتشكّل قنطرة نحو الآخرة. وفي حين يرى الاجتماعيون أن مخاطبة المنطق العالمي بعد أن أتقنوا أبجدياته هي أولوية من أولوياتهم علاوة على مخاطبة مجتمعاتهم المسلمة، فإن الشرعيين يغلب عليهم أن يروا مخاطبة عامة المسلمين واجباً مؤكداً.

إن استحضار هذه الفروق أمر مهم، وإلا لغلبت خيبة الأمل لكل فريق من الآخر بسبب توقعات حالمة، ولنظر كل فريق نحو الآخر نظرة تغْبن إمكانيات عطائهم وإسهامهم وحقّ مشاركتهم.

الاستناد المؤسسي

يكاد يخلو أكثر الحديث عن التجديد والاجتهاد ونشاط العلماء عن المؤسسات التي يرتبطون بها. كما يغلب أن تتم المعالجات والتحليلات من منظور يفترض أن عملية التجديد هي حصيلة جهد فرد مستقل.

وبداية يجب التأكيد على أن النمو الفكري للإنسان إنما يتم عن طريق التواصل. ورغم أن الكلمة المكتوبة تُحقق درجة عالية من التواصل، إلا أنها لا تُغني عن التواصل الشخصي الذي يفسح مجالاً مباشراً للمعاينة والمناظرة والمشافهة والتعرف على دقائق وجهات النظر. وإذا كان اللقاء والتواصل مهم في التنمية الفكرية والتفهم بشكل عام؛ فإنه شرط لازم إذا كان الهدف هو بناء مدرسة فكرية وإخراج مذهبية متميزة.[6] وعلى هذا فيجب أن يُعزى الضعف النسبي للإنتاج الفكري المبدع إلى غياب المؤسسات التي تُفرد همها لهذا، لا لمجرد قصور الأفراد وضعف هممهم.

ولقد كان لعلماء الشريعة يوماً استقلالية كبيرة، أما اليوم فيرتبط الأكثر منهم بجامعات وكلّيات الشريعة، وكذلك تنتمي أيضاً الغالبية العظمى من الاجتماعيين إلى جامعات تدريس، وهنا يكمن الإشكال… فالمهمة التدريسية لا تشترك مع مهمة الإبداع الفكري إلا في حيز ضيق. إنه يمكن لعلماء المؤسسات التدريسية أن يقوموا بأبحاث تخصصية محدّدة، غير أن بناء رؤية مبدعة يحتاج إلى شروط موضوعية مختلفة، منها الاعتكاف مع بضعة من الأقران في مؤسسات أُفردت لهذا الغرض. فلا عجب إذاً أن نرى مؤسسات البحث (والمرتبطة مع الدولة عادة) تنتج المجلدات الكبيرة والتي رغم فائدتها فإنها لا تعدو أن تكون جهد ترتيب وتنظيم ومراكمة لتحصيل علمي سابق، في حين تعجز عن إنتاج صغير يتجاوز السائد المعروف وتعجز كذلك عن بناء وتشكيل فكر عالي التركيز.

أما المؤسسات الإسلامية التي حاولت أن تخطو باتجاه الإنشاء الفكري المبدع فإنها لم تستطع أن تصفّي همّها لهذا الغرض بعينه، واستصحبت مهمّات دَعوية أو تدريسية سرعان ما استغرقتها ووضعت سقفاً أو نهاية لجهدها الإبداعي. ويجب الاعتراف هنا أنه من أصعب الأمور جلب الموارد المالية اللازمة لعمل فكري مجرد، والموارد شرط ضروري للاستمرار. وكذلك فإنه حين يتوفّر لمؤسسة إسلامية موارد جيدة، تتعلق بها الآمال بشكل خيالي ويُنتظر منها ما ليس بإمكانها ويعتبُ كل فريق إذا لم تخدم هذه المؤسسة المسألةَ التي يعتقد أولويّتها، ليتلو ذلك خيبة أمل محقّقة.

خاتمـــة

حاولت في هذا المقال توصيف إشكالية العلاقة التدابرية بين الاجتماعيين والشرعيين.  ويمكن أن تُصاغ هذه الإشكالية بأنها إشكالية رفض للتجريد أو عجز عنه. إن الغرق في نتاج الدراسات الرقمية والميدانية مع رفض التطرق إلى الابستملوجيا (وفق نمط العلوم الاجتماعية الأنكلوساكسونية بخاصة) أو تَلقّف المفاهيم المجردة من غير تمحيص (وفق نمط العلوم الاجتماعية الأورُبيّة بخاصة)، أمرٌ لا يخدم التجديد. بل إن هذا يُعقّد الإشكال إذ يُنتج أوهام تجديد تُبعد عن الهدف وتوهم بالإنجاز. ومثل ذلك يُقال في مجال الدراسات الشرعية التي ترفض التجريد وتبقى قريبة جداً من مجال الفقه التطبيقي فإن هذا لا يخدم قضية التجديد إذ لا يعدو الأمر أن يكون إلباس المادة القديمة ثوباً حديثاً. ولا يعني هذا أن الإنتاج المطلوب يجب أن يقتصر على ما هو عالي التجريد، وإنما أن يكون البحث –بغض النظر عن مستوى المعالمجة- واعياً بما يُضمر من مسلّمات.

وكما هو معروف فإنه ليس هناك الكثير من التجارب الناجحة التي استطاعت إحداث شراكة حقيقية بين الفريقين، وبقيت العلاقة بينهما انفصامية. فمثلاً تستنجد مؤسسات الاقتصاد الإسلامي بعنصر من فريق العلماء ليقوم بعملية انتقاء من التراث لا أكثر من أجل مدّ الاقتصاديين ببضعة مصطلحات تُؤكد مرونة الفقه. وحين توجه بعض أهل علوم العصر ليشتغلوا في القضايا الشرعية وفقاً لمناهج قديمة ساهموا في تجميد أنساق التفكير بدل تفعيلها. فمثلاً أكدت جهود علماء الفلك حرفية الفهم في إثبات الشهر القمري.[7] والأمر ليس بالأفضل حين قام بعض الشرعيين بالـ “استعانة” بالعلوم الحديثة، فكانوا كحاطب ليلٍ يغفل عن ارتباط النتاج العلمي بأسس فلسفية ومسلمات ثقافية. ولا عجب إذاً أن تروج في المحافل التي يشترك فيها علماء من الفريقين عبارةُ “لا يخالف الشريعة”، وهي بصيغة السلب تعبير عن العجز عن التركيب وفق نموذجٍ متفرّدٍ والاكتفاء بقصّ الناشز البارز مع احتمال إغفال النواة والجذر المصادم أو المفارق كلياً.

لقد قمت بذكر هذه الأمثلة غير المشجعة لأني أحسب أن هناك شروطاً لا يُستغنى عنها في محاولة شراكة الفريقين. فلا تنفع الشراكة إذا لم يكن الاجتماعي الذي درس العلوم الحديثة على إدراك تام ناضج بإشكالية العلوم الحديثة وأن يكون له عطاء تركيـبي بنّاء يتجاوز العطاء السلبي الناقد، كما يجب أن يكون عنده تحصيل مستقل في علوم الشريعة. ولا تنفع الشراكة أيضاً إذا درس الشرعي وفق الطريقة السائدة ولم يستطع تجاوزها، كما لا بد أن يكون له معرفة مستقلة بمناهج العلوم الحديثة وإشكاليتها. أي أن الشراكة غير ممكنة بين عالم اجتماع محض وعالم شرع محض، بل لابد أن يكون لكل منهما تحصيل ذاتي في حقل الآخر يُشكّل مساحة مشتركة يتمّ توسيعها والبناء عليها. ولا بدّ من الاعتراف بأن تيار إسلامية المعرفة –من غير حصره في جهة معينة- قد أخرج النفيس من النتاج، وإنه وإن غلب عليه التجريد الذي يحول دون الانتشار العمومي فإنه يملك كموناً عالياً يسمح بالتوليد. وأحسب أنه ما زال تمام نجاحه واستمراره ونضوج ثمراته مستنداً بشكل رئيس إلى إمكان الاستثمار المؤسسي للجهود المتناثرة للباحثين.

لقد اقترحت في هذا المقال أن بعض المجالات هي أولى بفريق من فريق، وأن مساحة المقاصد هي موضع مشترك إذ أنها تتعلق بالتجريد وعملية التنـزيل في آنٍ معاً، ولا يُتصوّر فيها الاستغناء عن المعرفة الاجتماعية بالواقع المعاصر أو الاستغناء عن المعرفة الشرعية بالنصوص (وهذا موضوع مستقل يستحق التفصيل والبسط). كما نبّهت أن هناك شروطاً موضوعية لازمة، منها إمكانية ابتعاد العالم عن صخب الواقع اليومي ولكن من غير انقطاع عن قضايا المسلمين وقضايا العالم الكبرى.

والله أعلم، وهو الموفق للصواب.

*** نُشر هذا المقال سنة 2005 في العدد 26 من مجلة رؤى (متوقّفة)



[1] انظر العلواني، طه جابر. الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون. المعهد العالمي الإسلامي، 1417 هـ/1996 م.

[2] العلواني، طه حابر في مقدمته لكتاب إبراهيم أحمد عمر، فلسفة التنمية رؤية إسلامية.  المعهد العالمي الإسلامي، 1401 هـ/1981 م، ص3-4.

[3] لمناقشة شاملة ووافية للخلفيات الثقافية لوسائل البحث، انظر سليمان، خالد محمد. “المناهج النوعية والكمية: قراءة أولية في المنطلقات المعرفية”.  المسلم المعاصر عدد 113 سنة 1425 هـ/2004 م

[4] النجار، عبد المجيد. خلافة الإنسان بين الوحي والعقل. كتاب الأمة، قطر (ص 92 –97)

[5] تفكّر مثلاً كيف يُسأل الشرعيون اليوم عن مسائل محددة في مواجهة الاعتداء الخارجي، مما يقع في دائرة العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية وليس في دائرة الفقه.

[6] يراجع حول هذه النقطة كتاب Collins, Randall. 1998.  The Sociology of Philosophies: A Global Theory of Intellectual Change.  Cambridge, MA: Harvard University Press. ، وهي دراسة موسوعية شملت فلاسفة الشرق الأقصى وفلاسفة اليونان، وتظهر الدراسة أن أفكار الفيلسوف كانت هامشية أو ضحلة حتى تسنى له الارتباط بمجموعة صغيرة من نظائره.

[7] أكدت جهود علماء الفلك حرفية الفهم في إثبات شهر رمضان وذلك من خلال توظيف المعلومات الفلكية لتقدير احتمالية الرؤية العينية المحضة. وإني لأعجب أن الإمام النووي في كتابه المجموع طرح السؤال فقال هل يلزم الأخذ بقول المنجم (العارف بحركة النجوم). ونقل عن بعض العلماء قولهم إن معرفة المنجم تُلزمه وتُلزم من صدقّه؛ أي أن السقف المعرفي لعصر الإمام النووي كان أوسع من سقف بعض علماء الفلك المسلمين اليوم.