استئناف الحياة على منهاج النبوة
أرسل الله تبارك وتعالى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخالدة وتكفل الله سبحانه بحفظ هذه الرسالة من التشويه والتحريف للأصول والمبادىء، فحفظ الله تعالى القرآن الكريم ونقل إلينا غضاً لم تمتد إليه الاجتهادت البشرية بالزيادة والنقصان أو التقديم والتأخير.
وكانت المهمة الأساسية للنبي صلى الله عليه وسلم هي بيان القرآن بالكلمة والموعظة والمواقف العملية، فكان خُلقهُ القرآن وحُفظت أقوال النبي الكريم وأفعاله وسيرته من الضياع والعبث تحقيقاً لوعد الله سبحانه بحفظ القرآن.
والاطلاع على سيرة النبي والقراءة لأحاديثه الشريفة أمرٌ أساس يبعث في القلب مشاعر الحب والولاء للنبي الكريم ويجعل الالتزام بأحكام الشريعة تأسِّياً محبباً بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم واقتداءً به واتباعاً لهديه وسنته. ولا بدّ لدارس السنة النبوية من أن يستحضر عدداً من المقدمات المهمة يستعين بها على تجاوز بعض المشكلات في التعامل مع تراث الثقافة الإسلامية.
– السنة لغةً، هي الطريقة والسيرة ومعالم الشخصية ونموذج الحياة. وقد استحدث الفقهاء معنىً اصطلاحياً للسنة، يجعله قسيماً للفرض والواجب. فكل ما ليس بفرض ولا واجب فهو سنة سواء أكان من نوافل الطاعات أو مستحب الهيئات أو الآداب ومحاسن الأخلاق. وقد ألقى هذا الاصطلاح بعض ظلال التهاون والاستهتار بالسنة، وأسهم في ذلك قوم حصروا واختزلوا معنى السنة في الهيئات والأعمال الفردية من النوافل والآداب. إنّ من الواجب استنقاذ معنى السنة من هذا الحصر والاختزال وإحياء المعنى الأصلي للسنة، طريقة ومنهج حياة تتسم بالربانية والأخلاقية والرحمة والتواضع والجدية في الالتزام بالحق ونصرة المستضعفين وكراهية الإسراف والتبذير وتفضيل البساطة والاعتدال.
– السنة النبوية (بمعناها العام وليس المعنى الاصطلاحي) شارحة ومبينة للقرآن الكريم، فعمومات القرآن الكريم وقواعده العامة والأصول التي يثبتها هي الأصل الذي يجب أن نرجع إليه عند التعارض بين الروايات.
– بذل العلماء المسلمين جهوداً فريدة لم يسبق إليها في تاريخ الضبط والتوثيق لتمحيص ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ووضعوا لذلك القواعد والأصول وعرضوا جميع ما نقل عن النبي على مقاييسهم الدقيقة لضبط الروايات والبحث عن حال الرواة وعدالتهم وحفظهم وسيرتهم وأقوال المعاصرين فيهم.. حتى خرج العلماء بمجموعة من كتب الأحاديث ضمنوها ما اطمأنت إليه جهودهم ومقاييسهم في الضبط والتوثيق وأصبحت كتب الصحاح والمسانيد هي المرجع في تعرف الأمة على سنة النبي وهديه. وعُرفت مجموعة القواعد والضوابط والأصول التي وضعها العلماء لتمحيص الروايات والحكم عليها (صحةً أو ضعفاً) بعلم مصطلح الحديث. ويعد هذا الفن باباً مهماً من أبواب الثقافة الإسلامية يطلع المرء من خلاله على جهود الضبط التشريعي ومصطلحات العلماء في التوثيق والترجيح والنقل والرواية. ولا بدً للمطلع على الثقافة الإسلامية من الإلمام بمعاني مصطلحات هذا الفن التي ستطالعه عند خوضه في أكثر أبواب الثقافة الإسلامية من فقه وتفسير وأصول وتاريخ وغير ذلك.
– يرجع كثير مما ينقله العلماء حول رد بعض الأحاديث الصحيحة إلى موضوع الترجيح عند وجود التعارض أو مظنة وجوده، فالترجيح هو طرح دليل أو فهم لوجود دليل أقوى وفهم أكمل وأسلم لكليَّات الشريعة، وليس هو طرح الأدلة ونبذ الأحاديث لمجرد الهوى. ولذلك يذكر العلماء قاعدة مهمة في هذا الأمر وهي أنه لا بدّ لحامل الحديث من الفقه أي لا بدّ له من الفهم للكليات والقواعد حتى يضع الحديث في موضعه من مجموع الروايات بعيداً عن مبالغات الحرفية والشكلية أو الفهم الجزئي الذي تنقلب به الموازين ويختل به ترتيب أوليات الشريعة.
– فالنقاش العلمي في قبول بعض الروايات أو رفضها لا علاقة له بموضوع إنكار السنة أو حجـية السنة. فليس منكراً للسنة من شك في رواية آحاد الناس كائناً من كان إذا كان سبب الشك أو الاعتراض على الرواية هو تعارض مع أصل راجح أو دليل أقوى. وقد اختلف أئمة السلف من الصحابة والتابعين حول كثير من الروايات، ولم يُؤثر عنهم في كل تلك المساجلات أن جعلوا الأمر دائراً بين سنة وبدعة أو حق وباطل، بل كان الأمر بالنسبة إليهم لا يعدو التحرّي للأصح والأصلح والأصوب مع الاعتراف بالفضل وسلامة الصدر والبعد عن ادعاء التفرد بالقبول من الله سبحانه وتعالى.
– نشأ في التاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية نتيجة للنقطة السابقة مدرستان في التعامل مع الحديث النبوي، عُرفت إحداهما بمدرسة أهل الحديث في مقابلة مدرسة الرأي (نسبة إلى تقديم النظر إلى الكليات والعمومات الشرعية قبل التسليم والقبول للروايات). وقد حملت المبالغات وسوء الظن كلاً من الفريقين على تجاوز الاعتدال والإنصاف في الاتهام والتشهير والطعن بما يعلم الناس براءة عوام المسلمين عنه فكيف بالعلماء والفضلاء وحملة السنة والهدي. ولعل من الخير طرح ما تبادلته الفئتان من التهم جانباً وعدم استعمال مصطلحاتهم العدوانية – التي تحمل كثيراً من شحنات التحزب والتعصب مما لا خير فيه – لفهم حقيقة التوجيه النبوي في كثير من القضايا والأمور. ومهما حاول الإنسان فسيظل الخلاف في مناهج الفهم حقيقة إنسانية قائمة، وما على المسلم إلا أن يعتاد سعة الصدر لقبول الخلاف وحسن الظن أسوة بما فعله عليه الصلاة والسلام عندما أقر فهمين متعاكسين لقوله: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة”.
– فالسنة بعمومها دليلٌ شرعيٌ وأصلٌ لا بدّ من التسليم بحجيته، ولكن اعتبار هذا الحكم الكلـي العام ينطبق ضرورة على أفراد كل الروايات وآحاد الأخبار، ينطوي على مبالغة وخلط بين الحكم الكلي والحكم الجزئي ومستلزمات كل منهما. فلا بدّ من وضوح الفرق بين الحكم الكلي والحكم الجزئي، هذا الفرق الذي لا يدركه العوام وأنصاف العلماء.
– خلود الرسالة وخاتميُّتها حقيقة معلومة من الدين بالضرورة، فلا بدّ والحالة هذه من ملاحظة الظروف الزمانية والمكانية والعرفية للسنة النبوية حتى نتمكن من الفهم الكلي والفهم المقصدي لتصرفات النبي الكريم – بسياقها وزمانها ومكانها – ليمكن بعدها التعامل مع السنة النبوية – كنموذج ومثال للقدوة والأسوة – وتنزيل توجيهاتها ودروسها على الظروف والأوضاع والأحوال المختلفة عن عصر التنزيل والرسالة إلى قيام الساعة. فالسنة هي التنزيل والتطبيق لهديّ القرآن وعموماته في بيئة العرب وأعرافهم وثقافتهم في عصر النبوة. ولا بدّ من فهم السنة في إطار يعطيها خلودها وعالميتها وعدم انحصارها بأعراف وأوضاع بيئة العرب. ولعلّ من أشد الأخطاء فداحة في التعامل مع السنة النبوية (في القضايا التي لا تتعلق بالشعائر والعقائد) إهمال هذا العامل الأساس في طبيعة الرسالة الخاتمة، فيصبح عندها التعامل مع السنة بناءً في فراغ وتصبح محاولة الاقتداء بالسنة وتطبيقها اعتسافاً وتجاوزاً وإسقاطاً للواقع، الأمر الذي ينتهي بالمسلمين إلى فهم تاريخي لا يستقيم مع خلود وعالمية هديّ القرآن.
– للنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله أحوال ومقامات، وقد أوضح الإمام القرافي هذه القضية في كتاب “الفروق” عندما أوضح أن تصرفات النبي الكريم ترجع إلى مقام النبوة والتشريع أو مقام الفتوى والقضاء أو مقام الإمارة أو حال بشريته ودواعي جبلته الإنسانية. ولا بد من استقراء الأحوال وتوسم القرائن الحافة بالتصرفات النبوية لإلحاقها بما يليق بها وفهمها على وجهـها. وفهم هذه القاعدة يحلّ الكثير من الإشكالات في فهم السنة على وجـهها وتنزيلها على الواقع المتغير بما يحقق مقاصدها ومعانيها وخاتميتها.
– صنّف أئمة علماء الحديث ما صح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرتباً على أبواب وموضوعات جُمع كل باب منها كل ما يتعلق بمعاني الباب، وذلك للتسهيل المنهجي الذي أملته طبيعة الجمع والتبويت. فأثبتوا كل ما ثبت عندهم بما فيه من تكرار أو تعارض، وأثبتوا ما استدرك به بعضهم على بعض أو ما خالف به بعضهم بعضاً، ولم يكن من شأن علماء الحديث ولا من اهتمامهم الترجيح أو شرح ما يوهم التعارض أو الاستنباط للأحكام من مجمل أحاديث كل باب. وإنما تركوا ذلك للمشتغلين بالاستنباط من فقهاء الأمة. وكان ذلك منهم أمانةً علمية ووفاءً لمهمتهم كما رأوها. ومن ذلك ما رواه أئمة الحديث أنّ السيدة عائشة رضي الله عنها ردت خبر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عندما روى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يعذب الميت بـبكاء أهله عليه”، وحلفت أنّ النبي لم يقل ذلك وأعقبت اعتراضها بقولها: “أين تذهبون بقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. وكذلك روى الأئمة اعتراض السيدة عائشة رضي الله عنها على حديث ما يقطع الصلاة وروت من حالها مع النبي صلى الله عليه وسلم ما هو الحجة في بابه من صلاة النبي وهي نائمة بين يديه. لقد روى الأئمة كل ما صح عندهم بنزاهة وتجرد دون أن يعملوا في الروايات أي تعديل أو تصويب أو رفع تعارض. وقد أساء بعض من قلّ علمه و رقّ دينه تفسير هذه النزاهة العلمية في كتب الحديث فنسبوا الصحابة للكذب ونسبوا علماء الحديث إلى الغفلة عندما رأوا بعض ما يتعارض ويتداخل من الروايات. وكان ذلك منهم محاولة للهجوم على ما نالته كتب الحديث من الشهرة العلمية التي صُنّفت للعلماء ولم تُصنف للعوام والمبتدئين.
– فإذا أراد المبتدئ أن يطلع على الحديث النبوي بالقدر الذي يساعده على صياغة شخصيته بإطار من القدوة والأسوة بهديّ النبي الكريم وانساق المبتدئ للوصول إلى هذا الهدف التربوي المهم وراء الشهرة العلمية التي نالتها كتب الصحاح في الأمة، وابتدأ رحلته للتعرف على الهديّ النبويّ بأمهات كتب الحديث كصحيح البخاري أو صحيح مسلم، فإن ذلك ولا شك سيؤدي إلى الحيرة والاضطراب. فكتب الحديث بمنهجها في التبويب والتصنيف لم تُؤلف للمبتدئين بل صُنفت للعلماء والدارسين. فهي أشبه بمنجم تستخرج منه السبائك بعد المعالجة والتنقية والتصفية من العلماء الخبراء. والمطلع من المبتدئين على كتب الصحاح ورواياتها يجد نفسه مرة واحدة في مواجهة العديد من المسائل العلمية واللغوية مثل الأسانيد والتكرار والروايات التي تُوهم التعارض أو ما استدرك به الصحابة بعضهم على بعض، بشكلٍ قد يدفعه إلى الحيرة وخيبة الأمل في إمكانية تلبية مشاعر الاقتداء والتأسي والاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد فطن بعض علماء الأمة إلى هذه الملاحظة فصنفوا الحديث النبوي على منهج تربوي يهتم بصياغة المسلم في عقيدته وسلوكه ومشاعره وعبادته صياغة قرآنية نبوية، تهتم بما أجمعت عليه الأمة من عقيدة وسلوك وأخلاق تميز المسلم وتعطيه هويته بعيداً عن الخلافيات ومعارك الجدل بين المدارس الفكرية والمذهبية ومناقشاتها في مسائل الفروع.
ويُعد ما جمعه الإمام النووي في “رياض الصالحين” نموذجاً ممتازاً للمنهج التربوي في الجمع والتصنيف، وقد لقي هذا الكتاب من القبول عند العلماء والمربين وجمهور الأمة ما يؤكد أهمية المنهج التربوي في الاستفادة من الحديث الشريف وخاصة للمربين الذين لا يعنيهم الخوض في دقائق ونكات اللغة والفقه والأصول، وإنما يعنيهم أساسيات الإيمان والأخلاق ومشاعر الحب وروابط التأسي والقدوة بالنبي وهديه وسنته.
إنّ حجية السنة ومنزلتها في بيان التطبيق العملي لعمومات القرآن أمرٌ لا يحتاج إلى مزيد تأكيد. ولا بدّ عند الاقتداء والتأسي بسنة النبي الكريم أن نستحضر المعاني والمقاصد التي تفتح آفاق الفهم لتصرفات النبي الكريم ومقاصدها، فهذا هو التأسي الصحيح الذي ينتصر للسنة ويضعها في مكانها اللائق بها، ويفتح أبواباً للأمل في إمكانية استئناف الحياة على منهاج النبوة في ظروف الحياة المتجددة على مرّ الزمان.