الأقليات بين العرف والقانون في أمريكة-1
لم يعد من المقبول ونحن نعيش في مثل هذا العصر أن ننطلق في فهمنا لظواهر العالم من حولنا، من رؤية أحادية تحكمها مشاعر الحماس أو العاطفة. وعندما يتعلق الموضوع بالغرب حضارة ونظاما وتاريخا، فإن الرؤية التحليلية الهادئة تصبح أكثر ضرورة وإلحاحاً.
وإذا كان من المستحيل علينا كمسلمين وكعرب الوصول إلى فهم شامل وعميق للمنظومة الغربية، تمهيدا للتعامل معها أيا كان شكل ذلك التعامل… إذا كان ذلك مستحيلا تحت مشاعر المرارة والغضب والعداء الناتجة عن أسباب معروفة، فإن من المستحيل تحقيق ذلك الهدف أيضا انطلاقا من ردود فعل ثقافية يغلب عليها البساطة والاجتزاء والقراءة من الخارج، ترى في تلك المنظومة وما ينبثق عنها من برامج ونظم، من آيات الخير والعدل والجمال ما لا يراه أهل تلك المنظومة أنفسهم. بل ربما ما تنفيه الوقائع الحية على أرض الواقع.
موضوعنا اليوم عرضٌ وتحليلٌ لقصةٍ حدثت وقائعها في ولاية دالاس الأمريكية، وهي تسلط أضواء نقدية عميقة على مجموعة من القيم التي تُعتبر مثار فخر المنظومة الأمريكية والتي هي مثار إعجاب الكثير من أبناء الشعوب الأخرى، من مثل قيم المساواة والديمقراطية والتنوع العرقي والثقافي ونظام رعاية الأطفال ومستوى حقوق الإنسان، إلى غير ذلك من القيم المعروفة.
~ ~ ~ ~ ~
بدأت أحداث القصة – التي نعرضها ملخصة – في قاعة ألعاب مدرسة ابتدائية عام 1989، عندما شاهدت امرأة أمريكية رجلا (هو مهاجر ألباني مسلم) تركض باتجاهه ابنته الصغيرة التي تبلغ من العمر أربع سنوات ونصف، ليعانقها الأب عناقا حارا وليطبع على وجنتها الصغيرة قبلة شوق وحنان.. إلى هنا لا يبدو في المشهد ما يثير الاستغراب لدى قارئ هذه الكلمات، لكنه بالنسبة إلى المرأة الأمريكية المنسجمة مع وقائع ثقافتها وحضارتها كان يعني شيئا آخر خطيراً… فبالنسبة إليها كان هذا مؤشرا أكيدا على اعتداء جنسي من رجل يبلغ السادسة والخمسين من العمر على ابنته البريئة. وبسرعةٍ تنسجم أيضا مع الفعالية الأمريكية رفعت المرأة دعوى قضائية على الرجل، وانعقدت المحكمة لتسمع شهودا آخرين حضروا المشهد، ثم شهادة “خبيرة” اجتماعية صادقت على رأي المرأة و على أن مستوى (الدفيء) الذي رآه الشهود في مثل هذا العمل يؤشر على أن ما حصل اعتداء جنسي (مألوف) كثيرا ما يحدث بين الآباء…
وكانت النتيجة – وسط ذهول وعجز الأهل والجالية المسلمة – حكما قضائيا يسحب حق الأبوة من الأب ويضع الأم حارسا قضائيا – مؤقتا بانتظار تحقيقات إضافية – على الطفلة وأخيها الذي يكبرها ببضع سنوات، بشرط أن لا تسمح الأم للأب برؤية الأولاد.. ولما كان هذا الحكم في نظر الأم منافيا لكل قواعد وأعراف العدل والإنسانية فإنها لم تلتزم بذلك الشرط، الأمر الذي دعا العاملة الاجتماعية التي كُلفت بمتابعة القضية إلى أن ترفع بدورها الأمر إلى المحكمة التي حكمت هذه المرة بسحب حق الأبوة والأمومة من الوالدين.. وطلبت وضع الطفلين – اللذين لم تنفع شهادتهما المتكررة ببراءة الأب – في دار رعاية اجتماعية والإعلان عن وجودهما لمن يرغب أن يتبناهما من العائلات.. وفعلا حصل هذا بعد فترة حيث تبنى كل واحدٍ منهما أسرة منفصلة، ولم يقف الأمر عند حد انفصالهما عن الأهل وعن بعضهما، بل أُجبرا على تغيير الإسم والدين وعلى الذهاب إلى الكنيسة.. ورغم ورود معلومات بذلك إلى المحكمة إلا أنها لم تأخذ موقفا لأنها رأت أن مصلحة الطفلين في البقاء مع الأسرتين تغلب هذا الادعاء.. واليوم بعد مرور سنوات على الحادثة لاتزال القضية معلقة والطفلين حيث هما بعيدين عن الوالدين المفجوعين رغم كل المحاولات، حيث تبين أن القضية خرجت – إداريا – حسب القانون من يد القضاء، وأصبحت الأسر المتبنية هي من يتحكم في الموضوع….
~ ~ ~ ~ ~
ونعود إلى السؤال: كيف يمكن الكتابة في قصة مشحونة بالعواطف كهذه القصة من غير أن يدعي البعض أن التحليل الموضوعي انحاز إلى القلب على حساب العقل؟ رغم ذلك، فإن القصة – بقدر ماهي مشحونة بالعواطف والأسى – فإنها أيضا مشحونة بالدلائل العلمية والمنهجية التي نحاول عرضها فيما يلي.
على السطح ووفق ظاهر الأمر.. ها هي امرأة تنطلق من عمق فهمها وربطها لظواهر حضارتها الخاصة ترى ظاهرة (خاطئة)، فتنطلق من (مسؤوليتها) لكي تقوم بواجبها إشفاقا منها على هذه الطفلة البريئة وخوفا على مستقبلها. وها هو (النظام القضائي) يستجيب بسرعة وفعالية ويستعين في ذلك بنظام (الرعاية الاجتماعية والنفسية).. وها هي جميع آليات هذين النظامين تستجيب أيضا للمهمة وتعمل وفق فلسفة تلك المنظومة بكل دقة وأمانة.. ثم هاهو نظام (رعاية الطفولة) المنتشر في المجتمع يعمل بدوره، فتتقدم الأسر لتبني الطفلين رغم كل الملابسات والمعلومات عن القضية، ورغم كل ذلك الاتقان يُصدِرُ أكثر من سمع بالقصة حكما بأن النتيجة إنما هي مأساة !.. لماذا وكيف يحصل هذا التناقض؟ وماهي الملابسات الثقافية والحضارية لقضيةٍ جعلت حتى البعض من ذوي القناعة النهائية بكمال وفعالية المنظومة (the system) من المسلمين يحكمون أن عملها الدقيق ذاك أنتج مأساة وظلما بدل الحق والعدل؟ إن هذا السؤال يُعتبر خُلاصةً لمجموعةٍ من الأسئلة الحائرة التي تبحث عن جواب داخل إطار هذه المنظومة.
وإن السؤال الأول الذي يمكن طرحه هو: ما دمنا نعيش اليوم في عالم “القرية الصغيرة”، كيف يمكن للثقافات المختلفة أن تتعايش؟ إذا كان الأمر الذي يُعتبر واجبا ومفروضا في واحدة (مثل عناق الأولاد)، يُعتبر جريمة في الثقافة الأخرى. والإشكالية هنا هي تحديد من يملك الشرعية العليا في ذلك اللقاء بين الثقافات. ومادام الحديث بمجمله داخلا في إطار مفهوم حقوق الإنسان، فهل حقوقه هي تلك المرتبطة بشخصه والمنبثقة عن مصالحه، أم أنها تلك المنبثقة من هويته الحضارية وجماعته العرقية، أم أنها تنبثق فقط من رؤية وثقافة الدولة السياسية التي يعيش فيها؟ وإذا كان عندنا أكثر من نسخة لحقوق الإنسان، فكيف تتصافى وتتعايش، ولمن تكون الكلمة الأخيرة عند تضارب الأمور؟ هل هي للأكثر عددا في هذا العالم، أو لمن يملك عددا أكبر من الأسلحة، أو للأغنى؟ أم أنها لمن يملك الوسائل الفعالة للإخراج الإعلامي للمسألة، بحيث تظل بعض (الحوادثُ اليومية) حوادثَ يومية لا تستحق الاهتمام، بينما يتحول بعضها الآخر إلى (قضية) تستحق اهتمام السلطات والتدخل المباشر من قبلها؟
فإذا انتقلنا للحديث على مستوى الجماعات المختلفة داخل الدولة الواحدة، وتصورنا أن كل جماعة تريد أن تحاسب الأخرى على تصرفاتها ووفق مقاييسها الخاصة يكون السؤال: من يُعطى حق التقويم؟ وما هو الذي يضمن التعايش الذي تفترضه الديمقراطية، والذي يُفترض أن لا يكون – نظريا – في صالح الأقوى؟ إن هناك عادة رائجة في المجتمع الأمريكي تُسمَّى (prom) تدعو الأهل لدفع البنات عند حفلة التخرج من الثانوية إلى (الخروج) مع شاب.. دلالةً على البلوغ والنضوج والاستقلال القادم عن أولئك الأهل. ماذا يحدث – على سبيل الافتراض – إذا أرادت العائلة الألبانية المسكينة محاكمة المجتمع الأمريكي على هذه العادة التي تمثل في نظرها رمياً للبنات إلى استغلال جنسي محض، وسماحاً للبنين بممارسة سيطرة جنسية ترسخ معنى أحقية الاستغلال الجنسي من غير تبعة ولا مسؤولية، الأمر الذي يستدعي العقوبة في عرفها تحقيقا لا ظنا أو تخمينا.
تلك إذن مجموعة من الأسئلة التي – رغم افتقاد إجاباتها – إلا أنها تفيد في توسيع مدى رؤيتنا لهذه المنظومة، وللإشكاليات المتداخلة التي تتفاعل داخلها. كما أنها تعطي صورة أقرب للواقع، خاصة لأولئك الذين لايرون سوى اللون الزهري الجميل والمتناسق في ملامح تلك الصورة.. لننتقل بعد طرح تلك الأسئلة إلى نوع من التحليل لمفهوم (الأسرة) عند أهل هذه المنظومة.
تُعتبر (الأسرة) تبعا للرؤية (العلمية) السائدة في هذه المنظومة على أنها (وحدة وظيفية) لا أكثر. بمعنى أن المهم في هذا المفهوم إنما هو إنجاز (الوظيفة) التي تقوم بها هذه المؤسسة ولا شيء وراء ذلك. وعلى العموم فإن مفهوم الأسرة كما تطرحه العلوم الاجتماعية هو مفهومُ (تَشَكُّلْ اجتماعي) لا يختلف كثيرا عن مفهوم (الشركة) أو (المجموعة الكشفية) وهكذا.. و ما دام الأمر كذلك فإن أي بالغين يمكنهما القيام بهذه العملية بغض النظر عن طبيعة علاقتهما بالأولاد، ما داما قادرين على تنفيذ (لائحة) من التعليمات الجاهزة والمحددة سلفا، والتي تقود تلقائيا إلى تحقيق تلك الوظيفة.
إن هذه الحادثة تُظهر إلى درجة كبيرة مستوى (الميكانيكية) التي آلت إليها الحضارة المعاصرة، على مستوى التفكير والممارسة، سواء كان ذلك عن وعي منها وإدراك، أو عن غير وعي وإدراك. فلقد وصل الأمر إلى أن أصبح الأبوان عبوتين تُرميان (disposable) حين يكون هناك أدنى شك في تاريخ (صلاحيتهما)، ثم تُستبدلان بعبوتين (نظيفتين). و ما دام الإطار المعرفي العام أولا وأخيرا هو (الإنتاج).. فإن الهدف العقلاني هو (إنتاج) أولاد أفضل، ويكون ذلك من خلال عقد اجتماعي جديد، لا يحتاج إلا ورقةً قانونية جديدة يُنسخ فيها الاسم القديم (الماركة القديمة)، ويُوضع اسم ماركة جديدة منحدر من الأبوين الجديدين، اللذين سيتعاقدان اجتماعيا مع الأولاد الجدد (المستوردين) و (بشكل قانوني بحت). وحيث أن هذا العقد الجديد لا يحتوي على أي بند للتمتع الجنسي بالأولاد فلن يكون هناك أي مشاكل، وسوف ينمو الأولاد النمو الطبيعي ويسلخون من ذاكرتهم كل ذكريات وملامح التنشئة الأولى. وإذا حصل أي طارئ ولم يستطع الأطفال سلخ تلك الذكريات والملامح من الذاكرة فالحل موجود. إذ يكفي استدعاء اختصاصي (نفسي) للقيام بهذا (وذلك في مقابل أجر مادي بطبيعة الحال، فلابد لعملية إنتاج الأولاد من أن تكون عادلة ماديا لكل الفرقاء فيها). وفوق ذلك أيضا، فإن هناك الزيارات المتكررة من (العاملة الاجتماعية) لكي تقوم بعملية ضبط العيارات الدورية (tune-up) لهذه الآلة (الأولاد) التي انتقلت إلى هذه الورشة الجديدة.
إن من الواضح فيما سبق أن مفهوم العلاقات الأسرية بهذا الشكل لم يُسلخ فقط من بعده المعنوي الأخلاقي، ويُقطع من كل متعلقاته من مفاهيم الأبوة والنسب والقرابة، كما أنه لم يُفصل فقط عن أبعاده البيولوجية التي لايزال الإنسان و العلم يجهل مكوناتها، بل إن ذلك المفهوم سُلخ من أي أثر للبديهة والعاطفة الإنسانية العادية.
من هنا فإننا نرى أن أزمة العائلة الألبانية إنما هي أزمة نظرة مختلفة للأسرة. و حيث أن هذا الاختلاف عائد إلى مجمل التصورات الأساسية التي تحكم نظرة الثقافتين المختلفتين إلى الإنسان والوجود والحياة، فإننا يمكن أن نستنتج أن أزمة تلك العائلة – وبالتالي كثيرا من الأزمات المشابهة – تعود في جذورها إلى اختلاف أساسي في تلك النظرة إلى الإنسان والوجود والحياة.
ونحن إذ نطرح هذا التفسير، فإننا نرى أنه أكثر دقة وعقلانية من كثير من التفسيرات الأخرى، وعلى رأسها التفسير (الاتهامي)، الذي يمكن أن يكون مؤداه أن المنظومة الأمريكية (انتقمت) من هؤلاء فقط لكونهم مسلمين.
إن النقص الفادح والمشوِّه في فهم الإسلام دينا وحضارة وثقافة يظهر أكثر ما يظهر في مثل هذه الحوادث. فإذا كان الذَّكَرُ المسلم – وفق ذلك الفهم الناقص والمشوَّه – هو الرجل الذي يمتلك (الحريم)، فلا غرابة إذا في أن يتحرش بابنته ويعتدي عليها جنسيا. وفي هذه النقطة بالذات تظهر إشكالية تحقيق ما يمكن أن نسميه بالديمقراطية (النفسية)، وذلك حين يتساءل المرء عن إمكانية ضبط المشاعر والانعكاسات النفسية بشكل يبرؤها من الحقد واحتقار الآخر الذي لا يشترك مع الإنسان في العادات والأعراف الثقافية.
إن أزمة التحيز النفسي الكبرى أنه غالبا مايؤدي إلى التحيز العقلي، والمشكلة عند من يحاكم مسائل المسلمين -من الخارج- ليس في التسلسل المنطقي للأحكام التي يُطلقها، وإنما في التصورات التي تحكم ذلك التسلسل في كل مرحلة من مراحله. أي أن المشكلة الكبرى في الموضوع بمجمله – باختصار – ليست في الميكانيكيات والوسائل، وإنما هي في المنطلقات والتصورات الأساسية التي تختص وتتميز بها كل ثقافة وكل حضارة.
وفي الجزء الثاني من هذا التحليل ننتقل من السياق الأمريكي الذي تمت معالجة الحدث في سياقه حتى الآن، لنتحدث حول الإشكاليات العامة في التعامل مع السلوك البشري و مفهوم العرف، و دور السلطة و القانون تجاه هذه المسألة.