الأقليات بين العرف والقانون في أمريكة-2
حاولنا في القسم الأول من هذا المقال التأكيد على أن أزمة العائلة الألبانية إنما كانت قضية مفهومٍ مُشكلٍ للأسرة و دورها في هذه البيئة الثقافية الغربية، ورفضنا التفسيرات الاتهامية التي يمكن أن ترى مجمل ما حصل على أنها تصرفٌ مغرضٌ مقصودٌ ضد المسلمين .
إلى هذه النقطة لا تزال معالجتنا لقصة العائلة الألبانية ضمن السياق الذي جرت فيه – سياق المجتمع الأمريكي . ولنحاول الآن توسيع دائرة التحليل وإخراج القصة من خصوصية مكان حدوثها و متعلقاتها القانونية وإبراز إشكاليةٍ عامة في التعامل مع السلوك البشري و دور السلطة و القانون في هذا الخصوص .
و المقصود هنا بالتحديد مسألتان: مسألة العرف، و مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم . و لنبدأ بمسألة العرف: فكما هو مشهور في الفقه، عرف المحلة و البلدة يؤخذ بعين الاعتبار، سواء كان ذلك في أمور الاقتصاد و طرق تعامل المتبايعين و إجراء العقود، أو كان في أمور اجتماعية من قضايا الضيافة إلى الزواج إلى التعامل مع الأولاد … وفي مثل هذه الأحوال فمن الغالب أن لا يُثار جدل حول العرف ما دام يمارس في محلةٍ أو بيئة محصورة، إلا أن الإشكال الذي يُنبهنا إليه مثال حادثة العائلة الألبانية هو في التساؤل عما يمكن أن يحدث في حال تضارب الأعراف . فنحن هاهنا بإزاء مأزق يتعلق بتحديد مدى سلامة العرف و مساحة قبوله بين الناس . و عند الإشارة إلى هذا الأمر يجب أن نتذكر أن المجتمعات المعاصرة تواجهنا بواقعٍ تتمازج فيه الإثنيات و الجنسيات الإسلامية بشكل لم نعرفه من قبل . و إذا أردنا أن نفكر “بأمة” إسلامية فلا بد لنا من أن نفكر في إمكانية تعايش أفراد وجماعات هذه الأمة بالحد الأدنى من المشاكل و الإحتكاكات . و تصادم الأعراف في المحلة الواحدة قليل و لا يظهر إلاّ عند تمازج شرائح لم تعتد التمازج من قبل . فمثلاً في مجتمعاتنا المسلمة كان هناك انعزال نسبي بين الريف و المدينة من أوائل هذا القرن و حتى الستينيات وربما السبعينيات، و كان لكلٍ منهما أعرافٌ استقر عليها و رضي بها و انسجم معها، و لكن عندما حلت أنماط السياسة و الاقتصاد الجديدة و تداخل الناس بخلفياتهم المتباينة حصل تضارب و اختلاف . والنقطة التي نريد الوصول إليها هنا هي أن تضارب الأعراف ممكن ووارد حتى في بيئة مسلمة، و مشكلة العائلة الألبانية – بعمومها لا بخصوصياتها – تلفت النظر إلى إشكاليةٍ اجتماعية عامة .
والسؤال الآن: ماذا نفعل إذا ما تضاربت الأعراف ؟ و بالطبع فالجواب على المستوى النظري ميسورٌ: إذا كان التضارب بين عرفين أحدهما واضح الحكم و للشرع فيه قولٌ فصلٌ، فالحكم هنا هو ما يقوله الشرع، ذلك أن العرف له اعتبارٌ فقط في حال عدم مخالفته للشرع .. أما الإشكالية فتظهر عندما يتعلق الأمر بحياة الناس اليومية التي وضع لها الشرع نواظم عامة ولكن لم يحكم في تفاصيلها، سيما وأن ظهور العرف ونشوءه أصلاً إنما يكون عادةً استجابةً لحاجة المجتمع لتنظيم علائقه في أمور لا يتعاطاها القانون، و لصياغة قانونٍ غير مكتوب يُفترض أن يتعامل الناس من خلاله بيسر وتفاهم .
إذاً، كيف يحصل التفاهم إذا كان هناك لقاءٌ بين ثقافتين مختلفتين تنتميان إلى الإسلام، و كان هناك بالتالي مجموعتان من الأعراف؟ واضحٌ هنا أن الرجوع إلى الشرع (و المقصود هنا فقه الأحكام) لا يحل المشكلة لأننا افترضنا أصلاً أن غالب الأعراف هي مما سكت عنه الشرع، و أن الشرع يأخذ العرف باعتباره أصلاً . والحاصل أن المطلوب أن يميز الناس أن سلوكياتهم ليست كلها قواطعَ أتى بها الإسلام ولا يصح غيرها بل هي تكيُّفاتٌ تصحُّ ويصحُّ غيرها باعتبار أنها استجابة لواقع وزمان معينين .
و الآن يبرز الإشكال الثاني في قضية إنفاذ العرف و حمايته قانونياً . فهل يحكم القانون بحكم الأغلبية أم على القانون الاعتراف بأكثر من عرف واحد؟ فإذا قلنا بأن القانون يجب أن يحكم بعرف الأغلبية، فهل يكون مخالفة الأغلبية مخالفة شرعية يأثم صاحبها و يستحق التوبيخ و الإقصاء، أم أن هذا من خوارم كمال الخُلق؟ و إذا افترضنا تواجد مجموعات مسلمة مختلفة و لكل منها عُرفُهُ، و إذا افترضنا أن المشاركة السياسية-الاجتماعية من الجميع أمر مطلوب لحياةٍ ميسرة و مسالمة، فكيف يمكن مشاركتهم إذا كانت أعراف بعض مجموعاتهم يعاقب عليها القانون أو يزجرها المجتمع ؟ ثمّ أليْسَ مثل هذا الازدراء أو العقوبة القانونية على أمرٍ ليس بذاته ظاهر الفساد و الشر هو الطريق إلى تقوقع المجموعة و حنقها (و ربما انفجارها لاحقاً) ؟ أليس هذا هو الطريق إلى العلاقات المتوترة بين فصائل الأمة و خلفياتها المتباينة ؟..
أما إذا قلنا أن القانون يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أكثر من عرف مجموعة واحدة فإن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن وظيفة العرف أصلاً هي ملء “الفراغات” القانونية . بل يغلب أنه إذا تحول القانون نحو دقائق الأمور ليفصل فيها فإنه يُفسد اليُسر في حياة الناس ويُقحم حدوداً وتحكمات يمكن أن تصل إلى حد السخف علاوة على ما فيها من عدم المرونة . ولعلّه من الأولى والأَحكم أن يتنحى القانون عن دائرة الأعراف ويترك للمجتمع ذاته ولفعالياته اليومية أن تتفق وتنظم المشاكل والعقبات المتكررة .
و إذا كنا نتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأداةٍ لإنفاذ القانون والشرع بمساواةٍ على الجميع، فكيف يجوز (من ناحيةٍ إسلاميةٍ صرفة) إكراهُ إنسانٍ و اتهامُ سلامة دينه و استقامته، و هل هناك ذلٌّ أكثر و أعمق من الطعن في أصل إسلامية الفرد ؟ و ربما إذا حللنا الأمر تحليلاً عميقاً لكان عرف الأغلبية الذي صاغته قانوناً أبعد عن روح الإسلام من عرف مجموعة أخرى . وهذا الذي يرجح القول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يبقى “اجتماعياً” لا قانونياً ولا سياسياً .
و هنا نصل إلى النقطة الأخيرة التي تشكل مدخل الحل و التي يجب أن تكون واضحة الآن، وهي أنه لا بد من جلب جميع هذه الأعراف معاً في دائرة حوارٍ طويل يتصل أحد أطرافه بالأعراف ذاتها وما تعنيه لكل مجموعة من الناس، و ما هي المشاعر التي تثيرها هذه الأعراف، و ما هي المفاهيم التي تترافق معها، و ما هي الظروف التي نشأت فيها، و ما هي الحدود لكل عرف و التي يتوقف العمل به عندها للدخول في دائرة عرفٍ أخرى .. هذا من جهة، و من جهة أخرى يتصل هذا الحوار بمصدر الإسلام: القرآن، و بسنته التطبيقية ليستلهم منهما خطوطاً عامةً لعرفٍ جديد جامعٍ بين فئات الأمة المختلفة . و بالطبع فليس المقصود بالحوار هنا جلسةً رسمية لرجال الفقه و القانون، بل هو أوسع من ذلك و يشمل قطاعات الناس على مختلف مستوياتها و مناحي اهتمامها .
وعلى سبيل المثال نعرف أن هناك فرقاً واضحاً في أعراف الكَرم بين المدينة والريف . فإذا ازدرى المدني أعراف الريفي على أنها “متأخرة” و “فلاَّحية” وإذا ازدرى الريفي أعرافَ المدني على أنها “مائعة” وليست نبيلة، فلا يخفى أن التمازج الاجتماعي يصبح صعباً . وبالطبع فإن مثل هذا الأمر يتفاقم إذا حاول كل فريق دعم موقفه بنصوص دينية واعتبر أن هذه المسألة (مسألة أعراف الكرم) إنما هي مسألة دينية بحتة . وإذا استصحب الفريقان الصيحة المألوفة اليوم في الحركات الإسلامية من أن “القرآن هو الحل” أو أن الإسلام أتى بكل شيء ولم يفرقوا بين كون الإسلام منطلقاً و إطاراً لتصرفاتنا نجتهد بناءً عليه في تنظيم حياتنا، وبين كونه لائحةً و وَصفةً جاهزة لكل تفاصيل الحياة .. فإن مما لا شك فيه أن نزاعاتٍ سوف تضطرم حول آلاف من أَشكال التصرفات اليومية وتُعطى هذه الأشكال أهميةً أكثر من حقها بكثير . إنه لا بد عند الدخول في حوارٍ حول مسألة الأعراف الإدراك بأنها قضايا مدنية وتأقلمات مع تغيُّر الظروف وليست قضايا مبدئية قاطعة لا يصح فيها التنوع والتغاير . ولا يخفى بالطبع أن المطلوب هو أن يكون الإسلام على الدوام هو الموجِّه في عملية التأقلم هذه .
بعبارةٍ أخرى: لا بد من التجديد الذي تشارك فيه كل فعّاليّات الأمة . فالتجديد هو ملاذ الناس من الاختلاف والتضارب، والتجديد ليس عمليةً فكرية منقطعة عن الحياة . و بالقدر الذي تفاجئنا به هذه النتيجة بالقدر الذي تبدو منطقيةً ومستخلصةً مما سبق عرضه . بل ربما يمكن القول بأن العرف الذي لا يُجدد هو الذي يُحدث إشكالات و يؤدي إلى محاذير في حياة الأمة، حين تقصر الأعراف عن التأقلم مع متغيرات الحياة .
ختاما، فإن السؤال ليس فيما إذا كان تجديد الأعراف ضرورياً أم لا، فالتجديد حاصلٌ لا محالة، فإما أن يكون لنا يدٌ فيه، و إما أن ندع عجلة التاريخ تسحق الأعراف التي انتهى زمانها و تحيلها إلى دائرة العدم . وإن التحدي لا يكمن في التساؤل المتطاول فيما إذا كان الخير في تغيير الأعراف أم لا، وإنما يكمن في كيفية تجديد الأعراف بحيث تبقى منسجمةً مع التوجيه العام للثقافة الإسلامية و هويتها .
م 1996/ هـ 1416