التحديات التي تواجه المرأة المسلمة

3٬378

يُعتبر إحقاق الحق في أي قضية تهمُّ الإنسانية إحقاقاً للحق في جانب من جوانب الشرع وانتصاراً له. ولما كانت المرأة تشكّل نصف المجتمع من حيث العدد، وتمثل أجمل ما فيه من حيث العواطف، وأعقد ما فيه من حيث المشاكل، كان تناولُ قضيتها ذا أهمية بالغة.

ويكفي في تعريف المرأة ما قاله الشيخ راشد الغنوشي “المرأة نصف المجتمع والنصف الآخر يتربى في أحضانها” ومن ثم فهي تؤثر في كل المجتمع، لذلك وجب عليها أن تعي أن عليها مسؤولية شرعية وتاريخية ألا وهي صناعة وتكوين الأجيال. فالمرأة إذن مناطةٌ بوظيفة تفعيل وصياغة أحد شروط الحضارة وهو الإنسان، ذلك أن عناصر الحضارة كما عرفها الأستاذ مالك بن نبي وغيره هي “الإنسان والمكان والزمان”.

وقد تكرر مصطلح المرأة في القرآن 26 مرة، ومصطلح النساء 59 مرة. في حين ذكر مصطلح الإنسان 70 مرة ومصطلح ابن آدم 25. ومن خلال هذه الأرقام يظهر أن القرآن توجه إلى المرأة كإنسان في أكثر من 95 موضع في حين خصها كامرأة في 85 موضع، فتبين بذلك أن الله خاطبها كإنسان أكثر من كونها جنساً له خصوصيات مميزة. لأن الرجل والمرأة في التصور الإسلامي سيان في التكليف والمسؤولية والجزاء، وهذه المساواة أصل أصيل في الشريعة أبرزه بشكل واضح قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. وقوله صلى الله عليه وسلم: “النساء شقائق الرجال”، لا فرق إذاً في خطاب الوحي بين الجنسين إلا في أحكام محدودة شرعت لحالات استثنائية. وجسدت النساء هذا المبدأ بمشاركتهن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم خلال خير القرون من بعده في كل المجالات المتاحة في المجتمع.

لكن هذه المكتسبات التي حصلت عليها المرأة بالإسلام ضاعت عبر القرون، فغابت المرأة تدريجياً لتحبس في البيت طيلة أربعة قرون من عصور الانحطاط، ثم لِتُفْـتن خلال قرن الاستعمار. ورغم أن نسبة النساء اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية تتراوح ما بين 48% و63% إلا أنها لازالت لم تؤدِ وظيفتها الحضارية بفعالية، ولم تقدم رموزاً متميزة تعكس نسبتها العددية في المجتمع، وسبب ذلك مواجهتها لتحديات حالت دون وصولها إلى أداء وظيفتها المرتقبة.

ويمكن حصر هذه التحديات في ثلاثة: تحديات ذاتية، تحديات واقعية، تحديات حضارية. والهدف من هذه المقالة بسط الحديث في هذه التحديات.

التحديات الذاتية:

لا زالت المرأة ‑للأسف‑ كرةً تتقاذفها أرجل الأقوياء، كلٌ يريد تسجيل الهدف في مرمى الآخر. ونحن نرى كيف تُزايِد على حقوقها جمعياتٌ ومؤسساتٌ مختلفة المشارب واللافتات ترمي من وراء ذلك إلى تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. ولن تتحرر المرأة من هذه المطامع إلا إذا وعت خطط أعدائها، وحملت مشروع إصلاح أمرها بيدها وأدركت أن لكل فردٍ أنساقاً ثلاثةً تشكّل شخصيته، ولابد لها من إعادة صياغتها في ذاتها وهي: النسق التصوري والنسق النفسي والنسق السلوكي.

أ. النسق التصوري:

وهو يتكون من مجموع الصور الذهنية التي ترسمها المرأة لكل ما يحيط بها. وهذا النسق لم ينضج عموماً عندها، بحيث لا تتضح لها معالم القضايا سواء كانت سياسيةً أو اقتصادية أو اجتماعية، محليةً كانت أو عالمية. فالمرأة تفتقد لمنظومةٍ تحكم رؤيتها ولنسيجٍ فكري يضبط تصورها، ولا تستطيع بلورة مواقف فكرية ‑وأتحدث هنا عن عامة النساء‑ أما الاستثناءات فلا يخلو منها عصرٌ ولا مصر. وقد نجد نخبةً نسائيةً ناضجة على المستوى التصوري، لكنها لم توفق حتى الآن في إيصال خطابها، وربط الجسور بينها وبين بنات جنسها.

ب. النسق النفسي:

وهو مهد الانفعالات والمواقف النفسية من العواطف والأحاسيس التي تثيرها مجموعة أحداثٍ ووقائع. وهذا الجانب رغم تميز المرأة به، إلا أنه مبالغٌ فيه عندها، حيث يثيرها الخطاب العاطفي أو الترفيهي أكثر من غيره ويؤثر على توجهاتها وقراراتها. وقد عزَفَتْ على هذا الوتر عدة تيارات ومؤسسات ونجحت في تحقيق مآربها. وليس ذلك غريباً إذا علمنا أنه كلما غابت قوة العقل ارتفع حس العاطفة.

وقد تأثرت المرأة عبر العصور بالخِطاب الخَطابي دون أن تتفاعل مع الخطاب العلمي بعقل راصدٍ وناقد، لأنها تفتقد أداةً أساسية ألا وهي: العلم. كما أنها تربت على فقه الطاعة ولم تتعود على فقه الحوار، مما جعلها سهلة الاستلاب لهذا التيار أو ذاك. وعند فقدانها للتوازن النفسي وتضخم حس العاطفة، أفرزت المرأة تفاعلاً غير سليم مع الأحداث والوقائع من حولها.

ج. النسق السلوكي:

ويتضمن هذا النسق كل الأفعال التي تندرج في إطار سلوك المرأة العام. والسلوك نتاجٌ يُفرز عناصر الشخصية، لأنه الواجهة الخارجية التي تعكس أي انحرافٍ أو خلل أو بالمقابل أي اعتدال وتوازن. والمطّلع على واقع المرأة يلاحظ انتشار أعراضٍ مرضيّة كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • الاهتمام المفرط بالقشور والشكليات دون الجوهر، والتركيز على الجسد مقابل إهمال العقل والروح.
  • التنافس على التكاثر في المسائل الدنيوية بشكلٍ مبالغ فيه.
  • انتشار الأخلاق الرديئة من مثل الغيبة والنميمة وقتل الوقت في أتفه الاهتمامات والمواضيع.
  • تقديس التقاليد الراكدة والوافدة.
  • إغفال أداء المهمة التي أنيطت بها بجانب أخيها الرجل على حد سواء، ألا وهي الاستخلاف في الأرض.

ولما كان السلوك نتاجاً لا يمكن إصلاحه بمعزلٍ عن إصلاح النسق النفسي والتصوري لأنهما يشكلان الآلة التي تفرز، وجب أن يتوجه التصويب إلى النسق النفسي والنسق التصوري لصياغة سلوكٍ إسلامي يمكّن المرأة من أداء دورها الحضاري. وعبر تفاعل هذه الأنساق تتحقق الشخصية المتوازنة للمسلمة.

وأخيراً نخلص إلى أن أكبر التحديات التي تعيشها المرأة بشكل عام والمسلمة بشكل خاص هي: العوائق الذاتية، التي تشكل السبب الأساس في غيابها عن العطاء. ولا سبيل لإصلاح واقعها إلا بالوعي بذاتها من خلال تكوين وتفعيل الأنساق الثلاثة. وأول خطوةٍ في مسيرة الوعي حمل وتحقيق شعار: “يجب أن يبدأ في أنفسنا التحول” بناءً على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. إن أول خطوة في طريق التغيير يجب أن تبدأ عن طريق المرأة نفسها، وذلك من خلال إجراء عملية مراجعةٍ كبرى لتلك الأنساق الثلاثة يكون هدفها ضبط التصورات والمشاعر والسلوك وفق المنهجية الإسلامية الأصيلة.

رغم ذلك، فإن هناك نوعاً آخر من التحديات يواجه المرأة المسلمة، لا يقل في خطورته وتأثيره السلبي عن التحديات الذاتية سالفة الذكر، ويتمثل هذا في التحديات الواقعية التي فرضت ولا تزال تفرض نفسها من خلال صيرورة الواقع التاريخية والثقافية.

فلقد عانت المرأة مع شقيقها الرجل من مختلف أنواع الظلم الذي مُنيت به المجتمعات العربية والإسلامية، بدءاً بالاستبداد السياسي، مروراً بالتدهور الاقتصادي، وسوء توزيع الثروات المحلية، ونهاية بالتمزق الاجتماعي وانتشار الأمراض النفسية والاجتماعية.

وبما أن المجتمع إنما يُمثّلُ مرآةً تعكس الحالة السياسية والاقتصادية السائدة في موقع من المواقع، فإن شعوب المجتمعات المسلمة تظهر في تلك المرآة وهي تلهث وراء اللقمة والمسكن ومتطلبات الأبناء دون أن تجد وقتاً تستغله في اهتمامات أخرى، في صورةٍ كاريكاتوريةٍ تحمل عمق المأساة.

ولقد أدى هذا الواقع إلى استنـزاف أسرٍ عديدة في دائرة المتطلبات المادية، حتى باتت غير قادرة على متابعة الساحة الثقافية، أو الأحداث السياسية، أو غير ذلك مما يتعلق بحركة العالم من حولها. هذا فضلاً عن فقدان كل إمكانيةٍ للإبداع الفكري أو لاستشراف المستقبل، باستثناء نخبٍ مهتمةٍ قليلة تحاول جاهدة سد رمقها الثقافي دون إشباعه.

وقد غرقت المرأة في عدة تحديات واقعية يصعب حصرها، ساهم عدم مواجهتها في تأخر النساء، وعدم وجودهن بالشكل الفعال داخل المجتمعات. وسأحاول في هذه المقالة رصد تحديين رئيسين فقط عند عامة المسلمات ‑دون إنكار وجود رموز متميزة لا تسري عليها القاعدة في كل عصر ومصر‑ ألا وهما: الأمية والتقليد.

أولاً. الأمية

رغم أن أول آية نزلت هي {اقرأ}، ورغم تكرار لفظ العلم والدعوة إلى التدبر إلى درجة تجاوزت ست مائة مرة في آخر كتاب ربط السماء بالأرض، إلا أن الإحصائيات تدل على أن أمة القرآن لا زالت تعاني من ارتفاع عدد الأميين فيها وخاصة في صفوف النساء. وتُصنفُ كثيرٌ من الدول الإسلامية للأسف على رأس قائمة الدول الأكثر أميةً، وذلك لأسباب عديدة من أهمها أن الأسر المسلمة طيلة أربعة قرون من الانحطاط أعطت الأولوية للرجل، وهمّشت تدريس النساء، وحصرت دورهن في خدمة الرجل، فكان أهم هدف تحققه المرأة هو الحصول على زوج، وليس استكمال الدراسة، فضلاً عن الوصول إلى وظيفة لخدمة مجتمعها.

لقد خسرت المرأة قروناً من عمرها لم يسجل التاريخ فيها إنجازاتها نظراً لغياب أعمالها. وكأن المجتمع لم يَعِ الحكمة الربانية في التنبيه على أهمية العملية التعليمية للرجل والمرأة معاً، وكونها مفتاح الخير الدنيوي والأخروي.

ولكن المرأة حاولت جاهدةً في القرون المتأخرة أن تتحرر من أميتها الحرْفية، فارتفعت نسبة المتعلمات من كل مستوى وخاصةً الحاصلات على الشهادات الجامعية. وهذا مكسب إيجابي ولا شك، إلا أن المشكلة تتمثل في أن المرأة، حتى وإن حملت بعض الشهادات، ظلت تحمل موروثاتٍ قديمة حجبت عنها الانتقال إلى مستوى أرقى من العلم والمعرفة. وذلك لأنها بقيت تشكو من أمية من نوع آخر وهي “العجز عن التفكير العلمي والعجز عن تعلم الجديد” حسب تعريف منظمة اليونسكو للأمية. ولازالت فئة كبيرة من المتعلمات ومعهن أخريات في حاجة إلى تجاوز المرحلة التالية للأمية الحرْفية وهي: العجز عن التفكير العلمي، والطموح إلى تعلم الجديد.

ويظهر المثال جلياً في نماذج لنساء أثبتن وجودهن في ديار الغربة، حيث مجال التعلم أكثر تيسيراً، لكنهن لم يستفدن من فرصة وجودهن في دول الشمال لاستكمال الدراسة، أو للدخول في مجالات جديدة من تلك المجالات الرحبة الواسعة الآفاق والتي يوفرها الحقل العلمي الأكاديمي في الغرب، لأنهن قانعات بما درسن قناعةً يغلب أن تكون قناعة كسلٍ وخمول. بل إن الهم المادي صار يأخذ وقت الرجل والمرأة معاً، ولا يُهتم بالتعلم نظراً لغياب الطموح المعرفي من جهة، وبرودة الحس الدعوي من جهة أخرى. فقلما تجد من يحملن مشروع التغيير في المحيط الجديد، أو يحاولن استغلال سقف الحرية لرفع مستوى الوعي عند النساء. ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في قلة الكتابات النسائية، فضلاً عن المجلات والدوريات، وكذلك في غياب الأنشطة إلا من بعض حلقاتٍ تناقش المواضيع الشرعية البسيطة في بعض المراكز والمساجد.

إن واقع حال المرأة المسلمة وهي تتعامل مع العالم من حولها لا يمثل في قليلٍ أو كثير الفهم الإسلامي المتألق الأصيل لدور المرأة، والذي عبّر عن نفسه بكل وضوحٍ وجلاء في واقع أمهات المؤمنين، والرعيل الأول من نساء المسلمات.

وبعد الحديث في هذا السياق الواقعي السلبي، أجد لزاماً عليّ العودة ولو باختصار إلى ذكر نموذجٍ مضيء من الرعيل الأول يتمثل في أُمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنوات، وتوفي عنها وعمرها ثمانية عشرة سنة. وهي التي جمعت القرآن ومعه تفسيره الذي كان ثلاثة أضعاف حجم القرآن، مما يدل على حرصها على تلقي العلم من نبعه الصافي. وهي التي احتلت الدرجة الثانية بعد الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه في رواية الحديث وبلغ ما روته من أحاديث 2210 حديثاً، حتى أفردها جلال الدين السيوطي بكتاب سماه “عين الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة”.

هذا وإن للأُميّة الحرْفية وغير الحرْفية مستتبعات عديدة سلبية نذكر منها الآتي:

  • غياب تمثيل النساء داخل المجتمع المسلم وخارجه. فلا دور لها لا ثقافياً ولا سياسياً، ولا دخل لها في وضع برامج التربية ونظم المجتمع.
  • قلة الأقلام النسائية والمجلات المتميزة والأصوات المعبرة من خلال الأفراد. وبالتالي ضياع المساهمة النسائية الإعلامية والتربوية.
  • غياب المؤسسات التي تحمل آمال وآلام النساء بشكل صحيح وفعال.
  • الاكتفاء بوضع المرأة كديكور لإرضاء الداعين لإشراك المرأة.
  • عدم تقديم نساء يشرحن هذا الدين لمن تريد من المهتمّات أو المعتنقات الجدد، بل استدعاء الرجال لمناقشة القضايا النسائية.
  • وجود فئات نسائية تعمل بوسائل ضائعة ليس لها أهداف، وأخرى تنشغل بأهداف دون أن يكون لديها وسائل مناسبة لتحقيقها.
  • ترك المرأة حبيسةً على الأشغال المنـزلية دون أن توجِدَ وقتاً لتغذية عقلها وعقل أبنائها، وهي التي لا زالت تسأل عن فتوى لمشاركتها.

إن اليقظة الدينية الشكلية تظل دائماً في حاجةٍ إلى دعائم فكرية قادرة على التجديد والعمل البناء، وحينئذ تتحول أعداد أغطية الرأس إلى أقلام وأصوات فعالة. ومع أننا لا ننكر وجود رموز نسائية حرة ونزيهة هنا وهناك، لكنها لم تتحول بعد إلى فئة مؤثرة تلقى احترام المجتمع بشكل عام، وتعمل بجد في توعية النساء بدورهن في عمارة الأرض. ولا بد من العمل من أجل إعادة صياغة نماذج كاللواتي حضرن في المسجد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وشاركن في مختلف المناسبات والمجالات المتاحة في عصرهن.

وإن على المنظمات النسائية أن تجعل في مطلع أولوياتها، القضاء على الأمية بأنواعها. لأن مما يدمي القلب أن يكون هذا الدين هو الذي حارب الجهل والجاهلية منذ قرون، بينما لا يزال يعاني رجاله ونساؤه من الأمية. إن القرآن الكريم يُعلنها صريحةً واضحة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وفي حين احتفلت كثيرٌ من الدول بتوديع آخر أميٍ فيها منذ زمن، لا يزال البعض في عالمنا الإسلامي يتحاور في شرعية تعليم الفتاة‍‍.

قد يحس الإنسان بنبرة الشدة في هذه السطور، ولكنني أؤمن بأن القسوة في محلها رحمة، والرحمة في غير محلها قسوة، وأن النقد البناء يدفع إلى الأمام بإذن الله، على طريق البحث المستمر عن نماذج من النساء الواعيات بالشرع والعصر، والراغبات في العمل لإخراج المرأة إلى وضع أحسن يليق بأداء وظيفتها الاستخلافية المنتظرة. ولنا في تراثنا مثالٌ آخر في خديجة رضي الله عنها، وهي أول من اعتنقت هذا الدين. ولنا سمية رضي الله عنها، وهي أول دم أريق في سبيل هذا الدين. ولنا خولة ونسيبة وغيرهن كثيرات. وكل ما فعلته الواحدة منهن أنها تعلمت، فآمنت، وشاركت، وجاهدت، واستشهدت. والمسلمة اليوم تحتاج أن تعلم وتتعلم، ومفتاح العلم التعلم ومحو الأمية بكل أنواعها. ثم إنها بحاجة إلى أن تشارك وتُجاهد فتنال خير الدنيا والآخرة، وتساهم في صناعة الواقع وتغييره نحو الأفضل في كل زمان ومكان.

ثانياً. التقليد

بدايةً لا بد أن نفرق بين التقليد والعرف. فالعرف: مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، عرفه العلامة الجرجاني بأنه “ما استقر في النفوس بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول“. وهو اجتهادات وقوانين لا تخالف الشرع، وتختلف بحسب الزمان والمكان.

أما التقاليد: فهي في معظمها لا أصل لها في الدين، وإن كانت للأسف تأخذ أحياناً صبغته وقدسيته في مجتمعاتنا العربية والإسلامية خاصة بين النساء، يصدق هذا على تلك المجتمعات وعلى الأقليات المسلمة الموجودة في الغرب. والمقصود بالتقاليد على سبيل المثال لا الحصر، أنماط المأكل والملبس والتعامل اليومي وكيفية إحياء المناسبات، ورصيد الأمثال الشعبية لكل شعب.

والعجيب أن لبعض هذه التقاليد قيمةً في حياة بعض المسلمين لا توجد حتى لتعاليم الدين. فقد يختل نظام توازن الأسرة إذا تعطلت أحد المراسيم مثلاً، في حين لا يؤثر غياب ركن من أركان الإسلام على الأسرة نفسها. وهنا يكمن الخطر، عندما تُقدسُ التقاليد أكثر من الإسلام، ويُقدم الإسلام لغير المسلمين ومعه هذا الموروث الثقيل من التقاليد، الذي يعبر في كثيرٍ من الأحيان عن أنماط من التدين تتعارض مع قيم الإسلام وتعاليمه، فينعكس ذلك سلباً على نظرة غير المسلمين لهذا الدين.

ويا ليت المرأة المسلمة تبذلُ في إحياء الدين في أسرتها، وفي تجديد فكرها عُشرَ ما تبذله في الحفاظ على التقاليد، إذاً لانتشر الإسلام بشكل أوسع، ولصار واقعنا غير ما نحن عليه. لكن من النفوس ما ينشط في الباطل أو التافه أكثر مما ينشط في الحق للأسف، وهذه آفةٌ كثيراً ما يقع فيها الكثيرون دون انتباه إلى معانيها الخطيرة وآثارها السلبية.

وقد ذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مثالاً على علاقة الإسلام بالتقاليد حين قال إن أحد الأعراب في غضبه حلف قائلاً: والله لأبيعنّ هذه الناقة بدينارين، فلما هدأ روعه، وكي لا يحنث وضع قلادة بالية في عنق الناقة وبدأ يطوف بها في الأسواق قائلاً: من يشتري هذه الناقة بدينارين، والقلادة بألف دينار، ولا يمكن شراء الناقة إلا والقلادة معها. فطاف الناس بها يقولون: ما أجمل هذه الناقة وما أقواها وما أرخصها لولا هذه القلادة… فالناقة هي الإسلام والقلادة هي التقاليد.

وكما أن للأمية تبعاتٍ سلبية فإن للتقليد تبعاتٍ أسوأ منها، إن كان بالإمكان التفاضل في درجة السوء في هذا المجال. وإن من تلك التبعات:

  • شيوع مجموعة أمثال شعبية خاطئة المضامين تقوم بدور القاضي الذي يصدر الفتوى والحكم في المعاملات دون تدبر أو تفكير قائم على الشرع والعلم.
  • تقييد حركة المرأة بمجموعة عاداتٍ راسخة في المجتمع، فيما يتعلق باللباس والإقامة والسفر والعمل، خاصةً فيما يتعلق بالمطلقات والأرامل والعوانس.
  • إدانة المرأة وإصدار الأحكام الجاهزة في معظم حالات الصراع بين الرجل والمرأة من منطلق التقاليد وليس من منطلق الأحكام الشرعية.
  • صياغة عقليات ترفض التجديد بكل أنواعه وتقبع في القديم بكل أشكاله.
  • إنه بغير العلم الشرعي، والعلم العصري اللازم لفهم الواقع وآليات تحركاته، وبدون تجديد الفكر الإسلامي للرجال وللنساء في إطار القواعد والضوابط التي تجمع بين فهم النص والمقصد. وبغير التحرر من التقاليد المتحجرة والأفكار الميتة والمميتة، يصعب تجاوز التحديات الواقعية التي تواجه المرأة المسلمة المعاصرة.

وأخيراً، أعتقد أن ملف المرأة يجب أن يبقى مفتوحاً حتى تتجدد الأوعية والوسائل بتجدد المشاكل والمستجدات. صحيحٌ أن لهذه الأمة مفاجآتها التي قد تستعصي على تقديرات أعدائها، ولكن الصحيح أيضاً أن على المسلمة أن تأخذ بالسنن الإلهية في مجال الإصلاح، لأن السنن الكونية لا تحابي أحداً على الإطلاق، ولأنه ليس هناك مجالٌ لمعالجة مسألة المرأة التي تأزمت تاريخياً، وظهر تأزمها بشكله الفاضح أخيراً، دون العمل العلمي المنهجي الجاد والصريح إلى أبعد الدرجات.

09-1420 هـ / 12-1999 م