التدين الشبابي الجديد: نظرة من الداخل
لعل أكبر سؤال يُطرح على واقع الدين هو: كيف يمكن أن نكون مسلمين اليوم، بمعنى أنه كيف يمكن أن نمارس التدين ضمن التغيرات التي تحدث في حياتنا المعاصرة، خاصة مع دخول منظومات فكرية واجتماعية وسياسية جديدة متولدة من مشروع الحداثة الغربي وانعكاساته وتفاعلاته المختلفة في العالم العربي.
أنتج تفاعل هذا الواقع مع أنماط التدين والخطاب الديني السائد إشكالاتٍ وتساؤلاتٍ ملحَّة حول مدى إمكانية أن يوفي واقع التدين والخطاب الديني اليوم حاجات العصر ومعالجة إشكالاته بوعي من دون استلاب أو تجاهل لها.
كان من نتيجة ذلك هو بروز أزمة تدين، وقد تجلى ذلك في الحالة الشبابية الناشئة، التي زادت تساؤلاتها وأحياناً تمردها على واقع التدين اليوم، وقد زادت عدة مستجدات من تضخم هذه الحالة، مثل الربيع العربي الذي فتح الباب على الكثير من المراجعات على الصعد المختلفة، أو مثل توسع رقعة مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت الشباب على أوساط وأفكار جديدة ضمن أفق معولم وحر.
فما هي معالم هذه الأزمة؟ وأين يتجه التدين الشبابي اليوم؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في هذا المقال كنظرة لواقع التدين الشابي من الداخل.
التدين الشبابي باعتباره نزوعاً نحو التدين الفردي
من بين مختلف قضايا الشأن الديني التي لاقت اهتماما كبيرا من الباحثين والمفكرين، لم يحظ سؤال التدين بالاهتمام والبحث الكافي، مما جعله مساحة ضبابية تقف عاجزة في مهب التغيرات المعاصرة، وذلك بالرغم من كونه سؤالا معاشا وأكثر اتصالا باليومي، وبات مؤرقا لكثير من جيل الشباب.
لذا لا بد من تسليط الضوء على هذا السؤال ومحاولة تشخيصه من الداخل. وأول ما نبدأ به هو الوجهة التي يأخذها موضوع الدين، فالتغيرات المعاصرة التي تحدث على مستوى التدين الشبابي، تتجه نحو ما يمكن أن نسميه بالـ”التدين الفردي”. وسبب اتجاهه نحو ذلك هو وجود أزمة تدين يواجهها الشباب في علاقتهم مع الحالة الدينية العامة.
وهو يتصف بالفردية لعدة أسباب منها:
• أنه يتشكل بالاستقلال عن أنماط التدين السائدة الجماعية، كالسلفية والحركية والصوفية التقليدية، وذلك بحكم قصورها وترهلها، وهو ما سيأتي تفصيله في المقال.
• كما أنه يسعى إلى الاستقلال عن التدين الاجتماعي الموروث عن العائلة، ويعمل على مسائلة القيم والعادات الاجتماعية باستمرار عن طريق البحث عن إجابات أكثر استقلالية وأكثر تلبية لحاجات فردانية.
• بالإضافة أنه يُعلن عن أزمة ثقة بمؤسسة العلماء التقليدية، في مقابل اتجاهه نحو أشكال أخرى من المعرفة عن طريق التفاعل مع الانتاج المعرفي الغربي أو إعادة تأويل بعض أنماط تراثية في الفلسفة والتصوف وغير ذلك.
من الضروري فهم الأسباب والسياقات التي تدفع الشباب نحو هذه التغيرات والأسئلة، والتي لا يمكن فصلها عن بروز حالات إلحادية، بحكم تقاطع أسئلة الملحد مع أسئلة التدين الفردي، وبحكم أن كثير من حالات الإلحاد ناتجة بسبب أو لآخر عن أزمة التدين، ويكفي المرور على بعض أسئلة الملحدين وعلى مواضع اعتراضهم على الدين لتجد أنها تشير إلى بعض القضايا المرتبطة بالتدين لا بالدين ذاته، مع عدم إنكارنا لوجود أسئلة أخرى متعلقة بالدين ذاته. ولا بدّ من التنبيه هنا إلى أن وصف هذه الظاهرة بالإلحاد فيه عدم دقة، فكثير من المواقف هي مواقف تشكّكٍ وطلب للدليل ورفض للتسليم الديني بلا برهان.
لكن الفارق الرئيسي أن التدين الفردي يتعامل مع الإسلام كأفق مفتوح، وبرحابة أكبر من المتصلبين؛ متدينين كانوا أم ملحدين. وفتح النقاش حول هذه القضايا سيحل كثيراً من ردود الفعل السلبية اتجاه الدين والتدين.
محاولة لتشخيص أزمة أنماط التدين السائدة
بالرغم من ارتباط مسألة التجديد الديني بقضايا النهضة والتغيير، واتخاذ المفكرين لهذا الموضوع كمدخل لتشخيص الأوضاع المتردية للأمة؛ إلا أن جزءاً كبيراً من سؤال التجديد يبقى شخصياً ومتعلقاً بالتدين نفسه.
وسبب بروز سؤال التجديد كهاجس شخصي هو كونه يكتسب قيمته من حيث كونه سؤالاً يشغل كل من يشعر بمشكلة في أنماط التدين السائدة، ويدرك أن هذه الأنماط وما يرفدها من خطاب ديني لا توفي هاجسه الفردي نحو البحث عن نمط جديد من التدين يلبي كل من الهم الواقعي والشوق الروحي للإنسان.
وتزداد هذه المشكلة مع الالتباس الموجود في علاقتنا مع نمط الحياة الحديث الذي يتسم بالعقلانية والفردانية، وما يؤديه من جفاف روحي إذا ما استغرق أحدهم في أبعاده المادية، خاصة وأن العالم الإسلامي لم يحدد بعد موقعه من الحداثة.
فعندما يبحث الشباب في أنماط التدين التي يفترض أن تلبي الحاجة الروحية والواقعية، فسيجدها تتأرجح بين نمط سلفي يراه الشباب مفرطاً في حرفيته، لا يعطي اﻷبعاد القيمية والعقلية الدينية حقها، ويحول الممارسة الدينية إلى ممارسة فقهية، وفي نفس الوقت فإنه لا يعيش الإشكالات المعاصرة بقدر ما يغوص في السجالات القديمة، ويراه الشباب الذي يملك هماً واقعياً باعتباره يتخذ موقفاً انسحابياً من الواقع الاجتماعي والسياسي.
هنا يمكن فهم أحد أبعاد إقبال الشباب على خطاب عدنان إبراهيم مثلاً، الذي نظر إليه الكثير منهم باعتباره يقدم خطاباً عقلانياً اتجاه القضايا التي يقدم فيها الخطاب السلفي صياغة حروفية ونصوصية، مع إضفائه أبعاداً إنسانية وكونية عند حديثه عن الآخر غير المسلم أو الشيعي وغير ذلك، نقول ذلك ونحن مدركين لمواضع النقد الموجهة لخطابه وغير مشككين في كونه يستحق ذاك النقد.
وهناك النمط الصوفي التقليدي السائد، الذي يراه الكثير من الشباب غير ملبياً للحاجة الروحية ولشعورهم بالاستقلال الذاتي فقد يقبل عليه الفرد، ومع واقع التغيرات الاجتماعية والسياسية، صار الشباب يدرك أن الاستغراق في هذا النمط قد يؤدي الى الانسحاب عن الواقع، وربما تبرير بؤس الواقع السياسي (هناك استثناءات قليلة لكل ذلك).
وهنا يمكن فهم أحد أسباب الحظوة التي أخذتها رواية قواعد العشق الأربعون، فهي تقدم التصوف بقالب يأخذ بالأبعاد الذاتية والفردانية، وتتجاوز الأشكال الصلبة للتدين، بالرغم من أن ما قدمته كاتبة الرواية يجرد التصوف عن صبغته الدينية بشكل كامل، وبالتالي لا أعتقد أنها تشكل نموذجاً جيداً لإعادة إحياء التصوف.
وأخيراً النمط الحركي (الأيديولوجي) الذي بات يعيش اليوم أزمات كبيرة مع انغلاق الأفق السياسي في العالم العربي، وبحكم اشكالاته الداخلية أيضا، وهو ما تمثل في تجربة جماعة الإخوان، التي تمر اليوم في أزمة تاريخية تتطلب مراجعات وتغيرات على مستوى الفكر والحركة.
وهنا تأتي مُختلف المراجعات والانشقاقات والتيارات الشبابية المختلفة التي تُسائل وضع الجماعة وتفكر في آفاق جديدة لها، والتفصيل فيها يصعب لاتساع الموضوع.
ومن باب ترتيب ما سبق، يمكن القول إن إشكال التدين يبرز في ثلاثة مستويات: الهم الواقعي (أي الجانب الاجتماعي والسياسي)، شروط نمط الحياة الحديث، والظمأ الروحي لإنسان اليوم.
وأعتقد أن التفكير في موضوع التدين قد بات أمراً ملحاً، خاصة مع غياب حواضن دينية تحوي هذا الجيل من الشباب الذي يتطلع إلى تدين جديد، وخاصة مع إمكانية وجود الزلل في مثل هذه المراحل الانتقالية، واتساع رقعة هذا السؤال مع تمدد رقعة مواقع التواصل الاجتماعي.