التشيُّع: التطور من فكرةٍ سياسيةٍ إلى فرقةٍ دينيّةٍ

1٬000

استُكتبتُ لتوضيح مسألة التشيّع بنبذةٍ مختصرةٍ، وهو موضوع متشعّب لا ينجو كاتبه من اللّوم من كلّ الأطراف. فسأبذل جهدي مبتغياً توضيح السياق التاريخي لا تحليل المواقف السياسية المعاصرة.

الشيعة الإمامية الإثنا عشرية
التشيّع تطوّر تاريخياً، وما هو عليه اليوم الشيعة الإمامية الإثنا عشرية ليس هو التشيّع التاريخي في كلّ مراحله.

التشيّع بدأ فكرةً سياسية تتعلّق بمن هو الأولى بالقيادة بعد وفاة الرسول (ص)، والميل إلى أنّ الأولى بها –بداهة– هم أقرباء النبي (فكرة العباس وعلي). وهناك من رأى أنّ الأولى بها –بداهة– هم الأنصار سكان المدينة (فكرة سعد بن عبادة). وهناك من رأى أنّ الأولى بها –بداهة– السابقون في الإسلام (فكرة أبو بكر). ولم يدعُ ذلك إلى الشقاق، وإنما ارتضت الغالبيّة الساحقة من الصحابة ولاية أبي بكر، وكان عليّ من أبرز المستشارين الداعمين لحُكم أبي بكر ثمّ عمر.

ثم صار التشيّع توجهاً سياسياً عُرف بالهاشميين (وفيه فصيلان، العبّاسيون نسبة للعبّاس، والعلويون نسبة إلى علي بن أبي طالب) رفع لواء أهل البيت ويعارض السلطة الأموية (ولا علاقة لهذا الاسم بما يسمى علويين في سورية وتركيا اليوم).

وعندما استطاع العبّاسيون الوصول إلى السلطة، تعقبوا بقية من كان معهم في حركة الهاشميين ولم يشركوهم في الحكم. فتطوّرت الفكرة السياسية الشيعيّة من أحقيّة آل البيت الهاشميين إلى أحقيّة آل البيت الذين هم من سلالة عليّ. وأصبح التشيّع في هذه الفترة شبيه حركة سياسية انقلابية ثائرة على السلطات.

ومع تقلّب الزمان وتواري الحركة الشيعية وسرّيتها في وجه ملاحقة السلطات، تطّور مفهوم الإمامة وبدأت تدخل فيه عناصر من الثقافات غير الإسلامية، فتحوّل التوجّه الشيعي الإمامي من توجه سياسيٍّ له مستند ديني إلى فرقة لها أسسها الفكرية وتأقلماتها الاجتماعية الخاصة. وكانت العناصر الوافدة على التشيّع خليطاً من الإرث الثقافي الفارسي واليوناني وغيرهما، واختلف تموضع هذه العناصر بحسب الفرق. فالخطّ الأساسي للشيعة حافظ على أسس العقائد الإسلامية من التوحيد ونبوّة محمد (ص) وكون القرآن الكتاب المنزل والتصديق بالحساب في الآخرة… ولكن جعل الإمامة جزءاً من عقيدة المسلم من حيث وجوب معرفة كل مكلّفٍ إمام زمانه وطاعة ذلك الإمام المعصوم المنحدر من نسل عليّ بن أبي طالب وفاطمة. وتوقّفت السلسلة باختفاء أو غيبة الإمام الثاني عشر المهديّ (260 هـ)، وهو ابن الإمام الحسن العسكريّ؛ فسمّوا بالإماميّة الإثني عشرية.

وهكذا قام التوجّه الشيعيّ بإضفاء قدسيّة دينيّة على العادات العربية التي تُكْبِر من شأن النّسب وتتفاخر به، وأوّلوا الآيات والأحاديث التي تذكر لتخدم مسلّمات مذهبهم، واعتبروا فرقتهم هي الممثّلة لطهارة آل البيت النبويّ. وأسبغ المذهب العصمة على الأئمة حتى صارت أقوالهم وكأنها أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم اختلطتْ في أقوال الشيعة، المتأخرين منهم خصوصاً، شطحاتٌ عجيبة وروايات تاريخية خوارقية ومفاهيم حلوليّة من الأديان القديمة. وابتعدت الكتلة الشيعية عن جسم الأمة، وتملّكتها عقدة انتظار المهديّ، وتبلورت شخصيتها على المرارة والرفض الكامل لما هو خارج الطائفة، وتشكّلت ثقافة دينية شعبية مثقلة بالروايات الخرافية التي تؤكد المظلوميّة، وزوِّجت هذه الثقافة بطقوسٍ تمارَس في الحسينيّات نمطاً يزيد في الانغلاق ويبرّره ويسبغه بغيبيّات فُرَقية. ودخل بعض هذا التراث الشعبي أمّهات كتب الشيعة، مما يعتدي على أصول المذهب ويبتعد عن مقتضى العقل.

ومرّت العصور حتى جاء الصفويّون (وأصلهم أتراك شافعيّون من أذربيجان) فتبنوا مقولات باطنية ومن التصوف الفلسفي، وتشيّعوا سياسةً وأكرهوا الناس عليه، ولم تكن إيران يومها شيعية. وكما وظَّف العثمانيون التصوّف لتثبيت حُكمهم، زوّج الصفويون التشيّع ببُعدٍ فارسيّ ليثبّتوا حكمهم. والعهد الصفويّ (1501-1722) هو الذي شهد اختراع كثيرٍ من العادات والشعائر الشيعية وأضافوا إلى ما كان قد أدخله البويهيون من عادات، مثل عادات إحياء ذكرى الموتى من آل البيت، كما استحكمت الأساطير والخرافات وتمّ الانفكاك عن الأمة. وأصبح التشيّع الإيرانيّ من ذاك العهد متماهٍ مع الشخصية القومية الفارسية. ولا ينفكّ هذا الشعور عن زهوٍ بتاريخ الحضارة الفارسية، وفيه تعالٍ على الآخر وخصوصاً العرب. وإذ لا مراء بأنّ كثيراً من العلماء البارزين في التاريخ المسلم كانوا من بلاد فارس، غير أنّ هذا لا يبرّر التعالي إلى درجة اعتقاد أنّ الدعوة الإسلامية وخطابها الذي كان بعهدة العرب بقي سطحياً إلى أنّ اكتسب العمق بسبب مساهمات فارسية. وتظهر النزعة القوميّة الإيرانية اليوم في التحيّز ضد العرب الشيعة في منطقة الأحواز شمالي غرب إيران.

وإذ يرجع تبلور الشخصية الشيعية-الفارسية في إيران إلى عهد الصفويين، فإنّ الفترة القاجارية (1779-1925) التي تبعت المرحلة الصفوية وسبقت مرحلة الأسرة البهلوية (1925-1979) كانت فترة حاسمة في تسيس العلماء الشيعة. فلقد تميّزت هذه الفترة بالضعف المركزي للإدارة السياسية في إيران، ففسحت المجال للمشايخ والعلماء بتعلّم طرق السياسة والمشاركة في النشاط السياسي خلاف ما كانوا عليه في أغلب المراحل التاريخية من الانعزال والسكون والبُعد عن الثورة والاحتجاج.

والخلاصة، التشيّع تطور من رؤيةٍ سياسية حول أفضلية الحكم إلى حركةٍ رافضةٍ للسلطة القائمة إلى فرقة دينية تسرّبت إليها عناصر غريبة جرى إلباسها لباس الإسلام وشاراتِه في ظروف تاريخية متعددة. ولذلك، عند الحديث عن التشيّع ينبغي أن يكون واضحاً أيّ تشيّع نتكلّم عنه، القديم أم ما آل إليه الأمر بعد الصفويين؛ وهل هو التشيّع الشعبي الرائج، أم هو التشيّع العلمائي التقليدي الموجود في الكتب والذي تحتضنه الحوزات، أم هو التشيّع الفكريّ التجديديّ.

ميول تاريخية
ويحسن التنبيه إلى نوعين من الميل تجاه آل البيت في تاريخنا، يختلطان اليوم على بعض الناس فيحسبونه تشيّعاً بمعناه المتبلور اليوم، وهو ليس بذلك. الميل الأول هو ميل سياسيّ ضاق ذرعاً بمركز الخلافة الذي ترهّل ولم يعُد فاعلاً وبتجاوزات الحكام وتراكم المظالم. الميل الثاني هو ميل عاطفي بحت من باب حبّ آل البيت وذريّة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وضمن المفهوم الأول، كان في حركات الطولونيين والأدارسة والغزنويين والمرابطين والموحّدين نزعة إصلاحٍ سياسي، فيختلط الأمر على البعض فيحسبونه تشيّعاً بالمعنى الإمامي الاثنا عشري الذي تطوّر لاحقاً. وحتى الحمدانيون الذين كانوا شيعة اثني عشرية خدموا الخلافة العباسية بنوع من التعاقد الدفاعي.

ثانياً، ضمن المفهوم العاطفي يمكن أن يُذكر أنّ ابن خلدون يُعلي من شأن آل البيت، مع أنه شيخ التفسير الموضوعيّ اللامذهبيّ لظاهرة الـمُلك وأنها كانت شيئاً طبيعياً باعتبار حاجة السياسة للاستقرار والتمكّن؛ أي أنّ ابن خلدون المتعاطف مع آل البيت –من المنظور القرآني {المودة في القربى}– هو الذي يفسّر ظاهرة الملك بنظرية علمية بعيدة عن الغيبيات. ويمكن أن نذكر أيضاً الشافعيّ الذي في ردّه على اتّهام المتعصّبين من السنّة (الناصبة أو النواصب) أنشد بيت شعره المشهور: إن كان رفضاً حبُّ آل محمدٍ *** فلْيشهد الثقلان أني رافضيّ. وبيته هذا جزء من أبياتٍ في سياق مشاعر الحج. ومرة ثانية، التشيّع المبكّر لم يكن هو التشيّع الذي نعرفه اليوم؛ فعبد الملك بن مروان –الأمويّ القحّ– تزوّج سُكَيْنَة بنت الحسين بن عليّ، والإمام جعفر الصادق (الشيعيّ) هو حفيد حفيد عليّ بن أبي طالب وهو ابن حفيدة أبي بكرٍ الصدّيق أُم فَرْوَة؛ والإمام جعفر هو شيخ أبي حنيفة. وكان الحسين من قبلُ قد سمّى ابنيه باسم عمر وعمر الأشرف، وسمّى موسى بن جعفر الكاظم –الإمام السابع عند الشيعة الإثنا عشرية– ابنيه باسم أبو بكر وعمر وابنته باسم عائشة.

المذهب الزيديّ
وإتماماً للموضوع نذكر أنّ هناك مذهب شيعي آخر تميّز بأنه حافظ على نقاء مصادره الفلسفية، ويُعرف بالزيديّة. والمذهب الزيديّ فارق الخطّ الذي تطوّر فيما بعد إلى الإمامية الاثنا عشرية عندما اعتُبر زيد بن زين العابدين هو الإمام وليس أخاه محمد الباقر، وذلك بعد موت أبوهما سنة 122 هـ. وبرغم أنّ الزيدية كانت أشدّ في مقاومتها للحكم الأمويّ، هي من الناحية الفكرية العقدية أقرب إلى مذهب السنة. المذهب الزيديّ يقول بتفضيل إمامة عليٍّ ونسله، ولكن لم يُدخل في صفة الإمام أبعاداً غيبية أو امتلاكه معرفة قدسية أو كونه وسيطاً بين البشر والربّ كما نجد عند الشيعة الاثنا عشرية. وفي النظرية السياسية الزيدية يمكن لأي رجل من نسل عليّ أن يكون إماماً، ويمكن أن يوجد أكثر من إمام في زمن واحد أو لا يوجد أحد، وأحقّية إمامته هي الغلبة السياسية والعلم. ولذا يعترف المذهب الزيديّ بخلافة أبي بكر وعمر، وعلماء المذهب مختلفون في عثمان فمنهم من يعترف به كخليفة في العام الأول من سلطته. ولقد تأثر المذهب الزيديّ بالمعتزلة، ومذهبهم الفقهي الزيديّ قريب من مذاهب السنة (وكذا هناك تشارك بين المذاهب الفقهية للسنة والمذهب الجعفري للاثني عشرية)؛ والزيدية لا يقولون بزواج المتعة. وكان أن تشكّلت للزيدية دولة بين أقوام الديلم قرب البحر القزويني بين 250 هـ و 520 هـ مع انقطاعات في استمرارها. ويشكل الزيدية اليوم قسم كبير من سكان اليمن، وكان قد أسس مملكتهم الإمام يحيى بن حسين الراسيّ في صعدة في أول الأمر ثم صنعاء، وامتد حكم هذه السلالة منذ القرن الرابع الهجري مع انقطاعات كثيرة تخللها حروب، وانتهى أمرهم في العصر الحديث في ثورة الجيش سنة 1962 وتأسيس الجمهورية العربية اليمنية.

فهذا هو حظّ الإسلام من الفرق الرئيسة التي اعتصمت بأساسيات الاعتقاد من التوحيد وختم النبوة وكون القرآن الكتاب الخاتم والإيمان بالبعث والحساب وإقامة الشعائر وتحكيم الشريعة…، بغضّ النظر عمّا داخل المذهب من شوائب؛ ولذلك نجد الأشعري الذي يُعتبر أكبر منظّري عقيدة ما يسمى “أهل السنّة والجماعة” يقول: لا نكفّر أحداً من أهل القبلة.

فرق الغلاة
ومقابل خطيّ التشيع اشتطّت فرقٌ وحوّرت مفاهيم الإسلام الأساسية، ويُطلق عليهم اسم “الغلاة” ووصف “الباطنية”؛ وتوجههم مرفوض من علماء السنّة وعلماء الشيعة؛ وإن تألّف التشيّع أحياناً بعض الفرق وخاصة الإسماعيلية. والغلاة بشكل عام يؤمنون بحلولٍ قدسيٍ كامل في أئمتهم، ويمارون في قضية النبوة وختمها وكثيراً ما ادعى أئمتهم النبوة أو الألوهية، ولا يقولون بالبعث والحساب، ولا يقرّون بالشريعة، ولا يؤمنون بأنّ القرآن موحى وأنه خاتم الرسالات أو يقولون أنّ للقرآن والنصوص معنى ظاهراً وآخر باطناً (مثلاً يدا أبي لهب في الآية هما أبو بكر وعمر، والبقرة في قوله تعالى يأمركم أن تذبحوا بقرة هي عائشة)، إلى جانب استحضار كمٍّ هائل من الخرافات وعناصر من العقائد اليونانية الغنوصيّة والهندية الحلوليّة.

فرق الغلاة في تاريخ المسلمين تشكّلت بعد أزمة تحديد الإمام السابع للشيعة الإمامية بعد وفاة جعفر الصادق (ت 148 هـ)، والتشيّع كان لم يزل يومها سياسياً. ففي منتصف القرن الهجري الثاني افترق خطّ الشيعة (الاثني عشرية) عن خطّ الغلاة الذي تبنّى فلسفات عرفانيّة. وانحدرت من هذا الخطّ الثاني فرق الاسماعيليّة، وكذلك النصيريّة (حوالي 260 هـ) والدّروز (حوالي 412 هـ).

وفي الفترة الحديثة، ظهرت الأحمديّة (1889 م) بين صفوف السنّة (في فترة الاحتلال الانكليزي للهند)، وأدخلت في عقائدها وممارساتها عناصر غريبة عن الإسلام. والأحمديّة تنقسم إلى قسمين، اللاهوريّة التي تواري في فكرة ختم النبوة و القاديانيّة الأكثر تطرّفاً وهي التي قالت بألوهية غلام أحمد. وفي إيران رعى الإنكليز ظهور البهائية (1844 م) التي أحيت الانحرافات العقديّة لفرق الغلاة.

أما الخوارج الذي ظهروا في باكورة تاريخ المسلمين فيمثّلون فرقة متطرّفة سياسياً، واعتدل توجّههم على يد الإباضية.

ملاحظات جديرة بالانتباه
أولاً: ليس هناك خلاف جوهري بين السنّة و الشيعة في رفضهم للظلم والاستـئثار السياسي الذي حدث في تاريخ الأمة، وإنما الخلاف في ما أضافت الفرق الشيعية من أفكار واعتقادات وممارسات، وما تسرّب إلى المذهب من خرافات أصبحت جزءاً من شخصيته برغم اهتمام الشيعة بالعلوم العقلية.
ثانياً: سلوك الحكومات الشيعيّة لما وصلت إلى سدّة الحكم لم يختلف كثيراً عن سلوك حكومات السنّة من ناحية الاستئثار ومن ناحية تداول الحكم ضمن دائرة توريثيّة صغيرة.
ثالثاً: شعور الاضطهاد والمظلوميّة التاريخيّة متضخّم عند الشيعة، فيقودهم إلى التمحور الطائفي وتقديم المصالح الضيّقة للطائفة على المصلحة العامّة للأمة. كما أنّ وضعهم كأقليّة يدفعهم أحياناً إلى انتهازية سياسية تبتعد عن القيم.
رابعاً: هناك فروق بين التشيّع العربي والتشيّع الفارسي، ويقتربان أحياناً ويبتعدان أحياناً أخرى تبعاً للظروف السياسية ولتوافر المرجعيّات. فالشيعيّ عليه دوماً اتباع اجتهادات (مرجع)، ونشهد هذه الأيام ذبول المرجعيات الشيعية العربية، ولا سيما بعد وفاة محمد حسين فضل الله اللبنانيّ، فبقي المرجعان الأساسيان الخامنئي الإيرانيّ والسستانيّ العراقيّ إيرانيّ الأصل.
خامساً: هناك محاولاتٌ مستمرّة بين الشيعة لتجديد المذهب وللتخلّص مما دخل عليه من انحرافات، جهود من قِبل أئمة مجدّدين أو من قِبل مفكّرين (مثل علي شريعتي)، همّهم تحويل نمطيّة التشيّع المعاصر إلى ما يرونه أصل المذهب وكونه فكرة سياسية تغييريّة يتبوّأ فيها عليّ والحسين رمزاً ثورياً. ولكن عجزت هذه المحاولات أن تؤسّس نفسها تياراً عريضاً مقبولاً شعبياً.
سادساً: ليست الفكرة الشيعية السياسية فقط هي التي تطوّرت وانحرفت، وإنما أيضاً الفكرة السياسية السنّية. ففي حين ابتدأت الفكرة الإسلامية لشرعيّة الحاكم بـ “أطيعوني ما أطعت الله فيكم…” تحوّلت إلى مفهوم السلطان الذي هو “ظلّ الله في الأرض”؛ غير أنّ هذا الابتعاد عن الأصل بقي محصوراً في النظرية السياسية أو في الممارسة السياسية السنيّة فحسب، ولم يتشكّل على أنه من أركان مذهب السنّة أو من سماته العقديّة. ويقال أحياناً أنّ مبالغة السنّة في توقير الصحابة ساوى القول بعصمة الأئمة. غير أنّ الفرق بينهما فرق نوعيّ، إذ لم يختلط التوقير بمفاهيم الحلول كما هو الحال في التشيّع. الخطأ العلمي الذي يقع فيه الخطاب السنيّ هو رخاوة تعريف الصحابي، ولكن التعامل العملي السنّي مع الصحابة كان مستصحباً لمراتبهم. وكذلك دخلت الخرافات في كتابات السنة، ولكن بقي أكثرها محصوراً في كتب المتصوّفة ولم يصبح جزءاً مكوّناً للمذهب برغم انتشارها بين العامّة.
سابعاً: الخلط بين الشيعة و النصيرية واعتبارهما فرقة واحدة أو مذهباً واحداً، وهذا أمر غير صحيحٍ علميّاً من الناحية التاريخية ومن ناحية مضمون المذهب. إلا أنه في العقود الأخيرة، لأسباب سياسية، حدث تقارب بين الشيعة ونصيريّي سورية (الذين أُطلق عليهم حديثاً اسم العلويين). ووجد الشيعةُ في التقارب السياسيّ فرصةً للتبشير ولاجتذاب العلويين وتشييعهم بالتدريج، ووجد بعض العلويين في المظلّة الشيعيّة لافتة مناسبة لغرضهم، ووجد جزء صغير جداً منهم في ذلك مخرجاً لهم من الهامشيّة الدينيّة.

وختاماً أقول، إنّ تبين أوجه الخلاف وتطوّر المذاهب لا يعني الدعوة إلى تأجيج الخلاف أو الانغماس فيه، وإنما توضيح الفكرة وتجاوز الجدل إلى العمل الواعي؛ وفهم مكامن الخلاف هو الذي يفسح فهم مكامن اللقاء. كما أنّ ذلك لا يعني الدعوة إلى أدلجة الصراع السياسي، وإنما فهم موضع الإديولوجيا من هذا الصراع.

والله من وراء القصد…

21-05-1433 هـ / 13/4/2012 م