التفسير الثقافي للعُلُوّ العبراني

443

لا يمكن لأمة أن تنهض من غير اعتبارٍ لجذرها الثقافي يوجّه أعمال أبنائها، ومن غير مؤسسات تحوّل الرؤية الثقافية إلى واقع حياة يتحرك. وكثيراً ما يُفسر نجاح قوم بالنجاح الاقتصادي أو السياسي، وفي أحيان أخرى يُعزى التفوق إلى الثقافة بمفردها التي تعمل بشكل أشبه بالسحر. الذي أُريد الإشارة إليه في هذه الخاطرة هو أن سرّ النجاح إنما يكمن بالتحديد في مدى الانسجام بين الرؤية الثقافية والظروف الموضوعية. وكذا فإن الفشل يُفسر أحسن تفسير بالتناقض والتضارب بين الهيكلية والمخيّلة الثقافية. فتأمّل كيف أن هناك من الأقوام من يمتلكون كل عناصر المادة ولكن لا يظهرون. أما الذي يمتلك رؤية ثقافية قادرة وافتقد الشروط البنيوية، فيبقى مخياله الثقافي كموناً مستقبلياً.

ووفق هذا فإنه يمكننا تفسير العُلو العبراني المعاصر بأنه تحقّق لهم تطابق كبير جداً بين نمطهم الثقافي وبين نمط الحداثة وما بعد الحداثة.

فعلى سبيل المثال، مَن هو أقدر على الاستفادة من العولمة ممن يعيش حال العولمة فعلاً.  وإذا تكلمنا بالذات عن التنقل وإمكانية التغيير السريع للمواقع والذي يصبغ فعاليات العصر الحديث، فإنه كان بالضبط الواقع المعيشي للمجتمع اليهودي في التاريخ. إن من أهم ما يميّز العصر العولمي هو وجود شبكات تواصل عبر مختلف البلاد والأصقاع، ولا بدّ لمن سبق وحاز على هذه الشبكات وتأقلم من مقتضياتها أن يستطيع اليوم الاستفادة منها أكبر الاستفادة.

وإذا انتقلنا إلى سيرورة المؤسسات وحاولنا التنقيب عن منطقها الدفين وروحها المغروسة، تبيّن لنا التوافق العجيب بين النمط الثقافي العبراني وبين مؤسسات اليوم الحديثة. ولنأخذ على سبيل المثال وجهة القانون الحديث وربط العدالة بالإجرائيات وليس بمآل الأمور. كيف يمكن أن يفوت الدارس أن في هذا منـزع عبراني يُعيد تجربة الحيتان تأتي شُرَّعاً. وخذ مثلاً كيف يُبرأ المجرم في الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة محامٍ يُتقن اللعب باستراتيجيات إجرائية تبتعد كل البعد عن رغبة الوصول إلى الحق حسب الإمكان. ومثل ذلك فإن البريء يمكن أن يجرَّم من خلال التلاعب بالإجرائيات ومحاصرة طاهرِ النيّة بشكوكٍ استراتيجية تُحرِّك آلية قانونية بشكل أعمى، آلية ليس لها مرجعية إلا التفاصيل القانونية ذاتها في نمط المجادلة عن تفاصيل البقرة ولونها.

أما النظام المالي فهو على انسجام مع النمط الثقافي العبراني بشكل كامل الوضوح، والنظام الاقتصادي المعاصر يتمحور حول آليات الربا بشكلٍ فظيعٍ ومركّب لا ينجو منه حتى الذي يختار لنفسه العيش في كهفٍ بعيد عن الناس.  لقد أصبح الربا المحرّك المجنون أو الفيروس الإلكتروني الذي يصيب الآلة غصباً ثم يحوّلها إلى أداة اعتداءٍ وتدمير.  ونموذج الربا يتجاوز مفهومه المباشر من زيادة المال، إذ أنه يشكّل نموذجاً يودع القيمة في التبادل وليس في ذات الأشياء، فالنمو ‑أي الزيادة الربوية هنا‑ هدف أصلي بحد ذاته. ولا يُستغرب إذاً أنه يُتاجَر اليوم بكل شيء، تجارة مقطوعة عن مفهوم سدِّ الحوائج وتبادل المنافع، حيث تُجنى الأرباح اليوم من التجارة بالإنسان والأوهام. وترتفع أسعار البورصات وتهبط لتوقعات ربح وخسارة، توقعات ليس لها صلة بالواقع الحقيقي للشركة إلا خوار عجلٍ يرتفع أو ينخفض.  بل أصبح التحكّم والتلاعب بالأوهام والتوقعات سلعةّ بذاتها ومهنة بذاتها، مهنة تتسرب بين حروف القانون غير آبهة بروحه.

أما إذا انتقلنا إلى النظام الاجتماعي الحديث الذي يُروّج له على أنه قمة الحرّية والتقدم، فإنه يعكس نمط الثقافة العبراني بشكل عجيب. إنّ العقدة العبرانية التاريخية في العيش في قيد المجتمعات المغلقة لتظهر أي ظهور في اختيارهم العلائق الواهية التي لا تُشفع بالالتزام والتي لا ترعى ما لا يُرى فيها مصلحة نفوذٍ ومال. ونرى الليبرالية الحديثة اليوم وقد تمثّلت النمط العبراني وتتكلّم باسم نمطها الثقافي، تسعى بكل آلياتها لتحويل الناس إلى قطيع من الأفراد لا يربط بعضهم ببعض شيء غير رغبة التمتّع، وكأن أي رابط مجتمعي يُذكِّر بالعيش المنعزل في الـ(غيتو) الذي كان يفتقر فيه العبراني المرتبة الحسنة.

إن مجتمع الكتلة البشرية السادرة الذي تقلّ فيه الروابط وتضعف هو أجدى حال للتموضع في الخروق والقيام بعمليات السمسرة والإدانة الربوية، أما إذا كان هناك تكافل اجتماعي فيصعب استغلال لحظات الحاجة.

ولا بدّ أن تتحوّل الناس البشر إلى كتلٍ لحمية، إلى (عجل له خوار) إلى جسدٍ يتكلّم ظاهره، فيه حلية القوم وباطنه فارغ.  إن أجساد اليوم التي يحاك حولها لباس هي أجساد عجلية، لا جمال فيها ولا تعفّف، تُحوّل إلى مادةٍ وسطح برّاق مثل ذهب العجل. وجسد العجل البشري اليوم يوشم، وشعار الجامعات ‑رمز العلم وهيبته‑ يُنقش اليوم على قطعة من لباس الطالبة المعرّاة، وبالتحديد على قفا لباسها ومن ناحية الإليتين. إنها قمة العجلنة قمة البضعنة، وموضع الدبر هنا ليس مصادفة. إن الرمزية الدُبُرية التي تروجّها الأفلام والتقليعات ذات دلالات ثقافية بارزة، فالنسبية الأخلاقية شطبت أي معيارية يجتمع عليها البشر -غير الجنس والعنف واستهلاك اللذة- فبرزت السوأتان كمُعبّر صادق عن المشترك الإنساني في الرؤية المابعدحداثية. والتركيز على الدُبر بالتحديد يمحو أي توهّم للفرق بين الذكر والأنثى الذي يضيق به جنون ما بعد الحداثة، ويتأكد فيه معنى العبثية واللاهدف.

وتتمازج العناصر الثقافية يدعم بعضها، فقيمة الإنسان التي سُطِّحت إلى شعار على القفا… على النعل… على الجلد الموشوم… هي قيمة يستوي فيها الناس مساواةً سوقية لا تستند إلى قيمة أو مبدأ، مساواة سوائم تجري لغير هدف غير إعلاء خوارها من غير معنى غير التلذّذ باحتكاك الأجساد، لا يجمعها ولا يفرقها إلا وشم تقليعة تُطمئن التائه في الأرض أنه لا يتيه بمفرده.

وحين حُوِّل أحسن التقويم إلى جسدٍ منمّط أمكن بيعه وشراؤه ورهنه. وتدور دورة الربا لتقتطع من لحم الإنسان ما يفي دَيْنه من المال الذي اقترضه ليُعرّي الجسد ويَشِمَ الجلد ويوشر السنَّ ويفلج الحسن ويديّث الغيرة.  وهكذا صارت حداثتنا تبيع الرياضة والرياضيين والعهر و(فن) العهر، ثم يربط كل ذلك بسلسلة من نار القانون، وتُعنون باسم حقوق الفرد الإنسان ليستحقّ منكرها الخنق والتشهير.

إن عالم اليوم يسير وفق منطق ورؤية ومخيال الليبرالية التي اخترقتها اليهودية كما اخترقت المسيحية البروتستانتية. ولم يحدث ذلك في يوم وليلة وإنما استغرق ثلاثة أو أربعة قرون. وإنه لأمر بدهي أن تكون فرصة العلو أكبر لمن تنسجم أنماط حياتهم وأفكارهم وآمالهم ومخيّلاتهم وتوجهات إبداعهم مع المنطق الليبرالي السائد.  وساهم في ذلك غفلٌ من المسيحيين ويساهم فيه اليوم غفلٌ من المسلمين. 

وإنّ الإسلام هو الدّين الوحيد المرشّح لتقديم بديل متزن، فالتركيبة الكنسية للمسيحية القديمة تحرم من الإبداع، والعقيدة التثليثية تسمح للانفصامية بالتسرب، الأمر الذي ينتهي إلى فصل الدين عن الحياة وفصل القيم والمبادئ عن الواقع ومسراه. أما الأديان الأخرى فتقتصر على معالجة نواحي محددة من الحياة فحسب. الإسلام هو الدّين الوحيد الذي يمتلك الشمول والتوازن المستندين إلى رشد عقلي غير معُقلَن، لا يدّعي لنفسه الاستغناء عن الهداية الآتية من خارج حيّز البشر غير المادي، كما لا يدّعي أن الحقّ يتحقق بلا جهد البشر الراشد أنفسهم.

06/2006