الحركة الإسلامية والتحديث
أبدأ بحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على المرسلين ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإني زمار الحي يتاح لي أن أخاطبكم في كل حين وددت لو أني انزويت من هذا المسرح لأتركه لإخواني القادمين من البلاد العربية الشقيقة. والفضل الكبير لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم أن أتاح لنا هذا المعرض البشري وهذه المواهب الكريمة لنتصل بالشعب. فإننا لا نكاد نعهد من الإخوان العرب إلا الأشباح الدبلوماسية التي تؤثر الظلام وحفلات الكوكتيل على المنابر الشعبية والاتصال المباشر بالناس. ولا أريد أن أطيل الكلام وقد طال بكم المقام ولكني أريد أن أطرح رؤوس مسائل حول التحديث والتجديد والحركة الإسلامية.
الدين الثابت والتدين المتطور
ومن أول بداءة الدين التي يعرفها أهله وأولياؤه معنى الثبات، لأن الدين مرجعه إلى الله الأزلي الذي لا يحول، ولأن أصل الدين هو الوحي المعصوم الذي لا ينتسخ. ولكن ما لا يعهده الناس في أمر دينهم هو المعنى الآخر الذي يزاوج الثبات ويجاريه. ألا وهو التطور والتجديد. وفي هذا تذكرة لأولياء الدين الذين يغفلون إلا عن معنى الثبات والاستقرار في الدين ولأعداء الدين الذين يتوهمون في الدين طبيعة جمود ورجعية. والحق أن ظواهر الجمود والرجعية إنما تطرأ على الحادثات وكسب البشر ولا تطرأ على جوهر الدين، فهي تغشي صور التدين أو مواقف الناس من الدين. ويفيد هؤلاء وأولئك أن يلاحظوا أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد أسس الحياة كلها على معنى الزوجية وهكذا جعل أمر الدين دائراً بين الثبات والتطور. فلئن كان في الدين أصل ثابت فإن من الأمراض التي تلازم التدين الجنوح للجمود، ومن المعالجات التي يستدعيها التدين التجديد بعد التقليد والبعث بعد الجمود.
فالوجود الكوني كله حادثات تزول وتحول، والتدين هو محاولة لعبادة الله من خلال التفاعل مع تلك الحادثات. فلابد للمتدين إذن حتى يثبت مع المعنى الديني الأزلي ـ معنى عبادة الله ـ أن يتقلب مع هذه الحادثات، وأن يتطور حتى يضمن دائماً استقامة على القبلة والوجهة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليكون على صراط مستقيم مهما تقلّبت به ظروف الدهر وأحواله. أما إذا ثبت المرء على حالة واحدة من التدين فإن الدهر ـ بتقلبه ـ سيجرفه أو يقطعه عن وجه الله ـ سبحانه وتعالى ـ من حيث يحسب هو ويتوهم أنه ثابت على التوجه القديم. وذلك هو مغزى الطبيعة الابتلائية في الحياة الدنيا. فالله قد شاء أن يبتلينا بالتفاعل مع الكون، وقد كان لله ـ لو شاء ـ أن يبقينا في مسرح الجنة نعبده على وجه واحد مطلق ولكنه أنزلنا إلى الأرض وحياتها الدنيا وابتلانا بمختلف صروفها وظروفها. يمتحننا أحياناً على الصعيد الاجتماعي بالرخاء، ولكنه لا يديم علينا رخاءه وإنما يسلمنا إلى الشدة أحياناً أخرى لينظر كيف نعمل في كل حال {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}. ويمتحننا الله على الصعيد الحضاري بتحد يرد علينا من الخارج عدواناً وغزواً، كما يمتحننا بتحد يقع علينا من الداخل مرضاً وانخذالاً في وحدتنا أو نهضتنا. وعلى أي صعيد من الحياة تأملنا أطوار التاريخ رأيناها جميعاً أقدار ابتلاء يسلطها الله ويديرها علينا ولابد أن نتقلب معها ونتطور حتى نضمن في كل طور وفي كل دور أن نستقيم على معنى العبادة الثابت الذي يقربنا إلى الله زلفى.
ولكن المرء إذا جمد بكسبه وركن إلى حادثات الكون فإن الحياة ستحتويه وتطوح به فيغدو عبداً مسخراً دائراً مع ظروف الكون محجوباً عن رسالته الإنسانية في تسخير الكون نحو عبادة الله.
هذا هو معنى التزاوج والتجاوب اللازم بين المطلق والنسبي أو بين الثابت والمتطور في التدين. وهو معنى لابد أن يعيه كل متدين طوال حياته. ولربما يحسب المؤمن ـ حين يخوض ابتلاءً عظيماً بتوفيق الله ـ أن له بعد ذلك أن يرتاح ولكن الانتصار على الابتلاء ـ بذاته ـ يتحول إلى ابتلاء جديد يعرض المؤمن للغرور والقعود إلا أن يستمر وعيه بوجه الابتلاء المتجدد ويضطرد كسبه في الكدح والمكابدة ولذلك تأتي الآيات لتخاطب المؤمنين بأن يؤمنوا {يا أيها الذين آمنوا} يقول المرء: أما وقد آمنت ماذا يبقى لي إلا أن أثبت على إيماني؟ كلا! لا يكفيه ذلك ولا يشفيه فالآية تدعوه أن يحقق الايمان حيناً بعد حين وطوراً بعد طور. وقد يبلغ المرء طوراً بعيداً من التقوى ولكن الذين يدعون إلى أن يتقوا الله ثم يتقيه {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين}. هكذا يتقلبون في التقوى حيناً بعد حين ويغفر الله لهم ويرضى عنهم كل حين. وقد يحلو لإخواننا الصوفية أن يحسبوا ذلك كله مراتب ومقامات في الترقي. ولكن فيها ما هو مراق في المعراج إلى الله وما هو مراحل في الطريق إليه تعالى إذ هي تفاعلات مع ظروف الدهر فإذا استطاع المؤمن في كل هذه الجولات التي تدور عليه أن يثبت في كل مجال فإنه قمين باضطراد كسبه الثابت وتدينه المستمر تجاه التحديات المختلفة أن يترقى مرتبة بعد مرتبة ويتقرب إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ زلفى، وقد يكون حظ المرء من حياته دورات يوفق ثم يخيب ويتقدم ثم ينتكس أو قد يكون حظه كالفلك السائر مهما علت به أو هبطت موجات الحياة فهو سائر قدماً إلى الله سبحانه وتعالى زلفى.
عبرة في تتابع الرسالات السماوية
وهكذا كانت حركة الدين في التاريخ، شاء الله أن يبعث رسلاً ليحقق ذلك المعنى في كل بيئة معينة. فمنهم ـ مثلاً ـ رسول كشعيب ـ عليه السلام ـ قام بأمر الدين من خلال التفاعل مع مجتمع أشرك بالله فجرّه ذلك إلى صور من الظلم الاقتصادي وأكل أموال الناس وخسران الميزان ولكن شعيب فيما تصدى لتلك الظواهر الاقتصادية إنما أراد أن يحقق ما يقتضيه شرعاً أصل الاعتقاد الدين الثابت وهو معنى التعبد لله ـ سبحانه وتعالى ـ وتوحيده من بعد أن أشرك به الناس الهوى وابتغوا عن مرضاته عاجل المتاع الاقتصادي.
وجاء رسول من بعد شعيب يدعو إلى ذات الوحدانية الحقة من خلال مجاهدة الشرك السياسي الذي تجلى في نظام الحكم المصري حيث انتصب فرعون يتأله على الناس بسلطان مطلق ولا يعترف في الحاكمية بسواه. وكان موسى ـ عليه السلام ـ من خلال مكافحة الطاغوت السياسي يدعو إلى تحقيق ذات المعنى الذي تحراه كفاح شعيب ضد صورة أخرى من الباطل.
فالقيم الثابتة في رسالات الأنبياء واحدة ـ مهما تبدلت الشرائع أو تجددت ـ تمثل التعبير الأمثل عن تلك القيم عبر الأوضاع والظروف المتجددة. ذلك أن الشرائع هي أشكال الاستجابة المؤسسة على دين التوحيد في وجه التحديات تختلف في كل فتستتبع اختلافاً في شكل الاستجابة بما يناسب التحقيق الواقعي للدين في البيئة المعينة.
وحين قدر الله في مرحلة من تاريخ البشرية أن يبعث نبياً برسالة خاتمة هو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم لم يعن ذلك أن صورة التدين ستطبع بخاتم الجمود بل جاءت شريعته ـ وهي دليل التدين الإسلامي ـ تحمل قابلية التجديد في طبيعتها ونصها وأوصى رسولها علماء الأمة أن يكونوا لها كما كان أنبياء بني إسرائيل للشريعة الموسوية يجددون من صورها مرة بعد مرة حتى لا ينقطع المسير إلى الله بتحول الأوضاع والظروف المادية بعد عهد التنزيل.
وكذلك نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن معطيات التدين وأطره الظرفية تتحول وذلك حين سأله صاحبه حذيفة فحدثه أن أمر الدين لم يسكن أو يستقر على حال وأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقلّب الابتلاء على العباد ليستنبط الايمان ويمحّصه في صالحهم ويحقق القول على طالحهم فإذا اكتشف الناس وجه العبادة في ظروف الخير قلّب عليهم طوارئ شر ليبلوهم بوجه آخر من التدين.
وهكذا ينبئ الرسول الكريم صاحبه بأن الخير العميم الذي بسطه ظهور الإسلام الأول لن يدوم بكل صوره بل سيعقبه شر ينتهي إلى خير آخر لا يضاهي الخير الأول لأن فيه دخناً ثم تدور الدورة المتداركة لتؤدي إلى شر متفاقم. وعلى المؤمن أن يرتب موقفاً مناسباً من كل طور يوافيه. وما تستلزمه ظروف الخير المحض من موقف غير ما تقتضيه ظروف الخير الذي فيه دخن والموقف من الشر الأول قد لا ينجي إزاء الفتن التي يجلبها الشر الآخر.
ويحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبشرنا بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقيّض لهذه الأمة كلما بلى دينها وكلما سكنت إلى صورة من صور التدين ـ تدين الوجدان أو تدين الفكر أو تدين العمل فدهمتها تحديات جديدة ـ يقيّض لها قيادة جديدة تجدد أمر دينها بإحياء الوجدان المؤمن أو تنشيط الاجتهاد الفقهي أو إثارة النهضة المادية.
حركة التدين تلاحق أقدار الله المتقلبة
فالبلى والتجديد أو الجمود والنشاط دورة ملازمة لحركة التدين عبر التاريخ وأقدار تطورها التي يقلبها الله فهي إذن حركة دائبة تلاحق الحياة ولا يسكن نشاط التدين إلا تجاوزته الحياة وظهرت ثغرة بين مستوى كسب المتدينين ومقتضى تكاليف الدين الحق لا يستدركها إلا كسب جديد من الاجتهاد والجهاد يرقى بما انحط من التدين ويبلغ به ما يوافي التكاليف المتطورة ويستجيب لتحديات الابتلاء التي تطرحها الحياة الحادثة. وإذا قررنا أن حقائق الدين الجوهرية أزلية لا تزول جاز لنا من بعد أن نقدر أن كل وجه من وجوه التدين قابل للتطور وصائر إليه تبعاً لمصائر الحادثات من حركة الحياة. فالإسلام وهو أشكال الحياة التي يصوغ فيها المسلم معنى إسلام الوجه لله والاعتقاد وهو الوجوه التي يقبل بنا المؤمن على ربه متخذاً من مادة حياته ما يحقق به نحو الله التوحيد والحب والشكر والرجاء والخوف كل ذلك يتجدد من حيث تجدد أساليب تفاعل العقيدة مع الواقع المتجدد الذي ينصب للمؤمن كل حين عرضاً يكاد يوقعه في صورة إشراك غير التي تجاوزها أمس بتوحيده أو فتنة توشك أن تورطه في معصية غير تلك التي اجتبها قبل بطاعته فهو كل يوم بل كل لحظة في شأن جديد من الالتزام بالعقيدة والاعتصام بالشريعة.
وإذا لاحظنا كسب مجتمع مؤمن حي الإيمان من ذلك التجدد تجلت لنا أطواراً متميزة في أنماط التدين عبر تاريخ الواقع الاجتماعي الديني. وإذا نظرنا إلى تراث الأجيال المؤمنة من فقه العقيدة أو الشريعة أدركنا حاجة كل جيل وواجبه في الوفاء بما يحق عليه من ذلك في إطار واقعه الظرفي المعين لا يغني كسب موروث عن كسب جديد ولا يفدي جيل جيلاً من المسؤولية ولكل أمة خلت ما كسبت لنفسها وعليها ما اكتسبت وليس لها إلا ذلك ولا تسأل إلا عنه. وكل التدين مكلف به ومسؤول عنه أصالة لا وكالة ولا يورث كما يورث المال، على كل حظه المعين من التكاليف العامة وكسبه من التدين ونصيبه من المسؤولية المنوطة به يوم الحساب إذ التدين موقف عيني مؤسس على بيعة مخصوصة ومفض إلى حساب مخصوص. ولا يجدي الواحد من المسلمين فيما يليه من التدين الخاص دون الجماعة ولا الجيل منهم فيما يليهم من تدين معاصر دون سلفهم أو خلفهم أو يعول على تدين غيره.
والتفقه في الدين اجتهاداً والعمل في الدين جهاداً وجهان من التدين على كل فرد أو قرن من المسلمين فيهما تكليفه ومسؤوليته المعينة وليس له فيهما إلا ما سعى. فكلما تجدد القرن بظروف وواقع طريف لزم أن يتجدد الفقه والاجتهاد فيتطور العلم بإضافة جديدة وتحرر الكتب إثراءً للتراث المدون. ذلك أن الأقضية الجديدة تحدث كل يوم، تتولد في ثنايا الحياة وحركتها المتطورة وأسبابها وعلاقاتها وحاجاتها وأوضاعها المادية المتقلبة كذلك السعي العملي في الدين يلزم أن يتجدد مع تقدم الزمان جهاداً علينا كل حين تطرح تحديات متجددة تستلزم وجوهاً جديدة من المكابدة في عمل المفروضات ومقاومة المنكرات وإزاء أعداء الدين الذين يتعاقبون على أجيال المسلمين بوجوه متجددة ويتصدون لهم بطرائف من المجادلة والمقاتلة لا تتناهى صورها حتى يرث الله الأرض ومن عليها ويطوي بساط الابتلاء.
التاريخ الحضاري الإسلامي بين التقليد والتجديد
وتاريخ الإسلام من ثم سجل لهذه الحركة الدائبة من التدين. ولا قوام لا سلام بغير حركة تدين نشطة تحققه من مادة حركة الحياة فإذا جمدت حركة المسلمين ـ من حيث هم مسلمون ـ جمد إسلامهم وتشكل تاريخ حياتهم بطبيعة غير إسلامية. وإذا كان التجديد معنى ملازماً للحركة والحركة معنى ملازماً للإسلام فإن التجديد من ألزم مقتضيات دين الإسلام. وإذا تساءلنا عن مدى وفاء تاريخ المسلمين لشروط الصفة الواجبة فيه وهو أن يكون تاريخاً إسلامياً ومن ثم سجلاً لكسب متجدد من التدين يواكب تطور ظروف الزمن، وإذا سألنا عن كسبنا من واجب تجديد التدين وجدنا الأجيال الأولى من المسلمين قد نهضت بذلك الواجب ووفته حقه ثم خلفت خلوف ركنت إلى السكون والجمود إلا قليلاً وأورثتنا نمطاً من التدين سكوني جامد يفرّط في تسخير الظروف المتجددة لعبادة الله وإسلامها لوجهه وتتضاءل بذلك الطبيعة الدينية الحقة في حياتنا شيئاً فشيئاً إذ تتحرك الحياة بوجوه الفتنة والابتلاء ولا تواكبها وجوه تدين تفي بها وتتصدى لتحدياتها فتغلب علينا العناصر غير الإسلامية في اتجاهات حياتنا وينتهي تديننا إلى بقية من أصول الدين المحدودة المحاصرة.
ضعف العقيدة وجمود الفكر الإسلامي
وإذا كان الشأن في الإسلام أن يعمر الحياة بمعانيه ويغمرها بصوره وألا ينفك كذلك مواكباً لتطورها الموصول فقد أصبح نصيبنا من الإسلام تدين تقليدي متأخر عن تقدم حركة الحياة في الاعتقاد والفكر والعمل فقد نضبت في مواقفنا العقدية معاني التوكل والإقدام التي تدعو لاقتحام كل تحد جديد وتسخيره واتخاذه مادة لعبادة الله الواحد وأصبح آية أمرنا أن نحفظ بقية الدين لا نزيده ونجدده. ومع حركة الانحطاط المضطرد التي لازمتنا دهراً طويلاً أصبحنا نرى أرض الإسلام تنقص من أطرافها ومظاهره تتلاشى وخيره يتضاءل وتحيط به الشرور المقتحمة وكانت علة ذلك وعاقبته مواقف في العقيدة قنوعة غير طموحة تجنح للمحافظة وتخاف من الشر فلا تقتحم المخاطرات بل تؤثر الفرار والنجاة ولا ترى في ارتياد المخاطر إلا تهلكة ولا في الحركة إلا تردياً إلى الأرذل. والفكر الإسلامي الذي أنتجته هذه المواقف العقدية في عهود انحطاط فكر يدبر عن واقعه الحاضر ويتشبث بتراث الفكر الذي نشأ عن واقع سالف وذلك من فرط تعلقه بالماضي وارتيابه بالحاضر وخوفه من المستقبل. وحين يؤخذ فكر كان ثمرة تفاعل مع واقع معين مأخذاً مطلقاً وينقطع عن إطاره الواقعي يصبح تراثاً مجدداً تنسد طرق الاجتهاد فيه والتجديد، لأن التفاعل مع الواقع الحي هو الذي يعرّض الفكر لتحديات الظروف المتجددة كل يوم ويستفزه إلى أن يستجيب لها فيتجدد وينمو اضطراداً. وبغير هذه الصلة الحية تموت دواعي التجديد وعناصر الحركة والتوالد. وحينما ينزل ذلك الفكر عن تجريده فهو لا ينزل على واقع لينظّر في ضوئه النظام العام للحياة الإسلامية بل يتركب ويتفرع بناء على الاحتمالات والافتراضات ويتكثف بالتفصيلات الشكلية التي يتم بها نظام ظاهري لنهج الأحكام لا يرتبط بالتدين العملي الذي يؤسس على المقاصد والبواعث الحية لا على الصور وحدها والظواهر. وحين انقطع فكرنا عن الواقع ـ وهو مجال التدين الحي حرم من كل مدد يصله بأصول الحياة وغدا محفوظات نقلية منفصلة عن علوم الواقع الطبيعي والبشري التي تدركها الحواس ويعيها العقل. ولو كلفنا الله بحفظ العلم النقلي الشرعي الذي يحتوي الوحي المنزل من الله وسنة واقع الدين في عهد النبوة فقد كلفنا أيضاً بالتماس العلم الوضعي الواقعي وأنذرنا أننا مسؤولون عن كسب السمع والبصر والفؤاد. لكن الشقة قد تباعدت في تاريخ المسلمين بين هذين الشقين من العلوم الدينية والإسلامية وغدت كلمة العلم لا تكاد ترد إلا لتدل على علم نقلي لا يكاد يكون للعقل فيه نصيب. أما العلم الذي نكتسبه حساً وعقلاً من آيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ المبثوثة في صفحة الكون ـ بشره وأشيائه ـ فقد انفصل وتعطل. والشأن في شعبتي العلم أن يتحدا ويسخرا لعبادة الله. فإذا تباين العلمان لم يكن لأي منهما قوام وضل عن الوظائف التي يتوخاها فلا يتم فهم الوحي ولا تحقيق مقتضياته بغير علم حي عقلي ولا يهتدي علم عقلي بدون علم الوحي.
وبانقطاع العلم التقليدي عن التفاعل الحي مع الواقع الطبيعي تلاشت طبيعته الدينية الأصولية، لأن الدين هو التفاعل بأصول الدين مع ابتلاءات الحياة وظروفها، وحين ينحجب المسلمون عن حوافز الواقع وتحدياته تضعف دواعي العودة للأصول المسعفة لمتطلب الهدى ومهما يكن الترتيب الرسمي لأصول الفقه ـ الكتاب والسنة والاجتهاد ـ فإن المعمول به حقيقة لدى المجتمعات الإسلامية التقليدية هو الرجوع أولاً لأقوال أصحاب الحواشي والشروح من محرري الفقه ومدونيه ثم من خلال ذلك إلى آراء أئمة الاجتهاد ولا يتجاوز ذلك إلا قليل من العلماء في مواطن الخلاف لينظروا دليل كل رأي من السنة وقليلاً من بعد ما يرجعون إلى القرآن وفيه الإطار الحاكم للشريعة. وهكذا قلب الناس سلّم الاصول الإسلامية قلباً تاماً وتباعدوا عن الأصول بسبب تباعدهم عن مشكلات الواقعية واستغنائهم بالنقول النظرية وبذلك أصبح فكرنا معلقاً بين السماء والأرض انبّت عن منطلقاته في عالم الغيب وعن أهدافه في عالم الشهادة وانتهى بذلك إلى الجمود البعيد.
انحطاط الواقع وجمود الحياة الإسلامية
ومن جمود الفكر جمدت الحياة في كل مناحيها. فإذا كانت الأوضاع السياسية المثلى في الإسلام تقتضي الحركة الدائبة تآمراً بالمعروف وتناهياً عن المنكر وتناصحاً وشورى وتعرضاً للمشكلات الداعية لاختلاف والمغرية بالتفرق والفتنة ثم اعتصاماً بالشورى والإجماع لاستعادة الوحدة والوفاق إذا كانت صورة النظام السياسي الإسلامي كذلك فإن صورة النظام السياسي الذي ورثناه هي صورة شائنة لأنها مركبة من عناصر السكون لا الحركة، عناصر الركون إلى الواقع والقعود عن التبديل الاجتماعي نحو التي هي خير، وعناصر الاستسلام إلى تقليد الإمام أو الحاكم أو السلطان.
وإذا كانت ملة الإسلام لأول عهدها السني هي دعوة منفتحة تتحرك كل يوم لتتفاعل مع التحديات تجادل وتقاتل وتتعرض للابتلاء فيؤمن جانب من الناس ويزدادون بالصراع بين الحق والباطل كل يوم إيماناً ويكفر جانب ويشتطون كل يوم في الكفر ويتذبذب آخرون بأثر الفتنة فيؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون ثم يكفرون وغير هذه الحركات من نهضة ونكسة وتوبة تتركب حركة الإسلام المتقدمة إلى الأمام، إذا كانت هذه الصورة المتحركة من الإسلام هي التي سنها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد ورثنا تديناً جامداً وملة قومها العصبة الموروثة غدا هو ابن المسلم مهما كانت عقيدته الباطنة أو سيرته الظاهرة لا يكاد يرى نفسه محتاجاً لكسب طريف من التدين يحقق به إسلامه مجداً.
والجنوح إلى السكون وإلى القعود عن التفاعل مع الكون والحياة ببواعث الدين هو علة تخلفنا الاقتصادي أيضاً، إذ ركنّا إلى أقدار الكون وركبتنا قوى الطبيعة التي أرادها الله تعالى مركباً لنا إليه وذلك بأن نسخرها ونجعل من تسخيرها مادة لعبادته ولكن قوى الطبيعة فتنة للقاعدين تطغي على صحة أجسادهم وبنيتهم بجراثيمها فيمرضون وتأبى أن تعطيهم عفواً من ثمراتها فيفقرون وتحجبهم عنهم نور العلم بظلماتها وأسرارها فيجهلون وتأبى عليهم أسبابها فيعجزون. وهنا يكمن التحدي التكنولوجي الحديث.
إن مقتضى الدين هو أن نتحرك بذكاء وحكمة واتقان لنتخذ من مادة الطبيعة وسيلة لتحقيق أغراض الدين. وكان أولى بنا نحن المسلمين أن نشرع ثورة الاتصالات التكنولوجية الحديثة لأن العقيدة توحي إلينا والشريعة تأمرنا أن نتحد ونتواصل ونتآخى ونتعاون وكيف يصل المسلم أخاه في طرف الأرض الأقصى إذا لم يمد الله سبباً من الاتصال والمواصلات. وكان حرياً بنا أن نحقق أمر الدين في إعداد القوة المستطاعة لمجابهة الكفر وأن يحفزنا الإيمان في ذلك إلى مستوى يترقى كل يوم من الصناعات الحربية بأعلى مما يتوافر لغير المؤمنين الذين لا يحفزهم إلا حمية الحرب. وكان ينبغي علينا وقد أمرنا أن ننشر العلم ليكون كسباً شعبياً لا تتميز به خاصة دون عامة وأن نحصل ما لا يتأتى ذلك إلا به من ثورة تطور نظم التعليم وأدواته وأساليبه الفنية وأن نبلغ في العلوم بكل أنواعها ما لا يبلغ سوانا.
وإذا كنا نحمد الله على ما سخر لنا من الخيل والبغال والحمير وما كنا له مقرنين فما لنا لم نطمح إلى المزيد من الحمد والشكر ونسابق إلى الجديد في تسخير طاقة الطبيعة في السائرة والطائرة والقاطرة لتتجدد لنا أوجه أعظم لشكر الله. وما لنا لم ننهض لنقتبس من مادة الطبيعة مزيداً من النعم والطيبات ومن أفضال الله المشكورة التي تكون أسباباً للأجور. لكننا بمواقفنا النفسية السلبية المحافظة نلتمس التدين في الخوف من الصناعة والحضر والتكنولوجيا لأننا لا نتبصر وجوه التدين فيها ونغفل عن أن الجديد المتحدي إنما هو فرصة مزيد إيمان للمؤمن القوي ولا يضر إلا المؤمن الضعيف فلو تكاثر السكون في المزدحمات الحضرية أتيح للمؤمنين المتوكلين أن يضاعفوا إفشاء السلام ويعمروا علاقات الجوار ويعقدوا أسباباً أوثق للتآخي والتعاون على الخير. ذلك بينما يحن الضعاف إلى البداوة التي جربوا فيها وجوه التدين ويخشون المدن وفتنتها ونكارتها وشرورها.
من أسباب التدهور والانحطاط
فالتدين الحق توكلي تقدمي يرحب بكل ابتلاء جديد ويستجيب له بوجه عبادة متجدد يقدمه إلى الله زلفى وكان حرياً بنا نحن المسلمين أن نسبق أوربا لذلك ولكن الغربيين سبقونا اليوم مدفوعين بأهوائهم في طلب المتاع الدنيوي. وذلك المتاع مهما أضعف من دافع العمل حباً لله ـ سبحانه وتعالى ـ وشكراً له ورجاء رحمته وخوفاً من عذابه. وتلك دوافع تحمل المرء عبر التمتع إلى مثل عليا حتى يفني ذاته في سبيل الله. ولو كانت هذه الدواعي حية في وجدان المؤمنين الحاضرين ولو كانت مطروحة منثورة في تراثنا الديني موصولة بأطرها الواقعية في مجال النهضة الاقتصادية والعلمية والسياسية لكان حاضرنا غير الذي نشتكي منه اليوم ولكان لنا أمر آخر في ابتلاءات التدين ألا وهو الحذر من فتنة الزينة والعلم والطغيان.
وقد مر بالمسلمين عهد أسعفتهم فيه تلك المعاني الحركية فاتسعوا بدينهم نحو كل جديد من أرض مفتوحة أو علم محصل أو ثروة مكتسبة وتعاظم بذلك كسبهم من الدين، ولكن ذلك التعاظم شكل ابتلاءً جيداً استدعى وجوهاً جديدة من التدين وحركة بذات الإسلام في الإطار الظرفي الجديد. ولما لم يتوافر ذلك التجديد الموصول بدأت النكسة التي تداركت حتى ورثناها بالأمس القريب. فقد اتسع المسلمون في الأرض وبسطوا سلطانهم إلى مدى شاسع لكنهم لم يوافوا ذلك بما تقتضيه من تطوير أسباب الوحدة الجامعة إذ انتشرت جماهير الإسلام في الأقاليم البعيدة وعجزت الشورى السارية من أن تحيط بهم فتعطلت إجراءاتها العفوية القديمة لأن الظروف الجديدة كانت تستدعي تجديداً في طرائق الشورى لم يتح لمجتمع المسلمين.
من ثورة التجديد الحضاري إلى الثورة السياسية
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يكفلنا بأن نختار التحديات الجديدة ولكن يكلفنا بأن نختار الاستجابة لتلك التحديات وقد كانت سنة الله أن يقلّب على الناس الابتلاء. يبدأ الدين غريباً مغلوباً يستوجب عليهم غير ما يستوجب الأمر حين يأنس ويعز وهكذا من حال لحال جديد. ومثال ذلك ما يروي القرآن من دورة الابتلاء لبني إسرائيل إذا أفسدوا في الأرض فسلط الله عليهم بأساً شديداً. فلما تابوا تاب الله عليهم وبارك لهم في أبنائهم وأموالهم وجعل لهم الكرة. ولكن العد والمتاع والغلبة شكلت ابتلاء جديداً لم يحسنوا العمل إزاءه فأفسدوا من جديد فردّ الله عليهم الكرة مرة أخرى.
هذه الكرات والدورات التي تطرأ على تاريخ الملل ـ إذ يداول الله الأيام بينهم ذلاً وعزاً ونكسة ونهضة ـ جرت على تاريخ المسلمين ووافينا نحن عهد انحطاط متطاول. وكان على المسلمين إذا طرقتهم طوارق الانتكاس أن يتبصروا مصائر واقعهم ليدركوا طبيعة التحدي والأقدار التاريخية التي تحيط بهم فيتفاعلوا معها بما تستدعيه من تدين فكري وعملي ومن تدبير وتخطيط ليحتاطوا لكرات الابتلاء التي تترتب في سير التاريخ. وبذلك يصلحون تدينهم بعد كل انحراف ليضطرد مسعاهم وتتصل نهضتهم الحضارية.
أما وقد تراكمت آثار القصور الديني وورثنا أثقالاً من التخلف فإن أمرنا أعظم من أن نعالجه بالحركة المحدودة والإجراءات الجزئية بل تستدعي الأمر نهضة كلية شاملة عاجلة هي أشبه بالثورة في أقدارها الحركية ومداها. ينبغي علينا أن ننهض بوجداننا المتدين لنربي فيه عقيدة المؤمن المتوكل الفعال المقدام أن نتخذ لذلك كل وسائل التربية متحررين من الروح السلبية التي تسري إلينا بما نقرأ في غالب كتبنا المتداولة وما نسمع من وصايا الآباء ومواعظ الخطباء التي لا تذكرنا إلا بدواعي الحذر والسلامة والتورع.
وينبغي علينا لذلك أن ننهض بحملة فكرية جديدة لنسد هذه الثغرة الواسعة التي نشأت وما انفكت تتعاظم من القرن السابع ولنقضي على الأعراف الراسخة من العصبية المذهبية والتقليدية الجامدة التي تمكنت منا جميعاً والتي نلحظها حتى عند الذين أدركوا ضرورة التسامح وفتح باب الاجتهاد حتى إذا صدمهم رأي غريب صدر عن موقف اجتهادي جديد تراهم يذعرون من رأي لم يقل به أحد من قبل بل تراهم يتبرمون حتى بالصياغة والعبارة الجديدة التي لم يألفوها في كتب التراث كأنهم لم ينظروا كيف عمد القرآن إلى مادة اللغة العربية الجاهلية فصاغ منها مصطلحاً جديداً وصب في قوالبها اللفظية مفهمات جديدة. ثم لما وافت المسلمين الهجمة الحضارية الآسيوية والهيلينيـة ـ وهم متوكلون منفتحون ـ استجابوا للتحدي الذي طرحته معارفها وتجاربها ووسعوا اللغة العربية حتى استوعبت معاني التصوف الدقيقة ومصطلحاتها العلوم المضبوطة ومفهومات الفقه الفنية ونهض المسلمون بلغتهم أيما نهضة فلما أدركتهم النكسة ارتد ذلك على اللغة العربية فضرمت وجمدت وأصبحنا اليوم نعول على علوم نحو وصرف ولغة صنفت قبل مئات السنين وتخلفت عن اتساع معاني الحضارة العالمية.
ولكن عصبية التقليد تأبى أن تنفتح لمقتضيات التجديد وتؤدي إلى قلق شديد إزاء كل تعبير جديد فضلاً عن المعنى الجديد وكثيراً ما نسمع من هؤلاء نكيراً على كلمات معبرة بحجة أنها غير إسلامية ويعنون أنها لم تؤلف في تراث المسلمين، ويغفلون عن أن إمكانات الحياة كلها خلقت لعبادة الله ولو رأينا شيئاً منها لدى غيرنا فإن واجبنا أن نستولي عليه لنسخره لعبادة الخالق بعد أن كان مستخدماً لمعصيته. وكذلك الحكمة هي ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها ويتوسل بها إلى ربه. ولا نحتاج إزاء الأسلوب التعبدي الجديد أو المعنى الحكيم أو التجربة النافعة أو الأداة المادية الصالحة أن نطلب لها شاهداً من التاريخ أو سابقة من السلف. فاللغة الإسلامية هي كل تعبير كان أو حدث موظفاً لأغراض التدين والفقه الإسلامي لا يقتصر على حصيلة التفقه الذي بدأ من وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى القرن الرابع أو القرن السابع الهجري، كأن بقية المسلمين لا حق لهم في الإضافة إلى الوجود الإسلامي بل هو كتاب لا يتناهى حتى يرث الله الأرض، وليس ما سلف منه إلا فقهاً إسلامياً منسوباً لأهله لهم الفضل في إنشائه ولنا الاعتبارية والبناء عليه لنلتمس فضلاً لأنفسنا بعلاوة نضيفها إليه وهكذا تتعاون قرون المسلمين وتتقدم.
واذا أثرنا المسلمين وحفزناهم لنهضة جديدة تؤسس على أصول دينهم وتبنى على مكاسب سلفهم فإن ذلك لا ينتسب إلى البداعة مهما تجددت الصور والنماذج الإسلامية وإنما الابتداع المنكر تغيير يعارض معنى الأصل لا تبديل لصور التعبير الواقعي عن ذات الأصل. ومن دواعي اللبس أننا درجنا في استعمال كلمة الإسلام أن نضفي عليها معنى تاريخياً لا أصولياً وبهذا نحسب أنها بالضرورة تناقض التجديد. لكن عبارة الإسلام كما استعملت لأول عهد الدين عبارة مصدرية تشير لكسب الإنسان حيث يسلم وجهه لله. وبهذا المفهوم يصح لنا أن نتحدث عن إسلام كل مسلم ونحكم له أو عليه بالقصور أو الحسن ولنا أن نقارن إسلام جيل مع إسلام جيل آخر لنرى حركة الخط البياني لتاريخ المسلمين مقياساً إلى المقتضى الأمثل للدين. والحكم هنا على الصور التي يعبر من خلالها كل جيل عن مقتضى الدين في زمانهم وظروفهم والقياس على خط تلك الصورة من الكمال كما نصبته أصول القرآن وكما تمثل في نموذج واقعي خالد العبرة مطلق الحجة حفظه لنا الله لنقيس عليه إسلامنا المتجدد المتطور حيناً بعد حين. ذلك هو المصطلح الأقرب للغة القرآن التي يغلب أن ترد فيه كلمة الدين أو الإسلام مصدرية تصف فعل الفاعل وترد قليلاً بالمعنى القياسي المطلق. أما اليوم فكلمة الإسلام عندنا ترد تاريخية تصف جملة التجارب البشرية المنفعلة أو المنتسبة إلى هذا الدين، بل ترد أحياناً وصفاً لكيان ثابت قائم بذاته، فلا يبالي المتكلم أن يتحدث عن الجهاد في سبيل الإسلام أو الاحتجاج بأن الإسلام أعطى المرأة حقها مثلاً. بينما كان المسلمون ينسبون قصد السبيل ومصدر الأحكام إلى الله فيما هو نصي وإلى آرائهم فيما هو اجتهادي ولا مشاحة في المصطلح إلا أن يؤدي إلى سوء الموقف كما يؤدي الحديث العفو عن الفقه الإسلامي وعن الإسلام بإيحاءاته التاريخية الجامدة.
إننا كما قدمت لم نتحرك بإسلامنا مع تطور ظروف الحياة شوطاً بعد شوط بل فرطّنا حتى تكاثر علينا ركام ثقيل. فحاجتنا اليوم لأكثر من تحديث محدود بل حاجتنا إلى ثورة لتبدل التغييرات التي تضاعفت وترسخت حتى تمسخ جملة تديننا وحتى استفزت بعضنا إلى المبالغة وحسبان مجتمعنا جاهلياً محضاً من كثرة ما ترون من غواشي الجاهلية ومن قلة ما ينزوي من بقايا التدين. ومهما يكن الشطط في هذا التكيف فإن حاجة المجتمع تستدعي تحولاً عاجلاً شاملاً وثورة حضارية تامة وتبديلاً لأمر الدين والحياة بغير تغيير لثوابت الأصول والأحكام التي شرعها الله وسنها رسوله في تاريخ المجتمع البشري.
تصطدم بجمود الواقع التاريخي الديني، كما تصطدم بأهواء غير المسلمين الذين أسسوا مصلحة حياتهم على ضمانات التعامل مع صور الإسلام التقليدية الجامدة. وقد تجر إلى شيء من التعانف في التصدي لهذا الصدام إذا لم تجد الحسنى في الأمر. فقد ظل الواقع القائم في مجتمعات المسلمين يجادل دعاة النهضة الإسلامية ويستنصر عليهم باسم القيم الحضارية الغربية وباسم القيم التقليدية الدينية في آن واحد. وعندما أدركت القوى المتمكنة في واقع المسلمين أن معارك الجدال السياسي الحر مع الحركة الإسلامية خاسرة شهرت سلاح القهر لتبسط سلطانها وتغمر ناشئة الإسلام المتجدد ويوشك الجدال أن يفضي إلى قتال ويوشك الاجتهاد أن يستلزم الجهاد وتوشك صيحات الصحوة الإسلامية أن تندلع ثورة على الواقع الاجتماعي وانقلابا على هواه المتمكنة.
والله أسأل أن يمهد لحركة الإسلام الحديثة طريقاً يمضي بالحسنى إلى تبديل واقع المسلمين نحو ما هو أمثل فذلك أرفق بهم وأهون عاقبة وإن شاء أن يبتليهم بالأخرى فهو المسؤول أيضاً أن يعينهم بنصره ليزهقوا الباطل ويدمروا بنيانه فيطهروا أرضهم لتتلقى غرس الحق النبيل.