الرؤية الدينية السياسية لليمين المسيحي
يتداخل الشأن السياسي بالأمر الديني إلى درجة كبيرة في حياة الشعوب. فالكثير من التوجهات التي تبني مزاج الشعوب وتشكل الرأي العام تساهم الرؤية الدينية في تشكيلها إلى حد كبير. يتناول الأستاذ محمد فاروق الزين في كتابه المسيحية والإسلام والاستشراق (إصدار دار الفكر- دمشق- سورية) علاقة الدين بتشكيل السياسات الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص فيما يتعلق بمنطقة الشرق الإسلامي موضحاً النهج الذي يجمع المؤمنين بعودة المسيح مع المشروع الصهيوني في فلسطين.
الاستشراق الأمريكي في العصر الحديث
إن كتاب سفر الرؤيا (Revelation بالإنكليزية، Apocalypse بالفرنسية) وهو آخر كتب العهد الجديد كان قد أخذ بِلبّ الجماهير المسيحية خلال القرون الأولى، بل إنّه استمر في سحر العديد منهم ‑في نصف الكرة الغربي‑ لدرجة أو لأُخرى حتى يومنا هذا. ذلك أن سفر الرؤيا الذي كُتب في مناخ من التوقع والأمل بالخلاص الفوري، غذّى ودعمَ معتقد بعض قطاعات المسيحية الغربية من زاويتين: أولاً: ساندَ القناعة المسيحية بعودة المسيح الوشيكة رغم تنبّؤ بولس بوقوعها في حياته، لأن المسيحيين في القرن الأول والثاني لم ييئسوا قط من تحقق تلك النبوءة، ثانياً: كان على المسيح في مجيئه الثاني أن يحقق وينجِز ما لم يحققه في المجيء الأول.
و”الرؤيا”، وهو بحث كتبه يوحنا العرّاف ‑الملقّب باللاهوتي‑ في أواخر الستينات من القرن الأول، لم يكن يُعتبر سفراً مقدساً وقت كتابته وحتى حلول القرن الرابع الميلادي، إذ بعد مؤتمر نيقية 325م طلب الإمبراطور قسطنطين من يوزيبيوس Eusebius أسقف قيسارية إعداد “كتاب مسيحي مقدس” للكنيسة الجديدة، وليس مؤكداً إن كان يوزيبيوس في ذلك الوقت قرر إدخال كتاب “الرؤيا” ضمن أسفار العهد الجديد، ذلك أن بعض المراجع المسيحية لم تكن تؤمن بصحة معلوماته، وعليه فقد يكون أن “الرؤيا” أُضيف إلى “الكتاب المسيحي المقدس” بعد زمن يوزيبيوس Eusebius بكثير.
بعد مرور قرابة ألفيْ عام على رحيل يوحنا، واستناداً إلى “رؤياه”، لا يزال الأصوليون البروتستانت في نصف الكرة الغربي مقتنعين بأن نشوء إسرائيل في فلسطين كان مقدّمة حتمية لا بدّ منها لتحقّق المجيء الثاني ونهاية التاريخ، فالكثير من الأمريكيين الذين كانوا في السابق معادين لليهودية بحجة أن اليهود رفضوا المسيح وقتلوه ‑بزعمهم‑ تحوّلوا إلى أنصار متحمسين لليهود ولإسرائيل نظراً للدور المفترض أن يلعبه اليهود في خطة المجيء الثاني وتحقق النبوءات.
يمكن تلخيص العقلية البروتستانتية الأصولية الغربية بإيجاز بالعبارة التالية: “لا يمكن للمسيح أن يعود ما لم تكن هنالك إسرائيل يمكنه العودة إليها”، وبعبارة أخرى، حيث أنه صارت إسرائيل حقيقة واقعة فقد بدأ العدّ التنازلي لنهاية العالم. وفي كتابها الرائع “النبوءة والسياسة Prophecy & Politics” فصّلت الكاتبة الأمريكية البارزة جريس هالزل Grace Halsell معلومات دقيقة ومذهلة حول الموضوع ‑والكاتبة صحفيّة أيضاً سبق أن عملت كاتبة خطابات للرئيس الأمريكي الأسبق جونسون‑ توضح أن اليمين المسيحي يؤمن في أمريكا إيماناً شديداً بأن اليهود شعب الله المختار، وأن الله تعالى أعطاهم الأرض المقدسة: فلسطين، وأنه تعالى يبارك الذين يباركون اليهود ويلعن الذين يلعنونهم. ومثل أجدادهم منذ ألفي عام، لم يداخلهم اليأس من تحقق نهاية التاريخ، هذه النهاية التي ستبدأ بمعركة تل مجدّو في فلسطين المفترض أن تكون المعركة النهائية والفاصلة بين قوى الخير بقيادة المسيح العائد وبين قوى الشر بقيادة عدو المسيح. وبالطبع سيخرج المسيح من المعركة الرهيبة ظافراً، وبنتيجة هذا النصر الحاسم سوف يقيم مملكة الله على الأرض فعليّاً وليس مجازاً، ثم يحكمها بنفسه لمدة ألف عام من مقر قيادته في القدس! ولا بد لليهود عندئذٍ من الإقرار بعيسى مسيحاً لهم فيتحوّلون إلى المسيحية، ويشتركون مع المسيح في حكم العالم خلال تلك الألفية السعيدة التي سيُقيّد فيها الشيطان لمدة ألف عام! وليس واضحاً السبب الذي من أجله سوف يتم إطلاق الشيطان ثانيةً في نهاية الألفية كي يعود لخداع العالم في “أركان الأرض الأربعة”.
لقد أصبح الوعظ بِلاهوت تل مجدّو الشغل الشاغل لليمين المسيحي الأمريكي في هذا العصر، فمن خلال شبكة هائلة من مئات الإذاعات وقنوات التلفزيون يقوم عشرات الألوف من الوعّاظ الأمريكان في الكنائس وعلى الإذاعات والتلفزيون ومدارس الأحد بالتغلغل في قلوب وعقول عشرات الملايين من الأمريكيين، أما لاهوت تل مجدّو فمشتق من “رؤيا” يوحنا ويتلخص كما يلي: نهاية العالم أوشكت على الحدوث بعد تحقق الشرط اللازم لوقوعها وهو إنشاء إسرائيل، ولم يبقَ سوى أن يعود المسيح بصورة الملك ‑المحارب فيسحق أعداءه في معركة تل مجدّو الرهيبة، أما دور المؤمنين في الوقت الحاضر فهو المساهمة بتسريع تحقق الأحداث المتوقعة والتمهيد لإنشاء مملكة الله على الأرض التي سيكون المسيح على رأسها.
والواضح أنّ الوعاظ الأصوليين من أمثال جيري فالويل نجحوا في أن يجعلوا من “رؤيا” يوحنا نوعاً من التقديس لإسرائيل، في حين أنها ليست سوى ميثولوجيا عملت على تشويه رسالة المسيح بشكل سافر، والنتيجة البحتة لكل ذلك أن اليمين المسيحي جعل من تقديس إسرائيل ديانة جديدة لهم تعلو على ديانة المسيح الحقيقية، فقد تعمّد هؤلاء الوعاظ ونجحوا في أن يجعلوا من “رؤيا” يوحنا مبرراً لمساعدة إسرائيل، ومارسوا ضغوطهم لتكييف السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط عموماً ونحو فلسطين خاصة ضمن فكرة أن مصير أمريكا مرتبط بمصير إسرائيل، وقد قالها الواعظ فالويل بلا مواربة: “لو أهملنا حماية إسرائيل فلن يكترث بنا الله”.
وأضاف سفر الرؤيا أن وَصَمَ بابل ‑عراق اليوم‑ بأنها “أم العاهرات ونجاسات الأرض”! وليس من شك أن يوحنا كان متشرّباً روح العهد القديم في النص الحاقد الذي يتحرّق كاتبُه لسحق رؤوس الأطفال البابليين بالحجارة: “طوبى لِمَن يجازيكِ ‑يا بابل‑ كما جازيتِنا، طوبى لِمَن يُمسِك أطفالك ويسحقهم على الصخور” (مزامير 137/8-9)، في إشارة واضحة لعملية النفي البابلي التي تعرض لها اليهود العام 586 ق.م من قبل ملك بابل نبوخذ نصّر والتي تركت بصماتها في كتب العهد القديم. ومن المؤسف أنه منذ قام يوحنا بِوَصْم بابل في “رؤياه” باللقب البغيض “أم العاهرات ونجاسات الأرض” أصبحت بابل العراق مرتبطة فوراً في أذهان اليهود والمسيحيين الأصوليين ‑في الغرب‑ بكل أوصاف الرذائل والطغيان والاضطهاد والفساد حتى يومنا هذا.
ومن أكثر الألغاز غموضاً أن يَعرف المرءُ السببَ الذي من أجله قررت الكنيسة في القرن الرابع أن تُدرج “رؤيا” يوحنا ضمن الكتاب المقدس! والأكثر غموضاً كيف أن “الرؤيا”، بعدما أصبحت سفراً من أسفار الكتاب المقدس، تركت هذا الأثر العجيب الذي لا يُمحى عبر القرون في مخيال العقل الغربي المجرد.
السفارة المسيحية العالمية
تأسست “السفارة المسيحية العالمية” في القدس عام (1980م) باعتبارها مندوبة الأصولية البروتستانتية في الغرب خاصة وفي العالم كله. وفي 27/8/1985 عقدت السفارة المسيحية العالمية مؤتمرها المسيحي ‑الصهيوني الأول في بازل بسويسرا، لمضاهاة المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقده ثيودور هرتزل في المدينة نفسها في العام (1897م)، بل في القاعة نفسها التي استخدمها هرتزل.
وقد حثّ المؤتمر يهود العالم على ترك مواطنهم الحالية والهجرة إلى إسرائيل والعيش فيها، كما قرر المجتمعون أن القدس “التي هي مدينة داوود” يجب أن تبقى إلى الأبد عاصمة موحدة لإسرائيل، وأن يهودا والسامرة اللتين يُطلق عليهما خطأً ‑كذا‑ الضفة الغربية هما جزء من إسرائيل استناداً إلى نبوءات الكتاب المقدس. وحثّ المؤتمر أيضاً الولايات المتحدة والدول الأخرى التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل على نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس، كما طلبت من الولايات المتحدة وأوروبا الامتناع عن تسليح أعداء إسرائيل.
وفي العام (1988م) عقدت السفارة المسيحية العالمية مؤتمرها المسيحي‑الصهيوني الثاني، وهذه المرة في القدس، احتفالاً بالذكرى الأربعين لإنشاء دولة إسرائيل، وكان من ضمن مقرراتها: “إثبات الحق المقدس لليهود أن يعيشوا أحراراً في أرض إسرائيل كلها، وأن الأرواح الشريرة في الإسلام مسؤولة عن العبودية الروحية في العالم العربي، وعن العداء للسامية في أنحاء العالم، وعن الابتزاز النفطي ضد الأمم التي تساند إسرائيل، وأن وجود مسجد إسلامي في أقدس بقعة بالقدس، هي جبل موريا، يعتبر سخرية كبيرة من الله ‑كذا‑ ووصمة للموقع المقدس للهيكل، ولذلك ليكن دعاؤكم ضد روح الإسلام ‑كذا‑”.
والخلاصة أن الاستشراق الأمريكي تطور ليصبح ليس مجرد مصطلح لغوي فكري أكاديمي فقط بل ليكون قوة فاعلة دينية وسياسية.
05-1426 هـ / 07-2005 م