الرؤية الكونية التوحيدية وفضائل الأعمال
عندما نتأمل في مضمون الخطاب الديني الذي تنقله وسائل التواصل الإلكترونية عبر الدروس وحلقات الوعظ والإرشاد وأحاديث الفضائيات، نجد أن أغلب ما يُثار من القضايا والموضوعات هو التزكية الفردية والحثّ على فضائلِ الأعمال ونوافلِ الطاعات من ذِكر أو قِراءة قرآن أو صلاة على النبي أو استغفار أو دعاء أو صلاة ركعات من النوافل. ولا يجادل من أُوتي حظاً من العلم والفهم في أهمية التزكية الفردية ودور نوافل الطاعات في هذه التزكية، ولكن التركيز على هذا الجانب في الخطاب الديني يمثل جنوحاً عن الاعتدال الواجب في إعطاء كل ذي حقٍ حقه ويمثل اختزالاً لمجالات التزكية ومعرفة نعمة الله على أمة محمد بالهديّ الشامل الذي يستوعب مجالات الحياة.
وقد قرر العلماء أن أول ما يتقرب به العبد إلى ربه بعد توحيد الله عز وجل أداء الفرائض واجتناب المحرمات، والعمدة في ذلك حديث البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله تعالى: ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضته عليه”.
قال الشوكاني رحمه الله: واعلم أن من أعظم فرائض الله سبحانه ترك معاصيه التي هي حدوده، التي من تعداها كان عليه من العقوبة ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، ولا خلاف أن الله افترض على العباد ترك كل معصية كائنة ما كانت، فكان ترك المعاصي من هذه الحثيثة داخلاً تحت عموم قوله: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. بل دخول فرائض الترك للمعاصي أولى من دخول فرائض الطاعات كما يدل عليه حديث:” إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فلا تقربوه”.
ويصح هنا قول القائل: “من شَغَلهُ الفرض عن النَفل فهو معذورٌ ومن شَغَلهُ النَفل عن الفرض فهو مغرورٌ”.
وهنا يبرز السؤال المهم عن أسباب هذا الغرور الذي يحمل الناس على الاشتغال بالنوافل عن الفرائض. وأظن أن من أكثر ما يحمل الناس على ذلك الغرور هو الجهل بما افترض الله عليهم من واجبات ومسؤوليات واختزال الفرائض إلى الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة الواجبة؛ فوراء هذا الحد الأدنى من الفرائض الفردية واجبات ومسؤوليات جماعية تتعلق بكيان الأمة أو المناخ الاجتماعي الذي يحيط بالفرد ويصيغ قِيمهِ وموازينهِ وأعرافهِ ونموذج حياتهِ.
لا بدّ لكلِ مسلم حريص على الخير أن يعلم أن الأمة تواجه تحدياً خطيراً موجهاً إلى أساسيات العقيدة وأصول الإيمان. فالحضارة المادية الغالبة تقدم للناس رؤية كونية تستبعد الله سبحانه وتجعل الإنسان الغربي هو مركز الكون وتستعين في ذلك بتوظيف التفوق المادي والتمكن الحضاري والإبداع التقني غير المسبوق في تاريخ البشرية. ويقف وراء هذا التمكن والتفوق مؤسسات وهيئات وجامعات تثير الشبهات وتؤصل الإلحاد وتقدم كل ما يُشوّه الفطرة ويَفرض ثقافة الصراع والتنافس والعُلُو والاستهلاك والمتعة.
لقد تمكنت المادية الملحدة من أن تستبعد الخالق العظيم من أي حديث جادٍ عن الحياة وإدارة نشاطاتها وتخطيط فعالياتها المتنوعة. وتمكنت كذلك من استبعاد الخالق العظيم من أيّ حديثٍ عن العلوم الطبيعية وتفسير ظواهر الكون، حتى غدت أيّ إشارةٍ إلى الخالق العظيم خروجاً عن منهجية العلم وتورطاً في الخرافة تَحرم صاحِبَها من مؤهلاته ومساهماته ومركزه العلمي والأكاديمي. وحين يتوجه الشباب المسلم إلى الجامعات لتحصيل العلم يواجهون الرؤية المادية الملحدة التي قطعت أشواطاً في معرفة الكيفيات من سنن الكون وقوانين تفاعلاتها في جميع المجالات، في غفلة كاملة عن الاستدلال بالأثر على المؤثر وبالسبب عن المسبِّب. فتحصين شباب المسلمين من الوقوع في الإلحاد المُعلَن أو المُبَطن يمثل ضرورة قصوى وأولوية بالغة الأهمية لا تدع حين مواجهتها بالجدية اللازمة مجالاً للاقتصار والانحصار في حديث فضائل الأعمال ونوافل العبادات.
إن الفتنة التي يمثلها نموذج الحياة الغربية ورؤيته الكونية المادية الملحدة، تطرح تحديات للرؤية الكونية التوحيدية وشريعتها وقيمها تواجه الكبير والصغير حتى غدا من غير المستبعد أن نَجِد أسماءً كبيرة وشخصيات ذات توجهات إسلامية تدعو إلى فهم للإسلام يستبطن القيم الغربية والرؤية الكونية الغربية وينطلق منها.
إن معرفة مقتضيات الرؤية الكونية التوحيدية ومعرفة ما يميزها عن المبادئ والفلسفات البشرية يمثل أهم ما يجب على المسلم أن يهتم به فلا ينفع المسلمَ القناطيرُ المقنطرة من النوافل والفضائل إذا تسلل الشرك الخفيّ والظاهر إلى القلب واستحكمت فيه شبهات تَهز ثقته بدينه وقيمه ليحل محلها إقرار وإعجاب بنموذج حياة مادي قاروني فرعوني متمكن مهيمن.
وإذا أردنا أن نتعرف على ما فرضه الله علينا فيما وراء العبادات والشعائر الفردية المعروفة يمكن أن نستعين بما ذكره الفقهاء من أن الكليات الإنسانية الأساسية التي يقوم على رعايتها صلاح المجتمعات والأمم هي؛ الدين والنفس والنسل والعقل والمال. فلا بد لكل مجتمع من رؤية كونية تفسر الكون وتحدد موقع الإنسان فيه وتبين الغاية من الحياة. والرؤية التوحيدية التي يقدمها القرآن الكريم تجيب على الأسئلة الوجودية بطريقة متفردة تستوعب كيان الإنسان وتستجيب لكل عناصر كينونته الروحية والعقلية والعاطفية والمادية بشكلٍ شاملٍ متوازن.
ولا بد لكل مجتمع من القيام بالوظائف والمهمات التي تحفظ الوجود المادي والمعنوي للإنسان من طعام وشراب وكساء ومأوى ودواء وأمن وكرامة وكل ما يتطلبه ذلك من خبرات ومهارات وترتيبات. فإذا غَفل الناس عن القيام بهذه الوظائف والمهمات أصابهم من الضر والبؤس والشقاء والذلّ وتسلط الأعداء ما لا يعلمه إلا الله. فالربط بين فعاليات ونشاطات الإعداد للكفاية في جميع مجالات الحياة المادية يقع في صلب التدين والفهم المتوازن للدين.
وكذلك لا بد لكل مجتمع إنساني من حماية نظام الأسرة الذي يكفل تنشئة ورعاية النوع الإساني في جوٍّ فطريّ من المودة والمحبة والحماية والمسؤولية. فإذا غفلت الأمة عن حماية نظام الأسرة من العدوان المتمثل بتشويه الفطرة وحصر الاهتمام باللذة والمتعة ونشر ثقافة العزوف عن الزواج والإنجاب وتشجيع الطرق البديلة عن العلاقة الزوجية المستقرة بين الذكر والأنثى، ظهرت في الأمة من عقابيل الشذوذ والنشوز ما لا يعلمه إلا الله. فالربط بين حماية الأسرة من عقابيل ثقافة الصراع وتدريب الرجال والنساء على اكتساب مهارات التواصل والتفاهم وتأمين الحاجات المادية للأسرة مثل مهارات حفظ الأغذية ومهارات تدبير المنزل والتقليل من الهدر والسرف، يمثل مجالاً واسعاً من فعاليات التدين والفهم المتوازن للدين.
ولا بد لكل مجتمع إنساني كذلك من رعاية العقل الإنساني وتأهيله بالخبرات وأنواع المعارف وحمايته من الخرافة والكذب والسحر والشعوذة والأوهام ليكون قادراً على فهم قانون السببية في التعامل مع طاقات الكون والتمكن من تسخير كل ما فيه، وفهم قانون المعاني في التعامل مع اللغة والأفكار. ولا يخفى ما يعود على الأمة من عقابيل إهمال وظيفة العقل من الخمول والفتور الذي لا تصلح به دنيا ولا يستقيم به فهم دين.
وأخيراً لا بد لكل مجتمع إنساني من قاعدة مادية من ثروات وإمكانيات مادية للقيام بمتطلبات جميع الكليات الأساسية. فكل ما زاد من إمكانيات التسخير من العلوم والمعارف والمهارات والترتيبات هو جزءٌ أساسيّ من فروض الكفاية التي تأثم الأمة جميعاً بالتقصير في القيام بها بما يحقق المنعة والكفاية.
إن هذا الطيف الواسع من الواجبات والمهمات يدخل جميعاً في مدلول الدين ولا يمكن استبعاد شيء منه إلا مع التجاهل لنصوص وتوجيهات وفهم مستقر لمعنى الدين عبر العصور. إن هذا الطيف الواسع من المهمات والواجبات يحتاج إلى جهود مستمرة ومُضنية لترسيخ العادات الجيدة ومقاومة كل إغراءات الكسل والعجز والرخاوة والدّعة والخمول. ويحتاج إلى جهود جماعية لنشر ثقافة الشعور بالواجب وإدراك العقابيل المدمرة لإهمال الجدية في التعامل مع هذا الطيف الواسع من الواجبات.
فمن وجد فراغاً ووقتاً بعد فهم هذه الواجبات وأداء حظه منها لأداء نوافل الطاعات والعبادات في ركعات من جوف الليل أو صيام نفل في الأيام المندوبة فنسأل الله تعالى أن يتقبل منهم ويزيدهم براً وطاعة وفضلاً وأن يلحقنا بهم في الصالحين.