العلم وسياقه الحضاري
ثمة أهمية كبيرة للتفريق بين العلوم الكونية والعلوم الاجتماعية وطريقة التعامل معهما. فدعوى عالمية العلوم الإنسانية والاجتماعية باطلة لا شك، ويجدر لفت النظر إلى أن العلوم الاجتماعية الغربية قد تراجعت أخيراً -إلى حد كبير- عن هذه الدعوى، وهي أحد أزماتها التاريخية الكبرى التي لم تصل حدّ الانفجار إلا حديثاً.
تبنّي العلوم الاجتماعية للفيزياء
وتفصيل ذلك أن العلوم الاجتماعية جاءت كرد فعل لمغالطات الكنيسة والنصرانية (أي النصرانية كمؤسسة والنصرانية كنظام عقدي وأخلاقي) واعتباطياتهما. ولقد جاءت الردود الأولى على شكل طرح فلسفي أو طرح عمومي من قبل مفكرين موسوعيين، وتزامن ذلك مع النهضة التي مرّت فيها علوم الفيزياء لتقنع المفكرين بتبني هذا النموذج على أن منهجيته هي المنهجية الصحيحة وعلى أنها صالحة لكل الحقول العلمية. وذهب التفكير يومها أنه كما خلَّص نموذج علوم الفيزياء الناس من خرافات عن الكون وأصبحنا نعرف كثيراً عن دورانه وسقوط الأجسام وتفاعل المواد وارتحال الضوء… اعتُبِر أن هذه المنهجية سوف تسهم في نهضة العلوم الاجتماعية أيضاً. وفي نشوة المروق عن الكنيسة والنصرانية ظنّ المشتغلون بالمواضيع الاجتماعية أن اتباع النموذج الفيزيائي يعطيهم مصداقية أكبر في مواجهة الآخر، وحسبوا أنهم في ذلك “موضوعيون” لا يستبدلون خرافات بخرافات أخرى.
ولقد نجح أصحاب علوم الاجتماع أن يبنوا مؤسساتهم وأن يكتسبوا لها الدعم الحكومي والتأييد والاحترام الشعبي، على اختلاف بين بلد أوربي وآخر. والواقع أن العلوم الاجتماعية عانت كثيراً حتى استطاعت أن تثبت نفسها، ومازالت إلى اليوم تعاني من مسألة تحقيق مصداقيتها. والذي يهمنا هنا أن معارضة “علمية” قد بزغت مبكراً في الغرب نفسه ضدّ توجه العلوم الاجتماعية نحو نموذج العلوم الفيزيائية، وهو ما يعرف بتوجه “التاريخانيون” الذين يفندون دعوى عالمية المكان والزمان في العلوم الاجتماعية. ولكن لم تعلُ صيحة هؤلاء المعارضين، وبقيت معارضتهم محصورة في الأطر الأكاديمية العليا، بينما جرت العلوم الاجتماعية بنموذجها الفيزيائي تصنع وتركِّب رؤية للحياة الحديثة وفق معطياتها بعد أن قامت بإحكام آلاتها التي تمكنها من القيام بأبحاثٍ وفق طريقة جديدة افتُرض فيها أنها موضوعية و”مطهرّة” من القيم الشخصية فهي إذاً عالمية. ويشار تحديداً إلى دخول هذه العلوم الولايات المتحدة الأمريكية لتعطيها الحوافز القوية باتجاه المنهج التجريبي الفيزيائي للعلوم الاجتماعي.
كان لتبني أمريكا للعلوم الاجتماعية أثر مهم في تطورها، ويهمنا هنا أمران. الأول أن في أمريكا قدرات مادية كبيرة على توظيف العلوم، ولذلك فإن حجم الإنتاج العلمي الاجتماعي في أمريكا هائل جداً بسبب طبيعة نظامها الجامعي الذي يحفز على إجراء الدراسات ويعتبر ذلك هدفاً بحد ذاته، وبسبب الوفرة المادية للقيام بهذا. الثاني هو التوجيه الثقافي الأمريكي للعلوم الاجتماعية حيث نقلت التركيز والنظر من الكليات إلى الجزئيات، وتفرعت في هذه الجزئيات إلى اللانهاية (إلى حدً التفاهة)، والذي يُمكن اعتباره انعكاساً للفردية الأمريكية ولقصر النظر (أو قصر النَفَس) الأمريكي الذي يحصر نفسه باللحظة. ولا أملك إلا أن أشير إلى وصف مختصر للنموذج الأمريكي بأنه نموذج دراسة سرطاني ربوي، حيث أن همه التكاثر من غير اعتبار هدف هذا النمو ومن غير اعتبار موقع النمو وارتباطاته، لتكون المسيرة العامة خبطاً ومسّاً.
والخلاصة أن منظومة السوق التي تحركت فيها العلوم الاجتماعية الغربية أعطاها دفعة هائلة في النمو، وأن لباسها مسوح علوم الفيزياء أعطى الوعد باليقينية التي توصل إلى النعيم الأرضي، وأن الفشل الذي أصابها مؤخراً (أو بشكل أدق، إدراكها الفشل مؤخراً) هو الذي سمح بعودة بروز المنافس التاريخي القائل بعدم عالمية العلوم. وإنه إذ لا أتوقع أن تتخلى العلوم الاجتماعية عن قاعدتها الشيئية لأن الشيئية مؤصّلة في جذرها التاريخي (النصرانية) ومؤصّلة في الردّ عليها (العلمانية). ولكن برغم ذلك سمحت خاصية النقد الذاتي التي يتمتع به المناخ الأكاديمي الغربي للعلوم الاجتماعية أن تصبح أكثر تواضعاً وأن تضمّ إلى رحابها مناهج ووسائل ومصطلحات أقلّ صلادة وأكثر شمولاً. وصرت تقرأ اليوم من داخل المنظومة الأكاديمية الغربية نفسها أن هذه العلوم ليست إلا مذهباً ثقافياً.
هل العلم التجريبي محايد؟
يسهل الظنّ بأن العلم التجريبي محايد. وتذهب كثيرٌ من المداخلات (من المتخصّصين في العلوم الشرعية خصوصاً) بأن موضوع هذا هو الكون أو الطبيعة الخارجية وأن حقائقه لا يؤثر فيه اختلاف الألسنة والألوان وخصائص الشعوب، فما الضير إذاً أن نطلب عصر العلم التجريبي من النقطة التي انتهى إليها الأوربيون، وأن ذلك واجب علينا. أما المحذور فهو تبنّي معطيات الثقافة الأوربية. ولكن التفريق الحاسم بين الثقافة والعلم التجريبي أمر غير ممكن، وذلك لأنه كان هناك تفاعل جدلي بينهما. وإن هذا التفاعل بالذات هو الذي مهّد أو مكّن من النهضة العلمية (إن صحت التسمية).
ويذهب البعض إلى القول أنّ كون الحضارة الغربية أقوى حضارات التاريخ مردّه إلى أنها جاءت محصلةً للحضارات السابقة. غير أن هذا تأكيد فضفاض وغير مسلّم به. ولا مراء في أن الحضارات (كلها وليس الغربية فقط) تبني على نتاج غيرها، إلا أن “التراكم” لا يمكن أن يفسر قوتها وتطورّها على النحو الذي تطوّرت إليه، وذلك لأنها تبنّت وجهةً معيّنة نحو الكون والحياة. ولا يخفى عليكم أن الموقف العقدي الأوربي من الكون كطبيعة خارجية ينبغي غزوها، وأن موضع الإنسان كآلة منتجة، كان له أكبر الأثر في حجم وطبيعة هذه النهضة. فعقيدة غزو الطبيعة واستنزاف ثرواتها ليس إلا نقطة مركزية في النهضة الأوربية التي مازالت تذيق الناس لعناتها.
إن هناك تفاعل جدلي بين عصر الثقافة وعصر العلم التجريبي. فعلم العصر التجريبي لم ينشأ ولا يمكن أن ينشأ في فراغ. وكما نقول إن مناخ الحضارة الإسلامية مكّن من إنجازات معينة لم يكن ليتوصل إليها لولا الإسلام، وكذا فإن إنجازات الغرب لم يكن ليتوصل إليها بلا المناخ الثقافي الغربي (بغض النظر عن دقة تسميتها إنجازات). وإذ ليس ثمة شك في أن الغرب قد اقتبس المنهج التجريبي من الحضارة الإسلامية، إلا أنه وضعه ضمن منظومته الثقافية وخصوصيته الحضارية.
فالعلوم التجريبية ليست نتاجاً مجمداً يمكن نقله من حضارة إلى أخرى، بل هي نتاج مجذر له ارتباطاته الثقافية على ثلاثة مستويات: (١) العقيدة والتصور، (٢) مستوى الاجتماع أخلاقه وبنيته، (٣) ومستوى الاقتصاد والسياسة.
أما على مستوى العقيدة والتصور فقد أشرت إلى النظر إلى الخلق على أنه محل للامتلاك والتحكم والتلذذ والاستغلال. ويأتي ذلك في مقابلة تامة لموقف النظر على أن الخلق أمانة واستخلاف ومحل تمتّع بالمعروف ومجرد نصيب من الدنيا وأكل بمِعَىٍ واحد لا سبعة، وملك لنا و “للذين جاءوا من بعدنا”.
أما على مستوى الاجتماع فإن أخلاق العمل الجاد والكدح -وهذا واضح في قراءة سير المخترعين والمكتشفين- إنما هي جزء صغير مما يُشار إليه أنه عصر الثقافة الأوربي. وإذا كان نتاج العلم التجريبي مرتبط بموقف نفسي تربوي في الرغبة في الاكتشاف واستعداد للتضحية (المحسوبة نوعاً ما) ودأب وتطلع وإطلاق للخيال العلمي، فإن العوامل البنيوية لا يمكن تناسيها. وأكثر ما يوضّح هذا كثافة المخترعين والمكتشفين ممّن هم من أصول مهاجرة ومن خلفية ثقافية ليست أوربية.
فعلى المستوى الاجتماعي البنيوي كان هناك انسجام تام مع مشروع النهضة التجريبي. ومن طرف هناك الجامعات ومخابرها ومِنحها للبحث والدراسة، ومن جانب آخر نعرف أنه تمّ استغلال الأولاد في المعامل وفُرضت شروط عمل قاتلة من العمل ساعاتٍ طويلة في شروط صحية سيئة. كما أُقحمت المرأة في عملية الإنتاج بالكلية. وبُنيت المدارس على النموذج الصناعي لا لتُخرّج متعلّمين مثقّفين وإنما لتُخرّج جنود مصانع. وهجر المزارعون أراضيهم نحو المدينة ليكسبوا عيشهم بعد أن تحوّلت الأموال للاستثمار الصناعي، ونتج عن ذلك -من جملة ما نتج- مشاكل المدن الصناعية التي مازلنا نعيش قسوتها وجريمتها إلى اليوم.
أما على المستوى الاقتصادي السياسي فإنه من المعروف بأنه لم يكن للنهضة العلمية التجريبية مجالاً للظهور بهذا الشكل بلا الرأسمالية (حتى ماركس يعترف بذلك). وينظر هنا للرأسمالية على أنها نظام اقتصادي اجتماعي سياسي أخلاقي استلزم كل عمليات الغزو والاستعباد (الرقيق) والاستغلال الداخلي وتحويل كل فعالية اجتماعية إلى قطعةٍ منتجةٍ تُدرّ الربح ليس لها هدف إلا الإنتاج والزيادة. وألفت النظر هنا إلى تحليل ڤيبر المشهور من أن علم المحاسبة كان أساسياً لم يكن للرأسمالية أن تظهر بدونه لأشير إلى مدى ترابط جميع الفعاليات الاجتماعية بعضها ببعض وبالنهضة التقنية.
والخلاصة، لا يصحّ القول بحياد منظومة العلم التجريبي (وليس العلم التجريبي ذاته) وذلك لأن المنظومة جزء من النسيج الحضاري للأمة التي انبثق منها، فهي ناتج عنها وجزء منها بالوقت نفسه. وينبغي أن يُنظر إلى نهضة العلم التجريبي على أنها جزء من شبكة علاقات يتوضع في عقدة من عقدها (على سبيل المثال) آدم سميث المنظر الرأسمالي والفيلسوف الأخلاقي، وفي عقدة أخرى مفاهيم الإدارة ابتداء بتايلور الذي درس الوقت الذي يأخذ العامل ليرمي ما في مجرفته وتطور ذلك إلى فكرة “خط الإنتاج” الذي طوّر العلم التجريبي واضطهد روح الإنسان في آنٍ معاً. وفي عقدة أخرى هناك علم النفس السلوكي الذي استخدم تشريط الحمام وتدريبه في إلقاء القنابل الصغيرة في الحرب، أو إلى تدريب الحيتان وكلاب البحر لعمل استعراض مائي يدرّ أرباحاً تُمَّول بها علوم دراسة هذه الحيوانات. وفي عقدة أخرى نشوء الشركات الضخمة التي يمكنها تنفيذ أحلام التكنوقراط. وعقدة أخرى يتوضّع فيها تحويل التعليم من التربية إلى التدريس الفني وغلبة التركيز على المهارات. وفي عقدة أخرى هناك أخلاق الاعتماد على النفس والتوفير، بل والإيمان (بحسب بعض طوائفهم) أن مقتضى التديّن هو الكدح في هذه الدنيا والأخذ منها بالتدبر والتقشف. وفي عقدة أخرى العصبية الوطنية ومفهوم الدولة-الشعب والموقف من الآخر المتميّز حدودياً (مثل دول أوربا) أو المتميز حضارياً كالموقف من الصين وبلاد المسلمين. وفي عقدة أخرى مشروع غزو العالم وسرقة ثرواته، فمعلوم أن الكثير من الاختراعات بدأت في النطاق الحربي وموّلته وزارة الدفاع الأمريكية ثم تحول إلى إنتاج مدني بعد ذلك.
ففيما سبق عرض لترابط العلمي التجريبي بالثقافي ترابطاً عضوياً. وإنه إذ كان لا يشكل مفهوم حياد العلم التجريبي بحدّ ذاته كقانون يتعامل مع المادة ضمن سنن مخلوقة فإن “منظومة العلم التجريبي” مرتبطةٌ عضوياً بالثقافة التي نشأت فيها ونمت. وإذا كان هذا لا ينفي إمكان الاستفادة منها فإنه ينفي وصفها بالحياد. أو بعبارة أخرى، هناك منهج العلم التجريبي -وهو الموضوعي- وهناك وجهة العلم التجريبي وهو الذي له سمة حضارية خاصة.
وأورد هنا مثال علم الطب البشري كعلم تجريبي محلّه جسم الإنسان. وبإمعان النظر في منظومة هذا العلم نجد أن له ارتباطات ثقافية ظاهرة. فأولاً نُسخ عملياً من ممارسة هذا العلم أن الإنسان روح وجسد وأن كليهما يؤثر في الآخر، وتحوّل المريض إلى “حالة” يعالجها الطبيب بـ “موضوعية”. والنموذج الأمريكي الذي يمكن أن يُعتبر قمةً في العلم الطبي التجريبي حوَّل العملية الطبية إلى “خط إنتاج”، حيث يدخل المريض ويستقبله الممرّض ليضعه في غرفة صغيرة، ثم يُجلس المريضَ الآخر في خانة أخرى والمريض الثالث في ثالثة. ويمرّ الطبيب فيقرأ الملف الذي حضره الممرض ويكلّم المريض بضع كلمات ثم ينصرف إلى خانة رقم 2، عملية فيها حد أدنى من التفاعل البشري وذات فعالية إنتاجية كبيرة واختزال لمفهوم الصحة البشرية. ولا ننسى أن المريض في هذه المنظومة يُعدّ زبوناً.
والجسم البشري للطبيب الأمريكي هو آلة من مضخات وقنوات خراطيم وأسلاك كهربائية. والطبيب ليس إلا ميكانيكياً يحاول التأثير في هذه الآليات. الجسم في مفهوم الطب مادةً وحقل عمل ترمى فيه الكيماويات وتقطع منه بعض الأجزاء إذا لزم. والإجراءات الطبية ليست موضوعية بحتة. فنسبة العمليات الجراحية في أمريكا أكثر من أوربا وكذا نسبة الولادات القيصرية، ويفسرون ذلك بالخُلق الأمريكي قصير الصبر من كلا الطبيب والمريض، أو ما يسمونه خلق “افعل شيئاً… ولا تقعد هكذا”. (do something, do not sit like that)
وفي أمريكا يستعمل الطبيب القليل من محاكمته ويعتمد على الفحوصات والتحاليل والصور بناء على مفهوم احتمالي للمرض، لا على مفهوم تشخيص منطقي سبري. وأنواع الصور الشعاعية كثيرة، وإجراء صورة أو تحليل إضافي لا يضمن معرفةً أعمق بالمرض وإنما تكشف عن وضع آلياتٍ جسمية أخرى يُحتمل فيها الخلل ولكن ليست بالضرورة هي محل المرض. وقرار إجراء الصورة أو التحليل ليس موضوعياً بحتاً وإنما يتعلق بالمؤسسة وأنظمتها، ويتعلق بالطبيب، ويتعلق باحتمال رفع دعوى على الطبيب إذا أخطأ. وذلك بدوره يتعلّق بالقوانين التي تسمح للمريض رفع دعوى والتي تتغير باستمرار. وبشكل عام فإن مجتمع التقنية الأمريكي مولع باستخدام الآلات، واستخدام الآلة وإجراء الفحوصات مدرٌ للربح. ومعروف أن الطبّ الأمريكي مختلف عن الطبّ الأوربي، وما يعتبره الأول واجباً طبياً يعتبر الآخر غلطاً علاجياً.
أما استعمال الأدوية فإنها أيضاً تجارة وصناعة يتنافس فيها وتعقد لها الدعايات. وتشير الدراسات إلى أن كثيراً من الأدوية الجديدة ليس فيها الجديد حقيقة، وإنما تُبقي الحقل في تجربة دائمة وتستدر الأرباح للدواء الجديد الذي يُسوَّق على أنه شفاء.
وتصبح المسألة أكثر وضوحاً حين نأخذ بعين الاعتبار المنظومة الطبية ذاتها وليس علم الطب نفسه. ومرة ثانية نجد المريض إنما هو “حالة”، والمنظومة موجهة لا لتخريج مجتمع أقوم صحة وإنما لـ “يعالج”. فمبدأ الإنتاج ونموه وتكاثره يهيمن على الوجهة الطبية، والمنظومة الأمريكية تُنفق على قنطار العلاج أكثر من إنفاقها على درهم الوقاية. فإذا انتقلنا إلى ساحة المصالح الدنيوية فإن جمعية الأطباء الأمريكيين في وضع فاضح من معاكستها لأنظمة كثيرة تساهم في تحسين الصحة العامة. الطب في أمريكا ليس إلا “خدمة” (بمفهومها الأمريكي الاستخدامي service) وسلعة تباع وتشترى. وحين نضيف إلى ذلك شركات التأمين الصحّي يتبيّن أن خصوصية الثقافية تدخل في صلب التعامل مع علمٍ تجريبي. والمفارقة أن مجمل المنظومة تظلم أهم الفرقاء: المرضى من جهة، والأطباء الذي يئنون تحت الطلبات البيروقراطية لشركات التأمين، وعامة الشعب الذي يدفع كلف هذا من ميزانيات عامة وخاصة. طبعاً، الرأسمال هو الرابح.
مثال صناعة السيارات مثال آخر، ويمكننا ملاحظة أن التصميم الأمريكي القديم للسيارات الفارهة الضخمة ينسجم مع غناها في تلك الأيام. و”التوجه العلمي” في صناعة السيارات في تلك الأيام مختلف عنه اليوم بعد أن شعروا بالضغط الاقتصادي وبعد الاعتراضات على التلوث الناتج عن الاستهلاك الشره للوقود. بعبارة أخرى، ما كان يُعتبر “علمياً” وأنه خليط صحيح من الوقود والهواء في “الكاربيريتور” تغيّر مع الزمن بسبب ظروف اجتماعية ثقافية. والتغيّر من الأساس الزيتي إلى المائي في صناعة الدهانات شاهد آخر. وكان هناك يوماً يستحيل فيه “علمياً” صنع دواء السعال السائل بلا استعمال الكحول، ويفخرون اليوم بالكتابة على لاصقة دواء السعال أنه خالٍ من الغول.
والمثال الأخير الذي نورده من تطبيقات علم تصريف المياه المستعملة. ولا يخفى أن هذا علم بالمادة يغري القول بأن ليس له علاقة بالثقافة والتكيّف الشعبي. وتفصيل ذلك أن مصلحة تصريف المياه في ولاية كاليفورنيا بعثت حديثاً وفداً إلى الصين لدراسة طرق تصريف المياه عندهم، وذلك لأن ازدياد عدد السكان الكبير في كاليفورنيا وازدياد استهلاك الماء بالتالي وضع أعباء على مصلحة تصريف المياه. وقول المنهج العلمي التجريبي الأمريكي في الأصول العلمية لتصريف المياه سوف يعدَّل بعد الاقتباس من التجربة الصينية.
وقد يعترض على ما قدمته بأنه يخلط الأمور ولا يتعرض لقوانين المنهج التجريبي الثابتة. وهنا أؤكد بأنه ليس ثمة شكّ في صحّة القوانين العلمية (مثلاً اشتعال البنزين مع الهواء). محلّ الخلاف ليس القوانين السببية ذاتها. والاعتراض ليس على أن المنهج التجريبي هو الصحيح في التعامل مع المادة والكون المخلوق، وحضارتنا الإسلامية ساهمت في ذلك أي مساهمة.
محل الخلاف هو أن القوانين السببية إنما هي جزء من منظومة أكبر. فالقوانين الكونية لا تنشئ الأمور بنفسها، وإنما تتوضع ضمن منظومة تطبيقية. وهذا الكلّ هو الذي يُنشئ. ولا يخفى هنا أن المنظومة التطبيقية تتأثر بمتعلقات زمنية ومكانية عبر ثقافة بشر يتحرّكون. الإشكال هو اختزال النهضة العلمية إلى المنهج التجريبي. الإشكال هو اختزال المنهج التجريبي إلى النطاق المخبري وكأن المخبر يعيش في فراغ فيزيائي مطهر عن عوامل الاحتكاك البشري والثقافي.
وهنا استطرد لأقول بأنه يبدو أن هذا الإشكال يمثل زاوية ميتة في فكر مالك بن نبي، هو مدرك لها ولكن بعض العبارات موهمة، وأرجو من المفكرين الإسلاميين بداية معالجة هذا الموضوع ودفع فكر مالك إلى الإمام وخدمته.
وإن هذا الأمر لعلى غاية من الأهمية وعلينا أن نتذكر أن أزمة بلادنا لم تكن نتيجة استيراد الثقافة الغربية بشقها الاجتماعي فقط، وإنما بشقها التقني أيضاً.
بل إنه ربما يصح القول إن الاستبدال الثقافي التام إنما كان على مستوى نخبة فحسب (والنخبة نفسها أبدت ضياعاً واختلاطاً فكرياً ومداً وجذراً وقليل منهم الذي تبناه على وجهه العلماني بالتمام)، أما جموع الناس فإن الانحلال الثقافي كان جزئياً وبقي النموذج الإسلامي الاجتماعي يدفع ويدافع. أما النموذج النهضوي العَلْماني في شقه المادي فإنه تلقّاه الجميع بالقبول بلا استثناء. وخبر البعثات العسكرية العثمانية إلى أوربا معروف، وحياتنا التنظيمية اليوم ليست أقلّ فوضى وتسلطاً بعد تأسيس المؤسسات الحديثة مما كانت عليه من قبل (مع أن هذا النموذج التقليدي كان قد استنفد أيامه وكان عليه أن يتغيّر، ولكن بوجهة تناسب مجتمعاتنا)، والفقر في بلادنا صار أعمق وأبعد من أن يُرى فيُرعى بعد تأسيس المؤسسات الحديثة المبنية وفق الأسس “العلمية” للإدارة.
❊ ❊ ❊
وأخيراً فإنه لا بدّ من ذكر أن الموضوعية التامّة للعلم التجريبي بحدّ ذاتها فيها نظر. ومع رفض العدمية، هناك تساؤلات فيما إذا كانت الحقيقة الموضوعية التي بدت لنا في المادة الطبيعية هي الحقيقة الكاملة أو الوحيدة. والأدلة تشير إلى أن الدارسين الباحثين في مخابر العلوم الكونية يتعاملون مع مجموعة ملاحظات وبيانات، وهذه البيانات تشير إلى أكثر من مسببٍ واحد. النقطة الفاصلة هنا أن اختيار مسبّب على آخر فيه قدر غير قليل من الظرفية الخاصة بالمؤسسة العلمية وثقافة العاملين فيها.
وهذا ما يفسر لنا تغير بعض الحقائق التي قبلنا أنها علمية. فمثلاً كان هناك خلاف قديم حول إذا ما كان زيت الزيتون جيد للصحة أم لا، فهناك قول في أنه يرفع الكلسترول وقول أنه مفيد ويخفضه! ومجرد تعايش قولين متناقضين لقريب عشر سنوات في عصر المخابر الحديثة وفي بلد مهتمة جداً في مسألة الكلسترول مثال ناطق حول وجود شيء من “الطراوة” حتى في نتائج العلوم الكونية. وتعد نظرية “الفوضى” الفيزيائية الحديثة مؤذن ومفرق طريق في تصور صلادة القوانين العلمية الكونية (فما بالك بالاجتماعية).
ويحسن لفت النظر هنا إلى خاصة مهمة في الابستوموليجية العلمية. وذلك أن المنهج العلمي التجريبي يقوم على إثبات الحقائق على وجه النفي لا الإثبات. وهذا مدخل احتمالي لمعرفة الحقيقة ويضع الحقيقة العلمية في موضع أدنى من المعرفة المطلقة التي هي الحقيقة حقاً. فمنهج العلم التجريبي يقوم على فحص فرضية من خلال بيانات وملاحظات محسوسة لفحص الفرضية. ولكن حيث أن المنهج التجريبي يدرك أن الحساب الإحصائي احتمالي فإنه بالتالي لا يمكن أبدا “قبول” الفرضية مباشرة، بل يحاول “رفض” الفرضية اللاغية.
وهناك مثال مشهور يطرحونه لبيان هذه النقطة، وذلك أنه إذا دلّت المعلومات والبيانات على أن كل الإوز أبيض، يبقى هناك احتمال على أن تكون هناك إوزة سوداء. ولذلك فإن المنهج التجريبي لا يحاول إثبات فرضية “إن الإوز أبيض” بل يحاول نفي الفرضية المقابلة “إن الإوز أسود”. فإذا نجح في ردّ الفرضية اللاغية القائلة بأن الإوز أسود، يقول نجحنا في دعم الفرضية القائلة بأن الإوز أبيض. وإذا عجز عن رد الفرضية اللاغية، يقول فشلنا في دعم فرضية أن الإوز أبيض. وكل هذا معروف في أبحاث الابستملوجيا فيما يسمى مدخل الإثبات مقابل مدخل التكذيب أو النفي.
هناك مسألة ثانية حول منطق الحساب الإحصائي في إثبات السببية وذلك أن الإحصاء ليس أداة مجردة مائة في المائة بل الإحصاء نفسه قائم على نظرية في توزع البيانات. وباستعمال مبدأ الاحتمال أو الفرضية في الإحصاء يعمد إلى تقرير السببية. ولكن الفرصة لا تعني غياب أو وجود السببية مطلقاً، وإنما تعني غياب أو وجود سببية نعلمها ونفترضها أصلاً من وجهة النظر التي نفكر فيها. وأخيراً تجب الإشارة إلى أن نسبة الاحتمال المستعملة في المنهج التجريبي هي ٩٥٪. والمعنى العملي لهذا أنه هناك احتمال بنسبة ١/٢٠ (واحد من عشرين) أن تكون النتيجة التي حكمنا فيها على الفرض خاطئة. وبالطبع فإن تكرار هذه التجارب يسهم في حل المشكلة عملياً ويجعله منهجاً صالحاً للاتباع في المسائل العملية. ولكن الذي يهمنا هنا هو أنه لا يمكن أن يرقى إلى إثبات الحقيقة المطلقة.
حان الوقت للبشرية أن تتأدّب وتتواضع وتسير في الأرض بخُلق “والله أعلم” وأنه {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} وأنه سبحانه وتعالى وحده هو الذي {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.
29/03/1995