العُمران والبُنيان عند المسلمين
لم يكن التوسع العمراني الذي عرفته مختلف بلاد المسلمين في أرجاء عالمهم عبر أطوار تاريخهم عموماً، وخلال الحقبة الإسلامية بوجهٍ خاص وليد الصدفة. وإنما كان انعكاساً مباشراً لتمدّن مجتمعاتهم وما خلّفته من خبرةٍ في إنشاء المدن قامت على مبادئ وأحوال عمرانيةٍ وبُنيانية مستلهمة من الشريعة الإسلامية بوجه عام. وقد تأسست هذه المدن على ثلاث مراحل:
· اتسمت المرحلة الأولى بانتشار المدن التي أنشأتها الشعوب والقبائل قبل إسلامها، مع تكييف المراكز الحضرية السابقة للفتح الإسلامي لمتطلبات الحياة الإسلامية1 .
· وظهرت في المرحلة الثانية مدنٌ أنشأتها الدول التي تعاقبت على الحكم منذ الفتح الإسلامي إلى الفترة الاستعمارية، ولقد تشكلت هذه المدن بالكيفية التي تُلبي رغبات سكانها وتستجيب لأسلوب عيشهم، فعكست بالضرورة المبادئ المؤطِّرة لسلوكهم الاجتماعي والمجالي (نسبةً إلى المجال). وقامت هذه المدن على هدي الإسلام الذي يُكوِّن تصورات المجتمع ويؤطر مؤسساته انطلاقاً من مجموعةٍ من القواعد والمبادئ والأحكام وأهمها: حُرمةُ البيوت، حُسْنُ الجِوار، دفعُ الضرر، والقصد.
· ثم جاءت الفترة الثالثة انعكاساً للتوسع الاستعماري الغربي وما رافقه من تخريبٍ للبنية الاقتصادية المحلية، وخلخلةٍ لشبكة العلاقات الاجتماعية، وتفكيكٍ عميق للمجال العمراني الأصيل وما نجم عنه من توسّعٍ مُفرطٍ للمدن، الأمر الذي أدّى إلى أزمةٍ حضريةٍ واجتماعيةٍ شاملة لم يسبق لها مثيل في تاريخ المسلمين.
وبالجملة فإن المدن الأصيلة في دار الإسلام (أو ما يُسمّى اليوم بالعالم الإسلامي) تُعدُّ نموذجاً يتضح من خلاله وجود منهجٍ شامل يُجسِّد أنماطاً من السلوك والوعي لدى ساكنيها. من هنا تتضح أهمية تحديد المعالم الأساسية لفكرٍ عمرانيٍ وبُنيانيٍ يُمكّننا من إنتاج نسيجٍ اجتماعيٍ حضريٍ وقرويٍ أصيلٍ ومعاصر، وبهذا نكون قد حددنا الإطار المفاهيمي انطلاقاً من “النموذج المرجعي” الذي سيتم توضيحه لاحقاً، وهو الإطار الذي يمكن أن تُفتح من خلاله آفاق البرامج المستقبلية.
ولنتساءل أولاً: ما هو العمران؟ وما هو البنيان؟
1. تحديد مفهومي العمران والبنيان
إن التعريف بأي علمٍ إنما يبدأ عبر تحديد موضوعه ومصطلحاته مع إبراز أهدافه ووسائله، وهذا هو منهجنا في تحديد هذين المفهومين.
فالعمران: هو الاجتماع الإنساني الضروري لتبادل المصالح بين الناس ليكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم ومن استخلافه إياهم2. وما إنشاء المدن إلا تعبيرٌ عن هذه الحقيقة كما يتضح من دعاء “إدريس الثاني” مؤسس مدينة فاس، حين رفع رأسه إلى السماء وقال:
“اللّهم إنك تعلمُ أنني ما أردت ببناء هذه المدينة مُباهاةً ولا مُفاخرةً ولا رياءً ولا سُمعةً ولا مُكابرةً، وإنما أردتُ أن تُعبدَ بها ويُتلى بها كتابك وتُقام بها حدودك وشرائعُ دينك وسنّة نبيك ما بقيت الدنيا. اللهم وفِّق سكانها وقُطّانها للخير وأَعِنهم عليه، واكفهم مؤونة أعدائهم، وادرر عليهم الأرزاق وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنك على كل شيءٍ قدير.”3
واعتباراً لأهداف العمران الحضري وغاياته، فإنه يستند إلى قواعد تضبط تطوره وتُشكلُ ركائز نظامه التدبيري استناداً إلى أربعة أحوال: جلبُ المصالح، دفعُ المضارّ، تسهيلُ المرافق، وتدبير المجال4.
وأما البنيان: فالجدير بالملاحظة أن مصطلح “الهندسة المعمارية” الشائع اليوم للتعبير عنه، والقائم على أصول ثلاثة وهي الوظيفة والمتانة والجمال، لا يستوعب الأسس النظرية للبنيان الأصيل. من أجل ذلك سوف نعمل من خلال تحديد مفهوم “البنيان” على إرساء دعائم مصطلحٍ يُعبر عن علم فن البناء الذي قامت به حركة البنيان في دار الإسلام. ذلك بأن هذا المصطلح يُمكِّن من إيجاد فراغٍ عمرانيٍ يُيسرُ عبادة الله عز وجل في مفهومها الشامل، وهو من ثم عبارةٌ عن فقه نوازلِ حركة البناء تلبيةً لرغبات الإنسان وحاجياته في إطارٍ من تصوره ومعتقداته ضمن منظورٍ بيئيٍ وواقع معين.
وعليه، فإن أهداف البنيان هي تحقيق مقاصد الشريعة وقواعدها وأحكامها في المجتمع العمراني، وتنبع أهمية هذا التحليل الكلّي للمدينة من كونها تُعيننا على قراءة الأشكال المعمارية التي تتخذها الأبنية المختلفة.
2. المنطلقات الشرعية التي تحكم العمران والبنيان
بعد أن تم تحديد المفهومين الأساسيين السابقين، نتطرق إلى ذكر المنطلقات الشرعية التي تحكم هذا المجال من مقاصد وأصول وقواعد ومبادئ وأحكام، وهي المنطلقات التي تؤثر على أنواع الأبنية وأشكالها وعلى طبيعة العلاقة بين العناصر المتساكنة فيها.
أ. المقاصد
تشكل مقاصد الشريعة الإسلامية إطاراً من الضوابط التي تحكم النشاطات الإنسانية المختلفة، وتحقق التوازن العام لجميع أشكالها. وترسم المجال الذي يسمح للإنسان المسلم بالتحرك فيه، بما في ذلك حركيّة العمران والبنيان الأصيلين.
فبالنسبة لحفظ الدين، أقيمت القلاع والحصون والخنادق، وصُنِّفت ضمن البناء الواجب شرعاً لحماية بيضة الإسلام حتى تتم استعدادات المسلمين وتدريباتهم، وصُمِّمت الميادين والساحات خارج أسوار المدن، إضافةً إلى المساجد التي يرتادها عامة المسلمين لتلقّي أصول الدين ومبادئه وإقامة شعائره…
وبالنسبة لحفظ النفس، أُقيمت المساكن لوقايتها من حر الصيف وبرد الشتاء، وأُنشئت المستشفيات والصيدليات لعلاجها في حال المرض، وبنيت الأوقاف لمساعدة الضعفاء والفقراء وطلبة العلم…
وحفاظاً على العقل، حُرِّمت إقامة الحانات وأوكار بيع المخدرات، وبنيت المدارس والجامعات لنشر العلم وإقامة الحلقات الدراسية والأبحاث العلمية والمساجلات الفكرية…
ولحفظ النسل وصيانته، حُظر بناء دور الدعارة والبغاء وسُنّ تسهيل السكن لتشجيع الزواج ولتكثير سواد المسلمين…
ولحفظ المال، أقرّ الإسلام النشاط التجاري، فقامت له أسواقٌ بمختلف أنواعها، وحُرمت إقامة المؤسسات الربوية…
ب. الأصول والقواعد
الأصول: تضمَّنَ القرآن الكريم والسنة توجيهات عامةً هي بمثابة الأصول المعتمدة في عملية البنيان والعمران. فقد وردت في الآية 109 من سورة التوبة على سبيل المثال إشارةٌ إلى التقوى هي بمثابة المنطلق الأساس للعملية التعميرية برُمّتها، قال تعالى: {أفمن أسّس بُنيانه على تقوى من الله ورضوان خيرٌ أمّن أسس بنيانه على شفا جُرُفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين}. كما تضمنت كتب السنة المشرفة أحاديث مفصّلة تعرّضت لمظهر التنظيم العمراني عموماً دون إغفال التوجيهات الخاصة بالبنيان5. ذلك بأن المشتغل في هذا الميدان كيفما، كان مستوى تدخُّلُه، إنما يُشكّلُ مجالاً حيوياً ويُحددُ فلسفةً خاصةً للحياة.
القواعد: تضمّنت القواعد الفقهية عموماً والمتصلة منها بالضرر على وجهٍ خاص، مجموعةً من الضوابط التي تحكم سلوك المسلمين في المدينة عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”6 كقاعدة “الضرر لا يُزال بمثله”، وقاعدة “العادة محكَّمة”، وقاعدة “التابع تابعٌ”، وقاعدة “لا يجوز لأحدٍ أن يتصرّف في ملك الغير بلا إذن”، وقاعدة “التّصرف على الرّعية منوطٌ بالمصلحة”…
المبادئ: تحكم العمران والبنيان مبادئ أربعة هي: حرمة المنازل، وحسن الجوار، ونفي الضرر، وما اصطلحنا عليه بمبدأ “القصد” وهو الغاية الوظيفية من تنظيم المجال (أو الفراغ العمراني)، وقد تقدّم الحديث عن مبدأ نفي الضرر في القواعد السالفة الذكر.
أما مبدأ الحرمة فإنه يقوم على احترام الخصوصية داخل المنزل، وتأمين الوَقارِ بين المنازل وكذلك بين الأحياء السكنية ومجالات النشاط التجاري. وهذا ما تضمنته آيات الاستئذان من سورة النور7 سواء تعلّق الأمر بالمجال الخارجي (العمران) أو الداخلي (البنيان). ونحن عند تحليلنا للوحدة السكنية – الدار الأصيلة – نجد أنها مُصمّمة بشكلٍ يقسم المجال إلى مستويات ثلاثة:
· مستوى الاستعمال الخاص؛
· مستوى الاستعمال المُشترك أو الانتقالي؛
· مستوى الاستعمال الشائع أو العام.
وهكذا يتميز العمران الأصيل بِتَدَرُّجِ المجال – الفراغ العمراني – بحيث يتم الانتقال من المجال العام إلى الخاص عبر المجال الانتقالي بصفةٍ تدريجية، فهو بمثابة صلةِ وصل بين الفراغين إن على المستوى العقاري أو على مستوى الاستعمال.
فمبدأ الحرمة إذن لا يعني الانغلاق المطلق، وإنما يُمكِّنُ من إقامة توازنٍ بين المستويين الشائع والخاص. ومن أجل هذا مُنِعَ فتح الدكاكين في الأزقّة غير النافذة (الدروب)، وأمام أبواب المنازل وفي الطرق الضيّقة8، كما مُنِعَ في الوقت ذاتهِ فتحُ أبواب البيوت على الشوارع النافذة أمام الدكاكين والأسواق.
وأما مبدأ حسن الجوار فهو نوعان: رأسيٌّ وجانبي. فالرأسي اصطُلح عليه بِحَقّ التعلِّي في البناء المكون من طابقين أو أكثر ويقتسم ملكيّته أكثر من شخص، حيث يكون لصاحب العلوّ حق القرار على السّفل، كما يكون لصاحب السفل ملك السقف. وبحكم قوة هذا الجوار لتعلّق كلٍ من الملكين بالآخر، وَجَبت مراعاة كلٍ منهما لحقوق الآخر عند تصرفه بملكه حتى لا يضر جاره. والنوع الثاني وهو الجانبي، فإنه يُقيّدُ حق التصرف بالملك بعدم الإضرار وإن لم يقصد الضرر.
أما مبدأ القصد فهو الذي يُحدد الغاية من إنشاء أي فراغٍ عمراني، وخاصةً بالنسبة للمسالك والطرقات داخل الأسوار، فلا وجود مبدئياً لساحةٍ دون وظيفةٍ أساسيةٍ يمكن أن تُلحق بها وظائف أخرى، مثل ساحات المساجد والأسواق والفنادق… عملاً بالتوجيه النبوي “إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يارسول الله ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقّهُ، قالوا وما حق الطريق يارسول الله؟ قال: غضّ البصر وكفُّ الأذى وردُّ السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” (متفقٌ عليه).
3. الوسائل والمؤسسات التي تؤطر نظام التدبير العمراني والبنياني
أ. الوسائل
اهتمّ علماء المسلمين بالحديث عن مثل هذه الوسائل، ويتضح من قراءة كتابَي “أحكام البنيان: لابن الرامي9 و “نفي الضرر”10 للنُطيلي، كيف وَجّهت الأحكام استغلال الأراضي للبناء، واستغلال العقار، وعملية التصرف فيه بيعاً وشراءً، وكيفية تقسيمه. كما ضَبطت مواصفات موادّ البناء، حيث بيّنت طرق صنعها والشروط التي يجب توفرها فيها، ونّظّمت عملية التعاقد على البناء بين الراغبين فيه وبين أهل الصنعة من البنّائين.
وتَطَرّقت أيضاً لتوظيف الأموال في البناء، فحددت موارده وأَوجُهَ صرفه وكيفية تمويل المشاريع. ومن الوسائل التي ذكرت في هذه الكتب:
الأرض: حيث وُضعت شروطٌ ومعايير دقيقة لاختيار المواقع الصالحة لإنشاء المدن، تأخذ بعين الاعتبار معطيات الميدان التضاريسية منها والمناخية التي يتعين مراعاتها في تحديد الموقع والموضع وكذلك في جلب المنفعة ودفع المضرة. ونظراً لما للعقار من خصوصيةٍ في الإسلام نظراً لكونه عاملاً أساسياً في عملية البناء، فإنه لا بد من التمييز بين أراضي الصلح وأراضي الخراج والصوافي والأراضي الموات، إلى جانب الملكية الخاصة وتشعّباتها وما يتصل بالمصلحة العامة تبعاً لوظيفتها الاجتماعية، سواء تعلق الأمر بالاستعمال أو الاكتساب.
التمويل: وعلى سبيل المثال فقد مَنَعت أحكام الفقه بناء المساجد من الأموال المغصوبة أو الأموال الربوية. وتُعتبر مراعاة الأولويات قاعدةً من القواعد المُقرَّرة في نظام التدبير الأصيل، حيث يسري مفعولها على الموازنة بين المشاريع وتقديم الضروري منها على غيره. فأهل كل مدينةٍ أولى بفائض دخلها، والمشاريع المُحققةُ للأهداف والمصالح الاجتماعية الداخلة في دائرتي الضروريات والحاجيات مُقدّمَةٌ على غيرها من الترفيهيات… وهكذا.
وسائل الإنجاز: وقد تعدّدت هذه الوسائل في التراث الفقهي، ولكن المُجاعلةُ والمؤاجرة تُشكِّلان أهمّ أشكال التعاقد الفقهي في البناء. وفي الوقت نفسه شدّدت الأحكام على منح الحقوق لأصحابها، وخاصةً حقوق العمال العاملين في البناء.
الشكل ومواد البناء: إن أهمّ المنطلقات التي تحكم الشكل في العمران والبنيان البساطة والابتعاد عن التبذير انطلاقاً من مبدأ الوسطية في الإنفاق بشكلٍ عام. قال تعالى: {أتبنون بكل ريعٍ آيةً تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون}11، وقال سبحانه: {وتنحتون من الجال بيوتاً فرهين}12. إلا أن هذه البساطة لا تتنافى مع الذوق الجمالي، لذلك كانت العمارة هي المُعبِّر الأول عن الفنّ لدى المسلمين، إلى جانب الأدوات التي يحتاجها الإنسان في بيته أو في عمله (من السجاد والأواني وما إلى ذلك).
ومن أهم العناصر الفنية التعبيرية التي استعملها المسلمون، الخطّ والزخرفة والمُقرنصات13 إلى جانب الضوء كعنصرٍ من العناصر الأساسية في التشكيل الفني. وقد استطاعت هذه الفنون المتنوعة أن تحافظ على وِحدتها وتميزها، بالرغم من تعدد العناصر التعبيرية والمواد المستعملة، وبالرغم من اختلاف الزمان والمكان. وإنما سُمِحَ بالإبداع في هذه الأشكال لإضفاء مسحةٍ من الجمال على البناء بحيث تجعلُهُ موطن استجمامٍ وتهيئةٍ للعمل في أرجاء الحياة.
ب. المؤسسات
هناك فرقٌ شاسعٌ بين السُلطة التي مُنِحت للمهندس المعماري في تشكيل المجال وتغييب العناصر الأخرى الفاعلة، كما هو معمولٌ به الآن، وبين الكيفية التي وُزِّعت بها الأدوار على مختلف الأطراف الفاعلة والدور التنسيقي الذي تضطلع به الجهات المسؤولة عن العملية العمرانية والبنيانية في مجتمع المسلمين الأصيل. وأهم تلك الجهات المضطلعة بحركة العمران والبنيان في المدينة الأصيلة إلى جانب القاعدة الأهلية14: الإمام أو الخليفة ومن يقوم مقامه، وولايةُ المظالم، وولاية القضاء، وولاية الحسبة، وشيوخ النظر أو الأمناء إلى جانب الفقهاء.
فمن مهام الإمام بوصفه مسؤولاً فيما يخصُّ هذين المجالين: الإشراف على التخطيط والتنظيم العامّين للمدينة وإقامةُ المرافق الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والتحصينات العسكرية…
ومن مهام ولاية المظالم بوصفها وظيفةً تمزج بين سطوة والسُلطة و نُصفةِ القضاء ، وتحتاج إلى عُلوٍّ وعظيمِ رَهبة: النظر في الشكاوى ، وردُّ المغصوبات وإقامة العقوبات التأديبية الزجرية ، والفضُّ في النزاعات والمظالم في مجال العمران والبنيان .
وأما بالنسبة لولاية القضاء فإن جملة ما يُكلّفُ به القاضي في مجال العمران: العمل على الكفِّ عن التعدّي في الطرُقات والأفنية ، وعن إخراج ما لا يُستحقُّ من الأجنحة والأبنية ، والفصل في تجاوزاتٍ خاصةٍ بالبنيان ، أو خصوماتٍ متعلقةٍ بالتزامات الجوار أو غيرها . أما أهل النّظر أو أهل المعرفة ، فإنهم بمثابة المساعدين والتقنيين للقاضي ، لما يقومون به من معاينة العقار المُتنازع عليه ، ووصف حالته بشكلٍ يُوضحُ ما التبس منه ، تمهيداً للحسم النهائي وفضّ النزاعات والحكم فيها والذي يُعتبر من اختصاص القاضي .
وأما ولاية الحسبة فهي ولايةٌ دينيةٌ بين القضاء والمظالم ، وقد تدخل في مهامّ القاضي وقد تستقلّ عنه . ومن اختصاصات المُحتسب في مجال العمران والبنيان: مراقبةُ أرباب الحرف بما فيهم المهندسين والبنّائين ، وتقويم كيفية أدائهم لأعمالهم ودى احترامهم لآداب مهنتهم ، وكذلك مراقبة الأبنية والطرق والساحات .
وأما مهمة الفقهاء: فتنحصر في رصد مُستجدات المجال العمراني والبنياني لإبداء رأيهم فيها وللإفتاء فيما أشكَلَ من الأمور. ممثلين بذلك سُلطةً اجتهاديةً تُزوّدُ القُضاة بالمستندات اللازمة ليتمكنوا من الفصل في قضايا العمران والبنيان.
4. منهجية الاستلهام من التراث العمراني والبنياني:
إن مما يؤسف له في عصرنا هذا أننا حينما نريد أن نبحث في تأصيل هذا المجال نجد أنفسنا مضطرين للعودة إلى التاريخ وكأننا محبوسون في التراث العمراني والبنياني. والحقيقة أن أهمية هذا التراث تكمنُ في كونه يُمثّلُ حلولاً عمليةً لمشاكل طُرِحت في زمانها وفي سياق مجتمعٍ متميزٍ نسبياً. هذا التميز هو الذي ينبغي أن نتحلّى به ونحن نبحث عن “النموذج المرجعي” الذي نريد استلهامه في بناء مدينة الغد. وهو نموذجٌ سيُمكّنُنا من تكوين مُقاربةٍ تحليليةٍ ومفاهيميةٍ للمشاكل الحضرية. ولا غرابة عندئذٍ في أن تتغير كلُّ أو جُلُّ أدوات التحليل والممارسة المستعملة حالياً، وذلك بغية تجسيد المبادئ المؤسِّسة لذلك النموذج المرجعي في العمران والبنيان، فهذه المبادئ هي الأساس الذي تقوم عليه كل الأشكال الخاصة بالنّسق الذي نريد إنشاءه لمدينة المستقبل.
والتصور الأساس الذي يحكم هذا النموذج المرجعي المقترح إنما يتمثل في مبدأ “المشاركة”. ففي سياق هذا التجرُّد الجماعي، يُعبِّر كلٌ من “المُعلِّم البنّاء” أو “المهندس المعماري” و “شيخ النظر” والفقيه والمحتسب والقاضي والوالي أو الحاكم عن انتمائهم للمجتمع بالعمل على خدمته، بحيث لا يُهيمن على هذا الانتماء هاجسُ تأطير المجتمع أو إخضاعِهِ لِسُلطةٍ أو فكرةٍ أو ملأٍ من الناس. وهنا نجد أنفسنا أمام تساؤلٍ يفرض نفسهُ بإلحاح: أيُّ مجالٍ نريد أن نُعِدَّ، ولأيّ مجتمعٍ أهلي؟ وبالجواب على هذا السؤال فقط يتم ردُّ الاعتبار للمدينة الأصيلة كمنطلقٍ للنموذج المثالي لمدينة الغد في بلاد المسلمين.
ولقد نذر كثيرٌ من الزملاء في بعض بلاد المسلمين أنفسهم من أجل هذه المهمة ولكن – للأسف – دون تنظيمٍ هادفٍ ومُثمرٍ لجهودهم. ومن أجل هذا أيضاً قامت الورشات النظرية وأُعدّت الأطروحات، في انتظار أن تجد الآذان الصاغية والإرادة الحسنة المُنفّذة. لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا بعد تَشَكُّل القناعات لأن هذا الأمر هو منطلق ترجمتها في الواقع، والتطبيق الواقعي في كل تخصص إنما هو جزء من كلّ، بمعنى أنه خطوةٌ من خطوات المشروع الشامل للتغيير.
5. استنتاجاتٌ وتوصيات
أ. الاستنتاجات
· إن التوسع العمراني الذي شهده عالم المسلمين عبر أطواره التاريخية، باستثناء الفترة الاستعمارية، كان مُستلهماً من مبادئ الحرمة وحسن الجوار ودفع الضرر والقصد المستوحاة من الشريعة الإسلامية.
· إن المدن الأصيلة التي ما زالت قائمةً في بعض بلاد المسلمين تُمثّلُ بعمرانها وبنيانها نموذجاً للبشرية جمعاء.
· إن العمران كمفهوم مجالٌ لتبادل المصالح بين الناس بما ينسجمُ ومهمّة الاستخلاف، وإن القواعد الحاكمة له تُحقق جلب المصالح ودفع المضار، وتُيسّرُ المرافق، وتُعين على تدبير المجال. وإن البنيان كبديلٍ عن مصطلح “الهندسة المعمارية” الشائع اليوم، يُمكِّنُ من إقامة مجالٍ تُحقّقُ فيه العبادةُ بمفهومها الشامل ويعكس حركة نوازل البناء.
· إن مختلف أنواع البنايات والمرافق العامة والخاصة روعيت فيها مقاصد الشريعة في شموليتها واُخذت بعين الاعتبار أصولها ومبادئها وأحكامها وفلسفتها العامة.
ب. التوصيات
· إن من الضرورة بناء واستلهام “نموذجٍ مرجعي” يستخدم أدواتٍ تحليليةٍ منسجمة ضمن نسقٍ تَشَارُكيٍ تتجرد فيه الجماعة وتنصهر في بوتقته كل الأطراف المساهمة في العملية العمرانية والبنيانية، وتتفاعل فيه كل الإبداعات.
· يجب ردُّ الاعتبار لمختلف الأطراف الفاعلة المشاركة في تلك العملية من أعلى مستويات التصميم إلى أدنى مستويات التنفيذ.
· يجب توجيه استغلال الأراضي للبناء بعد حُسنٍ اختيار مواقعها ومواضعها، وكذلك استغلال العقار وعملية التصرف فيه، وكيفية تقسيمه وضبط مواصفات مواد البناء وطرق صنعها، وشكل البنيان بساطةً وجمالاً، والشروط المتعيَّن توخّيها فيه، إضافةً إلى عملية التعاقد على البناء وموارد التمويل ومصارفه، وطرق الاكتساب والاستعمال، وضبط الأولويات وتحديدها.
· ضرورة تبني المشروع وترجمته عملياً على ساحة الواقع مع الأخذ بعين الاعتبار مستجدات العصر في الميدان.
06-1419 هـ / 10-1998 م
1 مثل دمشق وحلب في الشام، وطنجة وسبتة في المغرب الأقصى.
2 “مقدمة ابن خلدون” لجنة البيان العربي المالية 1384هـ / 1965م، ص 420-423 / ج1.
3 أحمد خالد الناصري “الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى”، دار الكتاب، الدار البيضاء 1373هـ / 1954م، ص 152 /ج1.
4 أو الفراغ العمراني البنياني.
5 راجع كتاب “الأدب” عند البخاري ومسلم.
6 رواه مالك في المُوطّأ وابن ماجه والدارقطني وغيرهم، وهو حديث حسن.
7 الآيتان 27 و 28 للاستئذان من خارج السكن (العمران)، والآيتان 58 و 59 للاستئذان داخل البيت (البنيان).
8 ومن الوظائف التي كان ينهض بها المُحتسب السّهرُ على مدى التزام الناس بذلك، ونجد ذلك حاضراً في كتب الحسبة.
9 كتاب “الإعلان بأحكام البنيان” لأبي عبد الله محمد بن ابراهيم اللخمي المشهور بابن الرامي التونسي في مجلة “القضاء” التي تصدرها وزارة العدل بالمغرب، سبتمبر 1983م ص 274 – 484.
10 كتاب “القضاء ونفي الضرر عن الأفنية والطرق والجدر والمباني والساحات والشجر” لعيسى بن موسى بن أحمد النُطيلي، مخطوط أندلسي يوجد الجزء الثاني منه في مكتبة ابن يوسف المرابطي بمراكش، رقم 139.
11 الآيتان 128 و 129 من سورة الشعراء.
12 الآية 149 من سورة الشعراء.
13 وهي تقنيّات بناء القِباب.
14 أهم مؤسسة تساهم في إنشاء المجال البنياني والعمراني هي القاعدة الأهلية.