الفقراء والجنة وإساءة الفهم
تعود أحد الظرفاء أن يحضر درس الشيخ في المسجد، وكانت تعليقاته على ما يقرره الشيخ دعابات تجدد النشاط وتقطع جو الرتابة والملل.
كان الشيخ يتحدث مرةً عن ما أعده الله سبحانه وتعالى من الأجر والثواب للفقراء الصابرين الذين ضاقت أحوال معيشتهم في الدنيا فصبروا ولم يخرجهم الفقر إلى التذلل والاستخذاء وعاشوا بكرامة القناعة والزهد والترفع. وفي هذا السياق ذكر الشيخ الأثر المروي أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.
وعندما سمع صاحبنا الظريف بهذا الحديث ردد متمتماً: نعم يا سيدي نعم، معلوم يا سيدي معلوم، بلهجة توحي بالثقة والاطمئنان.
أحسَّ الشيخ عندها أن هناك دعابة تجول في الذهن وكأن هذه التمتمات هي طلب الإذن للإفصاح عنها. فالتفت إليه قائلاً: وماذا ترى في هذا الحديث وهل أثار عجبك من معناه شيء؟
قال صاحبنا الظريف: نعم يا سيدي يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فيكنسون هنا وينظفون هناك ويزرعون هنا ويمهدون هناك ويرتبون الأرائك ويصفون الزرابي ويزينون كلّ زاوية و كن حتى إذا جاء الأغنياء وجدوا كلّ شيء على أتم ما يرام في الإعداد والترتيب والنظافة والنظام. يا سيدي ما أرى إلا أن الأغنياء قد ظفروا بالحظوة والتكريم في الدنيا والآخرة.
حدثني صاحبي بهذه الدعابة وما كنت أظن عندها أن هذا التفكير المضحك في سذاجته والذي يفرض منطقه على مساحات وأوضاع مختلفة متباينة، يمثل ظاهرة منتشرة في طول الأمة وعرضها، وتعيش الأمة عقابيل هذا النمط من التفكير في كل ما يحيط بها من أزمات وصعوبات.
يتصور الناس نموذجاً للصلاح والفلاح يبنونه من أوهام إمكانية إعادة التاريخ وتكرار خصوصيات ما سلف من ممارسات، وتجدهم يأتون في هذا بالعجيب الغريب من معايير التقوى والصلاح والاستقامة والتدين ما يذكرنا بما فهمه صاحبنا الظريف من دخول الفقراء قبل الأغنياء بخمسمائة عام.
وعندما يتحدث الناس عن التغيير والإصلاح يتصورون من وسائل التمكين والنصر والقوة والمنعة ما يند عن كل منقول ومعقول وما يتعارض مع الواقع والتاريخ، وهم مع ذلك يظنون أن منطقهم سائغ وأن ما يتوقعون من النتائج ممكن، وما أظنهم إلا متبعون لمنطق تأويل حديث دخول الجنة والذي يفرض منطق المسكنة وعقلية الخدم والخول على سكان دار الكرامة والنعيم المقيم.
فإذا اعترضت على أمثال هؤلاء وحاولت أن تؤسس للعقل والرشد وصرامة السنن وجدية الالتزام بمنطقها، نالك منهم العنت ووجدوا فيك تفسيراً لخيبة أملهم وربما وصل بهم الأمر إلى التشكيك بالإيمان والانحياز للأعداء.
وعندها لا يدري المرء هل يضحك عندما تتبدى السذاجة بمنطقها الذي يدعو للسخرية، أم يبكي لما فقدته الأمة من رجاحة ورصانة فلا ترد الأمر إلى الذين يعلمون ويستنبطون.