الفكر الإسلامي في شباك الحركة
بنى الإسلام حضارةً رائدةً شاركت في تشييدها أمم مختلفة وثقافات متنوعة استوعبت نداء الإسلام وتفاعلت مع توجيهاته وتحركت نحو أهدافه الكبرى. وحيث أنه شاركت في هذه المسيرة المباركة تيارات اجتماعية وسياسية مختلفة فإن الفعل الحضاري قد تشكل من تحرك أممٍ بكاملها ضمن إطارٍ مفاهيمي إسلامي (صفا أحياناً ولم يصفُ أحياناً أخرى وتأثر بواردات خارجية ظهرت في النتاج). ثم كان أن حصل الانحدار الحضاري الذي انتهى إلى واقعنا الحالي الذي تتحرك فيه جموع الأمة في إطار مفاهيمي يُوظّفُ نتاج كدحها إلى غير ما فيه صالحها وصالح حضارتها.
ولقد تنوعت جهود الإصلاح وتوجه بعضٌ منها إلى معالجة جذر الأمة وأساسها (ألا وهو التصور)، فما من واقع إلا ويستند إلى تصور معين يستمد القدرة على الاستمرار منه، تصورٍ يحفز الجهود والقدرات والطاقات ويوجه التصرفات والأعمال إلى وجهة معينة.
وعندما نمعن النظر في واقعنا المعاصر نجده يواجهنا بظاهرة هجران بين الفكر والعمل، وبتشكل خطابٍ جديد يطلق عليه أحياناً عبارة “الفكر الحركي الإسلامي”. وهو فكرٌ ابتعد رويداً رويداً عن ميادين الفكر والتفكر والتعقل والتدبر ووقع في شباك الحركة ترسم له حدوده وتحدد له آفاقه وتحرمه من العطاء والإبداع المثمر.
وإذا أردنا رصد هذه الظاهرة فإنه يلزمنا تفحص بُعدين: بعد تفاعل التوجه الحركي الإسلامي مع النص من جهة، وبعد خياره الحركي الذي تبناه كآلة للعمل والتأثير من جهة أخرى. ورغم أنه توجد اليوم طروحات إسلامية في غاية العمق والأصالة والنضوج، إلا أن الشارع الإسلامي يقع تحت تأثير تيارين يعرفان اختصاراً بالتيارين “المذهبي” و “السلفي“. الأول “المذهبي” يمتد على درجات، بين الارتباط بمذهب واحد أو التنقل بين المذاهب، والثاني “السلفي” وهو أيضاً يمتد على درجات في الوقوف على حرف النص. وسأستعمل هنا هذين الاسمين المشهورين بغض النظر عن المعنى التاريخي لهما.
إن أول ما يقابلنا به التوجه المذهبي هو تحويل مركزية الفكر ومرجعيته من الينابيع الأصلية إلى نتاج الأمة التاريخي. ويلاحقنا هذا التوجه بجملة ضخمة من النصوص الفقهية والفتاوى التاريخية مُتلبساً بعقدة إثبات عظمة الماضي أو بوهم أن ثراء الماضي يُغني عن جهاد اليوم، وكأن غنى إرث الأب يعفي الأولاد من مهمة العمل أو يحصر مهمتهم في التفرج على هذا الإرث واجترار مادته وتكرارها. وبالمقابل فإن التوجه السلفي الذي أراد أن يستنقذ التفكير من التبعية بتوجيهه نحو المصادر الأصلية سرعان ما سقط في مجموعة أقوال تراثية أخرى يحاول فيها تبرير نزعته نحو الفهم الحرفي للنصوص.
أما عن الخيار الحركي فإننا نستطيع تمييز توجهين عامين، توجه “محلي” يركز بصره ويجمع همه على واقع صغير يتمحور حوله ويلتف بأولوياته، وتوجه “شمولي” يتمنى العالمية ويطلق بصره نحو آفاق كبيرة رغم أنه مازال متمركزاً في حواصل ضيقة غير مصممة لهذا الانطلاق فيحاول مطّ أغشية هذه الحواصل لتغطي عالماً كبيراً لم يعتد عليه أو يُعدّ له.
إشكالية الخطابات
تحتل خطابات هذه الأقطاب الحركية والفقهية اهتمامات الشارع والمسجد المسلم مُنحيّة جانباً التوجه الفطري للإسلام وفارضة نفسها على أنها خطابات فاصلة قاطعة قادرة على إعادة الأمة إلى مواقع العزة والصلاح. ولكن نظرة تمعن تظهر أنه وإن كنا لا نستطيع حرمان هذه الخطابات من أي أثر إيجابي، فإنها تكاد لا تساهم البتة في النهضة الحضارية للمسلمين.
وذاك لأن التوجه المذهبي التقليدي يلاحق العقل المسلم بنصوص وفتاوى، الأمر الذي يحرم من تمحيص صحتها أو تمحيص صلاحيتها. فبعض هذه الأقوال ارتبط بظروف موضوعية بحتة مخالفة للظرف الموضوعي الذي يعيشه المسلمون اليوم. والمشكلة في هذه الحالة ليست في ذات الأقوال وإنما في القارئ الذي يغمض عينيه عن النسبية الزمانية والمكانية لهذه الأقوال. وبدون الإدراك العميق لحقيقة أن هذه الأقوال ليست ملزمة وبدون التفصيل في ظروفها التاريخية يتحول التراث إلى منجم خام لا يمكن الاستفادة منه. ثم هناك قسم آخر من الأقوال لم يخل من إشكال أصلي في ذات الفهم والتخريج، وما كان الإنسان معصوماً. أما التوجه السلفي فإنه يحاصر العقل المسلم بالمعاني الحرفية للنصوص ويحول ما هو شديد الارتباط بالظرف إلى مطلق أبدي ويحيل الرؤية الإسلامية إلى قطع ونتف غير مترابطة.
فعلى هذا فإن كلا التوجهين المذهبي والسلفي يتذبذبان بين المعنى الحرفي للنص وبين التأويل الكيفي حسب فهم انطباعيٍ اعتباطي للظروف، وكلاهما يدعي الانتساب إلى عالمية النص ولا محدوديته الزمانية، من غير أن يكون قادراً على إطلاق الفكر في تفحص الواقع الذي سيطبق عليه النص. فادعاء النسبة إلى الشمول والعالمية هنا لا يعدو أن يكون شعاراً للمزايدة يزيد العقل المسلم بعداً عن تفهم واقعه وكيفية معالجة النص للواقع، وذلك لأن النص قد أُعطي ابتداء صفة اللمسة السحرية.
وبعبارة أخرى، فإن كلا التوجهين يمنعان استحضار الآليات اللازمة لتنـزيل النص. وكلاهما لا يدركان صيرورة الفعل الإنساني والحركة التاريخية ويتصورانهما على أنهما مجرد فعل ورد فعل ضمن تموضع ثنائي آني، ينتفي فيه بعد الزمان من ناحية كما ينتفي فيه بعد التفاعل المتعدد الأقطاب والمتعدد الطبقات الذي لا يمكن رصده على مستوى مسطح واحد.
وكلاهما يغيب عنه أن التغيرات التاريخية ليست تغيرات كمية ينفع معها مط النصوص، وإنما هي تغيرات نوعية يحتاج إلى كشف كنهها الجديد وموضع المضغة منها الذي يحتاج إلى النص ليصلحه ويزكيه.
وكلاهما يحرم من إمكانية الاستفادة من التجربة البشرية بحجة أن النص لم يسكت عن شيء، مع أن التجربة البشرية هي كتاب الله المفتوح في الأنفس والآفاق.
وأخيراً فإن كلاهما يحتكران شرعية الخطاب الإسلامي ويحرمان كل من لا يتمتع بالرموز بأن يسهم في مسيرة نضوج الفكر المسلم.
وتتأثر الخطابات في الخيار الحركي بكونه ذي توجه محلي أو شمولي. وإننا لنجد أن التوجه الحركي المحلي ‑كنتيجة لبساطة قاعدته الفكرية‑ يعاني عقدة الانحصار، من هنا فهو يُلزم الفكر ببلايا من إفراز الواقع المحلي ليس هناك أي مبرر لإلصاقها بالإسلام وتوجهاته. فكثيراً ما يقع التوجه المحلي في شبكة وسوساته الضيقة التي يعيش فيها ليلاً ونهاراً فيجعل منها إشكالات عامة يُمحور حولها الناس وعقولهم.
كما يقع التوجه المحلي فريسة سوء فهمه للواقع الذي يتعامل معه، فانحصاره المحلي يحرمه من تقييم صحيح للواقع مما يتسبب في ازدياد احتمال فشله. وعندما يفشل لا يعدم وسيلة لتبرير هذا الفشل وتأكيد سلامة نظرته الضيقة. ثم يتحرك نحو التأصيل الشرعي لهذا الانغلاق ليعفي نفسه من مسؤولية الفشل وليبرر به استمرار الهياكل الصغيرة التي تعود أن يسير بين أسوارها.
وأخيراً فإن التوجه المحلي حين يعزل نفسه يقف حائلاً دون إنضاج العقل المسلم الذي لا مفر من أن يدخل المعركة وأن يبدأ بالتعرف على الغابة، وكلما تأخر عن دخول هذه الغابة كلما زاد غموضها وصعب دفع فلذات الدماغ نحوها. بل الأخطر من ذلك أنه كلما تأخر الدخول زادت احتمالات ضياع الروّاد الفدائيين، وحرمت الأمة من التجارب الأولى العسيرة.
أما الاهتمام الحركي الشمولي فإنه عرضة لأن يلزم الفكر ببلايا ليست من طبيعة الفكر الإسلامي ولا من أصالته، فرضها على نفسه بسبب مواجهته لظروف معينة. فالشمولي نمت عضلاته وقدراته على الحركة أسرع من نمو فهمه وتصوره، فوقع في عقدة العصر أو الانعصار. وذلك أن احتياجاته الحركية تصبح أولويات فكرية يدفعها إلى المقدمة ويحشد لها الشواهد ليبرر تكتيكاته ويضفي عليها الشرعية ويضمن بها ولاء الأتباع ويحرك بها الجموع نحو تحقيق الهدف الحركي، غير مبال بالتضخيم الذي يسببه في مفاهيم الإسلام وغير ملتفت إلى إفقادها تناسباتها الأصلية الفطرية.
وكثيراً ما تتذبذب معطيات الفكر الحركي الجماعاتي بين موقف الرفض الذي لا يحب أن يعترف بأي درجة صواب أو خير عند الآخرين، وبين موقف مصادقة عمياء على الواقع المهترئ الفاسد، بعد اقتراح بعض التعديلات الهامشية. وذلك لأن إيديولوجيات الحركة تكون قد بُنيت ورتبت على شكل يتسبب في انهدامها الكامل إذا لم يُعمد إلى تبني أحد النقيضين، الرفض التام أو المصادقة التامة لطروحات الآخر.
وأخيراً فكثيراً ما ينـزلق التوجه الجماعاتي إلى اعتبار وصوله لسدة النفوذ تحقيقاً كاملاً للمراد. وسدة النفوذ هذه قد تكون حُكماً سياسياً أو دون ذلك. ولكن لما صُرفت جهود ضخمة من أجل الوصول، أقلمت ظروفُ معركة الوصول هذه ومتطلباتُها النفوسَ وأجهزةَ الحركة بحيث أصبحت صالحة بالدرجة الأولى للتسلق والوصول أكثر من الإصلاح وتحقيق البرنامج. ويغلب أن يحدث هذا إذا طالت معركة الوصول وعاشت سنين على نمط حرب الاستنزاف، أو إذا كانت من النمط الانتهازي البحت المستعد لتقديم التنازلات المبكرة واقتسام المغانم.
والخلاصة أن كلا التوجهين الحركيين الجماعاتي الشمولي والمحلي يعملان أولاً ثم يفكران من أجل تبرير العمل.
وكلاهما في حماس الحركة والإنتاج يبنيان واقعاً معوجاً من اليوم الأول ثم يصرفان العمر والجهد في تقويم هذا الواقع المعوج الذي صرفت فيه الجهود وتعلقت فيه النفوس واكتسب مقاماً رمزياً في مخيلة الناس مما يستحيل معه نقضه وبناء أقوم منه، كما يستحيل رده قائماً مستوياً بلا اعوجاج بعد أن تراكم عليه ثقل الزمان وارتبطت به أحراش المكان.
وكلاهما يعانيان غربة عن مصالح الأمة الكبرى رغم تفانيهم في خدمتها. وذلك أنه كثيراً ما تحتدّ ظروف الحركة ومستلزماتها وضغط الواقع الذي أُسيء فهمه ابتداء، فتقلب الأولويات ويُهمش الأصلي ويرفع الفرعي إلى صدارة الكلي.
وأخيراً فإن كلاهما في تجاوزهما للبناء الفكري الأصيل وركضهما نحو الحركة وجني الثمار كثيراً ما يرتهنان للواقع الغالب أو يدخلان أنفسهما مدخلاً ضيقاً لا مناص منه، وبذلك يمددان عمر النموذج الغالب إما بالعزف على منواله (مع تغيير اللافتات) أو بفقدان القدرة على أي عزف ابتداء.
إمكانية التكامل
وبعد فإنه كان فيما سبق عرض خاطف لأنماط من التوجهات الحركية التي تحدد “مساحات اهتمام” عملية تتفاعل مع مداخلها في الفهم النصي لتنتج أنماطاً متعددة من الخطاب الإسلامي الذي يملأ الشارع المسلم ويقتسم العقول والطاقات والموارد والإمكانيات. وقد اقتصر هذا التقسيم على النظر من داخل منظومة الفعل المسلم ولم يُدخل فيها العوامل الخارجية مثل حدوث أزمة اقتصادية أو سياسية حادة في المجتمع، رغم أني لا أظن أنه تتغير مراكز التمحورات تجاهها وإنما تدفع كل فريق لتغطية مساحات أكبر أو أصغر من الواقع وتدفعه إلى إجراء تغيير في نغمة انتقاداتها لا في منطق التعامل. وكذلك فإنه ربما تؤثر العوامل الخارجية في ظهور وارتفاع بعض الخطابات على الآخر.
والسؤال الآن هل بالإمكان تكامل أنواع الخطاب المذكورة، وفيما إذا كانت تشكل بمجموعها خطاباً متوازناً؟ ولقد حاول العرض الفائت التركيز على جزئية الخطاب الناتج وأنه بعيد عن تشكيل بلاغ إسلامي لائق أي بعد.
فمثلاً يمكن أن يقال إن خطاب الملاطفات يسمح بدخول فكرة الإسلام إلى مواقع غير معهودة، أو أن خطاب التلميع التراثي يساعد على قيام مشاريع عملية تعيد إخراج تراثنا التاريخي النقي الذي لا يمكننا الاستغناء عنه على كل حال، أو أن الخطاب الإسلامي الوطني يحفز ويحشد إمكانات لا يُتصور حشدها في يوم من الأيام، وهكذا…
وللإجابة على هذا السؤال فإننا بحاجة للتفريق بين بيئتين للخطاب الفكري-الحركي: بيئة “التنوعية في الخطابات” وبيئة “التمحور المتعدد“. والفرق الأساس بينهما أن الأول يعترف أساساً وبناءً بوجود خيارات عملية متنوعة وأن تواجد الاهتمامات المتعددة أمر محبذ ومطلوب. وبالمقابل فإن التمحور المتعدد هو ذاك الوضع الذي يتفرد كل توجه بالساحة أو يعزم على ذلك، أي أنه يكون هناك عدة توجهات وكل منها يحاول احتلال كل الساحة وتوظيف كل الإمكانات والموارد لصالح محور واحد والتهميش الكامل للآخر.
ويتجسد هذا واضحاً في الأعمال الحركية التي تلاقي قبولاً واضحاً ونجاحاً مبدئيين يملآنها بالغرور ويوجهان الحركة نحو التوسع وتغطية كل أصعدة العمل مستندة إلى رصيد نجاحها المبدئي وإلى اسمها الذي اكتسب شهرة وسمعة طيبة. أو بعبارة أخرى فإن التمحور المتعدد هو ذاك الذي يسعى فيه كل فريق إلى تحقيق التكامل من خلال ذات جماعته الحركية وليس من خلال تكامل القوى المتحركة الموجودة في الساحة، وهذا بدوره يقود إلى ظاهرة ما أُسمي بالتكامل المؤدي للتآكل.
وبالطبع فإن رغبة الحيازة على الساحة كلها يمكن أن تفسر بوجود نزعة مصالح شخصية تتسابق نحو مواضع القيادة ساعية تنصيب نفسها على رأس الجميع، في نمط تسلط فردي تحكمي أو في نمط احتفالي يتطلع نحو تلقي أعلى صوت ممكن من التصفيق.
وأسارع القول بأني أعتقد عدم صواب هذا التفسير لأن الأعمال الحركية تبذل جهوداً وتضحيات ضخمة أرى من الظلم وصفها بالمصلحية، مع عدم نفي وجود جيوب مصالح. والمؤسف في الأمر أن هذا التفسير المصلحي هو الشائع بين العاملين أنفسهم، فكلٌ يلمز الآخر بقلة الإخلاص وبالتمحور الشخصي. بل إن شيوع هذا التفسير لدليل على أن التوجهات الحركية تقترب من نموذج التمحور التعددي الذي يتيه فيه فخراً كل بسعة داره، وتبتعد عن التعددية الخطابية التي تدرك أن الواقع الإنساني لا يمكن الإحاطة به وإعطائه حقه بأداة واحدة ولا معالجته بدواء واحد.
إن الإشكال الرئيس يقع في ذات التركيب الفكري للجماعات الحركية التي تتفاعل مع قضيتها تفاعلاً كبيراً وتعجز عن الرؤية الشمولية وتعقّد الواقع الذي تتعامل معه، فتفترض أن هناك قضية واحدة تمثل العقبة الكبرى التي إذا ما حُلّت سهل كل شيء بعدها. وعلى هذا فإنها تعتبر كل من لا يشارك في الجماعة أو في العمل على حل هذه العقبة الكبرى المفترضة قاعداً أو متخاذلاً أو أنه عدو داخلي خطير.
وهكذا تنـزلق الجماعات إلى حلقة مفرغة من بخس الآخر إلى سوء فهمه إلى سوء تأويل تصرفاته إلى المنافسة معه. وحين تتفاقم الأمور وتصل بهم إلى حد مخزٍ لا يليق بأصحاب المبادئ تعمد الجماعات الحركية إلى محاولة إجراء نوع من الصلح بينها، ولكن تتعرض محاولات الصلح نفسها إلى القصور في إدراك أن التعدد مطلوب ولا يمكن إلغاؤه من الواقع، فتتحول بعض لقاءات الصلح هذه إلى لقاءات مجاملات أو اتفاقات وقف إطلاق نار مؤقتة دون أن توضع أساسات أطول عمراً للتفاهم.
والخلاصة أنه لا يمكن ادعاء التكامل بمجرد وجود أنواع متعددة للحركة وإنما لا بد أن يكون هذا مبنياً على رؤية شمولية تقبل التعدد أصلاً وأساساً، وبدون هذا التعدد المجذّر نظرياً فإن التعدد ينقلب إلى تنوع إلغائي يهدم فيه نتاج كلُّ فريق جزءاً من نتاج الآخر. وفي غياب قاعدة فكرية متينة تستند إليها الحركة، يضغط الواقع بآماله وآلامه ليشكل انطباعات فكرية تملأ ذاك الفراغ الفكري.
وبتحديد أكبر، فإن الحركة تستهلك الفكر ويشكل الفكر وقود مسيرتها الضروري. ولكن الحركة غير قادرة حكماً على الإنتاج الفكري المجرد، بل تتمثل الفكر وتُنـزّله تنـزيلاً مخصوصاً حسب ظروفها وواقعها. وفي حين أنه يمكن أن يكون للحركة ثمار يانعة على المستوى العملي التطبيقي، فإن مساهمتها الفكرية أمر غير ذلك وهو الذي أردته.
وإني لأرى أن طرح هذا الأمر وفتح ملفه في غاية الأهمية، وذلك أن نظرة إلى الواقع الإسلامي لتظهر وجود إمكانات ضخمة على كل المستويات، ولكنها إمكانات تفتقر الجسور وأقنية التواصل والتفاهم. وفي وهدتنا الحضارية التي نعيشها لا نملك كأمة أن نفرّط في أي جهد أو عطاء، ولكن الذي نراه في الواقع هو أن للحركات رموز توصف بأنها مفكّرة وكتابات توصف بأنها كتابات “الفكر الإسلامي” مع أن هذه الكتابات يغلب أن تكون أدبيات عامة، وقد يكون في بعضها فائدة وانطباعات ذكية ورؤى ذات قيمة. ولكن تحدث المشكلة عندما يُنظر إليها على أنها فكرٌ ممحصٌ مُحكَم، وأنها تملك الإجابات النهائية، وأن مخالفها منحرف عن الجادة أو متخاذل عن ساحة الجهاد. ولذلك فالأليق أن توصف رموز وقيادات الحركة بأنها قيادات فاضلة لها بلاؤها وجهادها وإحسانها وتختـزن تجارب قيمة، لا على أنها أعلام فكرية. ومثل هذا الوصف أخلق بها وأعدل ولا ينـتقص من قدرها شيئاً.
تفاعل العلم مع العمل
إذا كان الفكر الذي تفرزه الحركات فكراً له خصوصيته ومحدوديته بالضرورة، وجب علينا عند هذه النقطة أن نحاول تلمس الأوجه التي يمكن أن يتكامل فيها العلم مع الحركة.
إن مجال الفكر مجال مخصوص له تعمقاته واستطراداته ووسائله ومناهجه وخلافاته التي لا يمكن أن يحيط بها من يعيش في غير أجوائها. فالفكر يطرح نفسه على ثلاثة مستويات: مستوى نظري فلسفي، ومستوى بحثي هدفه التحقق من النتائج العلمية وتفحصها واختبارها، ومستوى تطبيقي يهتم بدراسة السياسات التطبيقية ووضع خطط لها. فهذه مستويات ثلاثة تشكلت حولها العلوم المعاصرة.
ولا يخفى أن حقل الحركة أمرٌ آخر، وإن كان متصلاً غير منفصل عن عالم الفكر، أو أنه يجب أن يكون كذلك. وأسارع إلى القول بأن هناك حاجة ماسة للتواصل بين المستويات العلمية الثلاثة وبين من هو أقرب بخطوة إلى الواقع ‑بحكم حركته‑ من جهة أخرى. وإن الواقع الإسلامي الذي تهدر طاقاته لمحزن حقاً فهناك شريحة عريضة من أهل الفكر والبحث الذين لا يكاد يُنظر في عطائهم وفي ما أفنوا حياتهم به، والذين هم من لحم وعظم حركة الأمة الإسلامية يعيشون معها أفراحها وآلامها ويقلقهم مستقبلها.
إن الواقع الحركي بحاجة تامة لتدبر نتائج مستويات العلم الثلاثة. فالمستوى الأول من العلم يهتم بالمجردات وفي تحديد التصور وزاوية النظر. وهذا أمر في غاية الأهمية وفي غاية الارتباط بالحركة رغم أنه تجريدي إلى حد بعيد. وخذ مثالاً مفهوم الشعب ‑الدولة التي تشكلت حوله الدول الأوروبية القومية، فإنه مفهوم مجرد بحت ولكن من جهة أخرى تجسّد في واقع ملموس تتمحور حوله النزاعات الدولية. أو إذا أخذنا مفهوم التنمية الغربي فإننا سنجده يستند إلى قاعدة فلسفية مما يسمى بـ”الندرة” الذي يشفعونه بمفهوم “الحاجة غير المحدودة” لدى الإنسان، وكلاهما يمكن أن يُبررا الاستعمار مثلاً.
إن مثل هذه المفاهيم المجردة التي تملأ آلاف الكتب المعقدة والمتبحرة مفاهيم في غاية الخطورة ويترتب ‑بل وقد ترتب عليها‑ نتائج محسوسة على أرض الواقع من تأسيس الدول إلى التنافس على المصادر إلى استنـزاف مصادر الأرض. أي أنه لا يمكننا أن نقول إن هذه أفكار فلسفية مجردة يجب أن لا تعبأ الحركات بها، لأنها رغم كل تجريدها ترتشح رويداً رويداً إلى عالم الفعل والواقع.
والنقطة التي يجب التأكيد عليها هنا أن الحركات وإن كانت تعجز عن تنمية واكتشاف المنطلقات الإسلامية المقابلة لتلك المفاهيم الفاصلة، فإن من واجبها أن تكتسب القدرة للتفاعل مع نتاج الفكر الإسلامي العالي والتحرك في ظلّه.
والعجيب أن العديد من الحركات الإسلامية كانت قد نشأت كرد على الجمود في الفكر الإسلامي ونمت على ضفاف مسيرتها حركات فكرية كان لها مساهمات لا يستهان بها. ولكن السنة الاجتماعية ماضية في أن الحركة في النهاية تُخضع الفكر لأولوياتها مستهلكةً ومخرجة له عن أصل مراده تحت ضغط الواقع المبتلى بالنقص والذي يدفع باللاشعور نحو التفريغ والتسطيح.
أما المستوى الثاني للعلم فهو المستوى البحثي الذي يتحقق من النظريات والفرضيات عن طريق دراسة الواقع وتحليله وتفهّم أبعاده واكتشاف نقاط قوته وضعفه فيما هو غير ظاهر وواضح للعيان. وإذا كان المسلمون بحاجة إلى شيء، فهم بحاجة إلى فهم أنفسهم وما هم فيه. وإنه ربما يصح القول إن الأقسام الجامعية المتخصصة في دراسة المسلمين تعرف وتدرك إشكاليات الواقع المسلم أكثر مما يعرفه المسلمون أنفسهم أو الحركات التي تدّعي معالجة هذا الواقع ومحاولة إصلاحه. وهذا لا يعني بالضرورة كمال الفهم التخصصي لواقع المسلمين كما لا يعني بالضرورة أبداً سلامة البدائل التي يطرحونها أو حتى صياغة رؤيتهم للمشاكل وشكل تشخيصهم.
أما المستوى الثالث للعلم فهو مستوى رسم السياسات وتصميم النماذج التطبيقية، آخذة بعين الاعتبار كل النتائج القريبة والبعيدة. ولا يخفى أنه يجب الاستفادة من هذا المستوى على الأقل، والذي يهتم بفعالية العمل وإمكانية الوصول وتحقيق الأهداف.
وأخيراً فإنه من المحزن الإشارة إلى أنه تتوجه الحركات في بعض الأحيان للاستفادة من المعرفة ولكن تتعامل معها كرأسمال حركي جديد تريد أن توظفه فوراً لصالح مسلماتها الحركية أو شعاراتها، حارمة نفسها الاستفادة الحقيقية من المعرفة. أي أنها بدل أن تحاول قراءة المعرفة بهدوء وتفكر مع الاستعداد إلى تغيير أولوياتها ومسلماتها واستراتيجياتها تبعاً لذلك، بدل هذا التفاعل العميق تتلقفها استهلاكاً بنهمة الجائع، مما تتعذر معه عملية الهضم.
الخلاصــة
يبدو أن من سنن هذه الحياة أن يحتاج الفكر إلى مساحة تنفس يبتعد فيها عن ضغط الظروف، ويخلو بنفسه ساعات تتيح له صفاء رؤية لا يتيسر في صخب وعباب المعركة. والعكس بالعكس فإن من سنن الحياة أنه حين يلتصق الفكر بالحركة التصاقاً كاملاً فعندها يعجز عن شمول الرؤية وإدراك الأولويات والتفكير في البدائل. وذلك أن ظروف الحركة ذاتها تضغط باتجاه تخليد المرحلي والخصوصي والظرفي والطارئ. فظهور القول بصحة البيعة بالغلبة تحت واقع التفرق والتشرذم ليس إلا موقفاً حركياً مخصوصاً أعطي رتبة العام والدائم فأفسد وأضر.
وتطلق عادة عبارة “الأبراج العاجية” كشعار يقلل من أهمية الفكر لتبرير الاستعجال أو الكسل عن التفكر والتفكير. ومقابل هذا فإنه يجب الإشارة إلى أن للفكر المجرد محدوديته حيث أنه لا يستطيع عادة إعطاء الأجوبة الجاهزة على المسائل المخصوصة. أي أن الفكر المجرد مادة خام تحتاج إلى تنـزيل وطبخ ومعالجة على مستوى الواقع، ولا يتم هذا إلا بتفاعل المنظّر مع الواقع وتفاعل الحركي مع النظرية.
إن الفكر الذي يعجز عن أن ينأى بنفسه عن ضغط الواقع وإغراءاته وملابساته، يغلب أن يصبح رهين الواقع، وتصبح مهمته حشد العبارات ولي النصوص للمصادقة على مزالق الواقع ومخارج الحركة. وقد يكون الانزلاق نحو تبرير العنف أو الوصولية السياسية من الأمثلة الواضحة للارتهان للواقع. إن على الفكر أن يؤمن لنفسه هامشاً من الحرية والانعتاق ليتسنى له الرؤية الواضحة للأهداف القريبة والبعيدة للواقع الذي يريد أن يصلحه ويترفع عن التنظير للمقابلة بالمثل والحلول الفورية قصيرة الأمد والتي تشد إليها وتغري بها الواقعات والظروف. إن الفكر الذي يعجز عن تأمين مثل هذه الاستقلالية ليس بفكر وإنما يغلب أن يتحول إلى حشد كلامي غوغائي يطلق الشعارات ويراوغ على المعاني، وتكون النتيجة خسراناً مزدوجاً… فلا الواقع انصلح ولا الفكر نما. وهذا بتقديرنا ما تقع فيه بعض الجماعات الإسلامية والتي تُنـتج كتابات تُعرّف بأنها كتابات “الفكر الإسلامي” والتي لا يعدو بعضها أن يكون تبريرات حركية.
وحتى لا يخرج القارئ من هذا المقال بانطباع يائس مثبط، لا بد من وقفة اعتراف وتقدير لنمط من الأعمال الفعالة والمفيدة والتي ليس لها ذلك الصيت ذائع. إن نمط الأعمال الذي أود الإشارة إليه هو ذاك الذي يركز على دائرة معينة مخصوصة من احتياجات الأمة ويحاول خدمة هذه الناحية مستصحباً المعرفة ومستفيداً من العطاء العلمي المتواجد. ويتميز هذا النوع من العمل بخصلتين تشكلان مكمن قوته وفعاليته، الأولى: هي أنه حين يركز على دائرة محدودة فإن بوسعه أن يُتقن عمله وأن يكون معالجة عميقة سابغة وافية بقدر ما أوتي من قوة. أما الخصلة الثانية فهو أنه لا يدّعي الهيمنة على كل ساحة العمل الإسلامي، بل يدرك أنه ليس إلا جزءاً حيّاً من الأمة يقف على ثغر واحد من ثغورها الكثيرة.
إن هاتين الخصلتين تمكنان أي عمل من أن يكون فعالاً في حقله مهتدياً في مسيرته ومنسجماً مع ظرفه وإمكانيته. ويمكن القول بأن أمثال هذه الأعمال يمكن تكاملها (العفوي وشبه العفوي) لتؤصل الخير وتساهم في إحكام البناء، مقابل ما أشرنا إليه من أعمال مهمومة في بسط نفوذها والاستئثار بالساحة مما يؤدي عملياً أن كلاً منها يلغي مفعول الآخر بالتضارب والتكرار .
لقد أردت في هذه المقال الدعوة إلى التخاطب وفتح قنوات التواصل بين النتاج الفكري العالي الذي يركز على صقل المفاهيم وتقويم المداخل وضبط التصور وتدبر المآلات القريبة والبعيدة إلى جانب تفحص الواقع، وبين الخبرة التي تسير في أرض الواقع أو تقود مراكبه. وإن اعتباطية الحركة أو التحرك وفق الانطباعات ومجرد الحدس لا يليق بأمة أوكلت الشهادة على العالمين. وبالطبع فإن هذا لا يعني إضفاء العصمة حتى على الفكر الممحص المدروس دراسة طويلة ومستفيضة، فنتاج البشر لا يرقى لهذا، ولكن إضفاء العصمة على ما هو أدنى منه أشنع.
03-1421 هـ / 07-2000 م