الوعي التاريخي وقضاياه: تغييب الوعي التاريخي
في البابين السابقين تمّت تغطية مراحل تطور الوعي التاريخي عند المسلمين، ورأينا كيف مرّ بفترة اضطراب ترافقت مع العدوان الخارجي عليه من الفرنجة من الغرب ومن المغول من الشرق. وتبع ذلك انتعاش ترافق مع عملية التحرير أو كان شرطاً لها. ورغم أننا في الباب الماضي قمنا بتجاوز الترتيب الزمني وتحدثنا عن تجربة محمد علي في النهضة، فإننا في هذا الباب نعود زمنياً إلى الوراء لنفصّل في مسيرة الجهود الفلسفية العلمية التي أوقعتنا بمثل تلك النهضة الكاذبة ولنشير إلى الدور الخطير التي لعبته النُخب المثقفة وخاصة من غير المسلمين.
سوف نقوم أولاً بالحديث عن المشروع الاستشراقي الذي مثل جهداً منظّماً للتغييب التاريخي، وتضمن ذلك إحياء الثقافات الغابرة، ثم نفصّل في المراحل التي مرّ فيها الاستشراق الغربي. وأخيراً، نتحدث عن الاختراق الثقافي الذي تمّ على يد الاستشراق العربي، وخاصة في مصر إبان الاحتلال البريطاني. وأخيراً، نستطرد في عرض نتفٍ من نتاج طه حسين كنموذج متقدّم في الطرح الاستشراقي.
الفصل الأول ــ مشروع الاستشراق
نقصد بتغييب الوعي التاريخي الجهود العلمية الأوربية الحديثة التي تهدف إلى استلاب فهم التاريخ العربي الإسلامي وتغريبه من خلال الاستشراق. وهي جهود همّها إعادة تأطير التجربة الإسلامية وفكّها عن أسسها وشطب تفرّدها والنظر إليها من خلال المفاهيم الأوربية بحيث تتعذر استعادة وعينا التاريخي.
أولاً: إحياء الثقافات الغابرة
بدأ الاستشراق في أول خطواته بجمع المخطوطات العربية الإسلامية من البلاد المسلمة بمختلف الوسائل فتجمّع لدى الغرب كنزٌ من تلك المخطوطات تشكل مكتبة كاملة عن تراثنا (أكثر من 250 ألف مخطوطة). وتمّ العكوف على دراسة هذه المخطوطات والقيام بحركة ترجمة لها شملت كافة وجوه التراث والثقافة الإسلامية، وجرى الاهتمام بشكل خاص بالتراث العلمي والتراث الفلسفي، وكان الأول دافعاً لنهضته العلمية والثاني دافعاً لنهضته الثقافية.
ومن خلال دراسة واستيعاب هذا التراث الإسلامي المخطوط بالعربية لغة القرآن، قامت نهضة القرن الثاني عشر والثالث عشر في أوربة. ثم جرى بعد ذلك في القرن الـ 16 ميلادي ومن خلال (حركة الهيومانيزم/حركة الأنسنة) حجب أثر الثقافة الإسلامية وربط حركة النهضة بالتراث الروماني واليوناني، مع إخفاء دوافع نهضته الأم (نهضة القرن الثاني والثالث عشر) ليجعل مفهوم النهضة مرتبطاً بنهضة القرن السادس عشر.
أثمرت جهود الاستشراق خلال القرون الخمسة الأخيرة بتكوين مكتبة كاملة لكل ما يتصل بعالم الإسلام، وأصبحت التأويلات الاستشراقية لهذا التراث هي المرجعية العلمية التي تشكّل رؤية الثقافة الغربية الحديثة للثقافة العربية الإسلامية.
ثم جهِد الاستشراق بعد ذلك لجعل مرجعيته الغربية تجاه عالم الإسلام مرجعية معرفية عامة تتجاوز الثقافة الغربية إلى الثقافات الأخرى، وكانت أهم خطوة في ذلك وضعه لـ (دوائر المعارف الإسلامية) المعرّفة بالإسلام باللغة الإنجليزية ثم ترجمتها إلى اللغات الأخرى بما فيها العربية.
أما الاستشراق العربي فمثلّ جهداً لتحويل الاستشراق الغربي إلى استشراق عربي وتطبيعه، بمعنى تحويل رؤيتنا لتاريخنا من خلال هذا الاستشراق وتغييب الوعي التاريخي إلى درجة القطع مع تراثنا وجعل هذا القطع شرطاً للنهضة. وإذا كانت جهود الاستشراق العربي هي جهود نخبة، كانت الخطوة التالية نقل هذه النخبوية لتصبح رؤية مجتمع.
ويعدّ أخطر ما قام به الفكر الاستشراقي العربي هو تقليد التغييب الأكاديمي النظري لأسس حضارتنا إلى المجتمع وإلى الواقع المجتمعي، كجزء ضروري من تغيير هوية المجتمعات الإسلامية ومحاولة ربطها بهويات تنتمي إلى تاريخ ما قبل الإسلام.
وضمن هذا الطرح تصبح لمصر (هوية مصرية) مرتبطة بتاريخها القديم السابق للإسلام (فرعونية)، ولبلاد الشام (هوية سورية) مرتبطة بتاريخها القديم ما قبل الإسلام (فينيقية)، وللعراق (هوية عراقية) مرتبطة بتاريخ العراق ماقبل الإسلام (آشورية). والأشد خطورة من ذلك هو ربط هذه الثقافات المحلية بأوربة. فليس فحسب أن تاريخ ما قبل الإسلام لمصر ما قبل الإسلام يمثل (الفرعونية) وللعراق لما قبل الإسلام يمثّل (أكاديا) ولسورية لما قبل الإسلام يمثل (فينيقية)، وإنما أيضاً أن الفرعونية وأكاديا وفينيقية ثلاثتها تنتمي إلى حضارة البحر المتوسط. وبالتالي فإن هذا الطرح يعني أن صلة هذه الثقافات هي باليونان وكريت وهما الأصل، وتشكّل معهما دائرة ثقافة البحر الأبيض المتوسط، ولا علاقة للهوية المصرية والعراقية والسورية بالإسلام أو بالعربية لغة القرآن، وإنما العلاقة هي مع أوربة – وهذا الذي دعا إليه طه حسين.
وبذلك يتمّ تغييب وعينا التاريخ تغييباً تاماً عن طريق تحويل انتماء المجتمعات العربية المسلمة إلى الانتماء للهويات الجديدة من خلال شتى الوسائل الإعلامية والمدرسية، وعلى رأس ذلك ترسيخ تلك الأفكار عند تدريس مادة التاريخ بحيث تخرج الأجيال الجديدة وفي أذهانها أن الانتماء الحقيقي الوطني هو انتماء إلى تلك الهويات الغابرة. وكما هو معروف، تأخذ هذه الجهود أشكالاً متعددة، منها النظري البحت الذي يُطرح على أنه علمي محايد، ومنها غير المباشر. وعن طريق مناهج التربية والتوجيه الثقافي ودراسة الآثار من جهة، والترويج لهذه الانتماءات الجديدة من خلال الإعلام والفنون والآداب، خاصة الفنون المسرحية، بحيث يتمّ إغلاق الدائرة بشكلٍ كاملٍ، وليتمّ من خلال ذلك توطين الرؤية الاستشراقية للغرب تجاه حضارتنا وتاريخنا وتحويله إلى واقع اجتماعي يحسبه الناس بديهة وتعكسه أمثال العبارات التالية: أنا مصريّ قبل كل شيء، أنا سوريّ قبل كل شيء، وربما أنا لبنانيّ ولا شيء آخر.
ثانياً: الارتباط بحركة الاستعمار
وارتبطت هذه الجهود التي تدّعي أنها “علمية” تلتزم التحليل التاريخي بحركة الاستعمار ارتباطاً وثيقاً. فالملاحظ أن الدعوة إلى تكوين هذه الهويّات الجديدة قد تمّ بعد عزل الأقطار العربية ذات الشأن عن بعضها بعضاً:
- فالدعوة إلى (الهوية المصرية) بدأت بعد مرور اثنين وأربعين سنة على معاهدة 1840م التي تمّ فيها عزل مصر بإخراجها من بلاد الشام وفكّ ارتباطها بها، واقترن ميلاد النخبة الاستشراقية المصرية بالاحتلال البريطاني الذي بدأ بتكوينها من خلال منهج دنلوب التربوي واستدعاء نخبة من الأقليات السورية/اللبنانية المستشرِقة إلى مصر.
- أما بلاد الشام والعراق فقد تمّ تفكيكها بموجب معاهدة سايكس بيكو 1916م التي شكّلت كياناً أطلقت عليه اسم سورية وانتزعته من بلاد الشام، ثم قسّمت سورية إلى لبنان وفلسطين، ثم قسمت فلسطين إلى دولة فلسطين ودولة شرقي الأردن، وأخيراً عُزلت العراق عن بلاد الشام بحيث أصبحت الكيانات الجديدة تحمل الأسماء التالية: الجمهورية السورية، الجمهورية اللبنانية، دولة فلسطين، دولة شرقي الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية)، المملكة العراقية الهاشمية.
- على مستوى الهويات، جرى الترويج إلى أنّ سورية ولبنان هويتهما هي الفينيقية، وهوية العراق هي الآشورية. وبعد اكتشاف آثار أوغاريت وإيبلا في شمال غرب حدود سورية اليوم، بدأ الحديث عن هوية سورية منفصلة عن الهوية الفينيقية بناء على أن الهوية فينيقية هي تعبير عن الهوية اللبنانية فحسب، أما فلسطين فقد كان يجري تهييء فكرة أنها ذات هوية يهودية.
والخلاصة: إن عزل مصر وتقسيم بلاد الشام وعزل العراق كان إيذاناً بميلاد هذه الهويّات القُطرية التي اعتُبرت رمز الدخول للحداثة وشرط التقدّم. وإذا ما اعتبرنا كتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر) هو أشهر تنظير لهذا النوع من الانتماء المصري، فإنه يكون قد مضى ما يقرب الثمانين عاماً على العمل داخل الثقافة المصرية لنشر هذه الهوية الجديدة ومحاولة غرسها في الوعي الشعبي العام. وقد بلغ الترويج للهويات المخترعة درجة التعصّب الذي يفتئت على التاريخ وينسخ منه ما لا يروق له والقول إنّ الهوية العربية الإسلامية تحاول اختطاف الهوية المصرية.
وقريب من ذلك محاولة اختراع الهوية السورية في مئة سنة من الجهود، تتزعمها جهود انطوان سعادة ونظرية القومية السورية في كتابه (نشوء الأمم)، وقد تابعت بعده مجلة (فكر) والحزب القومي السوري بترويج هذه الرؤية.
أما العراق فهناك مؤلفات كثيرة عن الانتماء الآشوري إضافة إلى الانتماء الأرثوذكسي، وكانت إحدى الحكومات العراقية قد أقرّت إنشاء مجمع اللغة الآشورية وإقامة أكاديمية آشورية، وسعت إلى منح استقلال إداري لمناطق الآشوريين مركزه نينوى.
وهكذا بدلاً من إحياء الذاكرة التاريخية الإسلامية لهذه البلادالعربية مهد رسالة الإسلام وحضارته، تمّ إحلال وعيٍ استشراقي محله. وهذا ما قصدناه بفكرة “تغييب الوعي” الذي كاد أن يتنهي فعلاً إلى تغييب تام للوعي التاريخي.
الفصل الثاني ــ بناء أوربة الثقافي والتأسيس للاستشراق
لنرجع خطوة إلى الوراء لنقلي الضوء على التطورات الفكرية داخل أوربة التي ربطت اخترعت فكرة هوية أوربية جامعة، والتي ربطت هذه الهوية باليونان وليس بالمسيحية، والتي انطلقت بعد ذلك لتشويه كل ثقافات العالم وإلغائها، وعلى رأسها ثقافة الحضارة الإسلامية.
لقد سعت الحركة الفكرية الأوربية منذ حركة (الهيومانزم) في القرن الرابع عشر الميلادي أن تقيم وحدة ثقافية لأوربة. وتتابعت الجهود التي تحاول إظهار أن أوربة الثقافية هي مجموع التراكم المعرفي لليونان ثم الرومان. ثم جرت إضافة التراث اليهودي المسيحي، وأخيراً إضافة الحضارة الحديثة. وبذلك يمكن الادعاء بأن أوربة تشكّل بناءً ثقافياً واحداً على مدى ألفي عام أو أكثر، بصرف النظر عن اختلاف اللغات والشعوب والأديان والمذاهب خلال هذه الفترة كلها.
ونشأ عن هذا البناء الثقافي بناء (مفاهيمي ومصطلحي) لاتيني ــ يوناني معتمد في أوربةولم يبقَ أمام هذه الوحدة الثقافية إلا تحديد موقعها من الثقافات الأخرى، وتمثّل ذلك في ثلاث دوائر ثقافية رئيسة: الثقافة الإسلامية، والثقافة الهندية والصينية، ودوائر حضاراتٍ قديمة (الفرعونية والفينيقية والأكادية)، كما يضاف إليها ما أطلقوا عليه اسم (حضارات الشعوب البدائية) التي دمّرها الغربيون وأبادوا كثيراً من أهلها كما هي الحال في الحضارات الأمريكية والأفريقية القديمة وأسترالية.
وهكذا تشكلت مؤسسات هي عبارة عن أجهزة ثقافية متخصصة لكل دائرة من هذه الدوائر الرئيسة بحيث اعتبرت جميعها (ثقافات شرقية) مقابل الثقافة الغربية. وقام ما يمكن أن نسميه (جهاز الاستشراق) بتحصيل معرفة شاملة تتابع الدقائق في كل دائرة من هذه الدوائر، فهناك الاستشراق الإسلامي والاستشراق الهندي والاستشراق الصيني. أما فيما يتصل بالثقافة الإسلامية بالخصوص فقد قسمها الاستشراق إلى ثلاث دوائر رئيسة: العربيات والفارسيات والتركيات. وأُلحقت الثقافات الفرعية مما تبقّى بإحدى هذه الدوائر.
واختُصت الثقافة العربية باهتمام مركّز وبأهمية قصوى نظراً لأنها تعتبر في نظر الغرب (المنافس الحضاري الحقيقي). وبإنكارهم التوحيد في جذره الإبراهيمي، أصبح الإسلام في نظرهم يشكل خطورة حقيقية للديانتين اليهودية والمسيحية (المحرّفتين) باعتباره تحدٍّ لهما من حيث أن لهما تراثاً تاريخياً سابقاً عليهما قام الإسلام بإعادة تقييمهما وبيان ما انحرفا فيه وخرجا عن الوحي الإلهي والتوجه الأصلي للخطاب الإبراهيمي. ونلاحظ هنا أنّ الاستشراق وُلد أصلاً على إثر عجز الغرب عن مواجهة التحدّي الحضاري بعد الاحتكاك به عقب الفتوحات الإسلامية.
وقسّمت فروع الأبحاث التي أنشئت على أساسها معاهد الاستشراق بحيث تشمل كافة وجوه هذه الثقافة من خلال الرؤية الغربية لها بحيث أصبح الهدف استيعاب هذه الثقافة واستلابها من خلال تغريبها، فالجانب الفلسفي من هذه الثقافة يرد إلى التراث اليوناني، والفقهي القانوني إلى التراث الروماني. أما العقيدة فترد إلى التراث اليهودي المسيحي([1])..
وهنا لا بدّ من تقرير مايلي: بعد الهزائم التي منيت بها أوربة في مواجهة المسلمين، تبيّن لها، خاصة بعد ارتداد الصليبيين الذين جاءوا ليستوطنوا، أنه لا بدّ من اللجوء إلى العلم والمعرفة وأدلجتهاما في مواجهة المسلمين. وازداد هذا الدافع قوةً بعد سقوط القسطنطينية. فقد تأكد للأوربيين منذ فرانسيس بيكون أن قوة المسلمين في تفوقهم الثقافي العلمي منه بوجه خاص، والذي لمسوه من خلال تراث الأندلس.
أولاً: مراحل الاستشراق
انطلق الاستشراق ضمن مراحل أهمها:
- بداية التأسيس في القرن العاشر الميلادي حيث قام جربردي أورالياك 938 ــ 1003م، والذي أصبح فيما بعد البابا سلفستر الثاني، بإنشاء معهدين للدراسات العربية في روما([2]).
- بدء إنتقال التراث العربي الإسلامي انطلاقاً من سعي المستشرقين كهدف أساس جمع المخطوطات بحيث أصبح تراثنا المخطوط في مكتباتهم، ومن ثمّ بدأت حركة الترجمة للتراث الأندلسي وتراث صقلية، ومن خلال هذه الترجمات انتقلت الفلسفة. وهكذا اشتملت دراسات الاستشراق العقيدة الإسلامية والفقه الإسلامي والفلسفة الإسلامية والدراسات اللغوية والأدبية والدراسات التاريخية والثقافة السياسية والفنية الجمالية والعلوم الطبيعية بكل فروعها بحيث لا يَنِدُّ أي جانب من جوانب الثقافة الإسلامية إلا ويُرد إلى أصول الثقافة الغربية الثلاثة([3]).
وادعى المستشرقون لأنفسهم موضع المرجع العلمي الذي لا يُشكّ في نتاجهم، فقد اعتُبروا أنهم هم أهل الخبرة بكل مافي دار الإسلام قديماً، وما هو كائن فيها حديثاً، من دقيق العلوم عند خاصة المسلمين، إلى خفيّ أحوال المسلمين من عاداتهم ومعايشهم وطرائق أفكارهم وخصائص حياتهم، وجرى تسويق أن معرفتهم المنحازة هي علم وثيق بشأن دول المسلمين وأقاليمهم وبلدانهم التي تغطّي أكبر رقعة من الأرض. ولا مراء في أن المشتشرقين جمعوا كماً كبيراً من المعرفة عن التراث الإسلامي وواقع المسلمين، وعكفوا عليه وتأملوه ودرسوه ونظّموه ورتّبوه بغاية فائقة وبهمّة وجَلد وتنبّه ونفاذ بصر، غير أن الذي نشير إليه هو أنهم تحولوا في طرح أنفهسم من دارسين، وكل دارسٍ له خلفيته الخاصة التي تؤثر على صياغة أفكاره، إلى أصحاب معرفة مطلقة ومرجعية هي فوق النقد أو أن انتقادها من قبل المسلمين هو موقف اعتذاري.
إن نتائج هذه الجهود الجبّارة لجميع أجهزة الثقافة الغربية من خلال الاستشراق وعلى مدى عشرة قرون أثمرت – خاصة في الخمسة الأخيرة منها– معرفة شاملة للثقافة الإسلامية أصبحت مرجعاً متكاملاً للثقافة الغربية تجاه رؤيتها للثقافة الإسلامية.
وبعد أن طور الاستشراق أدوات تغريب العقل التاريخي العربي الإسلامي أصبح همّه تغريب العقل الإسلامي الحديث، وذلك من خلال النخب الاستشراقية التي قامت بحمل هذه المهمة حيث أصبحنا اليوم نرى أنفسنا في دراساتنا وقد تمثّل أمامنا المتخيّل الاستشراقي. ورافق ذلك بالطبع جهاز مفاهيمي واصطلاحي يُعتبر مدخلاً لكل فرع من فروع هذه الثقافة الإسلامية والعلوم الطبيعية الإسلامية.
وجوهر الصورة المبثوثة هو أن العرب المسلمين هم في الأصل قوم بُداة جهّال لا علم لهم، كانوا جياعاً في صحراء مجدبة، إلى أن جاءهم رجلٌ فادعى أنه نبي مرسل ولفّق لهم ديناً من اليهودية والنصرانية، فصدّقوه بجهلهم واتبعوه. ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض يغزونها بسيوفهم، فدان لهم من غوغاء الأمم من دان، وقامت لهم في الأرض بعد قليل ثقافةٌ وحضارةٌ جُلّها مسلوبٌ من ثقافات الأمم السابقة كالفرس والهند واليونان وغيرهم، حتى لُغتهم هي مسلوبة وعالة على العبرية والسريانية والآرامية والفارسية والحبشية. ثم كان من تصاريف الأقدار أن يكون علماء هذه الأمة العربية من غير أبناء العرب (الموالي) وهؤلاء هم الذين جعلوا للحضارة الإسلامية معنى([4]).
وأقيم جهاز مركزي للثقافة الغربية (في سويسرا) مهمته الأساسية دراسة كيفية دمج مفاهيم الثقافات الأخرى بالثقافة الغربية ليتمّ تغريبها مفهوماً ومصطلحاً وفق سياسات بعيدة المدى (مثال ذلك فكرة التثليث الفرعوني والتثليث الهندي).
وبموازاة ما صنعه الاستشراق مع الثقافات الأخرى أصبحت المرجعية الثقافية الغربية هي المرجعية المعتمدة بمفاهيمها ومصطلحاتها في الدخول إلى أي فرع من فروع المعرفة الإنسانية. ففي الموسوعات الأساسية والمراجع الرئيسة ومصادر المعلومات بما فيها شبكة الإنترنت وسواها بحيث لا تستطيع السؤال عن أي فرع أو معلومة إلا وتواجهك الثقافة الغربية.
من هذا المنطلق يتحدث الغرب عن ثقافته أنها (عالمية)، برغم أنها عملياً انتشرت من خلال الهيمنة الاستعمارية التي قامت بإنجاز مهمة تغريب الثقافات الأخرى. وبغض النظر عن ذلك، الصفة العالمية الثقافة الغربية تقتصر على الجانب العلمي والتقني، وحتى هذا الجانب فقد أتى على نحوٍ يخدم طريقة حياتهم ومشاريعهم ولا يرتقي إلى صفة العالمية الحقّة، وما عدا ذلك هو بالنسبة إلينا هو (أسر مصطلحي) وهيمنة واستعمار ثقافي. أما كيف يمكن التخلص من ذلك فبالعودة لاكتشاف (الذات الإسلامية) من جديد، والطريق إلى ذلك يمكن أن يتلخص بعبارة واحدة: المعرفة هي القوة الحقيقية.
ثانياً: إدعاء وحدة الثقافة الغربية الأوربية
والسؤال الآن كيف صاغت أوربة دعوى وحدتها الثقافية، والجواب هو أن ذلك تمثّل بأربعة (انقطاعات تاريخية) فصلت كل ما هو غربي عن ما هو شرقي، ومنه جاء مصطلح الثقافة الغربية:
الانقطاع الأول هو (مابين الثقافة اليونانية وما قبلها) خاصة في حقل الفلسفة بحيث لا يبدو أي أثر للثقافات الشرقية السابقة على اليونان على الثقافة اليونانية ومن هنا جاء الحديث عن (المعجزة اليونانية)، وهكذا شطب الغربيون تاريخ الحكمة المشرقية السابقة على اليونان، وقطعوا بذلك تاريخ التواصل العقلي الإنساني دون أن تكون هناك إجابة: كيف خرج هذا العقل اليوناني من لا شيء قبله، كأن الإنسان قبل اليونان لم تكن عنده أسئلة تؤرقه حول قضايا الوجود والمعرفة والمصير، وكأن أسئلة العقل الإنساني بدأت بـ (اللوغوس) اليوناني.
الانقطاع الثاني هو مابين الثقافة الإسلامية التراثية والنهضة الأوربية حيث أن نهضة أوربة الحقيقية هي نهضة القرن الثاني عشر والثالث عشر التي بُنيت على الثقافة الإسلامية الأندلسية والصقلية. وكانت حركة اليهومازنم هي التي تنكّرت لهذا الحافز وربطت كل أوجه النهضة الأوربية بالتراث الروماني ومن ثم اليوناني، مع أن حركة الهيومانزم نفسها استوحت التجربة الإسلامية([5]). وهكذا جرى إخفاء أثر الثقافة الإسلامية على هذه النهضة وتمّ التأكيد على إعطاء مفهوم النهضة لـنهضة القرن السادس عشر في إيطاليا التي أرّخ لها يعقوب بوركهارت، حيث لم يعد ممكناً إخفاء أثر الثقافة الإسلامية إذا أضيف إليه جانب النمو الاقتصادي في التجارة مع الشرق الإسلامي والذي سبّب نمو المدن الإيطالية وازدهارها بما هيأ شروط هذه النهضة الأخيرة.
أما الانقطاع الثالث فهو ما يخص تكييف الدين المسيحي وجعله قومياً ورومانياً، وهو الانقطاع الأخطر إذ إنه قطع للزمن الإنساني وتاريخ النبوة والوحي وتقسيمه إلى قسمين: من بدء الخليقة إلى المسيح، ومنه إلى ما بعده وضمن رؤية المسيحية المحرّفة التي حاولوا انتزاعها من النسب الإبراهيمي وأدخلوا إليها المفاهيم الوثنية عبر التدخل السياسي للامبراطور الروماني. الزمن الأول بزعمهم هو زمن قديم لا قيمة له إلا بتوارث الخطيئة الأصلية التي ارتكبها آدم، أما الثاني فهو زمنٌ جديد يمكن أن يتمّ فيه الخلاص من الخطيئة من خلال الإيمان بالصليب الذي يعني فداء الإله لبني البشر المخطئين، ومعنى ذلك أنه يجب أن يصبح البشر كلهم مسيحيين حتى عودة المسيح.
والسؤال الذي يلي هو من سيتولّى هذه المهمة؟ والجواب الكنيسة الكاثوليكية، فإذا أراد البشر الخلاص فعليهم أن يرتبطوا بالكنيسة الكاثوليكية فهي التي ستحقق لهم ذلك، إذ استلمت مفاتيح السماء من المسيح على يد بطرس وهو في الطريق إلى دمشق ومن بعده بولس ومن بعده يتسلمها الباباوات واحداً بعد الآخر باعتبار البابا (ممثلاً للإله).
والسؤال الآن ما هي السلطة التي تملكها الكنيسة الكاثوليكية لكي تقوم بهذا، والجواب: أن الامبراطور قسطنطين أعطى الحق للكنيسة الكاثوليكية بوراثة الامبراطورية الرومانية الغربية، بحيث أصبحت البابوية الكاثوليكية بعد سقوط روما 476م (دولة الباباوية) هي التي جمعت بين السلطتين الروحية التي تخصّها والزمنية التي تخص الامبراطور، أي ما بين سلطة الروح وسلطة الجسد.
من هنا أصبحت الباباوية إحياءً للامبراطورية الرومانية القديمة قبل الانقسام إلى غربية وشرقية، تلك الامبراطورية التي كانت تحكم العالم القديم والتي شكّلت وحدة البحر الأبيض المتوسط أساساً لها، وأصبحت مهمة الباباوية بعث الامبراطورية القديمة واستعادةسلطتها التي أصبحت هي الآن سلطة لها. ومنذ مجمع نيقية عام 451 م الذي حضره فريقان نصرانيان: بابا روما وأساقفته، وبابا الاسكندرية وأساقفته (وهو بطرك الاسكندرية ديسقورس). وظهر التوتر بين الفريقين حيث أنه لمّا اشتد الخلاف في اليوم الأول مُنع البابا ديسقورس وأساقفته من حضور الجلسة، وفي غيابه اتخذ المجتمعون قراراً بالقول بالطبيعتين والمشيئتين. ولما طلب الامبراطور من ديسقورس الموافقة على القرار رفض ذلك، فنفاه الامبراطور بعيداً عن مصر حتى مات في منفاه. وظلّ أقباط مصر حتى اليوم يرفضون قرارات هذا المجمع ويدينون بالولاء لبطرك الإسكندرية. إن هذا يعني انفصال الكنيسة الكاثوليكية (الغربية) عن الكنيسة الأرثوذكسية (الشرقية).
أما الانقطاع الرابع فهو انقطاع ما سمي عصر التنوير الذي فصل سلطة الكنيسة عن سلطة الدولة وأطلق مفهوم ما سُمّي بالعَلْمانية. غير أن مفكري هذا العصر لم ينفصلوا عن الخلفية المفاهيمية للكنيسة الكاثوليكية، بل قاموا بإحلال نزعة الكاثوليكية إلى العالمية (بإحلال أوربة) محلّها. واتخذ التبرير العَلْماني الذي حلّ محلّ التبرير اللاهوتي الصورة التالية: اعتبار التقدم مفهوماً محورياً لمستقبل أوربة خارج الإطار اللاهوتي بحيث أصبحت المركزية الأوربية هي الأساس في فهم التاريخ العالمي وفي تطوره. وأبرز من مثّل هذه الاتجاهات فلسفةالتاريخ في القرن الثامن عشر الفكر الألماني الذي لعب فيها دوراً أساساً، كما لعبت بدايات الثورة العلمية والتكنولوجية دوراً أساساً في ترسيخ فكرة التقدم ودور أوربة فيه.
وإذا أردنا أن نرصد أهم المفكرين الذين يمثلّون فلسفة التاريخ في القرن الثامن عشر التي نتحدث عنها يمكننا الإشارة إلى الشخصيات التالية:
- الفيلسوف الألماني (كانت) الذي كان متأثراً جداً بمؤسس الفيزياء الكلاسيكية نيوتن والذي اعتبرها إشارة للتقدّم، ولم يُشر (كانت) إلى غير دور شعوب أوربة إلا على استحياء.
- أما المفكر الذي وضع مؤلفاً في فلسفة التاريخ وكان له دور أساس في المركزية الأوروبية فهو الفيلسوف الألماني (هيردر)، وقد علّل هذا الدور بالمناخ الطبيعي البارد الذي يؤهل الشعوب الأوربية لقيادة الفكر العالمي والذي تتمتّع به أوربة.
- ثم جاء بعده عالم الاجتماع الفرنسي المشهور (مونتسكيو) ليؤكد الفكرة نفسها مستعملاً مصطلحات شعوب الشمال الأوربية وشعوب الجنوب.
- ثم هناك من ميّز ذلك عرقياً بين الآرية والسامية، فالشعوب الآرية هي الشعوب المبدعة بينما الشعوب السامية خاملة العقل، ومثّل ذلك الاتجاه كل من (إرنست رينان) و(جوبينو) الفرنسيان، و(تشمبرلن) الإنكليزي.
- أما القمة فقد مثّلها الفيلسوف الألماني (هيغل) الذي صاغ تطور تاريخ الإنسانية بتسلسل من الشعوب الشرقية التي يحكمها (واحد حر) إلى الشعوب الغربية التي تحكمها (فئة حرة) إلى الشعب الألماني الذي يحكمه (مواطنون كلهم أحرار) والتي تمثّل الدولة البروسية (العقل المطلق) لروح التاريخ العالمي.
وهكذا يمكن القول إن (الثقافة الغربية) قد انفصلت عن كل ما هو شرقي حتى عن المسيحية المشرقية بحيث يمكن استعمال مصطلح (المسيحية الأوربية) للدلالة على هذا التطور التاريخي.
ويصحّ القول إن المسيحية حين دخلت أوربة (تروّمت). أي لم تتنصر روما بشكل مباشر بقدر ما تروّمت المسيحية سلطةً ومؤسسات. ويمكن القول إن فلسفة التاريخ في أوربة التي وُصِفت بالعَلْمانية لم تكن إلا بديلاً معبّراً عن الأساس اللاهوتي لها والتي حسمت خاتمة الانفصال بين الثقافة الغربية والثقافات الشرقية.
وبذلك يكون قد اكتمل بناء (الثقافة الغربية) بمكوناتها التالية: التراث اليوناني والتراث الروماني وتراث اليهودية والمسيحية ثم المركزية الأوربية أساس الثقافة الأوربية (الغربية) الحديثة. ثم جرى القول إن هذه الثقافة الغربية هي الثقافة العالمية وتاريخها هو التاريخ العالمي وليس هناك من ثقافة أخرى خارج هذا التاريخ تستحق الذكر. وستكون مهمة (الاستشراق) إذاً هي إثبات هذه المقولة، فما هو خارج هذا التاريخ إما أن يكون مستمداً منها أو يمكن إلحاقه بها أو أنه لا قيمة له، وستكون مهمة الاستعمار والإمبريالية حماية تحقيق مهمة الاستشراق في اختراق الثقافات الأخرى.
وأول ثقافة يمكن أن تهدّد أمن الثقافة الغربية هي الثقافة الإسلامية، وقد أثبتت التجربة التاريخية لأوربة ذلك، فالمنافس الحضاري الوحيد لها هو الإسلام.
ثالثاً: وسائل الاختراق الثقافي
بناء على ما سبق، أصبحت المهمة هي (الاختراق الثقافي) و(الهيمنة السياسية) على عالم الإسلام. ووفّر الاستشراق المعرفة اللازمة للاختراق ووفّر الاستعمار والإمبريالية القوة اللازمة للهيمنة. والهدف هو (الهوية الحضارية) للمجتمعات العربية الإسلامية – الدين واللغة والتاريخ – والوعي بها. وليس أنسب لتنفيذ هذه الخطة من وضعها تحت لافتة (النهضة). ذلك لأن الوعي بهذه الهوية – بعد قرون من الجمود– أصبح شبه غائبٍ والذاكرة التاريخية منهكة. والسيطرة السياسية مهيأة من خلال القوّة الاستعمارية. فالهدف إذاً هو هذه الهوية، وبما أن الاستشراق قد قام باستلاب الذات الإسلامية وغيّب الوعي التاريخي بها، فالمطلوب الحيلولة دون استعادة الوعي التاريخي للجذر الحضاري الإسلامي لدى مجتمعاتنا. وذلك يقتضي العمل على تفكيك الذاكرة التاريخية الإسلامية، وتركيب ذاكرة تاريخية مغلوطة مغروسة في حضارات ما قبل الإسلام، بحيث يصبح الإنتماء إليها هو الصحيح علمياً، لكي يسهم في تمزيق وحدة المجتمعات الإسلامية. وهذا يقتضي بالضرورة تجزئة جغرافية تتفق مع الانتماءات الجديدة أو على الأصح (الهويات الجديدة) بحيث تعتمد في هذه التجزئة على حضارات ما قبل الإسلام، فتجعل (الفرعونية) أساس الهوية المصرية الجديدة و(الفينيقية) أساس الهوية الجديدة لبلاد الشام و(الآشورية) للعراق… كما سبق ذكره.
في إطار هذه الرؤية الاستشراقية استخدمت سياسة الاختراق الثقافي الوسائل التالية:
- تكوين نخبة استشراقية في كل مجتمع تتبنّى تلك الرؤية.
- نقل هذه الرؤية من رؤية النخبة إلى رؤية المجتمع.
- وهذا يقتضي سلطة تقسر المجتمع عليها وهذا ما توفّره سلطة الاحتلال.
- وإذا لم يكتمل التحوّل المطلوب في ظلّ سلطة الاحتلال وطالبت هذه المجتمعات بالاستقلال وحصلت عليه فيجب أن تكون السلطة مستقلة اسمياً، سلطة أقلّية مستبدة تحمي تلك النخبة كي تستمر في أداء مهمتها، سواء بإشراكها بالسلطة مباشرة أم بالتحالف معها.
- إن أقوى وأمضى سلاح يمكن أن تستند إليه النخبة الاستشراقية في تحوّل المجتمع لهذه الرؤية هو الأسر المصطلحي للمفاهيم، وذلك بإدخال مصطلحات الاستشراق حقل التداول الثقافي العام.
والخلاصة، لقد عمل الاستشراق على تغييب الوعي التاريخي بهويتنا الحضارية كي لا تستعاد أبداً، وأكملت النخب الاستشراقية العربية المهمة، وهذا ما سنفصّل فيه في الفصل القادم.
الفصل الثالث: الفكر الاستشراقي العربي
بعدما شرحنا كيف قام الاستشراق الأوربي ببناء صياغات فكرية تقفز على الإسهامات الحضارية لكل العالم خارجها، وتدعي تفوّقها وأنها في آنٍ معاً علمية وعالمية وعلى جميع البشر اتباع نموذجها. بعد هذا الشرح، نقوم في هذا الفصل في عرض جهود الاستشراق في البلاد العربية، ونظهر كيف أنه ليس إلا امتداداً للاستشراق الغربي. ونفصّل خصوصاً في طرح طه حسين حول هوية مصر، ذلك الطرح الذي كان من أبرز الجهود الاستشراقية العربية وأشهرها.
- الاحتلال البريطاني وميلاد النخبة الاستشراقية
- أطروحة النخبة الاستشراقية ونقدها
- طه حسين كنموذج للطرح الاستشراقي
أولاً: الاحتلال البريطاني لمصر وميلاد النخبة الاستشراقية
لقد استخلص الغرب وخاصة بريطانية من تجربة محمد علي الهدفين الاستراتيجيين الأساسيين التاليين: (1) يجب ألا تقوم نهضة حقيقية في مصر لئلا تصبح قوة سياسية جيوبولتيكية حقيقية ذات تأثير مباشر في المجال المحيط بها؛ (2) ويجب ألا تقوم أية وحدة بين مصر وبلاد الشام وخاصة جنوبها فلسطين لئلا تصبح نواة لأية وحدة عربية، وكان هذا هو هدف معاهدة 1840. وبذلك تحدد الهدفان الاستراتيجيان للغرب عامة ولبريطانية خاصة بما يلي:
- الاختراق الثقافي للحيلولة دون قيام نهضة حقيقية بالعمل على تكوين نخبة استشراقية تقطع مع المرجعية الإسلامية كأساس للنهضة
- الاختراق السياسي للحيلولة دون قيام وحدة بين مصر وبلاد الشام، وهي التي كانت ستحول دون قيام الدولة اليهودية مستقبلاً.
على المستوى السياسي مرّ تحقيق الأهداف من خلال نسقين: نسق ليبرالية عربية استمدّت مرجعيتها من الاستشراق الأوربي الغربي، ونسق اشتراكية عربية استمدّت مرجعيتها من الاستشراق الأوربي الشرقي أو الروسي. وكلّ من هذين النسقين مشيا في طريق واحد لتحقيق أمرين اثنين: أولاً، علمنة الدولة مما يمكن تسميته بـ(العَلْمانية السياسية) التي تهدف إلى إبعاد الشريعة الإسلامية من أن تظل مرجعية لنظام الحقوق والواجبات وترتيب المجتمع وتحديد أولوياته. ثانياً: علمنة المجتمع مما يمكن تسميته بـ(العَلْمانية الفكرية) والتي تهدف إلى استبعاد الإسلام نفسه كدينٍ ولغةٍ وتاريخٍ، أي استبعاده كمكوّن (للهوية الحضارية).
مصر ما قبل الاحتلال البريطاني
برغم التوجّه إلى التحديث السريع في عهد محمد علي وما يمكن أن يترافق معه من استيرادٍ من الغرب، اتصف الواقع الاجتماعي في هذا العصر بالولاء للمرجعية الإسلامية في شِقيها الثقافي والسياسي. ونقصد بالسياسي الولاء للشريعة الإسلامية كمصدرٍ وإطارٍ للحكم وشرعيته وأهدافه الكبرى، والولاء للدولة العثمانية كونها سلطة جامعة للأمة الإسلامية. ورغم تحوّل التحديث إلى تغريب على يد أبناء محمد علي أي ما بين 1848م (وفاة محمد علي) و1882 (بداية الاحتلال البريطاني) فإن الولاء للمرجعية الإسلامية ظلّ مستمراً حتى نهاية عهد اسماعيل.
أما التحوّل السياسي الحاسم فقد بدأ مع الاحتلال البريطاني والعمل على إخراج الدولة المصرية من ولاءين: من الولاء السياسي للعثمانيين، ومن الولاء الثقافي الإسلامي العربي من خلال مناهج التربية.
وكانت أول خطوة في هذا السبيل المنهج التربوي لدنلوب واستدعاء مجموعة وظيفية مُعَلْمنة معظم أفرادها من الأقليات غير المسلمة، وذلك بقصد تكوين نخبة استشراقية تؤسس لفكر عربي استشراقي تتولى هي بإشراف الاحتلال توجيه مسار البلد، ومن هنا طرح شعار (فصل الدين عن الدولة) الذي أصبح المحدّد الأساس لما سُمي بالعَلْمانية.
ونقصد بالجماعة الوظيفية التالي:
- جماعة تجلبها السلطة الحاكمة من خارج التيار العام للمجتمع.
- تبني علاقة تشاركية مع عملاء الاستعمار في السلطة الحاكمة.
- تعيش هذه الجماعة داخل المجتمع في حالة عزلة شعورية فكرية عنه.
- تحتفظ بهويتها ولا تدين بالولاء للوطن الذي تعيش فيه.
وكان من أول الأهداف الاستراتيجية لهذه النخبة تفكيك الهوية الحضارية للمجتمع المصري وذلك باستهداف الدين واللغة والتاريخ. وإذ أراد الاستعمار البريطاني تكوين نخبة استشراقية تكون وسيطة بينه وبين المجتمع المصري ورأى صعوبة البدء في تكوين هذه النخبة من المصريين أنفسهم، استدعى من سموّهم (الشوام)، وهم فئة من المسيحيين اللبنانيين الذين يتصفون بصفتين أساسيتين:
- كونهم جميعاً من خريجي المدارس الإنجيلية في لبنان والتي بدأت بإنشاء ما يسمى (الكلية الإنجيلية) من قبل البعثة الإنجيلية الأمريكية والتي أصبح اسمها بعد ذلك (جامعة بيروت الأمريكية).
- إنهم جميعاً من المعادين للدولة العثمانية والحاقدين عليها وعلى كل ماهو عثماني باعتبارها تمثّل الولاء السياسي للمجتمع الإسلامي.
وبرغم أن هؤلاء ليسوا مصريين فقد سلّمهم الاستعمار البريطاني مهمة توجيه الثقافة والإعلام في مصر. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى الظاهرة المسمّاه بـ(الشوام) وارتباط أفرادها بأبناء الأسر الإقطاعية في مصر أو رجال الرأسمالية المصرية الناشئة أو الجماعات اليهودية ليكوّنوا جميعاً طبقة منفصلة عن الشعب المصري باعتبارهم أقلية من جهة وسلطوية بحكم دعم الاستعمار لهم من جهة أخرى، فهؤلاء (الشوام) كانوا يتحيّزون لخدمة القناصل الأجانب وخدمة مصالح الاستعمار البريطاني من جهة وبالاستعلاء والفوقية والازدراء للشعب المصري من جهة أخرى، وكل هذا موثّق ومعروف.
ثانياً: أطروحة النخبة الاستشراقية ونقدها
من المفيد هنا أن نلخّص المحتوى الفكري لطرح النخبة الاستشراقية التي نتحدث عنها، وأن ننقدها باختصار.
أولاً ــ الأطروحة الاستشراقية:
تتلخص الأطروحة الاستشراقية بما يلي:
- أن هناك (ثقافة واحدة) وليس هناك تعدد.
- أن الثقافة الوحيدة الجديرة بالاحترام والتي تمكّنت من نفض التأخر والماضي هي الثقافة الغربية، وهي (علمية) من جهة و(عالمية) من جهة أخرى.
- ولأنها علمية وعالمية، لا يمكن الخروج منها ولا الخروج عليها.
- إذا كان هناك مجال (للإبداع) والتجديد فهو (في إطار هذه الثقافة)، وحتى حين يتمّ نقدها أو الاستدراك عليها، فيجب أن يتمّ بمصطلحاتها ومفاهيمها فقط.
- صلوحية هذه الثقافة هي أمر مقطوع به كما هو مقطوع بالعلم التجريبي. وأن الطريق (الوحيد) للنهضة هو الأخذ بهذه الثقافة بخيرها وشرها، وحلوها ومرِّها. إن هذه الطريق مرسومة الخطوات، محددة الآليات، فما قامت به النهضة الأوربية الحديثة يجب القيام به من قبل أي طرف يريد النهوض، فهو شرط للنهضة أو هو قانون النهوض بل هو (علم النهضة). هذه الخطوات هي (التنوير) و(الحداثة) و(الإصلاح الديني) وفق الأسس والآليات نفسها.
ثانياً ــ نقد الأطروحة الاستشراقية
سنتناول فيما يلي نقد الأطروحة الاستشراقية عنصراً عنصراً:
- إن الادعاء بواحدية الثقافة يلغي حقيقة الاختلاف الثقافي، وينكر واقع تعدد الثقافات المشهود له في أمر الواقع. فمن ذا الذي يشكّ مثلاً أن هناك ثقافة عربية وهناك ثقافة صينية وأخرى هندية وأخرى يابانية، إلخ. إلى جانب ثقافات تاريخية كثيرة، إلا إذا كان يعتقد أننا مجتمع بلا ثقافة! كما أن هذا الإدعاء يسقط مفاهيم عدة تعبّر عن تعدد الثقافات مثل (التبادل الثقافي) و(الحوار الثقافي) بل حتى (الصدام الثقافي)، فإذا لم يكن هناك تعدد فماذا تعني هذه المفاهيم؟ ونقول إن هناك تعدد حتى داخل الثقافة الأوربية المزعومة، فالثقافة الفرنسية تختلف عن الثقافة الألمانية وكلاهما تختلفان عن الثقافة الإنكليزية. كذلك هناك تعدد داخل الثقافة الإسلامية كالثقافة التركية العثماني والثقافة الفارسية. كذلك تلغي هذه الفكرة (العلم المقارن) بين أوجه الثقافات مثل (علم القانون المقارن) و(علم اللغة المقارن). وإذا لم يكن هناك تعدد بطلت المقارنة.
- أما أن الثقافة الغربية الأوربية ثقافة علمية وعالمية لا يمكن الخروج منها أو الخروج عليها، فيردّ عليه أن ذلك خطأ علمي لا يميّز بين مفهوم الثقافة ومفهوم العلم، فالثقافة غير العلم. فهي التي تشمله وليس هو الذي يشملها. الثقافة وعاء للدين واللغة وتاريخ وآداب وفنون القوم، هي قيم معرفية وأخلاقية وجمالية وفق نسق تاريخي لمجتمع من المجتمعات. ولذا فإن الحديث عن ثقافة علمية أو عالمية كلام لا معنى له.
- أما الخروج منها فهو لمن هو في داخلها، أما ماهو خارجها فيتثاقف معها عن طريق (الحوار الثقافي) أو (التبادل الثقافي). ولقد قامت مثاقفة حقيقية بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة اليونانية وغيرها في تراثنا من خلال نقل تراث الفلسفة والعلوم (دون أن نتخلى عن ثقافتنا)، كذلك تمّ بالمقابل نقل الفلسفة العربية الإسلامية والعلوم العربية إلى الثقافة الغربية حيث كانت أساساً للنهضة الأوربية الحديثة (دون أن يتخلى الغرب عن ثقافته لا ديناً ولا لغة ولا قيماً).
- أما الخروج على الثقافة الغربية فهو (واجب أخلاقي إنساني) لأنه خروج على تاريخ الاستعمار والإمبريالية. خروج على ثقافة الإقصاء والقهر والاستعباد، خروج على ثقافة لا تقوم إلا على عداء الآخر (غير اليوناني) و(غير الروماني) و(غير المسيحي الأوربي) وأخيراً (غير الأوربي). ويبلغ العداء ذروته إذا كان الآخر هو (الإسلام). كيف لا نخرج على ثقافة مسحت من في أمريكة من بشر، واستعبدت من في إفريقية من بشر، وامتصت دماء من في آسية من بشر. كيف لا نخرج على ثقافة قضت على ثقافات شعوب أمريكة وأفريقية وأسترالية ودولها. وما كان لنا أن ننسى أن ما صنع التقدم الغربي والرفاهية الاجتماعية في الغرب هو الذهب الأمريكي (غلّة القطن والقمح وغيره) ودم الإفريقي الزنجي. إنّ (التخلف) هنا هو ثمن (التقدم) هناك، ومجتمع الفقر والبطالة هنا هو ثمن مجتمع الرفاهية هناك. وما زال التمييز قائماً في معادلة ما يسمى الدول (المتقدمة والنامية)، أو ما يسمى (مجتمعات الشمال والجنوب). كيف لانخرج على ثقافة دمرت ثقافتنا الإسلامية لدى شعوب أفريقية وآسية الواقعة تحت سلطتهم الاستعمارية من خلال الإحلال اللغوي وإلى حدّ ما الديني. وقد صُنعت لهم ثقافة مزيفة وتاريخ مزور.
- أما ما يخص الإبداع، فإن جوهر الإبداع ألا يكون مشروطاً إلا بعبقرية المبدع لا بثقافة معينة ولا لغة معينة ولا شعب معين. لذلك فالمبدعون موجودون في كل الشعوب وفي كل اللغات وفي مختلف الثقافات. وكذلك التجديد. أما نقضها أو رفضها من خارجها فمن الطبيعي أن يتمّ برفض تداول مفاهيمها ومصطلحاتها ومرجعياتها. أما ادعاء حياد العلم التجريبي والعلوم الإنسانية وأنه لا فارق بينهما وأن كلاهما قول علمي لا يرد، فهذا وهم سقط نهائياً بعد سقوط الوضعية المنطقية من أوغست كونت حتى مدرسة فيينا، وهذا كلام لم يعُد له معنى خاصة بعد ظهور نقد كارل بوبر وعلوم التأويل على يد هانس جورج جادامر.
- ويمكن أن يجاب عن الادعاءات الأوربية من داخل طرحهم الفكري، فقد تمّ التخليّ عن الليبرالية الكلاسيكية المرتبطة بـ(التنوير) الذي يعني رفع الوصاية عن العقل ليختزل في رفع وصاية الدين الإسلامي على الدولة وعلى المجتمع، وهي وصاية موهومة لا وجود لها لعدم وجود كنيسة في الإسلام ولا رجال دين، بل مرجعية علمية (الشريعة) وعلماء متخصصون في فروعها، دون أي سلطة من أي نوع كان على الفرد المسلم.
ثالثاً: طه حسين كنموذج للطرح الاستشراقي
من المحتّم علينا أن نذكّر بالطرح الفكري لطه حسين، وذلك لما يتمتّع به من شهرة ولأنه يُعتبر النموذج المتنوّر للمثقف العربي، وما زال يُحتفى به وبإنتاجه، ولن نتعرّض هنا إلى عبارات صدرت عن طه حسين في آخر حياته تشي بنوع من التراجع عن بعض مقولاته القديمة، فليس همّنا هنا نقد الأشخاص والذوات، وإنما إبراز طرح فكري كان له من الأثر الهدام ما له. والسؤال الأول الذي تحسن الإجابة عنه هو أين يقع هذا الكتاب من مؤلفات طه حسين. وأنا أعتقد أنه يمكن تقسيم مؤلفاته إلى ما يلي:
- رؤية طه حسين لمسألة الثقافة والتي يمتلكها هذا الكتاب بالدرجة الأولى.
- المشروع التربوي لتطبيق رؤيته وهو جزء من هذا الكتاب لكنه يشكّل وحدة مستقلة للدراسة إلى جانب وحدة الدراسة الخاصة بالرؤية.
- الأعمال الأدبية سواء أكانت تأليفاً أم ترجمة أم أي نوع أدبي آخر.
- الدراسات الإسلامية بما فيها كتاب الشعر الجاهلي.
وكتاب “مستقبل الثقافة في مصر” لطه حسين كتاب تأسيسي، ولذا من المفيد استعراض رسالته العامة. مقدمة الطبعة الثانية عام 1973م وهي للدكتور أحمد فتحي سرور وزير التربية والتعليم السابق ورئيس مجلس الشعب، وتستغرق خمسة عشر صفحة من الكتاب. أما الطبعة الأولى فقد صدرت في 31 يونيو 1938م. وخلاصة مقدمة وزير التربية هو ما ورد في خاتمتها كما يأتي: (والمتتبِّع لحركة إصلاح التعليم في السنوات الأخيرة يلاحظ أن أفكار طه حسين ومبادئه لم تذهب أدراج الرياح، أو تبقى حبيسة المؤلفات والكتابات، فقد وضعت هذه الأهداف وتلك المبادئ نصب أعيننا ونحن نضع استراتيجية التعليم ونرسم سياسته ونضع خططه ومشروعاته وبرامجه التنفيذية).
خلاصة أطروحة طه حسين
- فك ارتباط مستقبل الثقافة في مصر بالثقافة العربية الإسلامية وربطها بثقافة تاريخ مصر القديم وهو ما اصطلح عليه طه حسين بـ(العقل المصري) مقابل (العقل الإسلامي).
- عزل مصر عن أي انتماء سياسي على أسس إسلامية، ومنه رفض (الإسلامية العثمانية) والانتقال إلى (الوطنية الإسلامية) لمصطفى كامل أو إلى (الوطنية العَلْمانية) لسعد زغلول أو إلى (القومية العَلْمانية) لأحمد لطفي السيد أستاذ طه حسين.
- الثقافة المصرية تنتمي إلى ثقافات شعوب البحر المتوسط القديمة وهي: اليونان القديمة (الهيلينية) والحديثة (الهيلينستية) وثقافة كريت الميناوية وثقافة أكاد وفينيقية. والعقل المصري إنما تشكّل بالتفاعل مع هذه الثقافات. وما في هذه الثقافة من فلسفة يرتد إلى الفلسفة اليونانية، وما فيها من فقه يرتد إلى القانون الروماني، كما أنّ الدين الإسلامي نفسه جاء متمّماً للدين المسيحي.
- عودة مصر إلى تاريخها القديم هي عودة طبيعية إلى أصل العقل المصري أو بعبارة أخرى عودة الثقافة المصرية إلى أصولها. فدعوتنا اليوم للأخذ بالثقافة الغربية الحديثة ما هو بالأمر الغريب بل هي الأمر الطبيعي وخاصة بأن العقل المصري غربي التصور والإدراك والحكم على الأشياء) ص 18/2.
- إن لمصر ثقافة خاصة مرتبطة بتاريخها القديم بدءاً من العصر الفرعوني حتى آخر العصر اليوناني الروماني والذي نشأت في ظله المسيحية الأرثوذكسية القبطية، وبالتالي فإن الفتح الإسلامي الذي جاء لإنهاء العصر الروماني والذي بدأت به الثقافة العربية الإسلامية يُعتبر انقطاعاً لاستمرارية الثقافة المصرية.
- بعبارة أخرى الادعاء بأن مصر في ثقافتها الحالية العربية الإسلامية هي في حالة اغتراب عن ثقافتها الحقيقية، وأن إعادة ربطها بالتاريخ الأوربي القديم هو استعادة للوعي المصري.
- ثم مضى خطوة أخيرة فزعم بأن الأخذ بالثقافة الغربية الحديثة لا يتعارض أصلاً مع الثقافة العربية الإسلامية لأن هذه تنحلّ في النهاية إلى أصول الثقافة الغربية وعنوَن لذلك في الفقرة الخامسة من الكتاب كما يلي (العقل الإسلامي كالعقل الأوربي). وبذلك وضع طه حسين الأساس الفلسفي للفكر الاستشراقي المصري ومن ورائه العربي في تشكيل هويات جديدة تستند فيها إلى أصولها القديمة.
- وبشكل موازٍ يتمّ الادعاء بأن الثقافة السورية اللبنانية في هويتها الجديدة يجب أن تعود إلى أصولها إلى فينيقيا، وأن تعود الهوية العراقية الجديدة إلى أصولها أيضاً في آشور، وبذلك تصبح الثقافة العربية الإسلامية انقطاعاً طرأ على وحدة ثقافات شعوب البحر المتوسط ينبغي وصله وتجاوزه. أما علاقة العقل المصري بالعقل الإسلامي (فيجب أن يَصحّ أن الإسلام لم يُغير العقل المصري أو لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته بل يجب أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول مطمئنين إن انتشار الإسلام في الشرق البعيد والشرق الأقصى قد مدّ سلطان العقل اليوناني وبسطه على بلاد لم يكن قد زارها إلا لماماً ولم يستطع أن يستقرّ فيها استقراراً متصلاً إلا بعد أن استقر فيها الإسلام) 26/5.
وننبّه إلى أن المقصود بمصطلح الماضي البعيد عند طه حسين هو العقل المصري الذي بدأ تشكّله – بحسب الخطاب الاستشراقي– في العصر الفرعوني واستمر في تأثّره وتأثيره مع ثقافات البحر المتوسط وعلى الأخص العقل اليوناني والذي استمر حتى مجيء الإسلام. وعلى هذا الأساس بدأ السجال في مصر حول شخصيتها أفرعونية أم عربية والذي مازال مستمراً إلى اليوم، يعلو ويهدأ وفق الظروف السياسية، وكان آخرها ما ورد في كتاب الدكتور جمال حمدان (شخصية مصر الفصل الثامن) تحت عنوان الاستمرارية والانقطاع فرعونية أم عربية([6]).
ولعل أوضح نصٍ لطه حسين هو التالي: “فلو أردنا أن نحلّل العقل الإسلامي في مصر وفي الشرق القريب أفَتراه ينحلّ إلى شيء آخر غير العناصر التي انتهى إليها تحليل بول فاليري([7])؟ خذ نتائج العقل الإسلامي كلها فستراها تنحل إلى هذه الآثار الأدبية والفلسفية… وإلى هذه السياسة والفقه اللذين مهما يكن أمرهما فهما متصلان أشد الاتصال بما كان للرومان من سياسة وفقه، وإلى هذا الدين الإسلامي الكريم وما يدعو إليه من خير وما يحث عليه من إحسان، ومهما يقل القائلون فلن يستطيعوا أن ينكروا أن الإسلام قد جاء متمماً ومصدقاً للتوراة والإنجيل. 29/6، وإذاً فمهما نبحث ومهما نستقصي فلن نجد ما يحملنا على أن نقبل أن بين العقل الأوربي والعقل المصري فرقاً جوهرياً” 30/6.
أطروحة مسيّسة:
علينا التنبيه إلى أن هذه الطروحات التي تحرّف التاريخ وتنتقي الدلائل لم تكن مجرد بحث أكاديمي وحسب، بل كانت مرتبطة بخطة تربوية للتطبيق، حيث فصّل فيها طه حسين جميع التحولات التي يجب أن تحصل في ميدان التعليم والثقافة بدءاً من التعليم الإبتدائي وحتى الجامعي من خلال نظام تعليم يتبنّى هذه الرؤية، وهو ما حصل فعلاً فقد أصبح ما أورده طه حسين في فقراته الستين من مستقبل الثقافة في مصر منهجاً تربوياً تلتزم به الحكومة المصرية. وقد بدأ ذلك منذ أُقرّ نظام التعليم الإجباري والمجّاني منذ 1937م وحتى 1997م الذي صدرت فيه الطبعة الجديدة للكتاب بمقدمة لوزير التربية السابق ورئيس مجلس الشعب فتحي سرور والذي ذكر فيها أنهم نفّذوا ما أمكن تنفيذه وماضون في البقية.
وفي جواب طه حسين عن أسئلة الشباب الجامعيين عن واجبهم بعد إمضاء المعاهدة مع الانجليز جاء ما يلي: (وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال وإلغاء الامتيازات إلا التزاماً صريحاً قاطعاً أمام العالم المتحضر بأننا سنسير سيرة الأوربيين في الحكم والإدارة والتشريع) 34/7، (فلو أن عقول آبائنا وأجدادنا كانت مشرقية مخالفة في جوهرها وطبيعتها للعقل الأوربي فقد وضعنا في رؤوس أبنائنا عقولاً أوربية) 34/7. “ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل وجعل بها مصر جزءاً من أوربة فنّاً من فنون التمدّح أو لوناً من ألوان المفاخرة. وإنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوربة في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها”.
ونشير هنا إلى أنّ توفيق الحكيم في كتابه (عودة الروح) يعبّر ويتابع في توجّه طه حسين، وهو الكتاب الذي قام أبا إيبان بترجمته إلى العبرية فور صدوره. وقد ألحق توفيق الحكيم به كتاباً آخر سمّاه (عودة الوعي)، وسار على هذا النهج أكثر الكتّاب القوميين المصريين. وتمّت محاولة هذا في دعوة جمال عبد الناصر إلى القومية العربية العلمانية والتي تؤول في النهاية إلى تجاوز الإسلام نفسه إلى الثقافات العربية القديمة السابقة عليه.
والحقيقة أن طه حسين يتبنّى مقولة الكاتب الفرنسي المعروف – بول فاليري – الذي يُشخّص العقل الأوربي ويردّه إلى عناصره الثلاثة:
- 1.حضارة اليونان ومافيها من أدب وفلسفة وفن.
- 2.حضارة الرومان ومافيها من سياسة وفقه.
- 3.والمسيحية ومافيها من دعوة إلى الخير وحث على الإحسان.
وبمناورة عجيبة يحاول طه حسين أن يخلط الأوراق بين المخزون الحضاري الإسلامي وذاك الذي في أوربة. فيدعي طه حسين أنه لو أردنا أن نحلل العقل الإسلامي في مصر وفي الشرق القريب أَفتراه يَنحّل إلى شيء آخر غير هذه العناصر التي انتهى إليها تحليل بول فاليري؟ خذ نتائج العقل الإسلامي كلها فستراها تنحل إلى هذه الآثار الأدبية والفلسفية والفنية، التي مهما تكن مشخصاتها فهي متصلة بحضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن، وإلى هذه السياسة والفقه اللذين مهما يكن أمرهما فهما متصلان أشد الاتصال بما كان للرومان من سياسة وفقه، وإلى هذا الدين الإسلامي الكريم وما يدعو إليه من خير وما يحث عليه من إحسان، ومهما يقل القائلون فلن يستطيعوا أن ينكروا أن الإسلام قد جاء متمماً ومصدقاً للتوراة والإنجيل (29/6)، وإذاً فمهما نبحث ومهما نستقصي فلن نجد ما يحملنا على أن نقبل أن بين العقل الأوربي والعقل المصري فرقاً جوهرياً (30/6)]. ولا يخفى أن طه حسين يقصد (العقل الإسلامي) الحضارة العربية الإسلامية، و(العقل الأوربي) الحضارة الغربية.
وتتجاهل هذه الأطروحة الفكرة القرآنية “مهيمناً عليه” التي تحدّد طبيعة علاقة الرسالة الخاتمة بما قبلها، كما يختزل الطرح الإسلام بالدعوة إلى الخير والإحسان وكأن شريعة الإسلام لم تمثّل منظومة متكاملة، والأهم من كل ذلك تجاهل مفهوم (التوحيد) الذي هو أساس الإسلام كله.
أما صلة الثقافة العربية الإسلامية بالثقافة اليونانية فقد اقتصرت على الفلسفة ولم تنقل الفنون الأدبية اليونانية إلى الأدب العربي، ولم يهتم بها العرب ولم يترجموا الآثار الأدبية اليونانية. أما الفن فإنه لأمر مدهش أن نُسب إلى اليونان، فالفن الإسلامي كله قائم على (التجريد)، وهو نقيض الفن اليوناني ــ والذي من بعده ــ القائم على (المحاكاة) والأمر أقرب أن يكون معكوساً، فمآل الفن الغربي اليوم مشى نحو الفنّ التجريدي.
أما عن الفقه الإسلامي فتاريخ تأصيل أصوله تمّ قبل حركة الترجمة أصلاً وما حصل من تطور في أقوال الشافعي والأمور المستمدة من اللغة وأصول الغزالي وإنتاجه المتأثر بعلم المنطق فقد جاء متأخراً، أما التأثير السياسي والإداري فهو قصة مؤسسات وليس معه تشريع.
أما عن الفلسفة العربية الإسلامية فحديثها يطول وقول إرنست رينان إن الفلسفة العربية ليست إلا الفلسفة اليونانية مكتوبة بحروف عربية، فإن الرد على مثل هذا التعميم الاعتباطي بأن: الفلسفة الأوربية الحديثة ليست إلا الفلسفة العربية مكتوبة بحروف لاتينية. فالخوض في المسائل الفلسفة التي قال بها اليونان شيء والتقليد والمحاكاة شيء آخر. وأي إنتاج فكري يغلب أن ينتشر ويصبح له حضور عالمي، وهناك من قبل اليونان فلسفات الهند والشرق بشكل عام. ونمط التفاعل الفكري يسري عادة وفق مسارات عامة ثلاثة: (1) فمن ذاك الذي يقتبس ولا يغيّر المنطلقات الأساسية؛ (2) إلى ذاك الذي يستعمل المصطلحات فحسب معتبراً أنها أصبحت لغة علمية معرّفة ومعروفة؛ (3) إلى ذاك الذي يتفاعل مع الإنتاج العالمي ويطوّر مصطلحاته الخاصة ومفاهيمه التي تنسجم مع رؤيته الكلية. وكأمثلة من تاريخنا، لا بدّ من التفريق بين إنتاج أمثال ابن سينا والفارابي والكندي، وإنتاج ابن رشد والغزالي وابن حزم.
وبشكل عام، لا يخفى التدليس في طرح طه حسين وأمثاله، إذ إنه:
- من ناحية تاريخية يتجاهل عملية تكوين الأمة المسلمة التي جرت منذ انتشار الإسلام، فشكل شخصية حضارية عالمية لمصر ولغيرها من البلدان المسلمة العربية وغير العربية.
- يتجاهل دور اللغة العربية وتميّزها وكونها حامل ثقافي، إضافة إلى أن معاني اللغة العربية تهذّبت من بعد الإسلام وترشحت إليها المعاني القرآنية.
- يقفز على مسألة التوحيد وكيف صاغ حضارة الشعوب المسلمة بكل نواحيها، وعلى نحوٍ مخالفٍ ومعاكسٍ للمنطلقات التصورّية للحضارات السابقة.
- يخلط الأوراق في دعوى أن الإسلام لما بين يده من الكتاب، إذ هو تصديق معانيه الأصلية قبل التحريف، وهو تأكيد على الجذر الإبراهيمي التوحيدي الذي ما كان يهودياً ولا نصرانياً، ناهيك على أنه تصديق هيمنة، بنص القرآن، أي هيمنة الأصل التوحيدي وختم الرسالة.
- يقفز على كل سمات الحضارة الإسلامية، وهو الأمر المسلّم به في البحوث والدراسات، والتي كان لها حضور عالمي بحيث لا يصحّ حصرها في العرب ناهيك عن المصريين.
إن الشحنة الإيديولوجية في طرح طه حسين لا تخفى، ومن باب الجدل فحسب، إذا كان ما يقوله صحيحاً فلماذا كل العداء والرفض والاستعمار من قبل أوربة؟ وإذا كانت مصر وثقافتها صورة أخرى لأوربة، فلماذا الحرص على التبشير الحداثي؟
الفصل الرابع ــ التجربة العملية للاستشراقي العربي
حلّلنا في الفصل السابق المضمون الفكري للاستشراق العربي، وفي هذا الفصل نطلّ على الجهود العملية التي اتُبعت من أجل غرس هذا الفكر في واقع مجتمعاتنا المسلمة، وسوف نقوم بمناقشة هذا ضمن العناوين التالية:
- مصطلحات وافدة
- النخبة الاستشراقية والتنوير القسري
- النخبة الاستشراقية والعَلْمانية العربية الصماء
أولاً: مصطلحات وافدة
نناقش فيما يلي باختصار ثلاثة مصطلحات، الأقلية و الطبقة و النخبة. ولم يكن المجتمع الإسلامي يعرف مثل هذه المفاهيم باعتباره كان مجتمع (تنوع اجتماعي) و(توازن مجتمعي) يرفض مثل هذه الصفات التي أدخلت على ثقافتنا من الثقافة الغربية، وذلك لأنه يعتبر أن مفهوم الأقلية يخلّ بخاصية التنوع الاجتماعي، ومفهوم الطبقة يخل بخاصية التوازن المجتمعي اقتصادياً، ومفهوم النخبة يخل أيضاً بخاصية التوازن المجتمعي ثقافياً. وسنبدأ بتحقيق كل مصطلح بمفرده ثم نبدأ بإظهار علاقة هذه المصطلحات الثلاثة ببعضها بعضاً مبتدئين بمصطلح الأقلية.
1- مفهوم الأقلية
دخل علينا هذا المصطلح زمن الاستعمار الأوربي الغربي أو الروسي الاستيطاني فيما سماه (حماية الأقليات)، حيث ادّعت فرنسا أنها الحامية للأقليات الكاثوليكية في الدولة العثمانية، وادّعت روسيا أنها الحامية للأقليات الأرثوذكسية، ففي مرحلة الضعف اعترفت الدولة العثمانية لروسيا بهذا الحق بموجب معاهدة كيرانجية عام 1877م التي نصت على “حق روسيا في حماية رعايا….”. وقد استخدمت هاتان الدعوتان كسلاح سياسي للتدخل في شؤون الدولة العثمانية الداخلية. ومن الجدير بالذكر أن فكرة الأكثرية والأقلية تمتدّ أصولها في الفكر السياسي الغربي إلى الفكر السياسي اليوناني، خاصّة أن أفلاطون هو الذي اعتمد فكرة العددية أساساً لتمييز النظم السياسية وهي اليوم أساس لإعطاء أحقية الحكم في النظم الديمقراطية الغربية.
ولكن لم تكن الأقليات المسيحية تدعو إلى الليبرالية السياسية بل إلى العَلْمانية، لأن الدعوة إلى الليبرالية السياسية كانت ستعني الديمقراطية، والديمقراطية فيما تعنيه تعني حكم الأكثرية، مما لا يتيح لها في البلاد الإسلامية التحكّم في السلطة السياسية، وسرعان ما تتحول إلى حكم نخبة عسكرية إذا جرت مقاومة المسلمين لهذا الحكم العَلماني.
كما لم تكن الدعوة في حقيقتها دعوة لحماية الأقليات بناء على أنها تفتقد بعض الحقوق القانونية، لأن نظام الملّة العثماني أعطى الأقليات ليس فقط الحقوق القانونية بل استقلالاً إدارياً ذاتياً. فمثلاً نظام المتصرّفية في جبل لبنان ضمن للأقلية الكاثوليكية المارونية استقلالاً إدارياً برئاسة كاثوليكي غير لبناني. إن ما كانت ترمي إليه دعوى حماية الأقليات هو إقامة كيانات سياسية مستقلة لهذه الأقليات تساعدها على إحياء ما تسميه تراثها التاريخي وربما استرداد ما تسميه (أرضها التاريخية) ضمن منظور أنه حصل نوعٌ من احتلال المسلمين لبلادهم إثر الفتح الإسلامي. وسبق تفنيد مثل هذه الدعاوى، ونشير فقط إلى أن الأرثوذكسية لم تكن إلا ديانة الروم البيزنطيين الذين كانوا مستعمرين لهذه البلاد.
وسيلعب مفهوم الأقلية دوراً رئيساً في قضية النهضة عند اقترانه بمفهوم النخبة، بحيث تؤول النهضة في نهاية المطاف إلى نهضة هذه الأقليات لا نهضة الأكثرية. ولقد سعت نُخبها الثقافية إلى تحقيق هذا الهدف بالأمرين الآتيين:
- فصل مفهوم العروبة عن الإسلام.
- فصل الشريعة عن الدولة بحجة الشعار الذي طرحوه والداعي إلى (فصل الدين عن الدولة) أي العَلْمانية السياسية.
وننبّه هنا إلى أن مصطلح فصل الدين عن الدولة في أصله الأوربي هو فصل سلطة الكنيسة الكاثوليكية عن الدولة، لا الدين. وقد تطورت دعوى العَلْمانية السياسية –لو قبلنا هذا المصطلح الموهم– إلى عَلْمانية شاملة وتسلطيّة غايتها تنحية الدين عن المجتمع.
وطُرحت فكرة الانتماء إلى العروبة دون الإسلام، ولكن هذا يفتقد إلى الأساس التاريخي لنشأة الأمة العربية بمفهومها الجامع، ولولا سياسة التتريك التي تبنتها جماعة الاتحاد والترقي لما أمكن لهذا المفهوم أن يكون له جاذبية أو معنى.
ودعنا نفحص ما الذي يريدون ترويجه من مصطلح الأقلية من خلال عكسه على واقع مجتمعاتنا في بلادنا العربية.
هناك ثلاثة أنواع من (الأقليات) في العالم العربي:
- الأقليات الدينية (المسيحية أو اليهودية)، وهي أقليات لا تشترك في تراثها الديني والتاريخي مع التراث الديني والتاريخي للأكثرية، وبالتالي فإن المرجعية الإسلامية لا تشكل لها انتماءً بل تعارضاً مع انتمائها، وأصبحت بعد فترة الاستعمار تطمح إلى تجاوزها إلى مرجعية أخرى سابقة على الإسلام لتلتقي مع الغرب المسيحي.
- الأقليات الباطنية من فرق الغلاة المنشقّة تاريخياً عن المرجعية الإسلامية، كالإسماعيلية والنصيرية والدرزية. ولا تخفي هذه الأقليات رغبتها في التعاون مع الأقليات الأولى الدينية في الهدف المشترك في الوقوف في وجه الأكثرية الإسلامية السنّية (كما في سورية). والسجل التاريخي لهذه الفرق يجعلها موضع شك بسبب مواقف للنصيريين مع الصليبيين ومن قبلهم الاسماعيلية النزارية مع الصليبيين أيضاً، وما حصل فيما بعد لفريق من النصيريين مع الفرنسيين.
- أقليات إثنية/ثقافية كالكُرد والشركس والتركمان، وهذه الأقليات كانت تاريخياً مندمجة في المجتمع العربي المسلم.
وجود هذه الفرق حقيقة واقعة، لكن كيف تنظر هي إلى نفسها، وكيف يريد الخطاب الغربي أن يعكس صورتها مسألة أخرى. فهمّ الخطاب الغربي التركيز على تعدّد الفرق من أجل حرمان المجتمع بعمقه التاريخي (حرمان المسلمين) من أن ينظم الحياة وفق رؤية للحياة منسجمة مع الإسلام وفرض رؤى مستوردة تحت شعار الديمقراطية واحترام التعددية. وعلينا أن ننبّه أن المتنورين من المسيحيين يرفضون استعمال هذا المصطلح بحقهم. أما النوع الثالث من الأقليات فشأنهم مختلف بالكلية، وفي إدراجهم على أنهم مجرد أقلية تدليس ماكر، ودعنا نفصّل في هذا قليلاً.
إن مجرد لصق مصطلح (الأقلية) على الكُرد والتركمان ومن شابههم له فرضٌ قسري للفكر القومي على الاجتماع المسلم. وكيف يكونوا أقلية وهم جزء من الأمة. كون عددهم قليل في بلد ما وأن له ثقافة ولغة خاصة أمر آخر ومما لا يجعلهم أقلية بالمعنى الحداثي. فالأساس الجامع مع ما يمكن تسميته أكثرية هو عميق متجذّر في خياليها، ألا وهي الهوية الإسلامية. وإن حالة اغتراب المجموعات الثقافية المسلمة قليلة العدد لم يطرأ إلا بعد تطورين اثنين في فترة ما بعد الاستعمار: (1) تبني حكومات الاستقلال لخطابٍ وسياسات من منطلق قومي عربي يقصي غير العرب؛ (2) وظهور نخب عَلْمانية في هذه الأقليات تبنّت هويات نابذة للاجتماع المسلم وطوّرت بعضها مواقف سياسية متناغمة مع المصالح الغربية. وكما هو معروف، كانت المجموعات الثقافية غير العربية جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، وارتقت في عصورٍ إلى قمة الهرم السياسي بلا مقاومة أو ممانعة من العرب المسلمين، فالقوة الكردية اعتلت الدولة الأيوبية في مصر والشام، والشراكسة في مصر كانوا في عداد النخبة في دولة المماليك، والتركمان شكلوا مادة دولة السلاجقة في بغداد وآسيا الصغرى والدولة العثمانية.
ثانياً: مفهوم الطبقة
ولد المجتمع الإسلامي الأول مجتمعاً بلا طبقات، إذ كيف يمكن تصوّر مفهوم الطبقة في حركة دينية تغييرية ثارت على ظلم قريش وتزعمها ودعت إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. صحيح أنه بعد توسّع النظام المسلم والاستقرار والرغد تكوّنت شرائح من الأغنياء وشرائح من الفقراء، إلا أن الزكاة كانت تسهم في إزالة الفوارق، وكان الحرص على العدل الاجتماعي يسهم في إيجاد التوازن بين مختلف الشرائح. وإن وجود فوارق في الدخل ووجود ميسور ومستور وفقير أمر مختلف في معناه عن مفهوم الطبقة بشكل عام، وبشكل خاص مختلف عن مفهوم الطبقة في نسختها الماركسية.
فكرة الطبقة في المجتمع الإسلامي لم تبدأ بالتكوّن إلا بعد دخول الثقافة الفارسية التي ألفِ مجتمعها التفاوت الطبقي. ومن ناحية الواقع الاجتماعي لم يدخل الأمر إلا بدخول السلاجقة، حيث كان الإقطاع العسكري جزءاً من تاريخهم، وتبدّى ذلك بشكل أوضح عند المماليك. ولنا أن نلاحظ عدم وجود أثر لفكرة الطبقة في مقدمة ابن خلدون، وهو الذي درس الواقع المسلم.
ودخل المصطلح ثقافتنا الحديثة من خلال الحديث عن (طبقة رجال الإقطاع) و(طبقة رجال الدين) في العصور الوسطى الأوربية، إذ كان النظام الإقطاعي جزءاً من النظام الاجتماعي والديني. ثم حصل تداول المصطلح مع نشوء طبقة الرأسمالية بعد الثورة الصناعية ونشوء التحليل الماركسي لمفهوم الطبقة والصراع الطبقي.
ثالثاً ــ مفهوم النخبة
المعنى العام للنخبة من وجود ثلّة في المجتمع تتميّز في مستواها الثقافي أو في مقدرتها القيادية أو في خبراتها العملية أمر لا يخلو منه تجمّع بشري. غير أننا نعني هنا عند حديثنا عن مفهوم النخبة تلك المجموعات التي نأت بأنفسها عن مجتمعاتها وارتبطت أجنداتها مع القوى الخارجية.
وحين تتحالف النخبة الثقافية مع السلطة السياسية أو كانت في خدمتها، سيّرت الثقافة كلها في اتجاه واحد بحيث تتحول إلى ايديولوجيا فوق العلم، وإذا ما تحوّلت إلى ايديولوجيا مطلقة أصبحت فوق التاريخ وبذلك تتوفر كل شروط (القهر المعرفي) والقهر السياسي، أي الوصائية والاستبداد، وهو ما اتسمت به النخبة الاستشراقية العربية.
لقد كان نابليون أول من أراد تكوين نخبة في مصر تتوسّط بين الحاكم والمحكوم، وحيث لم يكن تكوينها من الأزهريين ممكناً حرص في مراسلاته مع كليبر بعد أن ترك مصر أن يجمع له عدداً من المصريين يسافرون إلى فرنسا (خمسمائة أو ستمائة شخص من المماليك أو من العرب ومشايخ البلدان) يقيمون لمدة سنة أو سنتين في فرنسا ليكونوا بمثابة نخبة فيما بعد وعقب رجوعهم إلى بلادهم. غير أن فشل الحملة الفرنسية حال دون ذلك.
وبعد رحيل الفرنسيين ومجيء حكم محمد علي حاول هو الآخر تكوين نخبة. ويمكننا أن نذكر عمر مكرم الذي أحاط نفسه بمجموعة من الارستقراطيين الأجانب من الألبان والشركس والكُرد والتُرك والأرمن وبعض الأوربيين، مما يمكن اعتباره أول نواة لفكرة النخبة كبطانة للحاكم. وهكذا اقترن ميلاد أول نخبة بالسلطة لا بالشعب وبالدولة لا بالمجتمع وبالأقلية لا الأكثرية وبالخارج التاريخي لا الداخل التاريخي. واتصفت بأنها نخبة فوقية طبقية (وصائية) على تحديث المجتمع و(قسرية) بوسائلها للتحديث. هذه الخصائص ستتحقق في النخبة الاستشراقية فيما بعد وستلازمها إلى اليوم، تجمعها صفة واحدة: العزلة عن الشعب والانفصال عن المجتمع لتتطور فيما بعد لكي تصبح ضد المجتمع.
ثانياً: النخبة الاستشراقية والتنوير القسري
إن النخبة الاستشراقية أصبحت أقلية حاكمة لأكثرية محكومة، وذلك: (1) لأن الشرعية المدّعاة لحكم هذه النخبة كأقلية هي (تنوير الأكثرية) تنويراً وفق النموذج الغربي؛ (2) ولأن التنوير الغربي كما تقتضي الليبرالية الكلاسيكية (جون لوك) يقوم على فكرة (الحرية الفردية)، أي حرية الفرد في التفكير والتعبير والتملّك. والمفروض أنّ (الليبرالية السياسية) تتحقق من خلال (الديموقراطية) بناءً على أن التنوير يعني – نظرياً– رفع الوصاية عن العقل ورفع وصاية الحكومة عن المجتمع، واعتبار ذلك من حقوق الإنسان الأساسية.
غير أن النخبة الاستشراقية ادعت وجود عقبة أمام هذا التنوير، وهي أن أكثرية أفراد المجتمع العربي ليست مؤهلة بعدُ لاكتساب هذه الحقوق الديموقراطية، فلا بدّ من فترة (وصائية) عليها كي يتمّ تأهيلها. وتأهيلها بحسب تلك الرؤية النخبوية هو تغريب ثقافتها، أي إتمام عملية الإحلال الثقافي.
لكن كيف يمكن إجراء إحلال ثقافي طارئ وانتزاع ما تشكّل خلال التجربة التاريخية؟ لقد استدعى أداء (واجب) التنوير القسري أن تكون لهذه النخبة (سلطة) تجعلها قادرة على إنجاز مهمتها، ولا يمكن أن تكون هذه السلطة غير السلطة السياسية أي سلطة الدولة. وهكذا تصبح الدولة فوق المجتمع والنخبة فوق الدولة، أي تصبح الدولة وصية على المجتمع والنخبة وصية عليها. لكنّ الدولة لا تسمح بأن تعلو سلطتها سلطة. وبالتالي فإن النخبة ما تلبث أن تتحوّل إلى نخبة السلطة.
وهكذا يصبح واجب التنوير من مهمات الدولة، وبما أن النخبة ترى أن أفراد الأكثرية ليسوا مؤهلين للتنوير وعلى الأخص من ناحية الحقوق السياسية، فلا بدّ أن تستأثر الدولة بالسلطة إلى أن يتمّ التأهيل أي لابد من (استبداد مؤقت)… والاستبداد المؤقت لن يسمح بـ(تداول السلطة) خشية الانقلاب على التنوير من القوى التي يُراد تنويرها. وبما أن الأخذ بالطرق الديموقراطية سيؤدي إلى تمكين الأكثرية غير المؤهلة فلا بدّ من تأجيل الديموقراطية. وبذلك تتحول السلطة إلى تسلّط.
وعليه، يقتضي التنوير استبداداً من أجل التنوير: استبداد الدولة السياسي واستبداد النخبة الثقافي. وبذلك يصبح الهدف ليس رفع الوصاية عن العقل بل فرض الوصاية على العقل، ويصبح حقّ الحرية مقتصراً على النخبة (المستنيرة)، نخبة السلطة الحاكمة، وتصبح الديموقراطية مؤجّلة حتى تأهيل المجتمع للديموقراطية. وبما أنّ استبداد الدولة السياسي لا يعرف حريةً لأحدٍ، فبالتالي يتحوّل استبداد النخبة المثقفة إلى استبداد فردٍ هو قائد لها وللدولة وللمجتمع.
وعلينا أن نلاحظ أن النخبة الاستشراقية لم تكن (نخبة مجتمع) أصلاً، بل (ثلة نخبوية من الأفراد)، فكان لزاماً علينا أن نسأل عن انتماءات هؤلاء الأفراد. انتماؤهم المجتمعي تعبّر عنه طبقتهم الاجتماعية/الاقتصادية، فلا عجب أن تجد غالبيتهم إما من رجال الإقطاع أو من الرأسمالية الناشئة. فمثلاً، تاريخ الليبرالية في مصر هو تاريخ تداول عددٍ من الأسر على سلطة (الباشاوات والبكوات)، أسر مسلمة وقبطية ويهودية.
كما تجمعها صفة (الأقلية)، فقد اقترن أصلاً بميلادها من أقلية غير مصرية وغير مسلمة -كما سبق ذكره- إذ كانوا نخبة مسيحية من لبنان أُطلق عليهم في مصر اسم “الشوام”.
وهي نخبوية لأن معنى النخبة المثقفة أصبح يعني مثقّفي السلطة، ووجودها مقترن بها فهي بحاجة إليها لتظلّ وصيةً على الأكثرية ثقافياً، والسلطة بحاجة إليها لتبرير الاستبداد السياسي، وقد لازمها ذلك منذ ولادة أول نخبة أيام محمد علي. ونشير هنا إلى أن الدولة العثمانية أدركت إشكالية بقاء محمد علي في مصر، فأصدرت فرماناً بعودته إلى موقعه الأول باعتبار أن مهمته التي جاء من أجلها إلى مصر بطرد الفرنسيين قد انتهت بخروج الفرنسيين، ولم تقبل السلطة العثمانية ببقائه إلا تحت ضغط النخبة الأزهرية.
وكمثال على مثقفي السلطة نورد حالة رفاعة الطهطاوي، فقد كان من أوائل مبرري استبدادها. فمثلاً، يقول الطهطاوي: “ثم إن للملوك في ممالكهم حقوقاً تسمى بالمزايا وعليهم واجبات في حق الرعية فمن مزايا الملك أنه خليفة الله في أرضه وأن حسابه على ربه، فليس عليه في فعله مسؤولية لأحد من رعاياه”. ويقول أيضاً: “ومن مزايا ولاة الأمور أن النفوذ الملكي بيدهم خاصة، لا يشاركهم فيها مشارك وهذه المزية تعود على الرعية بالفوائد الجسيمة حيث أن إجراء المصالح العمومية بهذا النحو ينتهي بسرعة لكونه مُناط بإرادة واحدة، بخلاف ما إذا أُنيط بإرادات متعددة بيدي كثيرين فإنه يكون بطيئاً. ويقول أيضاً: “كان المنصب الملوكي في أول الأمر في أكثر الممالك انتخابياً بالسواد الأعظم وإجماع الأمة ولكن لما ترتب على أصل الانتخاب ما لا يحصى من المفاسد والفتن والحروب والاختلافات اقتضت قاعدة كون درء المفاسد مقدّماً على جلب المصالح اختيار التوارث بالأبناء وولاية العهد”([8]).
وكانت هذه النخبة تشكو من عدم توفّر الشعبية لها، وبحكم شعورها بالفوقية والوصائية كانت تردّ الأسباب إلى جهل الشعب وتخلفه، فإذا أضيف إليهما تدينه كان المصطلح المناسب لوصف الشعب الذي يُراد خدمته وتنويره هو (الرجعية). ونذكّر هنا بأن النخبة الإسلامية كانت من دعاة (التقدم) بمعنى محدّد، والفرق بينها وبين النخب الاستشراقية هو الموقف من الدين الإسلامي: ففي حين كان الأفغاني يدعو إلى التقدّم بدافع الدين، كان التقدّم عند شبلي الشميّل وسلامة موسى وفرح أنطون مشروطاً بتنحية الدين الإسلامي كُلّية. ولم تكن دعوتهم إلى الداروينية إلا من أجل هذا الهدف([9]).
وبما أن مقاومة استبداد دولة هذه النخبة تأتي من الدين فيجب الانتقال بـ(التنوير) من العَلْمانية السياسية (التي هي أصلاً مشكلة في مضامينها كما أسلفنا) إلى العَلمانية الشاملة، وهذا يعني أن يصبح الدين تحت وصاية الدولة. وعليه يصبح المجتمع مجتمعين:
- مجتمع النخبة الحاكمة (الأقلية الاستراتيجية).
- والمجتمع الأهلي مجتمع الأكثرية المحكومة، وتصبح النهضة نفسها مؤجلة، حتى تتمّ علمنة الدولة والمجتمع، شرط النهضة الأول.
إن هذه الدعوة تستهدف المجتمع في أخص خصائصه وهو الدين. فهي لا تعني الحرية الفردية أو العدالة الاجتماعية أو التقدم الحقيقي أو حتى العقلانية. وإنما تعني مساواة الأقليات الدينية التي لم تكن تحتاج إلى هذه المساواة لأنها أمر حاصل خلال تاريخنا كله وفق نموذجٍ خاص، وبذلك أصبحت العَلْمانية سلاحاً إيديولوجياً غايته استبعاد الإسلام من أي دور في قيام النهضة، أي استبعاد القيم الأخلاقية الراسخة في المجتمع والتي تشكل دافعاً روحياً وهو الشرط الثاني لقيام النهضة.
وإذا أخذنا مصر كمثال، سعت الجهود لإنشاء مؤسسة دينية تكون لها سلطة الدين في العقيدة والشريعة على السواء، وهذا يعني من الناحية العملية تحويل الأزهر من مدرسة لعلوم الدين إلى مؤسسة (سلطة دينية) وتحويل العلماء إلى (رجال دين)، وتحويل المساجد من مراكز لعلوم الدين إلى (دُور العبادة اليومية). باختصار شديد تحويل الإسلام من دين مجتمعي إلى عقيدة خلاص فردي أُسوة بالمسيحية، بحيث يمكن توفّر الشروط لإسقاط مفاهيم العَلْمانية والمسيحية الحديثة على الواقع المجتمعي المسلم.
وفي تاريخنا الحديث، كان الرد على التحدّي الغربي الذي تمثّل مبكّراً بالاحتلال الفرنسي لمصر يتلخّص في قضيتين:
- أن نهضتنا تقومعلى الإحياء الإسلامي كشرط نفسي، وعلى العلم والصناعة الأوربيين الحديثين ومعهما الإدارة الحديثة كشرط موضوعي (ونثبت هذا من ناحية الطرح الفكري في ذاك الزمان، وإن كان هناك احتراز اليوم على هذه الصياغة التي تفترض إمكان الفصل التام بين الشرطين الإلهامي والموضوعي).
- وعلى الحيلولة دون قيام المشروع الصهيوني بإنشاء دولة يهودية في فلسطين، لأنه عملياً سوف يسعى لتقويض أي قيامٍ عربي.
ثالثاً: العَلْمانية العربية والوصاية الغربية
عندما انتقلت المنطقة العربية إلى الوصاية الغربية جاءت (العَلْمانية العربية) لتكون وسيطاً محلياً بين الأمة المُغَيَّبَة والوصاية الغربية. فأصبحت النخبة العَلْمانية العربية وصيّة على المنطقة وعلى مشروع تحديثها، وهي بدورها خاضعة للوصاية الغربية حيث نشأت في ظلّها ولا يمكن أن تعيش بقدرة ذاتية لا تمتلكها أصلاً. لذا يصحّ القول: وُلدت العَلْمانية العربية كضرورة استعمارية لا كضرورة مجتمعية.
ومن اللطيف الإشارة إلى مراسلات نابليون للتدليل على الأمر، فلقد أرسل نابليون بعد أن رجع إلى فرنسة عام 1801 إلى الجنرال كليبر الذي أنابه عنه في حكم مصر الرسالة التالية: “ستظهر السفن الحربية الفرنسية بلا ريب في هذا الشتاء أمام الاسكندرية أو البرلس أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في البرلس، اِجْتهِد في جمع 500 أو 600 شخص من المماليك، حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفرهم إلى فرنسة، وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك فاستغن عنهم برهائن من العرب ومشايخ البلدان، فإذا وصل هؤلاء إلى فرنسة يحجزون لمدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يُضَمُّ إليه غيرهم… وكنتَ قد طلبتَ جوقةً تمثيلية. وسأهتمُّ اهتماماً خاصّاً بإرسالها إليك، لأنها ضرورية للجيش وللبدء بتغيير تقاليد البلاد”([10]).
كما أشار نابليون في تأملاته (ثلاثة أعوام في مصر وبر الشام والآثار) حول الحملة الفرنسية على مصر وسورية (1798 ــ 1799) التي أملاها على الجنرال فولني برتران في جزيرة هيلانه. قال فولني Volney ( 1757 ــ 1820 ) نقلاً عن نابليون: “إن ثمة حواجز في وجه السيطرة الفرنسية في الشرق. وإن أية قوة فرنسية لابد أن تحارب لذلك ثلاثة حروب: الأولى ضد انكلترة، والثانية ضد الباب العالي العثماني، والثالثة ــ وهي أكثرها صعوبة ــ ضد المسلمين)([11]).
ودلالة هاتين الرسالتين واضحة، وهي أن المُستعمِر يبحث عن (وسيط) بينه وبين المجتمع الذي يحكمه بغية نشر ثقافته ولغته لإحلالها محل ثقافة ولغة المجتمع الذي أصبحت له السلطة السياسية عليه. فلغة وثقافة المستعمِر هي التي تمكِّنه من التحكّم فيه لا جنوده وأسلحته. وكان من أهداف نابليون إعلاء (مجد مصر القديم) في مواجهة الشخصية المصرية الإسلامية. ونذكّر هنا أن من رافق حملة نابليون من المترجمين اللبنانيين والسوريين كانوا من أمثال ميخائيل صباغ (1780 ــ 1816) وإلياس بقطر من مصر (1748 ــ 1821) ونقولا الترك (1763 ــ 1828) وروفائيل زخور (1757 ــ 1831).
لقد كان من الطبيعي أن يشجع الغرب وصاية العَلْمانية المذكورة لأسباب متنوعة أهمها:
- جاء الاستعمار بقصد الهيمنة المباشرة على المجتمعات الإسلامية وبهدف عدم السماح بالاستمرار التاريخي للإسلام كمنافس حضاري له، ولم يكن مشروع التطوير والتحديث إلا لإجراء تحولات عميقة في المجتمعات الإسلامية لتحقيق هذا الهدف.
- أن الوسطاء المحليين الذين ينتمون إلى الأمة أقدر على التأثير منه لتحقيق أهدافه.
ولا بأس هنا أن نشير إلى الفروق بين العَلْمانية العربية والعَلْمانية الغربية، وذلك لإظهار التناقض الذاتي وليس تصديقاً بالعلمانية حتى في نسختها الأصلية:
نشأت العَلْمانية الغربية كردّة فعل طبيعية لرفع وصاية الكنيسة على العقل. أما العَلْمانية العربية فجاءت لفرض وصايتها على العقل، ذلك أن هدف الاستعمار بالتغيير يتطلب أن يعطيها الوصاية. فعلى الأقل، العَلْمانية الغربية حررت العقل المسيحي من وصاية الكنيسة الكاثوليكية، في حين جاءت العَلْمانية العربية ابتداءً لتفرض الوصاية على الدين الإسلامي لتحوله من دين اجتماعي إلى دين خلاص فردي. أي حتى إذا تحاكمنا إلى المنطق العلماني ذاته ينهار الأساس الأول لمفهوم العَلْمانية الغربية. والعَلْمانية الغربية على الصعيد السياسي متسامحة إلى حدّ ما مع الكنيسة المسيحية ولا تتدخل في شؤونها، وإن العلاقة بينهما خارج القارة علاقة تعاون وتنسيق في بلاد المستعمرات، فالمبشر والجندي كانا دائماً معاً إلى جانب التاجر.
ونشير هنا إلى تهافت فكرة فصل الدين عن الدولة في سياق مجتمعاتنا المسلمة، فهناك تمايز وظيفي، وهذا مختلف عن الفصل بمعنى هدر الرؤية الدينية التي هي مصدر أخلاقية المجتمع وروح الحضارة. ونعرف أن علماء الشريعة المسلمون لم يكونوا الخلفاء، وليس لهم أي صفة لاهوتية وليس لهم اتصال بالسماء، وليس لهم عصمة وليست أحكامهم مقدّسة وليس لهم سلطة إصدار قوانين إيمان. لذا تحولت العَلْمانية إلى إيديولوجية صمّاء لم تُبقِ أي أساس علمي أو تاريخي لها. إن العَلْمانية العربية المستوردة غير العَلْمانية الغربية التي هي الأصل، وتكمن خطورتها في أنها وضعت أيديولوجيتها مرة فوق العلم وأخرى فوق التاريخ.
إنّ وجه العلاقة بين العَلْمانية العربية والعَلْمانية الغربية هو أن العَلْمانية العربية استُمِدّتْ من الرؤية الغربية للإسلام والحضارة الإسلامية، فهي تمثل الرؤية الاستشراقية المستندة إلى فكرة المركزية الأوربية التي لاتستطيع تصور منافس حضاري لها.
وإن ما يجمع النخب الاستشراقية في العالم العربي بأنواعها المختلفة هو: (1) العَلْمنة من الأعلى تحت شعار (فصل الدين عن الدولة) من أجل فرض الترتيبات الهيكلية التي تجعل تحقق مقاصد الإسلام ومعاني الدين في الحياة العملية أمراً غير ممكن؛ (2) والعَلْمنة من الأسفل المتمثلة في الدعوة إلى (فصل الدين عن المجتمع).
1- العلمنة من الأعلى: فصل الدين عن الدولة
إن مجرد إدخال مصطلح فصل الدين عن الدولة في مجالنا التداولي هو إسقاط مسبق للمفهوم الغربي عن الدين والدولة وعلاقتهما ببعضهما، مفترضين تماهي المجتمع الإسلامي مع المجتمع الغربي بما في ذلك تجربته التاريخية، دون النظر لمفهوم الدين والدولة في مجتمعنا، ودون تحقيق هذين المصطلحين، كما سبقت الإشارة لذلك.
بهذا تم خلق قضية في مجتمعنا لا أساس لها أصلاً، فقد كان الدين المسيحي بعد الاختراق الروماني يفصل في الإنسان ما بين ما لقيصر -وهو جسده- وما لله – وهو روحه، وأن السلطة للجسد هي لقيصر، والسلطة للروح هي للكنيسة، هذه خلاصة نظرية السيفين. فقد كان هذا الفصل موجوداً منذ دخول المسيحية -التي هي مشرقية المهد بالأصل- إلى أوربة وتبني قسطنطين لها في مواجهته الحرب مع الوثنية. وعندما انتقل قسطنطين إلى آسيا الوسطى وأنشأ القسطنطينية عاصمة له، انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين: الإمبراطورية الرومانية الغربية مقرها روما، والامبراطورية الرومانية الشرقية مقرّها القسطنطينية التي هي المرجعية. فعقب سقوط روما 476 على يد الجرمان أصدر الامبراطور قسطنطين -باعتباره مرجعية الامبراطوريتين- مرسوم ميلان الذي أعطى فيه البابوية حق وراثة سلطة الامبراطورية الرومانية الغربية التي سقطت عاصمتها. من تلك اللحظة التاريخية انحلّت السلطتان في سلطة الكنيسة وأصبحت مدينةُ الله مدينةً أرضية، ومن هنا تمّ دمج السلطة الروحية بالسلطة السياسية في مؤسسة الكنيسة.
حينما جاءت النهضة الأوربية الحديثة وعصر التنوير وقفت الكنيسة ضد حرية الفكر وضد العلم مما أحدث أول ردة فعل على الكنيسة بقيام البروتستانتية ضد البابوية بما يسمى الإصلاح الديني. من هنا بدأ ما يسمى الصراع بين الدين والعلم، أو بين وصاية الكنيسة على الفكر وبين حرية الفكر عندها ارتفع شعار ما سُمِّي عند العلمانية الغربية بفصل الدين عن الدولة.
وننبه ثانية إلى أن العَلْمانية الغربية لم تأتِ لفصل الدين عن الدولة وإنما لفصل الكنيسة عن الدولة. وكما هو معروف، ليس في الإسلام كنيسة لكي يتمّ فصلها.
العَلْمانية العربية لم تأتِ لفصل الدين عن الدولة، بل لوضع الدين تحت وصاية الدولة. وفي حين استقلت الكنيسة في مرجعياتها وفي أمورها المالية بحيث تقوم الدولة بجباية الضرائب الكنسية لها، فإن العَلْمانية العربية قامت بمصادرة الأوقاف الإسلامية ونهب أموالها وعقاراتها وَجَبَتْ أموال الزكاة، بل وأهملت حتى الإنفاق من هذه الأموال على المساجد ودور الأيتام وطلبة العلم حتى أصبحت الجمعيات الخيرية هي التي تقوم بذلك. ومع كل هذا اتُهمت الجمعيات الخيرية بأنها تموّل ما يسمى بالإرهاب فحُلّ أكثرها وضُيّق على الباقي، وهكذا أصبح فعل الخير يدخل ساحة الخطر الأمني. وفي حين أن الكنائس المسيحية لها مرجعيات دينية مستقلة لا تخضع لسلطة الدولة، فإن الدولة الوصائية على الإسلام في بلادنا ما زالت تهيمن على الجهات الإسلامية في معظم العالم العربي، فشيخ الأزهر مثلاً يعيّنه رئيس الدولة بعد أن كان ينتخب من هيئة كبار العلماء، ووزير الأوقاف والمفتي تتولى الدولة تعيينهما وهكذا.
ما الغاية التي ترمي إليها العَلْمانية العربية في إخضاعها الإسلام لسلطة الدولة؟ تتلخص الإجابة بما يلي: تحويل الإسلام المحجور عليه من دين اجتماعي إلى دين للخلاص الفردي الأخروي اقتداء بالدين المسيحي، وهذا يقتضي تشكيل جهاز أو مؤسسة ممن أسموهم رجال الدين ليصبحوا بمثابة كهنوت يمكن معه إسقاط مصطلحاتهم تلك عليها، بحيث يصبح للدين الإسلامي مؤسسة أشبه ما تكون بالكنيسة، وقد بدأ ذلك بتغيير مصطلح العلماء إلى مصطلح رجال الدين، والمسجد إلى دار العبادة، وثنائية التعليم: التعليم الرسمي والتعليم الديني، الكتّاب والمدرسة، الأزهر والجامعة؛ وكل ذلك يقف قبالة النموذج الإسلامي الذي يمثّل فيه المجتمع نفسه مؤسسة للدين.
2- العلمنة من الأسفل: فصل الدين عن المجتمع
إن الدين باعتباره عقيدة ونظام قيم لايمكن فصله عن المجتمع، والذي يمكن فصله هو المؤسسة الدينية -أي الكنيسة-عن الدولة، وإذا كان نسق دينك يفترض العلاقة المباشرة مع الله والمسؤولية نحوه، فلا معنى للفصل. ونلفت النظر إلى مظاهر العودة إلى المسيحية في المجتمعات الأوربية على صعيد الفكر والسياسة معاً، وقد جاء فصل الدين عن الدولة قبل 110 سنوات فقط في فرنسة ليعني فصل الكاثوليكية (المذهب/المؤسسة) لا الدين، وذلك للحيلولة دون تحكم مذهب معين. وعلينا ألا ننسى أن فرنسة تعتبر نفسها قلعة الكاثوليكية، فلكي تحافظ ما أمكن على هذه الشخصية -مقابل البروتستانتية التي هي ألمانية- فإن الحكومة الفرنسية حتى الآن تدفع مساعدات مالية للكنيسة لأجهزة التعليم، حتى الأعياد الفرنسية كلها أعياد دينية بالأصل، وعدا عن ذلك فإن فرنسة تمثل الكاثوليكية خارج فرنسة وليس الكنسية (البابوية) وحدها وإنما الدولة الفرنسية. لقد فصلت فرنسة السلطة السياسية شكلاً، إذ الجانب السياسي من نشاط الكنسية الكاثوليكية تمثّله الدولة الفرنسية.
ومن الطبيعي إذاً ألا تُنتج العَلْمانية العربية غير الوصاية على العقل بدل الاستنارة المزعومة، وذلك بسبب غربتها، فكل ما أنتجته هو عقدة النقص والتبعية وفقدان الهوية وبدء الخروج من التاريخ. وقطع العالم العربي حتى الآن شوطاً طويلاً على طريق التحول واكتشاف زيف الطروحات الاستشراقية، والعزيمة على خط نهج مغاير يحافظ على مقومات خلفيتنا الحضارية.
هوامش
[1] نجيب العقيقي (المستشرقون) ج 1
[2] جربر دي أورالياك (938-1003) من الرهبانية البندكتية (المؤسسة عام 529) قصد الأندلس، وأخذ على أساتذتها في مدارس ريبول وأشبيلية وقرطبة، حتى أصبح أوسع علماء عصره ثقافة بالعربية والرياضيات والفلك. ولما ارتحل إلى روما سما على أقرانه، وانتُخب حبراً أعظم باسم سلفستر الثاني (999-1003)، فكان أول بابا فرنسي، ثم أضيف إليها مدرسة شارترو. وقيل إنه أول من صنع ساعة رقاصة حروف الغبار ونشر الأعداد العربية في أوربة التي كان ينقصها رقم الصفر، وترجم بعض الكتب الرياضية والفلكية كالزيج المنصوري (1000)، وله دراسة عن كتاب اقليدس بالعربية (محفوظات كنيسة وستر بانجلترا وقد نشر نيك بونبوف مصنفاته الرياضية (برلين 1899).
[3] شكلت حركة الترجمة هذه الأساس الحقيقي لنهضة القرن الثاني عشر والتي هي النهضة الأوربية الأم وليست نهضة القرن السادس عشر التي أرخ لها في إيطاليا يعقوب بوركهارت والتي جاءت إثر حركة الهيومنزم.
[4] محمود شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، كتاب الهلال رقم 489، سبتمبر 1991.
[5] انظر جورج مقدسي.
[6] جمال حمدان. شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان. دار الهلال عدد 509.
[7] الكاتب الفرنسي المعروف –بول فاليري– أراد ذات يوم أن يشخّص العقل الأوربي فردّه إلى عناصر ثلاثة: حضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن، وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه، والمسيحية ومافيها من دعوة إلى الخير وحث على الإحسان.
[8] نقلاً عن حسن ضيفه (الطهطاوي وعقيدة التحديث) الفكر العربي: السنة السابعة العدد 45 آذار 1987 ص 134.
[9]: انظر دكتور فهمي جدعان (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) 1979 م.
[10] من كتاب (في الطريق إلى ثقافتنا) محمود شاكر ص 158.
[11] من كتاب ( تاريخ نابليون الأول ) لإلياس الحويك.