الوعي التاريخي وقضاياه: كتابة التاريخ

1٬558

الفصل الأول ــ مفهوم الوعي التاريخي

عرفّنا الوعي التاريخي بأنه تحوّل الذاكرة التاريخية الحية إلى إرادة… وبناءً على ذلك يمكننا رصد حقبتين في التاريخ الإسلامي تفاوتتا في مستوى الوعي التاريخي تفاوتاً كبيراً: الحقبة الأولى تبدأ من دولة النبوة (11هـ = 643 م) وتنتهي بوفاة ابن خلدون في أواخر القرن الثامن (808هـ = 1406م)؛ والحقبة الثانية من وفاة ابن خلدون حتى مطلع ما يسمّى بعصر النهضة العربية الحديثة والتي حصل شبه توافق على أنّ الغزو الاستعماري الفرنسي بقيادة نابليون لمصر عام (1213هـ = 1798م) مثّل بداية لها. ولا يخفى أن هذا تعميم شديد، غير أنه يساعدنا على فهم ما أصاب الوعي التاريخي، وعلى فهم الدور الذي يمكن أن يلعبه منطق مساهمة ابن خلدون.

نحن أمام حاجة ملحّة لكي نستأنف تاريخنا وحدةً واستمراريةً على هدى منهجية نقدية كان أن خطّ أسسها ابن خلدون (732-808 هـ ). كما أننا بحاجة إلى مقدمة جديدة لا تستوعب هذه الحقبة فقط وإنما تفتح لنا آفاقاً جديدة لاستعادة دورنا الحضاري استناداً إلى وعيٍ تاريخي أصيل لذاكرة تاريخية حيّة يمكن لها أن تعيدنا مرة أخرى إلى التاريخ بعد أن خرجنا منه، وذلك يتطلب شرطين أساسيين:

      الأول هو إعادة قراءة وكتابة تاريخنا (قديمه وحديثه) على ضوء هذا العقل العلمي النقدي الذي ذكرناه لتتوفر لنا المعرفة التاريخية الحقيقية لتاريخنا كما هو.

      والثاني هو إدراج ثوابت هذا التاريخ – دون تفاصيله– في منهاج التربية من أجل استعادة الأجيال الناشئة لذاكرتنا التاريخية وتمثلّها بهدف تجذير الانتماء.

ويمكننا أن نعتبر سقوط القدس 491 ه نقطة تاريخية فاصلة في تطوّر منظومتنا الإسلامية وتأسسها في الواقع. فمنذ عصر النبوة كنا نصنع التاريخ، لا تاريخنا فقط بل التاريخ العالمي كله.  فعلى الصعيد الثقافي استوعبنا ثقافات العالم السابق لنا كلها وصهرناها بلغتنا ووفق رؤيتنا بحيث يمكن القول إن الثقافة الإسلامية كانت هي الثقافة العالمية حتى ذلك العصر وإن اللغة العربية هي التي كانت اللغة العالمية التي ينبغي أن يتعلّمها كل من أراد عالم المعرفة، وليس جانباً واحداً منها بل كل فروعها بما في ذلك العلوم الطبيعية، فنحن أول من استبدل المنهج الصوري الأرسطي بالمنهج الاستقرائي الرياضي في فهم الوجود الطبيعي الخارجي (عالم الطبيعة)، وأول من أدخل التجربة إلى منهج البحث العلمي في هذه العلوم (ابن الهيثم)، وكنا من قبل ذلك على الصعيد الفلسفي قد اكتشفنا نقد العليّة (الغزالي)[1]. وعلى الصعيد السياسي امتدّت دولنا – تحت رابط معنوي جامع – من الأطلسي غرباً إلى الصين شرقاً، بحيث دفعت مفكراً جيوبولوتيكياً مثل (ماكندر) إلى القول إن هذه أول دولة عالمية في التاريخ.

ويمكن أن نقارن هذا الماضي التليد بما يسمّى عصر النهضة في نهاية القرن التاسع عشر، الذي كان متميزاً بغياب الوعي التاريخي، بمعنى اضطراب المفاهيم حول مسألة استعادة المنصّة الحضارية وحول سبيل الانعتاق وحول العلاقة مع الآخر الأوربي وحول الإسلام نفسه. والوعي والفهم في الفترة التي سُمّيت (عصر النهضة) لم يكن وعياً حقيقياً لأنه لم يكن قائماً على معرفة ثوابت التجربة التاريخية الحضارية للمسلمين معرفة علمية صائبة، وإنما كان مزاجاً شعبياً غامضاً وإن كان حياً وقوياً بسبب ارتباطه بالمشاعر أكثر من ارتباطه بالأفكار. وكان يستدعي الصورة المشرقة لتاريخنا حينما يواجه الظلم والاستبداد خاصة، صورةَ عهد الصحابة الأُول والفتوح… وازداد هذا الشعور شدة عند الحملات الاستعمارية على العالم الإسلامي حيث استدعي مفهوم الجهاد وصوره الأولى، وكان لذلك أثر كبير في مقاومة الاستعمار في ثورات شعبية امتدت من طنجة إلى جاوة. ونذكّر هنا بثورة الريف للأمير عبد الكريم الخطّابي في المغرب، وثورات الجزائر المتتابعة وآخرها ثورة الأمير عبد القادر الجزائري، وثورة تونس بقيادة الثعالبي، وثورة ليبيا بقيادة عمر المختار، وثورات سوريا والعراق، وثورة 1936 في فلسطين، إضافة إلى ثورات المسلمين في الهند حيث كانت التضحيات جسيمة، وأيضاً في إندونيسيا والفلبين والملايو، وثورات الشعوب الإسلامية ضدّ الحكم الروسي  والثورة البطولية بقيادة الأمير شامل بالقوقاز.

غير أنه علينا الاعتراف بمرارة أن هذه الثورات والتضحيات لم تكن متسقة مع طرح فكري مكتمل النضوج، ولم تكن على علاقة مع نخبة مثقفة متمكنة من تراثنا تستطيع استيعاب نتائج الإنجازات والتضحيات وتحويلها إلى برنامج لإخراج الأمة ضمن مجموعة من الأفكار تُبنى عليها استراتيجيات بعيدة المدى. فلا مراء في أن الواقع الاجتماعي المسلم كان واقعاً سكونياً غلب عليه التقليد والعادات التي إن كانت لا تصادم التوجيهات الإسلامية فإنها بالتأكيد غير قادرة على مواجهة الواقع العالمي الجديد، ومثل ذلك يقال في حقل الاقتصاد والسياسة والإدارة، ناهيك عن المستوى العلمي والعمق المعرفي.

ولم يكن ذاك فحسب، بل إن نقطة التحول الأساسية في إضعاف الوعي التاريخي واختلاط الفهم نحو استئناف المسيرة كان في ميلاد نخبة جديدة قطعت مع تراثنا وتاريخنا للعمل على تحويل انتمائنا العربي الإسلامي إلى انتماءاتٍ متعددة لحضارات ما قبل الإسلام، وبدأ معه تفتيت ذاكرتنا التاريخية وإضعافها من خلال جهود النخبة العربية الاستشراقية. وكانت جهود هذه النخب السياسة الاستعمارية امتداداً للجهود الأوربية البحثية في الدراسات اللغوية والآثارية للاستشراق، وهي التي ركّزت على حضارات ما قبل الإسلام محاولة إحياءها وإحياء انتماء الأقليات إليها بشتّى الوسائل، ومن هنا برزت دعوات الفرعونية والفينيقية والآشورية وأخيراً الأمازيغية والكردية. وعلينا أن ننبّه هنا إلى أننا نناقش الأمر على المستوى الفكري لا السياسي، فما أصاب أصحاب هذه الفرق من ظلم أو تهميش هو أمر آخر يرتبط بالسلطات الحاكمة، وعلاجه إنصاف المظلوم ووضع ترتيبات تستوعب التعددية، وهي الترتيبات التي ميّزت تاريخنا وحطّمها نموذج الدولة القومية المستورد، فأزّمت مشاكل فئات المجتمع كلها. أما على مستوى الانتماء الجامع والرؤية الحضارية، فشعوب الأمازيغ والكُرد كان لهم مساهمات متميّزة في الحفاظ على المنظومة الإسلامية في الحياة وكانوا جزءاً لا يتجزأ من الأمة. 

إن استدعاء الوعي التاريخي وإحياء الذاكرة التاريخية يتطلب إنجاز مهمتين: كتابة وقراءة تاريخنا من جديد وهذه مهمة طويلة المدى وإن كانت أساسية وضرورية لكي نفقه تاريخنا – بنقاط قوته وضعفه – ونقيّم صوابنا وخطأنا وفق معاييرنا المنبثقة من رؤيتنا الإسلامية. أما المهمة الملحّة الأخرى فهي مهمة تربوية تعليمية.  

أي إن المطلوب هو استخلاص الثوابت الرئيسة لتجربتنا التاريخية، وعرضها بشكل ميسّر من أجل المساهمة في تجذير الانتماء للأمة.  وكمثال على ما يتّصل بالتاريخ كمعرفة علمية وكمادة تربوية، أذكر معركة الجمل ومعركة صفين في تاريخنا. فليس من المطلوب إدخال هاتين المعركتين بتفاصيلهما ورواياتهما المختلفة، وإنما كتجارب سياسية جديدة على أمة تريد بناء نظامها السياسي التشغيلي وهي لا تملك بعدُ رصيداً سابقاً فيه يناسب المرحلة المعاصرة. كذلك لا يمكن الدخول في تفاصيل موقف المأمون من قضية خلق القرآن ومحنة الإمام أحمد بن حنبل كأنما تُمثّل أزمة عقائدية، في حين أنها في النهاية صراع سياسي([2]) أو لنقل صراع مع الحرية التي لا سقف لها في فهم العقيدة وأنه لا سلطة سياسية لأي جهة وتحت أي مبرر للهيمنة على شأن نظرية العقيدة.

إن هذا العمل الذي ندعو إليه هو بمثابة إصدار دائرة معارف تاريخية للشباب تحررهم من سلطة الأنظمة الاستشراقية العلمانية في تغيير مناهج التربية في بلادنا في مادة التاريخ لأنها تعتبر التاريخ من خلال أعين من عاشوه وآمنوا بفرضياته وساهموا بأساسات قيامه، وهذا الذي يقود إلى الوعي الحقيقي لا الوعي المزيف الذي يعتمد نحر الذات تحت غطاء الموضوعية والنقدية.

 

الفصل الثاني: كيف نكتب تاريخنا؟

للإجابة عن هذا السؤال ينبغي تحديد المصطلحات الأربعة التالية: ما هو تاريخنا، و ما هو مكتوب، وإعادة القراءة وإعادة الكتابة.

أولاً ــ تاريخنا

فهو يعني تاريخ الأمة الإسلامية، وتاريخها يعني (تاريخ حضارتها). وبعبارة أخرى إن الرؤية الشاملة التي ستحكم إعادة الكتابة أو إعادة القراءة لهذا التاريخ هو أنه تاريخ حضارتنا، أو بعبارة أدق تاريخ هويتنا الحضارية (وهي الإسلام) فهو المُحدّد لنشأة هذه الحضارة وتكوين هذه الأمة وميلاد هذا المجتمع.

وتاريخنا بهذا المُحدّد يتسم بـ:

  1. (الوحدة) التي لا تقبل التجزئة
  2. و(الاستمرارية) التي لا تعرف الانقطاع
  3. و(الشمولية) التي تستوعب الاختلاف

على ضوء هذه الرؤية يجب أن نقيّم التأريخ الذي جرى خلاف المحدّدات الثلاثة المذكورة، سواء أكانت كتابات قديمة أم حديثة ونخص منها:

      ما كتبه (الاستشراق) الذي يصدر عن رؤية مغايرة بل ومعادية، وإن كان هذا لا يعني تجاهل دراساته، وإنما يعني فهم إسهاماتها من منظور المحدّدات الثلاثة، كما يعني نقدها نقداً علمياً.

      ما كتبته (قوى الانعزال في تاريخنا الحديث) والمتمحورة حول هويات أقلوية تنبش مرجعيات مع قبل الإسلام، وهي متوجهة عملياً لفكرة التجزئة أو الانقطاع، وتعتبر الدراسات الاستشراقية أهم مصادر رؤيتها، ولا يتعدّى هذا النوع من التأريخ أن يكون إسقاطاً لرؤى إيديولوجية أو طائفية أو إثنية بعيدة عن المنهجية العلمية، فتساهم في إيجاد وعي مزيّف يجافي الواقع التاريخي بصورته الشاملة. وعلى سبيل المثال كتاب لويس عوض (تاريخ الفكر المصري الحديث) الذي يمثّل تزويراً تاريخياً سافراً، ومنها ما كُتب عن تاريخ لبنان الحديث الذي يتحدث عن (الحضارة اللبنانية) التي مدّنت العالم كله بحيث يتساءل المرء أين الوحدة والاستمرارية التاريخية ما بين المتصرِّفية وفينيقية وما قبل فينيقية، ومنها تنازع الطوائف حول انتماء الأمير فخر الدين المعني الثاني.

ثانياً ــ ما هو مكتوب في تاريخنا

لم تخلُ المادة التاريخية المكتوبة من أنواع من التحيز السياسي أو المذهبي أو العرقي، فما كُتِب في العصر العباسي لم يكن منصفاً للدولة الأموية، وما كتبه المؤرخون الشيعة لم يكن منصفاً لأهل السنة. على أن أهم ظاهرتين جديرتين بالدراسة والتحقيب هما: الموالي التي تستحق عناية خاصة، وكذلك ظاهرة الحركة الشعوبية.

بالنسبة للمادة التاريخية المدوّنة سنطرح الأسئلة الأربعة التالية:

1. هل مادة ما هو مكتوب مكتملة ومنظمة؟

أليس عندنا آلاف المخطوطات التي لم تحقق، ومنها ما لم تعرف مادته بعد وبالتالي فإن علينا أن نميّز ما هو مطبوع وما هو مخطوط، وأن نعطي موضوع المخطوطات أهمية كبيرة لاستكمال مادة ما هو مكتوب. ثم ماذا نقصد بما هو مكتوب من حيث اللغة، هل هو مقتصر على اللغة العربية أم أن علينا اعتماد المصادر التاريخية المكتوبة باللغات الفارسية والتركية العثمانية أو الأوردية أو بعض اللغات الإفريقية. وهل نستثني من ذلك ما كتب باللغات الأوربية. ثم إذا توفرت لنا المادة مكتملة أو شبه مكتملة، ألا ينبغي أن نختار من مصادرها ما يُمثّل خصائص التاريخ الإسلامي أفضل من غيره وأن نتدارك النقص. ثم هل مصادرها منظمة أم لايزال كثير منها مبعثراً([3]).

2. هل ما هو مكتوب يغطي جميع جوانب تاريخ حضارتنا؟

هل عندنا مثلاً تاريخ نشأة العلوم الطبيعية وتطوّرها وتاريخ علمائها وأعمالهم([4]) أم ما يزال هذا التاريخ في معظمه مخطوطاً وجلّ مخطوطاته في خزائن الغرب. أم هل عندنا تاريخ للتعليم ومؤسساته وتطوّرها والذي يشمل تاريخ المساجد والمدارس، وتاريخاً للقضاء ومحاضر المحاكم الشرعية أو تاريخاً للأوقاف والمؤسسات الوقفية والتي تمثّل جانباً مجتمعياً مهماً، وهل عندنا تاريخ لمؤسسة بيت المال وتطورها من حيث الموارد – الزكاة والجزية والخراج ومن قبل الغنائم – والنفقات ومصاريفها والرقابة عليها. ثم هل عندنا تاريخ للصناعات والحرف على أهميتها. وإذا جئنا إلى حقل الزراعة فلا بدّ أن ندرس الزراعة في مراحلها الأولى، كما ندرس اتساع المساحات المزروعة وكيف فارقت نمط الإقطاع الأوربي، كما نحتاج إلى نمط خاصٍ من الإقطاع العسكري الذي نشأ في العصور المتأخرة. وبشكل عام، نحتاج إلى دراسة تاريخ الملكية الزراعية وانعكاساتها في المجتمع وأثرها على السياسة وتركّز النفوذ، وعلاقة كل ذلك بتاريخ الخراج. ومن الأمور التي ينبغي علينا دراستها تاريخياً التاريخ العسكري وكيف نشأت الجيوش وتطورت وسبل التنظيم العسكري وإذا ما كان هناك دور للقبيلة.

ومن الحقول التي لها أهمية خاصة دراسة تاريخ نشوء العلوم الطبيعية وتطوّر حركة التأليف بها وتاريخ علمائها وأعمالهم مما يقتضينا اختيار المصادر التي تقدّم لنا المادة التاريخية حول هذا الموضوع لسببين رئيسيين _غير مسألة الكتابة التاريخية _ متصلان بواقعنا منذ بداية حركة النهضة حتى الآن، وهما أن أحد جوانب التحدي الغربي الحديث لنا هو إتقان هذا العلم. إن تغطية هذا الجانب ستكشف لنا عن أمرين:

  1. علاقة نهايات العلم الطبيعي الإسلامي التراثي ببدايات نشوء العلم الطبيعي في الفكر الأوربي الحديث.
  2. إمكانية الوصل ما بين تراثنا العلمي وواقعنا بحيث يمكن القول إننا نريد استئناف البحث العلمي متابعة لتقليد تراثنا.

إن دراسة هذا التراث – بمعنى المساهمات الحضارية للمسلمين – وإدخاله في حقل التربية للأجيال يقوّي الثقة في مواجهة التحديات العلمية المعاصرة عدا عن حفز شعور الفخر والاعتزاز بهذا التراث([5]). كما أن تحقيق هذا التراث سيساعدنا على تحرير المصطلح العلمي التراثي وربطه بالمصطلح الحديث بحيث يكون من أهدافنا تسهيل فهم هذا المصطلح بتقريبه من دلالة المصطلح العلمي المعاصر. وما ذكرناه عن التراث العلمي يصدق على تاريخ الصناعات والحرف، وعلى الأخص الصناعات لأن هذا الجانب مرتبط بمفهوم (التقنية)، وليست الصناعة الحديثة إلا تطويراً لهذا المفهوم

3. هل ما هو مكتوب مادة تاريخية موثّقة؟

علينا أن نسأل إذا كان ما عندنا موثقاً توثيقاً علمياً بحيث يمثّل ما وقع فعلاً، أم أننا بحاجة إلى مراجعة نقدية لها لتوثيقها وخاصة وأن غالبية مؤرخينا من القدامى اكتفوا بالتسجيل دون التمحيص، مما يقتضي تنقية هذه المادة من الشوائب والأخطاء والروايات السقيمة، وهذه قضايا منهجية كان قد أشار إلى بعضها ابن خلدون في أول مقدمته([6]).

4. هل ما هو مكتوب تاريخ مجتمع أم تاريخ حكم؟

أي هل نحن أمام ما هو مجتمعي أو ما هو سياسي. إن تحقيب تاريخنا يدل على غلبة السياسي، وبالتالي لا بدّ من مراجعة هذا التحقيب ووضع الجانب السياسي في موضعه من الجوانب المجتمعية الأخرى، ونعطى الأولوية للمجتمع.

إن ما يمكن استخلاصه تجاه هذا الواقع هو ما يلي:

      إن المادة التاريخية المكتوبة لا تمثل تاريخنا الذي عاشه الناس فعلاً، وعلينا أن نستخلص مما هو مكتوب تاريخ المجتمع بأبعاده المختلفة من سياسة واقتصاد واجتماع وأدب وعلم وإدارة وتنظيم، وذلك بعد تحقيقه وتوثيقه وفق المحددات التي سبق ذكرها([7]).

      إن حالنا اليوم هو بين معرفة حقيقية لتاريخنا لا نملكها، ومعرفة منحازة لا نثق بها، أي إننا في حالة (اغتراب) عن تاريخنا.  وعلينا هنا عدم التعميم الجائر، خاصة وأن هناك من التواريخ ما هو مبني على المعاينة والنظر كتواريخ الجغرافية: تاريخ الإصطخري، وابن حوقل، والبيروني، وكذلك ابن بطوطة.

ثالثاً ــ إعادة الكتابة

إن مفهوم إعادة الكتابة يعني إعادة تأريخ ما هو مؤرخ. نحن إذاً في حقل علم التأريخ.

      إن ما هو تاريخي لمجتمع هو ما هُوَ واقعي، ومعنى ما هو واقعي هو ما هو اجتماعي، ومن خلال السلطة كضرورة اجتماعية يتحوّل ما هو اجتماعي بالضرورة إلى ما هو سياسي. هذه هي العلاقة بين المفاهيم الثلاثة.

      إن هذا يعني أن كتابة التاريخ السياسي لمجتمع ما لا يُمثّل إلا جانباً واحداً من ما هو مجتمعي، والذي يتضمن ما هو ثقافي وما هو اقتصادي وما هو قانوني فإذا أردنا أن نكتب تاريخاً حقيقياً لأي مجتمع فلابد أن يتضمن هذه العناصر كوحدة متكاملة.

إن أول خطوة في توثيق المادة التاريخية هي أن نسأل أنفسنا إذا كان تطبيق منهج علم أصول الحديث هو أمر سائغ، وذلك لأن أكثر الأسباب التي دعت للوضع في علم أصول الحديث مشتركة مع ما هو مكتوب من تاريخنا. ومقابل مصطلح الانتحال في الشعر والوضع في الحديث، يمكن أن نستعمل مصطلح الإرسال في التاريخ، بمعنى أن بيت الشعر المنتحل يقابله الحديث الموضوع في علم الحديث ويقابله الخبر المرسل في علم التاريخ.

ونضرب مثلاً عن العرض التاريخي الشامل الذي يعتمد فكرة الخرائط المتعددة، فيشمل أبعاداً أساسية مثل:

      توسع الفتوحات.

      أثر العامل القبلي في الحكم والمجتمع.

      بدء حركة التعريب التي بدأها سيدنا عمر رضي الله عنه في كتابة ديوان الجند باللغة العربية ثم تعريب النقود، وأخيراً حركة التعريب الشاملة التي قام بها عبد الملك بن مروان.

      بداية الاتصال بالثقافة اليونانية التي سعى إليها خالد بن يزيد.

      نشوء المدن الأولى خارج الجزيرة العربية (الكوفة والبصرة) وبداية تكوين الثقافة العربية الخالصة في هاتين المدينتين حيث تستحق كل منهما خريطة خاصة لنشأة كل منهما ودور المسجد الجامع ودار الإمارة والسوق([8]).

رابعاً ــ إعادة القراءة

إن إعادة كتابة التاريخ تعني بديهة إعادة القراءة، وتعني إعادة فهم وتفسير السجل التاريخي واختيار الأطر التفسيرية المناسبة. إن أية إعادة لقراءة التاريخ الإسلامي يجب أن تلتزم بالمبادئ التالية لكي تكون قراءة علمية من منظور إسلامي: الإسلام هو أساس انبعاث هذه الحضارة وأساس تكوّن الأمة العربية أولاً ثم الأمة الإسلامية ثانياً ضمن مفهوم دار الإسلام وأساس ميلاد هذا المجتمع بخصائصه الأساسية.

 

الفصل الثالث: كتابة تاريخ العرب الحديث

إن حركة التأريخ المعاصر هي جزء من مجمل النشاط العلمي لمجتمعاتنا، الذي اخترقته النخب العَلمانية وقابلته النخب الدينية بقليل من العمل المبدع.

لقد كان من المتوقع للتيار الداعي إلى الأخذ عن الغرب أن يقوم بمهمة ما سمّيناه توطين العلم بتوطين البحث العلمي، وتوطين الصناعة بتوطين التّصنيع. وكان من المتوقع من التيار التراثي أن ينصرف إلى تحقيق أصول وأمهات مصادر تراثنا بدءاً بأعمال المؤرخين الإسلاميين لكي يهيئ لإعادة كتابة تاريخنا فتكون أساساً لعملية إحياء حضاري.

لكن الذي حصل أن التيار الأول قطع مع تراثنا وتاريخنا قبل أن يعرفه، ثم إنه لم يصلنا بالتراث الغربي الحديث وصلاً معرفياً وارتكب في هذا الصدد خطأين:

  1. أنه قدّم الثقافة الغربية في محاولة محو ماضينا.
  2. لم تكن حركة الترجمة منضبطة بمنهج علمي بل حركة عشوائية انتقائية. استهوائية تحوّلت من موضوع معرفة إلى موضوع سجال إيديولوجي، وبالتالي من حركة بناء إلى حركة إلهاء، فلا هو عرف التراث ولا هو صنع وصلاً معرفياً بالغرب.

أما التيار التراثي فقد شَغلَه السّجال والدفاع عن القيام بمهمة جمع مصادر تاريخنا ثم استكمالها ثم توثيقها ثم إعادة كتابة تاريخنا على ضوء دراسات علمية نقدية لها. وهكذا تحوّل هو الآخر من حركة بناء إلى حركة إلهاء انشغلت بالدفاع عن الذات التراثية والتمهيد لبنائها من جديد والدفاع ضد القضايا التي أثارها التيار الاستشراقي بعملية انتقاء عشوائي لم تكن له جدوى.

لقد ارتكب التيار الأول خطراً جسيماً حينما تحوّل عن إحياء الوعي التاريخي بالتعاون مع التيار الثاني، وذلك بأن قطع نهائياً مع المرجعية العربية الإسلامية فلم يعد أمامه إلا الأخذ بالمرجعية الاستشراقية وبالتالي تحوّل إلى تيار استشراقي تارة غربي المصدر وتارة شرقيه بحيث تحوّلت جهوده إلى تعميق الانقسام المجتمعي من خلال ازدواجية ثنائية تعيق قضية النهضة.

أما التيار التراثي فلم ينجز شيئاً في عملية إحياء الوعي التاريخي كشرط للإحياء الحضاري، وما تمّ من أعمال تحقيق أو دراسات كان جهداً فردياً يستحق كل التقدير والإعجاب ولكن افتقدنا حركة الإحياء المنظمة التي أشرنا إليها.

أولاً: نتائج التأريخ الاستشراقي

وبما أننا في صدد موضوع كتابة تاريخنا الحديث، فسنُجمل ما نشأ عما ذكرناه من نتائج سلبية فيما يلي:

  1. إن قطع الفكر الاستشراقي العربي مع تاريخنا يقتضي منا بالضرورة القطع معه فيما كتب في تاريخنا الحديث. إذ ما دامت مرجعيته استشراقية وليست تراثية فلن تكون كتابته ذات استمرارية تاريخية لحضارتنا.
  2. إنه لم يقطع مع استمرارية تاريخنا وحسب بل ومع وحدته كتاريخ عربي إسلامي. ومن هنا جاءت كتاباته مجزأة حسب الانتماءات لتاريخ حضارات من قبل الإسلام، متجاوباً في ذلك مع التجزئة الواقعة:

أ‌.       عزل مصر عن بلاد الشام وفق معاهدة 1840م حتى تقسيم بلاد الشام وفق معاهدة سايكس بيكو 1916م. حيث أصبح من المطلوب كتابة تاريخ مستقل لكل إقليم من أقاليم الوطن العربي في إطار هوية خاصة خارج الهوية العربية الإسلامية: فهناك تاريخ مصر مرتبط بتاريخ مصر القديم (الفرعونية)، وتاريخ سوري لبناني مرتبط بتاريخها القديم (الفينيقية) وما قبلها، وتاريخ للعراق مرتبط بتاريخه القديم (الآشورية).

ب‌.    والملاحظ أنه في تاريخ سورية تمّ التفريق بين سورية ولبنان وذلك بإسقاط تاريخ الاحتلال الصليبي على الساحل الشامي الذي أعطى لبنان خصوصية عن بقية سورية من هنا شعار (لبنان أمانة في عنق المارونية).

ت‌.    إن العودة إلى هذا التاريخ هو في نفس الوقت تمهيد لظهور تاريخ العبرانيين المعاصر لتلك التواريخ، فهو يؤسس لوجود شرعية تاريخية لليهودية ويضع مبررات مسبقة لظهور إسرائيل.

  1. ننبّه هنا إلى أن مؤرخينا القدامى لم يتجافوا عن كتابة تواريخ لأقاليم العالم الإسلامي وحتى لمُدنهِ، فهناك تاريخ لمصر ولبلاد الشام وللمغرب العربي ولبلاد آسية الإسلامية لكنه كُتب ضمن مفهوم دار الإسلام باعتباره تنوّعاً اجتماعياً ضمن ثقافة واحدة وحضارة واحدة هي الحضارة العربية الإسلامية
  2. إن أخطر خاصيتين في الفكر الاستشراقي العربي التاريخي منه بشكل خاص هما:

أ‌.       الوثوقية المطلقة بكل ما هو غربي وبالتالي بالمرجعية الاستشراقية.

ب‌.    الأسر المصطلحي الذي أدخلونا فيه بحيث أصبحنا نكتب تاريخنا بمصطلحاتهم ونفسّر أحداثه بمفاهيمهم.

  1. إن أول واجب علينا بعد القطع الذي أشرنا إليه وتبعاً لذلك، هدم هذه الوثوقية من أساسها وذلك في عمليتين:

أ‌.       نقد لمئتي سنة من الفكر الاستشراقي العربي وذلك للكشف عن الحقيقة المغيّبة والأمر المسكوت عنه في هذين الشأنين.

ب‌.    نقد جذري للفكر الأوربي الحديث (الحضارة الغربية الحديثة).

  1. ومما يساعدنا فيما يتصل بنقد الفكر الاستشراقي العربي التاريخي في كتابة تاريخنا الحديث أمران:

أ‌.       أولهما فقدان شروط الدراسة العلمية التاريخية للواقع التاريخي للمجتمعات العربية الإسلامية منذ بداية ما يسمى العصر العربي الحديث والمغايرة لما يكتبون، مما حوّل كتاباتهم إلى إسقاطات قومية ودينية وإيديولوجية على تاريخ لشعوب ومجتمعات يكذّبها واقعها والسبب في ذلك أنهم يكتبون تاريخاً افتراضياً لا واقعياً فكتاباتهم لا تسير مع الوثائق بل مع إسقاطاتهم.

ب‌.    ثانيهما الرجوع إلى المصادر الأساسية التي يعتمدون عليها ويستمدّون منها مادتهم الأرشيف الفرنسي والبريطاني والصهيوني أيضاً، والذي يظهر أن الخارج هو من يكتب تاريخهم. وأنهم ليسوا إلا صدى باهتاً لتلك المصادر. فإذا أردت فهم التاريخ الحديث للبنان الصغير منه والكبير فعليك بكل مصدر فرنسي مهما صغُر شأنه أي ترى ماذا يصنع هناك وكيف ينعكس على أرضنا ومجتمعنا. إنها مدونة كاملة.

ثانياً: الأسر المصطلحي

ونؤكد هنا على قضية الأسر المصطلحي فنعطي له مثلاً فيما يتصل بمصطلح (التعددية الثقافية) كحق من حقوق الإنسان. ولم يجد المسلمون في تاريخهم مشكلة في التعايش مع الآخر المختلف دينياً أو قومياً، وغدت جيناتنا جينات مختلطة من أصول الشعوب التي دخلت في الإسلام وسكنت في حواضر جامعة وتزاوجت وتثاقفت ولم يمنع ذلك من الحفاظ على الخصوصيات وعلى رأسها اللغة. المشكلة في دعاوى التعددية اليوم هو الدفع نحو تمزيق وحدة الثقافة العربية الإسلامية والسماح للثقافات الأخرى بأخذ شرعية ثقافية تاريخية على الرغم من أنها لا تُمثّل إلاّ ثقافة خاصة لجماعة قليلة مندمجة أصلاً في الثقافة العربية الإسلامية.

والمُراد لفكّ هذا الاندماج التاريخي هو إحياء انتمائها لثقافة تاريخية مغايرة تمهيداً لمصطلحين آخرين هما (الحق التاريخي) ثم (الحق الجغرافي) لوجودها. فالقصد من هذا المصطلح هدم خاصية (التنوع الاجتماعي) للمجتمع العربي الإسلامي التي يبدأ تاريخها منذ صحيفة المدينة إلى المجتمع الأموي إلى المجتمع العباسي والعثماني بحيث يصبح الانتماء الديني أو الإثني انتماءً لثقافة مستقلة، بعبارة مختصرة تحويل مصطلح (التنوع الاجتماعي) داخل ثقافة واحدة إلى حرب داخلية بين ثقافات.  والهدف النهائي من وراء دعاوى تعدد الثقافات إقصاء الثقافة العربية الإسلامية من أن تكون هي الممثلة لوحدة الثقافة والجامعة لكل صور التنوع الاجتماعي في بلداننا العربية.

ثالثاً: نقد الحضارة الغربية

أما نقد الحضارة الغربية الحديثة فيجب أن يتوجه إلى ثلاث نواحٍ:

  1. نقد الفكر الفلسفي في نشأته وتطوّره ومآله المعاصر.
  2. نقد الفكر التاريخي وفلسفة التاريخ خاصة. وأهم الكتابات التاريخية في هذا الشأن (هيردر، هيغل، نيتشه، شبنجلر، ماركس). أما الكتابات التاريخية فأهمها (ويلز، توينبي، هامرتن) وأهم ما ينبغي أن نلاحظه هنا أن يركّز على كتابة تاريخ أوربة الحديثة، خارج القارة لا داخلها منذ قيام الثورة الفرنسية. فهنا موقع تاريخنا الحديث.
  3. نقد فلسفة القيم الغربية، وعلى الأخص فلسفة القيم السياسية تنظيراً أو تطبيقاً فهي الجانب الأخطر من تاريخ أوربة خارج القارة على الساحة العالمية. بعبارة أخرى تأريخ الفكر السياسي والفلسفة السياسية التي أسست لإبادة شعوب أمريكة الشمالية والجنوبية وحضاراتها وجرى التركيز على شعوب القارة الأفريقية الإسلامية منذ خروج البرتغاليين من شبه جزيرة إبيريا ومن بعدهم الإسبان والإنجليز والفرنسيين والهولنديين أي باختصار فلسفة القيم السياسية التي أسست للاستعمار والامبريالية.

إن الفكر الاستشراقي العربي يركز على القيم داخل القارة ويمجدها. رغم إفلاسها النسبي حتى داخلياً وفي بلادهم. الوجه القبيح للتاريخ الأوربي هو الذي يغطي عليه الاستشراقيون العرب، فهم مأخوذون بقيم الثورة الفرنسية مثلاً، وصامتون عن الاستعمار الفرنسي، وبالمقابل يحتقرون قيم الحضارة العربية الإسلامية تحت واقع عقد نقص التابع لسيده.

 

الفصل الرابع ــ الوعي التاريخي وصراع الحضارات

ينشأ الوعي التاريخي عن الذاكرة التاريخية الحيّة التي تُمثِل بدورها ثوابت العقل التاريخي. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الوعي التاريخي يُمثِّل الإرادة التاريخية التي ينشأ عنها الفعل التاريخي. ومن هنا عرّفناه بأنه هو الذي يرسم للأمة خريطتها الحضارية التي تصون ماضيها من خلال فهمه الصحيح وتضيء حاضرها وتحدد استراتيجيّات مستقبلها. وكذلك فإن الوعي التاريخي مرتبط بالهوية الحضارية للأمة، والتي تتكون من الدين واللغة والتاريخ، وهذه العناصر الثلاثة هي أساس اختلاف الأمم واختلاف الحضارات. واختلاف الحضارات ناشئ أصلاً عن اختلاف الرؤية الكونية لكل حضارة، تلك الرؤية التي هي تعبير عن هويّتها الحضارية. صحيح أن الحضارات تختلف بسبب ظروف موضوعية من ناحية الجغرافية والظروف المادية، إلا أن رؤيتها هي التي تحدّد طريقة التعامل والتفاعل مع هذه الظروف. لذلك فالصراع القائم الآن بيننا وبين الحضارة الغربية هو صراع هويات حضارية.

الهوية الحضارية هي (الأنا الحضارية) وتعبير (الأنا) يقتضي بالضرورة وجود (الآخر) والذي لابد أن يكون (مختلفاً) وإلا ما كانت أنا ولا آخر والمشكلة عندها: هل يؤمن ذلك الآخر بحق الاختلاف. فإذا أقر الطرفان بحق الاختلاف نشأ (حوار الحضارات) ومن ورائه (حوار الثقافات) وإذا أنكر أحد الطرفين هذا الحق للآخر كان لابد من (صراع الحضارات)

 وتعتمد العلاقات بين الحضارات والموقف من الآخر على عاملين: (1) لحظة ميلاد الحضارة؛ و(2) نظام  قيم  كل منهما.

  • ·فإذا ما اقترن ميلاد الحضارة بعداء الآخر فمن الصعب توفر تقبّل له.
  • ·وإذا كان نظام قيمها يولد الشعور بالتفوق أو الاستعلاء على الآخر فمن الصعب أيضاً تقبّله. وبذلك يتحوّل (الاختلاف) إلى (خلاف) ويصبح الآخر عدوّاً.
  • ·أما إذا اجتمع السببان معاً فقد أصبح الآخر (هو العدو) وهو حال علاقة الحضارة الغربية مع الحضارة العربية الإسلامية، وبالتالي فنحن أمام صراع حضارات لا حوار حضارات بسبب موقف الحضارة الغربية الحديثة. وبالتالي فإن تاريخ العلاقة بينهما لا تتعدّى حالتين: إما حرب السلاح، أو حرب أفكار. (حروب صليبية – استشراق/ استعمار – تغريب)..

أولاً: مكامن العداء

يمكننا رصد العداء بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية على مستويين، ثقافي وجيوسياسي.

1. الصراع الحضاري الثقافي

نذكّر بأنه لم يقترن ميلاد الإسلام بالعداء لليهودية أو المسيحية، بل بالاعتراف بهما مع حق الاختلاف عنهما. لم ينكر الإسلام أصل الديانتين، بل أقرّ ذلك وهو جزء من اعتقاده الذاتي الذي لا يصحّ إيمان بدونه، وذلك ضمن الرؤية الإسلامية التي ترى أن الله أنزل ديناً واحداً للبشرية، وأن كل الرسل دعوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وأنه يجمع الرسالات نظام خلقي واحد، وأن لكل منهم شرعة ومنهاجاً. وإذ نادى الإسلام اليهود والنصارى بمصطلح “أهل الكتاب”، فإنها كانت دعوة للرجوع إلى أصل دياناتهما ونفض ما أُدخل إليها جراء ظروف تاريخية. وفي الصعيد العملي، وضع نظام الحقوق الإسلامي أي الشريعة الإسلامية أساساً للتعايش واكتساب الحقوق.

أما من الناحية السياسية، وخاصة فتوحات بلاد الشام وشمالي أفريقية (وحتى الأندلس)، فقد كانت فتوحات لبلاد مستعمَرة من الرومان ولم تكن بلادهم أصلاً لا ديناً ولا عرقاً ولا لغةً، بمعنى استمرار المعيشة فيها لقرون. نعم، هي بكليتها ليست أرضاً عربية بهذا المعنى. ويصار في هذه الحالة إلى النظر في نظام العدل الذي يرسيه الجديد القادم على الأرض، فالهجرات سنة مطردة في التاريخ. وهنا يظهر الفرق الشاسع، سواء من ناحية نظرة المسلمين الفاتحين نحو الشعوب الموجودة قبلهم بأنهم خلق الله وعياله، وأنه لا أساس للتفوق العرقّي. ولا ينتقض هنا إذا انزاح التطبيق العملي عن المثال انزياح الضعف البشري في حوادث جانبية. وإن ثمة فرق نوعي بين ثقافة وافدة لا تعتبر السكان الأصليين بشراً أو أن ليس لهم روح (مثلاً التعامل الأوربي مع السكان الأصليين لأمريكة وأسترالية، أو التعامل مع الأفارقة السود المختطفين واسترقاقهم)، وبين ثقافة تنشئ بوتقة جامعة مرتبطة بمصدر الحق المطلق. 

ولا مراء في أن الممارسة العملية هي المحكّ في النهاية. فمثلاً الطغيان الاستعماري الروماني معروف حتى لدى مؤرخيهم أنفسهم، ولم تكن هذه البلاد جزءاً من الغرب لأن الغرب نفسه لم يكن قد وُلد أصلاً. أما حين وُلد لأول مرة بعد الحروب الصليبية فقد ولد بالعداء للإسلام.

أما من ناحية العقائد الإسلامية فإن موقف الرفض للسردية الغربية واضح تماماً ويتمثّل بعدم اعتراف اليهودية والنصرانية بالإسلام كدينٍ مستقل، وإنما ساعة يرون أنه هرطقة وساعة أخرى يقولون إنه جزء من التراث اليهودي المسيحي الذي كان سائداً في الجزيرة العربية. وليست دراسات الاستشراق إلا محاولة تكرار لتأكيد هذا الزعم لدفع حقيقة ساطعة سواء في العقائد أم في المصادر التاريخية لكلا الدينين وهي الانحراف عن تاريخ الوحي الإلهي بالتصحيف والتحريف الذي جاء الإسلام لتصحيحه.

2. الصراع الجيوسياسي

تختزن الذاكرة التاريخية الأوربية الوقائع التالية كعنوان لعجزها عن مواجهة الإسلام بالسلاح:

  1. هزيمة اليرموك عام 15 هـ/636 م التي أعقبت فتح دمشق 14 هـ/653م والقدس صلحاً 16 هـ/637م بأيدي المسلمين وبالتالي ضياع بلاد الشام من البيزنطيين أو من حكم البيزنطيين الاستعماري.
  2. سقوط بلاد الأندلس حتى معركة بلاط الشهداء بواتييه عام 114 هـ/ 732م، بل حتى ما بعد بواتييه.
  3. ارتداد الصليبيين الذي بدأ غزوهم بلاد الشام (489 ه/1096 م) واستعادة المسلمين القدس في معركة حطين 583 هـ/1087م واستعادة الساحل الشامي بأكمله (690 هـ/1291م).
  4. معركة ملاذكرد عام 463 هـ/1071م بقيادة ألب أرسلان والتي تأسست على أساسها دولة سلاجقة الروم.

وفي ضوء ذلك، الطريقة التي اتبعناها للوصول إلى فهم جيوبوليتيك العالم المسلم هو أننا استعرضنا نظريات الجيوبوليتك الغربي بدءاً من راتسل إلى ماكيندر إلى سبيكمان إلى هاوسهوفر إلى برجنسكي صاحب نظرية الاحتواء المزدوج، حتى وصلنا إلى فوكوياما وهنتغتن ونيكسون وبرنارد لويس، واستخلصنا في النهاية أن جيوبولتيك العالم العربي قلب العالم الإسلامي هو البديل عن نظرية ماكيندر ومن تلاه.

وإننا نقطع بأن العالم العربي هو المحور الحقيقي للسياسة العالمية بشكل عام، وأن بلاد الشام هي (القلب/الهارتلاند) لهذه السياسة، بمعنى أنها العقدة والموقع المميّز الذي هناك ميزات كبيرة جداً من السيطرة عليه كنقطة تلاقٍ لحدود المشاريع الكبرى ومساحةً تخلّ بتوازناتها، وأن الصراع الحقيقي العالمي بين الغرب وعالم الإسلام كما كان وكما هو عليه الآن يرتكز على السيطرة على العالم العربي وفي مقدمته بلاد الشام وعلى رأسها فلسطين والقدس. لقد سلبنا الغربُ المتشكّل من أوربة وروسية معاً وأمريكة أخيراً (موقعنا) و (موضعنا)، ويحاولون الآن سلب (هويتنا الحضارية). وهكذا صرنا على حافة فقدان الوعي التاريخي حيث لم يعد لنا أي فعل تاريخي [قبل الثورة العربية] وإنما أصبحنا موضع فعل الآخرين، ولا نستطيع فهم الحوادث الجارية اليوم والنزوع إلى الهوية التاريخية الإسلامية إلا مقاومة لذلك الاختراق الغربي.

وحيث أن هذا الموضوع ليس مطروقاً بكثرة وليس حاضراً بشكل علمي في الذهنية الإسلامية، نورد النقاط الموضحة التالية:

  • لا بدّ لنا أن نعي المشاريع الكبرى للفكر الاستراتيجي الغربي الحديث من خلال رؤى استراتيجية عميقة لخارطة الأرض. وإن إسقاطها على خارطة العالم الإسلامي تعطينا فرصة محاولة تلمس (موقعنا) من هذا العالم، لكي نعرف الأحداث الكبرى الخطيرة التي تواجه العالم العربي والإسلامي (وهما في حالة سيولة) إذ إن هذه الأحداث وراءها مشاريع إعادة تشكيل هذين العالمين.
  • ثم نقيّم سياساتنا من خلال معرفة المقولة السياسية الأساسية التي تعرّفنا (من هو العدو الاستراتيجي) من خلال تحليل تجاربنا التاريخية ذلك أن الغرب حدّد عدوه بأنه الإسلام، ليس فقط ما يتصل بدور (الموقع) العربي وكمون إطلالاته وتحكّمه الجغرافي، بل أيضاً بدور (الموضع) وما يخصّ الموارد الطبيعية والبشرية التي تختزنها أقاليم البلدان العربية. وإضافة إلى وضع اليد على المواد الأولية هناك سعي لاستغلال القوى العاملة الرخيصة و العقول العلمية المهاجرة.
  • ثم إن تطور وتعاظم دور التكنولوجيا في الجيوبوليتك سيؤدي إلى تعاظم دور (الموضع) باعتبار أن التكنولوجيا بحاجة ملحّة إلى الموارد الطبيعية والبشرية كي تحتفظ بتفوقها الذي هو مصدر قوتها السياسية بحيث يمكن الحديث عن الاستراتيجية التكنولوجية بدل الاستراتيجية الجغرافية وهذا يعني ازدياد أهمية العالم الإسلامي الاستراتيجية.
  • إن تعاظم دور الموضع لا يعني تراجع دور الموقع على الرغم من الحديث عن (المكان الفضائي) و (المكان الكوكبي) وكلها تعني (غير الأرضي) فالجغرافية (الفلسفية) تثبت عكس ذلك لأن هذه جميعها امتداداً للموقع وليست انقطاعاً عنه.  

ونودّ أن نذكّر هنا بما أصبح معروفاً بين عامة الناس (بعد الثورة العربية للقرن الحادي والعشرين خصوصاً) العلاقة الاعتمادية المتوافقة بين المشاريع الاستعمارية والديكتاتورية الداخلية. فالصراع الجيوسياسي لا يمكن أن يثبت من غير أتباع داخليين يضعون الشروط المواتية له من إضعاف الأمة وسلخها عن ثقافتها وحجب تاريخها عن ذاكرتها وتشويه هذا التاريخ. وتبرز هنا أهمية ترسيخ القيم الإسلامية لدى أطفالنا وهم في بداية المرحلة التربوية. وهناك حاجة أن يتمّ هذا الترسيخ على ثلاثة مستويات:

  • مستوى الثقافة العامة بحيث تكون قيم رفض الاستكانة ومقارعة الطاغوت قيماً أساسية تُعتبر جزءاً من تحقّق مسيرة الإسلام في الأرض.
  • مستوى التعليم الديني بحيث لا يمكن لأي فقهٍ أو تأويلٍ أن يُغيّرها أو يبرّر غيرها أو حتى أن يعدّلها:
  1. فهم الدين من مدخل مقاصدي مداره حفظ الحياة وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال وحفظ لغة القرآن.
  2. أن الشروط العليا الأربع المؤسِسة للحكم الراشد هي الحرية والعدل والشورى والإجماع العام.
  • مستوى التعليم الرسمي الذي يجب أن يغرز في العقول:
  1. فهم شرعية السلطة من خلال القيم الأربع المذكورة أعلاه وبشكل لا يمكن التلاعب بها.
  2. أن ضمانة ممارسة السلطة هي الشورى الملزمة والبيعة الاختيارية الحرة والطاعة المبصرة المشروطة.

ثانياً: حلبة الصراع الحالي

والسؤال المحوري في هذا الصدد: أين يقع الوعي التاريخي الإسلامي في حلبة الصراع الحالي وما هو مستواه؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من الإشارة إلى ما يلي:

  1. الرؤية اليهودية تقرأ عقيدتنا وديارنا وتاريخنا وحضارتنا بذاكرة تاريخية يهودية تستند إلى ثلاثة أسس: الدين اليهودي، اللغة العبرية، وتاريخ بني إسرائيل. وفي هذه الرحلة تمّ تزييف التاريخ ليُخترع لإسرائيل شعبٌ وتُغتصب لها أرضٌ لتقام عليها دولة. ومنذ ابن ميمون والنهضة الثقافية اليهودية مستمرة على هذا النحو. فهناك عشرات المفكرين اليهود عملوا على دراسة وإحياء تعاليم كتابهم المقدس، وعشرات أمثالهم عملوا على إحياء اللغة العبرية، وعشرات آخرون عملوا على إحياء التاريخ اليهودي.
  2. والرؤية النصرانية تقرأ عقيدتنا وشريعتنا وتاريخنا وحضارتنا قراءة نصرانية تستند في جانبها التاريخي إلى اللغات القديمة الآرامية والسريانية والعبرية واللاتينية واليونانية في علاقتها بالكتاب المقدس عندهم، كما أنها تنظر إلى ديار الإسلام كبلاد محتلّة من قبل المسلمين.

إزاء هذا الوضع لا بد لنا من جهود علمية تجدّد علوم الدين وتحيي علوم اللغة وتطوّرها، كما تُحيي الذاكرة التاريخية التي هي أساس استعادة الوعي التاريخي الذي لابد أن يكون موحّداً وقوياً وفعّالاً لإعادة إشعارنا بأننا أمة واحدة ودار واحدة ورسالة واحدة.

 

إحالات ومراجع

 

[1] نقد العلية يعني «أن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وبين ما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً» كما جادل الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة.

[2] راجع كتاب الدكتور فهمي جدعان: (المحنة) بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ـ الطبعة الثانية 2000.

[3] أما ظاهرة التبعثر فيكفي فيها الرجوع إلى ما كتبه الدكتور فؤاد سزكين في أحد المجلدات الخاصة بتاريخ التراث العربي تحت عنوان (مجموعة المخطوطات العربية في مكتبات العالم) ولهذا الرجل الفضل على تاريخ التراث العربي الذي قضى حياته من أجله من حيث مكّنها من تجاوز مرجعية بروكلمان، كما يجب الإشادة هنا بالجهود التي بذلتها (مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي) في لندن في فهرسة المخطوطات وتحقيقها ونشر بعضها.  

[4] إن مما له دلالة في تاريخنا الاهتمام بما يسمى (علم الطبقات) والذي يُمثّل تاريخ علمائنا مثل: الطبقات الكبرى لابن سعد، طبقات الواقدي للمحدثين، طبقات الفقهاء للشيرازي، طبقات الشافعية للسبكي، طبقات الحنابلة لأبي يعلا، طبقات المتكلمين من المعتزلة لابن المرتضى، والأشاعرة لابن عساكر، وطبقات الصوفية للسلمي، وطبقات فحول الشعراء لابن سلّام، طبقات النحويين واللغويين للزبيدي.. أما طبقات علماء العلوم الطبيعية كالرياضيات والهندسة والحساب والجبر وطبقات علماء الفلك والفيزياء والكيمياء وطبقات علوم الجغرافيا وعلم الخرائط فلا نعلم أن أحداً كتبه على الرغم من توفّر مادتها باستثناء طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة… ومن الجدير بالملاحظة أن هذا العلم شمل تاريخ العلماء لا الحكّام للدلالة على الجانب المجتمعي والحضاري…

[5] انظر مقال مصطفى مشرفة في بحث التبعية العلمية والتقنية في المبحث السادس من الفصل الثاني من الباب السادس.

[6] (المقدمة في فضل علم التاريخ) من صفحة 16 إلى صفحة 39 نقتبس منها النص التالي صفحة 34 : “فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأمصار في السير والأخلاق والعوائد والنِّحَل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بَوْن ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصول كل خبر . وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافَقَها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً، وإلاّ زيّفه واستغنى عنه”.

[7] راجع الدكتور فتحي عثمان: مدخل إلى التاريخ الإسلامي

[8] راجع الدكتور عبد العزيز الدوري: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى بيروت حزيران/يونيو 2005، سلسلة الأعمال الكاملة