اليوم الآخر عند اليهود والصهيونية
المقدمة
الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يضع وجوده محل التساؤل ويُمعن التفكير في سؤال المبدأ والمصير، ولما كان سؤال المصير يُلقي ظلاله على أفكار وأفعال المخلوقات كان من أبرز المواضيع الذي جاءت الأديان لتظهر الإجابات عنه وتُخفف من الفضول الآسر الذي فجّر المذاهب والفلسفات والآراء والاختلافات.
وقد جاء هذا البحث في موضوع اليوم الآخر في الفكر اليهودي وأثره على اليهود في العصر الحالي استجابة لمنطلقي في أن عقيدة الإنسان الأخروية تُكوّن ظلالها في الإنسان فيُصدر كثيرًا من أفعاله بناءً على عقيدته تلك، فهؤلاء القوم عرفناهم في سور القرآن الكريم وفي سيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وليس انتهاءً باستعمار وطننا وانتهاك مقدساتنا.
ونتيجة لذلك ينبغي لمعرفة الشخصية اليهودية وكيف تُفكر، وما هي أهدافها وتطلعاتها أن نعرف اعتقاداتها في مصير الإنسان، وكيف ترى نهاية التاريخ؛ فالصورة الجديدة للتاريخ التي يُقدمها الفكر اليهودي ألقت بأثرها على سياساتهم ومخططاتهم، ويكشف هذا البحث قدرًا من هذه الأفكار والمعتقدات وكيفية تأثيرها على اليهود. ويُظهر أيضًا كيف أن طبيعة الاعتقاد باليوم الآخر تلقي بظلالها على سياسات اليهود ومخططاتهم في العصر الحالي، وقيامهم باستغلال هذه الاعتقادات وجعلها أيديولوجية لتحقيق مصالحهم.
أولًا: الفكر الأخروي عند اليهود في نصوصهم المقدسة
يشير مصطلح الفكر الأخروي عند اليهود إلى جملة المفاهيم والموضوعات والتعاليم الخاصة بعودة الماشيَّح[1]، والمحن التي ستحل بالبشرية بسبب شرورها، والصراع النهائي بين قوى الخير والشر، والخلاص النهائي وعودة اليهود المنفيين إلى أرض الميعاد، ويوم الحساب وخلود الروح والبعث.[2]
والعالم الآخر يعني بالعبرية “عولام هبّا” وهو مصطلح أخروي يعني “العالم الآتي آخر الأيام” مقابل “عولام هازية” أي “هذا العالم”.[3]
ولقد مرت فكرة اليوم الآخر عند اليهود بثلاث مراحل رافقت المراحل التاريخية لبني إسرائيل منذ خروجهم من مصر؛ ففي المرحلة الأولى أغفلت الديانة اليهودية الحديث عن اليوم الآخر وتجاهلت هذه العقيدة. أما المرحلة الثانية فهي أثناء وجودهم في فلسطين بغزو المعتقدات الشرقية حيث توضحت فكرة العالم الأسفل، وأصبحت قريبة من التصور السومري والبابلي. وفي المرحلة الثالثة وهي ما بعد السبي البابلي، وذلك عندما احتل الفرس بلاد بابل، فاحتك اليهود بهم، وتأثروا بديانتهم التي تتبنى عقيدة اليوم الآخر.[4]
ولم تشر التوراة إلى هذا اليوم بشكل واضحٍ وصريح، أما أسفار الأنبياء ففيها إشارات بسيطة عن يوم الجزاء وأنه قد يكون في الدنيا، كما أشارت إلى الجنة والجحيم، إلا أنها إشارات محدودة جدًا ولا تعطي صورةً واضحة كما يجب أن ترد في كتاب سماويّ.[5].
يعني ذلك أنّ النصوص عامة لم تأتِ على تفصيل وفيها تضارب أيضًا، وتُشير بعض النصوص إلى أن يوم الرب يوم أرضي داخل التاريخ، كما تشير نصوص أُخرى أنه يومٌ خاص ببني إسرائيل، وبذلك يمكن لنا أن نتبين مدى تناقضات التفكير الأخروي عند اليهود.
ويظهر أنّ سبب تضارب هذه النصوص وعدم وجود صورة واضحة عن اليوم الآخر عند اليهود لا كما قال ابن كمونة بأن أحبارهم على علم بها فلم يلزم التأكيد عليها، فالعقائد وإن كان الناس على علم بها فالأَولى توضيحها وشرحها والتأكيد عليها، فليس أوضح من الإيمان بوجود الله تعالى ومع ذلك جاءت آيات كثيرة في القرآن تؤكد على الإيمان به وهو أوضح الواضحات. بل يرجع السبب إلى ما أصاب التوراة من تبديل وتحريف كما بين القرآن الكريم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13].
وكذلك نجد أنّ هذا التحريف والتبديل قال به النبي إرميا: “كَيْفَ تَقُولُونَ: نَحْنُ حُكَمَاءُ وَشَرِيعَةُ الرَّبِّ مَعَنَا؟ حَقًّا إِنَّهُ إِلَى الْكَذِبِ حَوَّلَهَا قَلَمُ الْكَتَبَةِ الْكَاذِبُ.”[6]
أما عن نشأة الفكر الأخروي عند اليهود فقد سلك الباحثون مسلكين في ذلك، وهما:
حسب بعض الباحثين فقد نشأت عقائد اليوم الآخر في الديانة اليهودية متأثرة بطابع التاريخ اليهودي العام؛ حيث كان لشتات اليهود الدائم وتشردهم المستمر دور كبير في تطور نظرة اليهود إلى حقيقة الأحداث والملمات التي تحيق بهم، خاصة بعد سقوط مملكتي إسرائيل ويهوذا على يد الآشوريين والبابليين على التوالي، فبينما كان ثوابهم وعقابهم مقصورين على الحياة الدنيا بزعمهم، نجد أن تدهور أوضاعهم السياسية وسقوط مملكتهم جعلهم يتجهون إلى التفكير في إمكانية بعث المملكة من جديد في مستقبل الأيام.[7]
ويذكر إسماعيل الفاروقي أنّ اليهودية لم تكن تعتقد بأية آخرة، ويرون أن الموت خاتمة كل شيء، فلما شاهدوا تحطيم مملكتهم وتقتيل رجالاتهم على يد كل من البابليين ثم اليونانيين ثم الرومانيين ثم الأنطاكيين أخذوا يتقبلون فكرة الآخرة، إذ لم يعد يعقل عندهم أن الإله لن ينصر شعبه المختار بعد سقوطه.[8]
ويقول ول ديورانت: “ولم تُبن فكرة البعث في خلد اليهود إلا بعد أن فقدوا الرجاء في أن يكون لهم سلطان في الأرض، ولعلهم أخذوا الفكرة عن الفرس، أو لعلهم أخذوا شيئًا منها عن المصريين…”[9]
مقابل ذلك يرى فريق من الباحثين أن فكرة اليوم الآخر كانت موجودة لدى بعض اليهود وإن خلت منها التوراة أو جاءت بذكر مجمل لها، فيذكر ابن كمونة[10] أن اليهود اعتقدوا بأن ثواب الطاعة هو الخلود بنعيم الجنة والعالم الآتي، والعذاب في جهنم من غير خلود للعاصي لمعتقد الشريعة اليهودية، ولم تبيّن التوراة ذلك تبيينًا صريحًا، إلا أن العلماء وأحبار الأمة ونقلة الشريعة نقلوا هذا الاعتقاد.[11]
أما سعدايا الفيومي[12] فيرى أن ثواب الآخرة مما يستدل عليه العقل، فاختصرت التوراة الحديث عنه، كما أن النبوة من شأنها الكلام عن الحوادث القريبة للحاجة إليها وتختصر في الحوادث البعيدة.[13]
ويمكن استحضار قول ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح حين قال: “وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة.”[14]
إذًا فعقيدة اليوم الآخر كانت موجودة عند اليهود -وإن لم تكن بصورة واضحة- وهي شريعة موسى عليه السلام إلا أن اليهود ساقوا على هذه الشريعة تبديلاً وتحريفًا، وما قال به بعض الباحثين في أن هذه الفكرة لم تظهر إلا بعد تأثر اليهود بالأقوام الذين خالطوهم وما حصل لهم من شتات وتعذيب فيبدو أنّ هذا التأثر جاء ثانيًا، فاليهود وجدوا في أصل شريعتهم الحديث عن اليوم الآخر.
وقد كان للنزعة المادية عند اليهود دور في كتمان ما جاءت به التوراة عن اليوم الآخر، فبقيت هذه الصورة المضطربة التي نجدها في كتبهم المحرفة اليوم، ومن هنا نفسر كراهية اليهود للموت وما بعده، لئلا ينشغلوا بالآخرة عن الحياة الدنيا ومتاعها، وقد تحداهم القرآن الكريم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين، فلم يتمنوه![15] قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94، 95].
أما في التلمود فيعد العالم الآخر من أبرز الأفكار الأساسية التي تناولها، كما حاول علماء التلمود والمفسرون إثبات أن التوراة لم تغفل فكرة إحياء الموتى وذلك باللجوء إلى تأويل جمل التوراة وتحميلها معانٍ لم تشر إليها قط، فورد في باب سنهدرين: سأل الربي سيمايي: من أين نستدل أن إحياء الموتى جاء في التوراة؟ استنادًا إلى ما ورد في خروج 6/4 “وأيضًا أقمت عهدي معهم أن أعطيهم أرض كنعان. “فهو لم يقل “أعطيها لكم” أي للمخاطبين ولكن قال: “أعطيها لهم” أي للغائبين، من هنا يتضح أن إحياء الموتى جاء في التوراة كما قال الربي سيماي.[16]
ولقد فتح الربي سيماي الباب أمام جميع معلمي الجمارا تأويل جمل التوراة للتأكيد على أن فكرة إحياء الموتى تمثل عقيدة راسخة في مصدر التشريع الأول، بتأكيده أنه لا توجد جملة في العهد القديم لا تحتوي على عقيدة إحياء الموتى، ولكن كل فقرة بحسب ما يقول تحتاج إلى القدرة على إمعان النظر من أجل تفسيرها وهذا لن يتأتى إلا عن طريق التأويل.[17]
وقد ورد في التلمود ذكر للجنة والنار ولكن في صورة مضطربة، أقرب منها للخرافة والأساطير إلى حقائق العقيدة، فتذكر هذه الفقرات أن الجنة تأوي إليها الأرواح الزكية، وأنه لا يدخلها إلا اليهود، وأن أهلها يطعمون من لحم أنثى الحوت المملحة، وأن شرابهم نبيذ عصره الله في اليوم الثاني من الأيام التي خلق فيها العالم.[18]
وبهذا يتضح أن التلمود جاء على عقيدة اليوم الآخر عند اليهود، بل نجد مسحة من شكل الأسطورة كما في المثال المذكور، وقد أكد رجال الدين اليهودي على هذا اليوم، وفسّروا التوراة وقاموا بتحريف النصوص ليؤكدوا على وجوده، بل وذكر التلمود أنواعًا من البراهين والحجج وقام كتّابه بالرد على المنكرين من فرق اليهود.
ثانيًا: القبالا ورؤيتها لنهاية التاريخ
أما في تعاليم القبالا التي أوضحت علاقة الإله بنفسه وعلاقته بالبشر، ورؤية الكون، وفكرة الشر، قد قدمت رؤية للتاريخ أخذت شكل الدورات الكونية، وحسب هذا الرأي يتكون الزمان الكوني من البدء حتى النهاية من سبع دورات كل منها تتكون من سبعة آلاف عام. وتنقسم كل دورة إلى وحدة طول كل منها سبع سنوات، وفي نهاية كل منها السنة السبتية. وفي الدورة الخمسين (النهائية) وتسمى بـ “الشخيناه” سيحطم الإله العالم وستشهد سيادة جماعة يسرائيل، وهكذا ينتهي التاريخ بانتصار اليهود.[19]
ومن الواضح أن فكرة الشعب المختار والعودة فكرة تعويضية يحاول اليهود من خلالها تشكيل رؤية للتاريخ تحقق لهم ما لم يتحقق في تاريخهم الفعلي، ومن هنا يمكن أن نجد التشابه البنيوي بين الصهيونية والتراث القبالي، إذ يؤكد الصهاينة عملية خلاص الشعب اليهودي الذي يأخذ شكل العودة إلى صهيون دون انتظار المسيح، وقد كان الحاخام الصهيوني (القلعي)[20] من المهتمين بالحسابات القبالية، كما تأثر كثير من مفكري الصهيونية بالفكر القبالي.[21]
ثالثًا: تأثير عقيدة اليهود بالمسيح المنتظر
يُطلق على المسيح المخلص عند اليهود “ماشيّح” وهي كلمة عبرية، ومنها “منشيحيوت” أي “المشيحانية” وهي الاعتقاد بمجيء الماشيّح، والكلمة مشتقة من الكلمة العبرية “مشح” أي “مسح” بالزيت المقدس، وكان اليهود على عادة الشعوب القديمة، يمسحون رأس الملك والكاهن بالزيت قبل تنصيبهما، علامة على المكانة الخاصة وعلى أن الروح الإلهية أصبحت تحل وتسري فيهما.[22]
وكما أن فكرة اليوم الآخر غير واضحة تمامًا في العهد القديم فإن فكرة المسيح كذلك، وقد تأوّل اليهود آيتين من كل التوراة تدل بزعمهم على هذا المخلص، فيذكرون آية وردت في سفر التكوين: “لا يزول صولجان من يهوذا، ومشترع من سلالته حتى يأتي “شيلو” وتطيعه الشعوب”. ويتساءل حسن ظاظا -ونحن معه- من هو شيلو؟ ويجيب أنه في الواقع لا يوجد جواب شافٍ، فقد حرص بعضهم أن يذكره كما هو دون تعليق، واعتبره بعضهم تحريفًا من الناسخ، فالفيومي قرأها “شِلُو” وتعني بالعبرية “الذي له، الذي ينتمي إليه” والترجمة الرسمية للحاخامية بفرنسا تقرأ “شاليو” ومعناها “المسالم، المتمسك بالهدوء والسكون”. وكلها افتراضات حول نص غامض لا وصول لوجه الحق فيه.[23]
أما الآية الثانية التي وجدها الباحثون فهي في سفر العدد: “إني أراه وليس حاضرًا، أُبصره وليس قريبًا، يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم صولجان من إسرائيل فيحطم طرفي مؤاب، ويخسف كل أبناء الغرور.”[24] وهذه هي الترجمة الحاخامية الفرنسية، أما الترجمة العربية الكاثوليكية فتثبت بدل المقطع الأخير “ويريح جميع بني شيت” والترجمة العربية البروتستانتية تقول “ويُهلك كل بني الوغى” ويترجمها الفيومي “ويزلزل سائر بني شيت”. ويمكن للقارئ أن يرى أن هذا المنتظر جبار حرب، منتقم شديد، ولا يمت للسكون والهدوء بأية صلة. [25]
ومن الأسباب التي أدت إلى بروز فكرة المخلص عند اليهود هي الاعتقاد بأن الخلق أجمعين ليسوا من أبناء إبراهيم، وإنما هم أمم وقبائل، وأن الشعب اليهودي أرقى هذه الأجناس وتلك الأمم، وأن إلههم يهوه أعظم وأقوى آلهة القبائل خطرًا، ونشأت عن هذه الأفكار فكرة المخلص رجاء أن يُحقق لليهود ما ترامى به الزمن من وعود يهوه التي طال الأمد عليها.[26]
فبعد سقوط دولتهم وأسرهم في بابل ثم خضوعهم إلى الفرس أمعنوا في حالهم ووجدوا بأنهم ليسوا شعب الله المختار، بل إن الشعوب الأخرى قهروهم، وتميزوا عنهم بالقوة والحضارة.
وقدوم المسيح المخلص بحسب عقيدة المشيحانية سيحقق إقامة مملكة الله على الأرض في نهاية الأيام، ووضعت له في التراث اليهودي شروط وعلامات أهمها انتسابه إلى بيت داود، والقيام بأعمال بطولية خارقة.[27] حتى بالغ اليهود في رسم الصورة التي أرادوها للمسيح الذي كانوا ينتظرونه، فذكروا أن الناس في ظله سيعيشون بأمان وسلام، وستشاركهم الحيوانات في ذلك؛ فالذئب يُسالم الحمل، والعجل يداعب الأسد. وقد مرت فترة طويلة دون أن يجيء المسيح الذي ينتظره اليهود، وانتهز بعض اليهود فرصة هذا الترقب فادعى كثير منهم أنه المسيح، ويسجل التاريخ أخبارًا لمسيح كاذب من حين إلى حين.[28] وقد ذكر حسن ظاظا في كتابه “الفكر الديني الإسرائيلي” في صفحات كثيرة تقارب العشرين صفحة أسماء أهم الشخصيات اليهودية التي ادعت بأنها المسيح المخلص.
فمثل هذه العقيدة مليئة بالبشارات بالنسبة لليهودي؛ فهي مقترنة بفكرة تجديد العهد مع الرب، فعندئذ تتجدد أمة الله، لتصبح جديرة بالله. وعندئذ تُصبح أورشليم مدينة لا مثيل لها بين المدائن، يقيم فيها الرب على جبل صهيون، ويتجمع فيها المشردون من بني إسرائيل، فتعلقوا كثيرًا بهذا الأمل، والذي أصبح حافلاً بحكايات كثيرة وشخصيات عديدة.[29]
وقد أضعفت العقيدة المشيحانية انتماء أعضاء الجماعات اليهودية لمجتمعاتهم، وزادت من انفصالهم عن الأغيار، فانتظار المسيح يلغي إحساس اليهود بالمكان والانتماء الاجتماعي والتاريخي، ويلغي فكرة السعادة الفردية، أما الرغبة في العودة فتلغي إحساس اليهودي بالمكان والانتماء الجغرافي.[30]
وفي أسفار التلمود يتجلى اهتمام الحاخامات بفكرة الماشيّح، فتتحول على أيديهم إلى عقيدة شاملة في أعقاب الصدام الدموي بينهم وبين السلطات الرومانية. ويُشغلون أنفسهم بإجراء الحسابات التي تُنبئ عن موعد قدومه، حتى أنهم زعموا أن وجود الماشيح قبل وجود العالم، فهناك مشنا خارجي (باريتا) في سفر “فصاحيم” يُعلن خلق سبعة أشياء قبل خلق العالم من بينها اسم الماشيح، ويتصور اليهود أنه في فلسطين سيجتمع أسباط بني إسرائيل ويتنعمون بالعيش في مساحات زراعية شاسعة على أرض فلسطين.[31]
وقد كانت المشيحانية الركيزة الأساسية التي استغلتها الحركة الصهيونية لإقامة مشروعها على أرض فلسطين، وفي المطلب التالي توضيح ذلك.
رابعًا: الفكر اليهودي الأخروي والصهيونية
تشير الصهيونية بالمعنى الديني إلى جبل صهيون والقدس، بل إلى الأرض المقدسة ككل، ويشير اليهود إلى أنفسهم باعتبارهم “نبت صهيون” كما تستخدم الكلمة للإشارة إلى اليهود كجماعة دينية.[32] ويُعرّف الفاروقي الصهيونية بوصفها حركة دينية وحركة سياسية. أما في كونها حركة دينية فهي تهدف إلى تمكين العنصر اليهودي من أداء رسالته، وتُفهم هذه الرسالة من تملك لأرض الميعاد، وقهر لجيرانها الأعداء، وتركيز لسلطة العالم الروحية والحضارية والفكرية في صهيون. أما كحركة سياسية فهي تهدف إلى جمع اليهود في فلسطين لتأسيس دولة يهودية قائمة على الدين اليهودي وبإرادة بعث مملكة داود، وقد نشأت في القرن التاسع عشر على يد ثيودور هرتزل.[33]
والواقع أن العودة إلى “صهيون” فكرة محورية في النسق الديني اليهودي، إذ إن أتباع هذه العقيدة يؤمنون بأن الماشيّح المخلص سيأتي في آخر الأيام ليقود شعبه إلى صهيون، ويحكم العالم فيسود العدل والرخاء. ولكلمة صهيون إيحاءات شعرية دينية في الوجدان اليهودي[34].
جاء في سفر المزامير:
“على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون
على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا
لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحًا قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون
كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة
إن نسيتك يا أورشليم، تنسى يميني
ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي.”[35]
ولقد استغلت الحركة الصهيونية عقيدة المسيح المخلص لتصنع منها مرجعية لتحقيق أهدافها بتجميع اليهود من شتى العالم؛ فتبنت هذه الحركة مصطلح “بداية الخلاص” وهو ترجمة للعبارة العبرية “هتحالا جئولاه” وهي محاولة تستهدف تجاوز المفهوم التلمودي الذي يُحرم على اليهودي العودة إلى أرض الميعاد، ويفرض عليهم انتظار المسيح بمشيئة الله، وقد وُصف من يحاول أن يأخذ الأمور في يديه بأنه يستعجل النهاية (دوحاكي هاكتس). وقد كانت متتالية الخلاص كما يلي: نفي، انتظار، عودة المسيح المخلص. فيعود اليهود معه أو تحت قيادته، ولكن بعد صهينة اليهودية بدأت قطاعات داخل اليهودية الأرثذوكسية ذاتها تحاول أن تصل إلى تفاهم مع الصهيونية، وبالتالي يصبح الاستيطان الصهيوني من قبيل العودة للإعداد لعودة المسيح المخلص، وتصبح الدولة الصهيونية بداية الخلاص.[36]
فقد كانت تؤمن اليهودية الأرثذوكسية بحرمة العودة الجماعية إلى أرض فلسطين وتعتبرها تجديفًا وهرطقة، فالعودة ستتم في الوقت الذي سيحدده الرب بمشيئته، فهي ليست فعلاً بشريًا يتم على يدِ بشر.[37] إلا أنها استغلت كذلك العقيدة الماشيحانية وجعلت من الدولة الصهيونية خطوة في انتظار المخلص.
ويمكن الاستدلال من أقوال بن غوريون[38] وكتاباته على استغلال العقيدة المشيحانية في الدوافع الصهيونية؛ فقد اغتنم بن غوريون فرصة افتتاحه لمؤتمر بمدينة القدس وجاء كبار الحكماء اليهود من بلدان عديدة للبحث في المسائل العريضة والناشئة عن “وحدة الشعب اليهودي” وناشد جميع القطاعات اليهودية اعتبار عودة “بني إسرائيل” إلى فلسطين بمثابة حركة مشيحانية تعمل على تحقيق رسالة الأنبياء العبرانيين. وأن الأمل أو التوقع المشيحاني يؤلف جوهر إيمان إسرائيل، مثلما أنه منبع طاقتها البناءة والطافحة بالحيوية.[39]
ويؤكد بن غوريون أن العودة إلى صهيون وإحياء الدولة اليهودية ليست من اختراع هرتزل وغيره، فالرؤيا والأمل هما بعمر المنفى ذاته، لا بل يرجعان إلى ما قبل خراب الهيكل الثاني كما يقول. وإن جُل ما فعلته الصهيوينة السياسية هو محاولة إرساء هذه الفكرة القديمة والبحث بطرق عمل ناجحة لإرساء الفكرة.[40]
والمسيري في موسوعته يُشير عند تعريفه للحركة الصهيونية أنه لا يضع تاريخ تطوُّر مفهوم الصهيونية في سياق التاريخ الفكري والسياسي والعسكري الغربي، ولا يعود إلى العهد القديم أو ما يُسمَّى “التاريخ اليهودي” (إلا في محاولة دراسة الديباجات). فحتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر لم يكن يربط اليهود أو اليهودية علاقة كبيرة بالصهيونية كفكرة أو مفهوم أو مشروع سياسي واقتصادي عسكري. وقد كان هذا هو الرأي السائد في الأوساط الصهيونية حتى عهد قريب.[41]
ولا يعني ذلك أن هذه الفكرة لم تخدم الصهيونية أو أن التوراة والتلمود وما يزخر به التاريخ اليهودي بريء مما فعلته الصهيوينة على أرض فلسطين، إلا أنه حري بنا القول بأن الصهيونية قد وجدت في نصوص التوراة ما يغذي تطلعاتها النفعية. فهذه الأفكار كانت أرضًا خصبة استغلتها الحركة الصهيوينة.
ويظهر سؤالٌ مهم، لماذا لم تقم إسرائيل في عصور سابقة؟ وألم يكن لليهود فرصة العودة إلى أورشليم لما دعاهم قورش لذلك فلم يستجب منهم إلا قليل؟
فقد انخرط عددٌ كبيرٌ منهم في التجارة والأملاك فأبلوا بلاءً حسنًا ونسوا أورشليم، أو على الأقل ذهبت تلك الحماسة التي أبدوها في المنفى إلى الحنين والعودة إليها، فلم يترك عددٌ كبير من اليهود ما جنوه مقابل مغامرة وبداية أخرى في أورشليم، حتى أنها ذات المشكلة التي عانتها الصهيونية حين أرادت ترغيب اليهود في العودة إلى فلسطين.[42]
إذًا لمّا كانت عودة الماشيح وإقامة مملكة داود وبعث اليهود مرة أخرى أهم الأفكار التي أكد عليها التلمود، كانت الصهيونية قد أعملت سياستها لجعل الدين اليهودي أداة للسياسة، وقد بيّن روجيه جارودي في كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” أنّ اليهود قاموا بقراءة حرفية وانتقائية للكلام المنزل وجعل ذلك أداة سياسية مقدسة.
وقد اعترف هرتزل أنه يريد لمّ شتات اليهود ويقبل بأية دولة سواء أوغندا أو قبرص أو الأرجنتين إلا أنه حظي بمعارضة أصدقاءه اليهود، فهو أدرك أهمية الأسطورة القوية التي تؤلف صيحة قوية للمّ الشعث.[43]
وفي الوقت الذي انعقد فيه مؤتمر بازل لتشجيع اليهود بالهجرة إلى فلسطين، انعقد مؤتمر مونتريال في أمريكا (1897) الذي اعترض على أي مبادرة تهدف إلى إنشاء دولة يهودية، وأن هذه المحاولات خاطئة لأن هدف اليهود لا بالسياسي ولا بالقومي ولكنه روحي يشير إلى عصر يعترف فيه كل الناس بأنهم ينتمون إلى طائفة كبرى لإنشاء مملكة الرب على الأرض.[44]
إذًا فلقد استغلت الحركة الصهيونية عقيدة المسيح المخلص لتصنع منها مرجعية لتحقيق أهدافها بتجميع اليهود من شتى العالم. وادّعت أن قيام هذه الدولة ما هو إلا تجهيز مبدئي لظهور المخلص، فقد بُنيت هذه الدولة على أساطير سياسية، نفثت أيديولوجيتها في النصوص الدينية.
كلمة عبرية تعني المسيح المخلص. [1]
[2] المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ط6، دار الشروق: القاهرة، 2010، ص 92.
[3] المرجع نفسه، ص 96.
[4] انظر: الخطيب، محمد، مقارنة الأديان، ط1، دار المسيرة: عمان، 2008، ص 171، 174.
[5] انظر: مبيّض، يسر محمد، اليوم الآخر في الأديان السماوية والديانات القديمة، مكتبة الغزالي: إدلب، ص 53، 55.
[6] إرميا 8:8.
[7] عبد المعبود، مصطفى، علامات آخر الزمان في اليهودية، ط1، مكتبة النافذة: الجيزة، 2010، ص17.
[8] الفاروقي، إسماعيل، الملل المعاصرة في الدين اليهودي، ط2، مكتبة وهبة: القاهرة، 1988، ص 16.
[9] عبد الباري، فرج الله، يوم القيامة بين الإسلام والمسيحية واليهودية، دار الآفاق العربية، ص 166.
[10] سعد بن منصور البغدادي (1215– 1284م) هو طبيب، وفيلسوف، وعالم عقيدة يهودي ولد في بغداد. توفي في الحلة، عن عمر يناهز 69 عامًا.
[11] ابن كمونة، سعد بن منصور، تنقيح الأبحاث للملل الثلاث، دار الأنصار، ص 26.
[12] سعيد بن يوسف أبو يعقوب الفيومي المشهور ب”سَعْدِيا” ولد في بغداد، وهوحاخام وفيلسوف يهودي مصري. تأثر بالمدرسة الكلامية ومذهب المعتزلة.
[13] الفيومي، سعدايا، الأمانات والاعتقادات، ص 258.
[14] ابن تيمية، تقي الدين، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ط2، دار العاصمة: السعودية، 1999، ص 294.
[15] عبد الباري، فرج الله، يوم القيامة بين الإسلام والمسيحية واليهودية، ص 171.
[16] انظر: أحمد، علاء تيسير، التلمود (البعث والحساب والثواب والعقاب)، ط1، مكتبة مدبولي: القاهرة، ص 173.
[17] المرجع نفسه، ص 174.
[18] انظر: الخطيب، محمد، مقارنة الأديان، 2008، ص 177.
[19] المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص 41.
[20] يهوذا الكالي، أو يهوذا القلعي، هو حاخام يهودي شرقي، ويعد أحد رواد الحركة الصهيونية الحديثة.
[21] المرجع نفسه، ص40.
[22] المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص 104.
[23] ظاظا، حسن، الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية، ص113 -114.
[24] العدد 24: 17.
[25] المرجع نفسه، ص 115.
[26] شلبي، أحمد، مقارنة الأديان (اليهودية)، ط8، مكتبة النهضة: القاهرة، 1988، ص 212.
[27] عبد المعبود، مصطفى، علامات آخر الزمان في اليهودية، ص 58.
[28] شلبي، أحمد، مقارنة الأديان (اليهودية)، ص 213-214.
[29] ظاظا، حسن، الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية، ص 112.
[30] المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص 105.
[31] رزوق، أسعد، التلمود والصهيونية، ط2، الناشر: بيروت، 1991، ص 228، 236.
[32] المسيري، عبد الوهاب، تاريخ الفكر الصهيوني، ط1، دار الشروق: القاهرة، 2010، ص 15.
[33] الفاروقي، إسماعيل، أصول الصهيونية، ط2، مكتبة وهبة: عابدين، 1998، ص7.
[34] المسيري، عبد الوهاب، تاريخ الفكر الصهيوني، ص 15.
[35] المزامير (المزمور المائة والسابع والثلاثون-1، 2،3،4،5).
[36] عبد المعبود، مصطفى، علامات آخر الزمان في اليهودية، ص 65.
[37] المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص197.
[38] ديفيد بن غوريون هو أول رئيس وزراء لما يُسمى بدولة إسرائيل.
[39] رزوق، أسعد، التلمود والصهيونية، ص 224.
[40] المرجع نفسه، ص 226.
[41] المسيري، عبد الوهاب، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص 198.
[42] الفاروقي، إسماعيل، أصول الصهيونية، ص 77.
[43] جارودي، روجيه، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ط1، دار الغد: القاهرة، 1996، ص 18.
[44] المرجع نفسه، ص20.