حضور الصوت في بناء الحجّة القرآنيّة
إنَّ إدراكَ الآيات القرآنية وبلوغ أثرها للإنسان، قائمٌ على وسائل الإدراك التي أودَعها الخالق فينا؛ والحواسّ الخمس هي الوسائل الإدراكية لكلّ كائن حيّ بصفة عامّة، والعقل البشريّ يتفاعل مع هذه الحواسّ ويتأثر بها وخصوصًا السمع والبصر؛ لذلك كان تعطيل هذه الحواسّ حاجبًا عن بلوغ الحجّة القرآنية للإنسان، وهذا ما ذمّه الله تعالى في الذين استحقوا النار من الجنّ والإنس لأنهم عطّلوا أدوات إدراكهم؛ قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرًا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179]، فهم وإن كانوا يسمعون أو يبصرون لكنّهم في حقيقتهم غافلون عن حقيقتي السمع والبصر ومعطّلون لهما؛ فشابهوا بذلك الأصمّ والأعمى، قال تعالى: {ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصمّ ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} [يونس: 42-43].
وقد أفرد القرآن الذكر لخطورة تعطيل حاسّة السمع في كثير من مواضعه التي ذمّ بها الكفار والمشركين؛ كقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26]، وقوله تعالى في أصحاب النار: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} [المؤمنون: 104-105]، ولا شكّ أنّ هذا الإفراد بذكر السماع والتلاوة إنما جاء لأنّ الحجّة القرآنية قد اعتنت في سبيل تأثيرها على المتلقي بالاستعمال الصوتيّ أو بالأداة الصوتيّة، وسخرتهما بشكل لافتٍ للوصول بالمتأثر إلى درجة الإقناع.
وقديمًا كان الشعر العربيّ يوصَفُ بأنه شعر غنائيّ؛ لأنه يعتمد على الإلقاء والمهارة الصوتية ويعتمد على تغنّي الرّاوي به، ولذلك سمّي الأعشى بصنّاجة العرب؛ لأنه قيل فيه: إنك تجد لشعره صوتًا في أذنك بعد تمامه، والعرب تعرف غناء الشعر وتعدّه مضمارًا تجري فيه القصائد، وكانوا يقولون: إنّ الغناء لهذا الشعر مضمار.
ولعلّ من أسباب اعتماد العرب على الرواية الشفهية في نقل الشعر وتقديمها على الكتابة التي عرفوها أو عرفها قلة منهم؛ أنّ الشعر يصاحبه انفعالات ومؤثّرات قد يفقدها النصّ إذا تحوّل من الحالة الصوتية إلى الحالة المكتوبة، بل قد يتضاءل تأثير النصّ في القارئ إذا خسر لحظة الإلقاء، لذلك نجد أننا نعوّض هذه المؤثرات والانفعالات بالتنقيط المرسوم أي بعلامات الترقيم ليدل على معنى الاستفهام والتعجب وغيرهما، فالوصول إلى أثر حقيقي في النفس للنداء والاستفهام والتعجب والأمر والنهي لا يكتمل دون الصوت والإلقاء.
ولم تكن الرواية الشفهية عند العرب فقط ذات قيمة؛ فقد اعتنى بها من قبل اليونان في نقل ملاحمهم وأشعارهم، وكانوا يرون في الراوي شخصًا يمارس أعظم تأثير في الجمهور؛ لأنه يحرّك انفعالاتهم ويوصل إليهم الشعر في قالب حركيّ، وقد ذهب أفلاطون أكثر من ذلك حين جعل الكتابة آفة من الآفات التي تخلّ بالذاكرة، وعدّها طارئة وغريبة على النفس وليست من داخلها، فكأنها بالنسبة لأفلاطون وسيلة جامدة تميت النفس، أما الآلة الشفهية فهي التي تعيد الحيوية والنشاط للنفس لأنها صادرة عنها من ذاتها.
بعد هذا من الممكن أن نقول إن الأدب عمومًا يستمدّ ديناميّته وقوّته التعبيرية من قوة الكلمة المنطوقة التي تعرض شفهيًا أو تتلى تلاوة على المستمعين، وإذا كانت الكتابة تصويرًا فوتوغرافيًا جامدًا كما رأى أفلاطون؛ فإن القراءة الشفهية أو الجهرية عملٌ إبداعيّ حيّ وإيجابيّ وليس عملًا فوتوغرافيًا ميتًا أو سلبيًا، فهي من خلال التلاعب بطبقات الصوت والتنغيم والتجويد تجعل في الكلام حركة وأثرًا، بل قد تعيد إنتاجه مرّة ثانية كما يقوم العازف بإعادة إنتاج المقطوعة الموسيقية وتحويل الجمل الموسيقية الجامدة أمامه إلى إحساس ومشاعر عند المتلقين؛ فكذلك الراوي يعيد الحياة للغة المكتوبة بالنبر والتشديد والنغمة وتجويد الحروف، ويخلق تلك المشاعر والأحاسيس.
ولو أخذنا علمًا من علوم البلاغة أو فنًا من فنونها وهو فنّ البديع؛ لوجدنا ارتباطه بالصوت والإيقاع ارتباطًا واضحًا، فكثير من مباحث فنّ البديع لا تخرج عن أن تكون “تناسبًا صوتيًا كالموازنة والتصريع وكلّ ما يلحق بالوزن والقافية من حيث المبدأ، أو تناسبًا دلاليًا صوتيًا كالجناس والطباق وغيرها، فهي تقوم في عمومها على تناسب بين طرفين أو أكثر في النصّ، وهي تحقق هذا التناسب بوصفه مقياسًا جماليًا له أهمية في التأثير الإيجابي على المتلقي وكسب تفاعله وإعجابه.
إنّ النصّ القرآنيّ يختلف عن غيره من النصوص العلميّة اختلافًا كبيرًا، فهو كتاب هداية {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 2]، {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1]، وإذا كان القرآن كتاب هداية؛ فهو ليس نشرة معلومات علمية وليس من أهدافه الرئيسة أن يقدّم لنا ذلك، حتى نقرأه قراءة صامتة! وإنْ كانت القراءة الصامتة قد تناسب مقام التدبّر والتفكّر عند المتلقي؛ لكنّ القرآن في أصله حجاج وبلاغ ورسالة وتأثير وتحوّل، لذلك يحتاج إلى قوّة الكلمة الشفيهة لتحقيق هذا المضمون، والقرآن لا يخاطب الملكة العقلية فقط كما تخاطبها الكتب العلمية، ولا يحاجج العقول فقط؛ ولكنه يخاطب ويحاجج الشخصية الإنسانية كلها بما تملكه من عواطف وأفكار؛ وهذا يحتاج إلى الصوت وإلى الحركة وإلى الهزّة، لذلك كان وصف القرآن لنفسه بالبلاغ والرسالة، قال تعالى: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته} [المائدة: 67]، وقال سبحانه: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الظالمون} [الأحقاف: 35].
وثمّة نصوص قرآنية ونبويّة عديدة تستبطن هذا المعنى، وتحثّ المتلقي بإشارات مختلفة على استعمال الأداة الصوتية أو على السماع أو على القراءة الجهرية، وكأنّ القرآن وإن كان نصًّا إلهيًا معجزًا؛ لكنّه قد يفقد أثره إذا فقد سمة الحركة التي يحدثها الصوت، التي جعلها الله صفة ومزية للكون كله، ولأنّ القرآن أولًا وأخيرًا لغة ونصّ لغويّ، واللغة قد تفقد شيئًا من قوتها التعبيرية حين تحبس في السطر الصامت وتستردّ هذه القوة بحركة الصوت لتصبح لغة لها حدث زمانيّ وواقعيّ في نفس المتلقي.
وقد أسلم عمر بن الخطاب على شدّته وقوّته حين رق للقرآن وسمع آيات من سورة طه في بيت أخته، والقصة في ذلك مشهورة، ونجد أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قد اتبع مع أصحابه أسلوب السماع والتلاوة الجهرية ليعزز مكانها في نفوسهم فهي وإن كانت وسيلة نقل القرآن مع أن القرآن كان يكتبه الصحابة، إلا أنها وسيلة لتعزيز معانيه وإيصال أثره إلى النفوس، وفي ذلك حديث ابن مسعود حين أمره النبي أن يقرأ عليه وقال له النبي: “أحب أن أسمعه من غيري”.
ومن أجل ذلك حثّ الإسلام على تحسين الصوت بالقرآن وأثنى على من ملك صوتًا جميلًا في تلاوة القرآن؛ لأنه بصفاء صوته وحسن تنقله بين الطبقات الصوتية يظهر مزية عظيمة من مزايا القرآن في انسجام أصوات حروفه ومخارجها فيقع القرآن في نفس متلقيه موضع القبول.
لقد تضمّن القرآن جمالًا توقيعيًا كما يسمّيه “دراز” لا يخفى على أحد سمع القرآن وخصوصًا العرب، ولعلّ هذه الموسيقى اللغوية جعلت أقرب أوصاف القرآن إلى أذهان العرب وصفه بالشعر، لأنّهم وجدوا فيه هزّة لا يجدونها إلا في الشعر، على أنّ القرآن نثر لا يقوم على أوزان الشعر عندهم، وإنما وصفوه بذلك لما وجدوه فيه من الاتساق والائتلاف الذي تجريه أجراس حروف القرآن بحركاتها وسكناتها ومدّاتها وغنّاتها واتصالاتها وسكناتها، وفي الحقيقة هم وجدوه لحنًا عجيبًا غريبًا عنهم فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا ما هو بشعر؛ كما قال الوليد: “فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا”.
يتحدث رولان بارت في كتابه “لذّة النصّ” عن مصطلح سمّاه “هسهسة اللغة”، ويقصد به موسيقى المعنى، فاللغة تودع نفسها في الدّال الصوتي، وهذا الدّال الصوتي بعروضه ووزنه ونطقه ينشر المتعة في أذن السامع ويحقق الانفعال ويجسّد كثافة المشهد، وينقل آلام النفس، وتوترها، ويعكس حالتها، والإقناع كما يراه بارت يدفع إلى الثقة ويُلتَمَس له دومًا الأدلة المنطقية أو شبه المنطقية، والتي تسمى “التصديقات”، هذه التصديقات تقوم على مواد ابتكار من قطع لغوية يسميها بارت “بذور التصديق” فبذور التصديق تتعلق بالخطاب نفسه من حيث انتقاء الكلمات ومن حيث تأليفها والجمع فيما بينها.
الإيقاع في الموسيقى يعني القيم الزمنية للفقرات أو النغمات والعلاقة بينهما من حيث الطول والقصر، ويدرس دومًا من حيث الحدة والغلظة، الطول والقصر، الشدة واللين، الصعود والنزول.
ويمكن أن نقف عند مقطعين من سورة الذاريات يظهر بينهما الفرق الإيقاعيّ بشكل واضح:
المقطع الأول هو بداية السورة في قوله تعالى: {والذاريات ذروًا * فالحاملات وقرًا * فالجاريات يسرًا * فالمقسمات أمرًا * إنما توعدون لصادق * وإنّ الدين لواقع * والسماء ذات الحبُك * إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك * قتل الخراصون * الذين هم في غمرة ساهون * يسألون أيان يومُ الدين * يوم هم على النار يفتنون * ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} [الذاريات: 1-14].
يظهر في إيقاع هذه القطعة القرآنية سرعة الحركة، قصر الآية، قوة البناء، الشدّة والنبّر، الجو المكهرب، توتر الحروف، انسجام الإيقاع مع هول الموقف ورهبة اليوم الآخر، واستعمل لذلك الحروف المستعلية والشديدة.
أمّا المقطع الثاني الذي يلي المقطع الأول مباشرة قوله تعالى: {إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون * وفي أموالهم حق للسائل والمحروم * وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 15 -21].
يظهر في إيقاع هذه القطعة القرآنية بطء الحركة، رخاوة البنية، توسط طول الآية، الانسجام مع جمال نعيم الجنة والترغيب في عمل أهلها، واستعمل لذلك الحروف المستفلة والرخوة.
وهذا الانتقال من أسلوب عالٍ في اهتزازه، قويّ في حروفه إلى أسلوب هادئٍ في بيانه، رخوٍ في حروفه؛ ينسجم مع الجوّ الذي يناسب كل مقطع، فالحجّة القرآنية تواجه السامع في المقطع الأول بهذا الإيقاع الشديد لمشهد مخيف من مشاهد يوم القيامة ثم تنقله في المقطع الثاني إلى إيقاع خفيف قريب من النفس لمشهد جميل أو وصف مرغّب من أوصاف أهل الجنة، فالإيقاع الأول يخيف السامع ويربكه، والثاني يجذبه ويرغّبه، وهنا توظّف الحجّة القرآنية اختلاف هذين الإيقاعين وفَجْأتهما في نفس السامع؛ بدعوته في آخر المقطع الثاني للتفكر والوقوف على المعاني {وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 20- 21].
وأخيرًا إن الجمال التوقيعي أو الصوتي يبقى ستارًا جذابًا، يجذب السامع إلى لبّ النصّ القرآني، فالحجة القرآنية ساكنة داخل النصّ وليست خارجه، والنصّ كما عبّر “دراز” أحاط نفسه بنظام صوتيّ فيه المتعة والجمال ولفت الأنظار، شأنه في ذلك شأن الصدفة التي تحوي في داخلها اللآلئ، فالصوت مدخل لطيف إلى قراءة الحجة القرآنية والتفكر بها.