حقوق المرأة بين الواقع والخيال

264

في كل مرة يتناول الناس موضوع مشكلات الأسرة وخاصة العنف والتسلط على حقوق المرأة في كثير من مجتمعات المسلمين، يقف العلماء والدعاة والباحثون ليعلنوا بحق أن هذا الأمر المشين هو أمرٌ غير مقبول ولا يمكن نسبته إلى الدين والشريعة. وفي هذا السياق يبين العلماء والباحثون حقوق المرأة في القرآن والسنة ومجالات الحرية والاستقلال التي أعطاها الإسلام للمرأة، وهو أمرٌ لا بد من بيانه وتوضيحه حتى لا يكون واقع الظلم التي تعاني منه بعض مجتمعات المسلمين فتنة للناس عن دينهم وأداة في يد دعاة التمييع الثقافي لنشر الفساد وإهلاك الحرث والنسل.

ومن الأمور التي لا بد من بيانها والتعليق عليها في هذا المقام، أن بعض هؤلاء الباحثين والدعاة في غمرة الحماس عند الحديث عن حقوق المرأة وواجباتها ينقلون عن الأئمة والفقهاء بعض الفتاوى التي تقرر أنه ليس من واجبات المرأة ولا من مسؤولياتها في بيتها الطبخ وإعداد الطعام أو التنظيف أو إرضاع وليدها… وأن من حقها أن يكون لها خادم وغير ذلك. وقد يكون هذا الكلام مفهوماً إذا قصد به إبعاد النظرة الاستخدامية للزوجة والتي تختزل دورها إلى الخدمة على وجه السخرة بعيداً عن مفهوم الشراكة في مناخ التحبب المتبادل. ولكن تبقى المشكلة في هذا النقل أنه يسلخ الفتوى عن ظروفها وشروطها ويقدمها دون الإشارة إلى الكليات الحاكمة والقواعد التي تضع الأمور في نصابها لإقامة العدل الذي ترضاه الشريعة وترسمه نصوصها ومقاصدها.

ونشير بداية إلى أن الفتاوى المنقولة عن الأئمة عند مراجعتها وتدقيق عباراتها لم تذكر حقوق المرأة وواجباتها في البيت إلا في إطار الوسع والعرف، ولا شك أن هذا الإطار يؤمن مدخلاً شرعياً يمكن تعميمه بلا حرج. أما نقل الفتاوى مع إغفال شروطها وظروفها واحترازاتها فهو قراءة انتقائية غير أمينة لا تزيد المرء علماً بدينه أو مقدرة على معالجة المشكلات.

إذا رجعنا إلى القرآن الكريم وجدنا أن قضية الحقوق والواجبات في الأسرة تُعرض من منطلقٍ واقعيّ فطريّ ينسحب على ظروف مختلفة عبر الزمان والمكان.

  • ·      {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
  • ·      {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].
  • {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6].
  • ·      {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
  • ·      {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
  • ·      {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233].  
  • ·      {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].

فالآيات الكريمة تقرر مبادئ لتقرير الحقوق والواجبات في الأسرة تتلخص في المعروف والسعة والتراضي والتشاور. فالعرف المستقر في أية بيئة يساعد كثيراً في تحديد الواجبات والحقوق وتضييق شقة الخلاف بين الناس، وكذلك فإن مفهوم السعة يتوافق مع المنطق الشرعي الذي لا يكلف الناس فوق ما يستطيعون، وأما التراضي والتشاور فهما الوسيلة والطريقة التي يتوصل بها الناس إلى الوضع المناسب والملائم بما يحقق المصلحة في جوٍ من التفاهم والتعاون.

فعند الحديث عن مشكلات الأسرة وطرق معالجتها لا بد من تقرير المبادئ القرآنية أولاً ولا بد كذلك من تدريب الناس ‑رجالاً ونساءً‑ على فهمها وتذوقها والتحاكم إليها.

ويبدو أن ما يُدعى “مشكلات الأسرة” هو تعبير عن توتر وانزعاج وخيبة أمل ناتجة عن فرق بين التوقعات والواقع أو بين الأحلام والحقيقة. ومن هنا فإن مساعدة الناس على تجاوز مشكلات الأسرة تكمن في مساعدتهم على:

  • وضع توقعاتهم للحياة الزوجية ضمن ما يقرره العرف وما يتأصل به المعروف.
  • فهم الاحتياجات المادية والاقتصادية للأسرة ومعرفة طرق ووسائل تغطية الاحتياجات ضمن الإمكانيات المتوفرة والسعة في الرزق.
  • الاعتياد على استعمال التراضي والتشاور وسيلة للوصول إلى أي قرار يتعلق بالأسرة بعيداً عن الانفراد أو التجاهل.

وقد عاشت كثير من المجتمعات الإنسانية حالةً من السلام الاجتماعي والتوافق العائلي الذي يستمد ثباته واستقراره من أعراف وتقاليد وضعت حاجات الأسرة فوق اعتبار رغبات الأفراد. وجاء الإسلام فأقر نظام الأسرة وحوّله من مجرد عادات قد يداخلها الحيف والظلم إلى علاقات مضبوطة بإطار المسؤولية والمودة والرحمة، وأدخل بعض التعديلات والضوابط التي تتعلق ببيان أصناف القرابة التي لا يصح عقد الزواج فيما بينها، وتتعلق بتفصيلات العقود والميراث بين الأزواج، وتتعلق ببعض تفصيلات الحضانة والرضاع والطلاق والنسب وغير ذلك.

 وكان دور المرأة في الأسرة ‑عبر الثقافات والحضارات‑ أساسياً في تأمين كفايات الأسرة من الغذاء واللباس. وكانت مساحة مسؤوليات المرأة في البيت تختلف حسب الحاجة والسعة في الإمكانيات. وقد كان هذا المعنى واضحاً في آيات القرآن الكريم التي تحدثنا عن أسرة نبي الله شعيب حيث عملت ابنتاه في الرعي وتأمين السقاية لقطيع من البهائم. وعند تلاوة آيات تلك القصة الطريفة لا يحس القارئ بلوم أو تثريب بل يجد القارئ الموافقة والإقرار والاستحسان لعملهما ومبادرتهما لأداء الواجب في رعاية حاجات الأسرة الكريمة {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].

 وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ‑في الحديث الذي يرويه البخاري‑ كانت سيدة نساء أهل الجنة “فاطمة” رضي الله عنها تتقرح يداها من الطحن فلما أشفق عليها زوجها عليّ وسألها أن تطلب من أبيها أن يعينها بخادم، علـّمها النبي صلى الله عليه وسلم دعاءً وأذكاراً تخفف عنها بعض التعب ولم يخصّـها بخادم. لقد كان هدي النبي مع ابنته تعليماً للمرأة المؤمنة الصالحة أن تؤدي واجبها في القيام بنصيبها من أعباء البيت صابرة محتسبة، وكان تصرف سيدنا عليّ رضي الله عنه هو مثال الزوج الشفيق الذي لا يترك فرصة لمساعدة زوجته وتخفيف معاناتها إلا بادر إليها.

وفي ضوء هذا الفهم لهدي القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في قضية مسؤوليات المرأة في البيت نرى أن الاستشهاد ببعض الفتاوى المنقولة عن الأئمة هو نقل تنقصه الدقة والأمانة العلمية التي تتطلب نقل ظروف الفتوى والعرف الذي استندت إليه والذي لا ينطبق عند التحقيق والتدقيق على واقع المجتمعات الإنسانية في أغلب حالاتها وأوضاعها التي يغلب عليها المعاناة والكدح من جميع أفراد العائلة لتغطية نفقات وأعباء الأسرة والتي قلما ترتفع عن حد الكفاف.

وفي الظروف التي تدفع بها ثقافة الاستهلاك والتكاثر والتفاخر وأولوية الزينة والمظاهر، وفي جو الاستقطاب والتنافر الذي تجود به طروحات الحركة النسوية التي تجعل ‑الذات الأنثوية‑ أعلى مرتبة في سلم الأولويات من الأسرة والعائلة، تأتي النقول الاستعراضية لبعض الفتاوى التاريخية لتزيد الأمر سوءاً وتصب الزيت على النار وتؤصل ثقافة النشوز ومركزية ‑الأنا‑ ليحل التشاحن والتوتر محل المودة والرحمة والسكينة. وفي النهاية تكون النتيجة هي انهيار البيت وعيش الفصام والنكد ومخالفة الفطرة.

فإذا كان الواجب يقضي بإنصاف المرأة مما يقع عليها من ظلم في بعض المجتمعات، فإن من غير المقبول أن نقع في مبالغات ردود الفعل فنسعى في تدمير ثقافة أسرية تكافلية تعاونية أثبتت صلاحيتها عبر القرون وفي مختلف الثقافات.

ولا بد من الحذر كذلك من نقل الفتاوى التي تساوي بين المطلوب شرعاً وبين المفروض قانوناً بالمعنى المعاصر. فالمطلوب شرعاً يرتبط في قلب المؤمن بجملة من المشاعر الطيبة وشعور المسؤولية أمام الله، بينما يرتبط ما يفرض بقوة القانون بإكراه السلطة والمبارزات السياسية على منصات الانتخاب.

إن فهم الحقوق والواجبات في الإسلام عبر بعض الفتاوى الاستعراضية السمجة هو فتنة عن دين الله تقدم الإسلام ديناً ارستقراطياً لا يصلح إلا لمن يملك الخدم والحشم، وتقدم المرأة في تلك المجتمعات الارستقراطية أكثر تديناً ورفعة ممن يكابدن العمل لتأمين الكفاف.

 إنها الفتنة التي تفتح الباب لكل دعوات النشوز ودعوات استبدال نمط الإسلام الفطري بالعلمانية الحداثية الاصطناعية أو غيرها من دعوات الجاهلية.

05-2007