شتات الفكر و مأزق العنف
عندما يواجه المرء بالأحداث، فإن من الضروري أن يمتلك القدرة والبصيرة ليتجاوز ضغط اللحظة وملابسات الوقت ليستشرف المستقبل ويرى إمكانيات التحرك بفهم دقيق للماضي بما له وما عليه. وعندما ننظر إلى الماضي نعلم أننا ننظر لاكتشاف السنن وتلمس مواضع العبرة ومظانّ الخلل لا لنحاكم الأشخاص، فقد أفضوا إلى ما قدموا واجتهدوا ما ظنوا أنه الخير، ولكننا اليوم نرى ما آلت إليه اجتهاداتهم. {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].
والواقع كما أفهمه اليوم أن الأحداث الأخيرة لم تهدم مركز التجارة العالمي وأحد أجنحة وزارة الدفاع فحسب، بل ربما زلزلت سائر البُنى التي كان العمل الإسلامي يقوم عليها منذ وقوف حركة محمد بن عبد الوهاب في حدود جزيرة العرب وتحول تلك الدعوة إلى نظام سياسي له موازناته وعلاقاته. وكذلك تحول الحركة الإصلاحية التي قادها الأفغاني والكواكبي ورضا إلى حركة إخوان مسلمين؛ حينما استطاع الشيخ البنا رحمه الله أن يلخص تراث الحركة ويعدّل فيه ما شاء له التعديل ليجعل منه فكر حركة سياسية إسلامية استهدفت بادئ الأمر تحرير قناة السويس ثم أضافت إليها بعد ذلك قضية فلسطين وإصلاح الشأن المصري كما عبّر عنه البنا رحمه الله في كتابه (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي).
وبدأت فكرة السلطة باعتبارها حلاً تصبح محور تفكير الإسلاميين. ثم بدأت عملية التماهي مع التراث الإسلامي، تراث عصر التدوين الذي بُني بعيداً عن القرآن الكريم والذي لم يتخذ من آياته أو ما صح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلا شواهد جزئية يستشهد بها من يريد لدعم أو تأصيل ما توصل إليه بعيداً عن الرؤية الكلية الجامعة.
بدأ هذا التراث بقضاياه المتشرذمة حول الجزئيات والخصوصيات يتفاعل مع الواقع العملي للحركات ليحدث انشقاقات في ذلك الجسم الكبير، جسم كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة، فانشقت (جماعة سيدنا محمد) التي لم تكن ترى في الاسلام إلا حجاب المرأة المسلمة، فعاشت ما شاء الله لها أن تعيش ثم انقرضت ليظهر بعد ذلك (حزب التحرير) في فلسطين مشغولاً بالخلافة وحدها ظانّاً أنها عصى سحرية كعصا موسى أو تزيد لمجرد أن اليهود لم يستطيعوا خلال وجود الخلافة أن يحصلوا على الإذن بالهجرة إلى فلسطين من سلطان آل عثمان، وبناءً على ذلك فإن الحزب كان يرى أن فلسطين ضاعت عندما ألغى أتاتورك الخلافة المهترئة والتي لم يكن قد بقي منها غير الشكل أو هيكل عظمي متهالك تم إلغاؤه رسمياً في مارس 1924. ثم تتالت الحركات والأحزاب الجزئية حتى صارت في مصر وحدها كما حسبناها عام 1975 ثلاثاً و تسعين حزباً وفئة كلها كانت قد خرجت من تحت عباءة الإخوان المسلمين.
وقد وقع الإخوان في مصر بالذات في خطأٍ شديد حينما بدأوا ينفتحون على كل جهة إسلامية لاحتوائها وضمّها إليهم، فالطرق الصوفية ذات التصوف البدعي – وهي طرق رسمية وتقليدية ومؤسسة من المؤسسات الرسمية التي توظف لتكون وسيلة حكومية لامتصاص التوجهات الإسلامية كلما علت نبرتها – كانت من بين من انفتح الإخوان عليها في عهد البنا رحمه الله، وحاولوا احتواء من يمكن احتواؤه، وفي الوقت نفسه لم يترددوا في أن يخاصموا الأزهر ويقللوا من شأنه ويلغوا دوره ودور مشايخه بحجة أن ليس في الإسلام اكليروس ولا رجال دين؛ فقاموا بذلك بتمييع مرجعيةٍ كان يمكن أن يستفاد منها لو أصلحت، واختاروا أن تكون للجماعة بدائل من داخلها فبدأ تكوين طبقة من المشايخ في مقدمتهم الشيخ محمد فرغلي وسيد سابق وعبد الستار عبد المعز وعبد المنعم النمر والشيخ الصواف في العراق والشيخ السباعي في سورية، ثم وصلت مرحلة الشيخ القرضاوي وأبو غدة والبيانوني وآخرين.
وتلى ذلك موجة انتقام المشايخ لأنفسهم من الأفندية أو انتصار الأفكار المخذولة – كما يعبر مالك بن نبي – وعاد المشايخ إلى سدة القيادة أو الرمزية في أقل الأحوال في أماكن كثيرة وعادت الحركة إلى نوع من الفكر السكوني الممزوج بالقضايا الفقهية وكل من يضيق بهذا الاتجاه ينشق ويؤسس له جماعة خاصة، فللجهاد جماعة، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جماعة، وللتوجهات الصوفية المزيجة بالدعوة الإخوانية جماعة، وللسلفية المأخوذة من ضفاف الخليج العربي جماعات. وإذا كان مالك بن نبي له تلك الكلمة الطريفة (دولة ما بعد الموحدين) فقد صار لدينا إسلامان: إسلام ما قبل البترول وإسلام ما بعد البترول، وكذلك إسلام ما قبل التصادم مع عبد الناصر وإسلام ما بعد التصادم، وهكذا.
ومن حيث التحركات كان هناك انقسام آخر فرضته الظروف؛ فهناك من تجاهل كل السنن الإلهية في قيام الحضارات وتراجعها ليعتقد أن أمريكا سوف تسلم أو سيكون فيها المسلمون فيها الغالبية العظمى سنة 2000. وهذا الكلام ليس من عندي ولكن من بعض القيادات التي تقود العمل الإسلامي في هذه البلاد وذلك عندما زرتها لأول مرة سنة 1976 وسألتهم عن تصورهم فقال أحدهم – ولا أحب أن أذكر الأسماء – نتوقع أن يشكّل المسلمون في أمريكا خلال ربع قرن نصف السكان أو أكثر من النصف، وربما في سنة 2025 سيصبحون الغالبية المطلقة. وهذا النوع من التفكير هو من صميم التفكير التراثي الذي لا يزال يعيش فترة الانخداع بالكم ويتجاهل الكيف والنوع ويعيش إيحاءات المثل القائل (الكثرة تغلب الشجاعة)؛ وهذا جهل مطبق بالسنن الاجتماعية والحضارية والتاريخية. فلا غرابة والمستوى العقلي لدى الجماهير المسلمة بهذا الشكل من السكونية والكمية أن نجد الشباب المسلم اليوم يقع تحت إغراء توجهين:
الاتجاه السلفي برمزية ابن لادن، وليس سلفية الألباني أو ابن باز أو محمد بن عبد الوهاب أو حتى ابن تيمية، بل سلفية مقاتلة حالمة غيبية أو غائبة، لأن العقل اللاسنني اليوم هو كعقل فرعون وهو يغرق إذ لم يكن قادراً على التفكير فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90]؛ فلسان حال هؤلاء الشباب المساكين يقول آمنت بمبدأ ابن لادن، فقد أصبح ابن لادن اليوم رمزاً أسطورياً بدأ يستهوي الشباب المسلم ويستميله إلى السلفية كما يعرضها وكما كان يتحدث عنها بعد أن رفع شعار الفسطاطين، فيخشى أن يجر هؤلاء الشباب ليدخلوا فسطاطه لأن الفسطاط الآخر هو الكفر والعمالة والخيانة والأمريكانية. وما لم تستدرك الجماعات الإسلامية أمرها وتراجع فكرها ووسائلها فربما شهد المسرح الحركي تحولاً نحو هذا النوع من الاتجاه السلفي وانتشاراً لعقلية ابن لادن انتشاراً يفوق كل ما استطاعت الأموال تحقيقه خلال العقود الثلاثة الماضية.
أما الإتجاه الثاني فسيكون الاتجاه الصوفي: وليس التصوف التزكوي والتهذيب السلوكي؛ وإنما التصوف السلبي الانعزالي. فالتـصوف الآن يستهوي -في الغرب خاصة- من لم يستطع أن يحتويه الفسطاط الأول، ذلك لأن في هذا الاتجاه أيضاً يجد الشباب مجالاً رحباً لتفسير كثير من الأحداث التي تمر به؛ فإذا كان السلفي يفسر له كل شيء بجملتين هما اتباع الكتاب والتمسك بما عليه أهل السنة والجماعة، فإن الصوفي المبتدع سوف يفسر له هذا بأن عدوك الأول هو نفسك التي بين جنبيك وأنت تعلم أن المعركة مع النفس طويلة المدى لأنها ستستمر إلى القبر. فإذا قيل له جاهد (بالمعنى الشامل للجهاد وليس بمعنى القتال أو العنف)، قيل له جهادك الأكبر ضد نفسك. وإذا قيل له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول لنفسه: عليَّ أن آمر نفسي وأنهاها. فميدان المعركة والصراع يصبح شديد الضيق مع قدرة تفسيرية هائلة لكل ما يحدث حوله، فإذا ما عجز أن يربط شيئاً من الأحداث بنفسه وانحرافاتها فلا بأس من إحالته إلى الله الذي لو شاء منع كل هذا. وينحصر الطموح آنذاك بترقية النفس، أما الأمة ومستقبلها ونهوضها واقتصادها واستقرارها فلها الله.
وفي ظل واقع مثل هذا إذا كنت مصيباً في رسم المشهد، فمن المتعذر أن نجد من يصغي إلى صوت العقل أو الفكر أو من يتفهم خطاباً إصلاحياً قد يبدو معقداً لقيامه على دراسات متعمقة للجوانب المختلفة في عالم اليوم. وتذكرني أمتنا اليوم بما يجري في حلبات مصارعة الثيران، فالمصارع الذي يأخذ لقب البطل بعد الإجهاز على الثور يبدأ خطواته الراقصة أمام الثور حتى يهيجه ويستفزه تمام الإستفزاز، فإذا تم له ما أراد بدأ يستدرجه لينطح في قطعة قماش حمراء ظناً منه أنه إنما يستفرغ طاقته في القضاء على المصارع الذي استفزه، وأثناء ذلك يستغل المصارع وأعوانه الفرصة لإرسال السهام الكثيرة في جسد الثور الذي لا يلبث أن تُستنزف دماؤه وتخور قواه ويتهاوى إلى الأرض والمتفرجون عن بعد يظنون أن المصارع قد صرع الثور. وإقناع الثور وهو في حال الهياج أنه مخطئ في الانشغال بالخرقة عسر فماذا نفعل؟
لقد أتت هذه الأحداث بعد ارتخاء أعصاب كثير من الحركات الإسلامية الكبرى وتخفيف رغبتها في مواجهة الأنظمة وقناعتها بالمشاركة الجزئية التي فيها خير. أضف إلى ذلك انخفاض درجة الجفوة أو العداء بين الإسلاميين والوطنيين وبداية اجتماعهم على مسائل ومواقف متقاربة. والذي نخشاه أن تكون الأحداث قد فجرت عتبة صبر الشاردين المتواجدين على هوامش الحركات الإسلامية الذين يغازلهم دوماً حلم الحلول النهائية اللحظية ومنطق حرق المراحل؛ وأن تكون قد غذّت مناخاً يستطيعون فيه اجتذاب شباب متحمس ملّ الذل الداخلي والخارجي ولا يمتلك بصيرة أو فهماً عالمياً للإسلام.
إن الله عز وجل حين نسي اليهود رسالة موسى وأدخلوا فيها من التحريف ما جعلها تفقد تأثيرها أرسل لهم عيسى ليصدق عليها وينقد ما حدث ويعيد بناء روح الشريعة العتيقة. ولما قضى الله عزّ وجلّ أن لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم فإن مجتهدي الأمة ومجدديها هم المطالبون بأن يقوموا بمثل الدور الذي قام به المسيح في بني إسرائيل. وإذا لم يحدث هذا فإنني أخشى أن لا يطرق التاريخ أبوابنا مرة أخرى قبل مضي قرن من الزمان أو أكثر. وإنني واثق أن الأولوية الأولى والثانية والثالثة ينبغي أن تعطى لرد الناس إلى القرآن رداً جميلاً وجعله من جديد مركز تفكير المسلم ومنطلقه ومصدر التصديق والمراجعة لكل تراثه، بما في ذلك السنة النبوية المطهرة. ينبغي أن يحال كل شيء إلى كليات القرآن ومقاصده، وأن لا تتخذ آياته شواهد معضَّاة يستشهد بها من يريد ساعة ما يريد ولتعزيز ما يريد، بل ينطلق من القرآن بكليته وبوحدته لتصحيح المسيرة وبناء الحياة. أما كل ما عداه فالقرآن هو الحكم فيه، يؤخذ بما يتفق مع آياته وكلياته وروحه ويتم تجاوز ما لا يتفق معه في ذلك.
إن القرآن وحده هو القادر على صياغة خطاب عالمي مناسب والخطاب في الداخل الإسلامي، وما لم يهيمن القرآن الكريم على السنة والسيرة ثم الفقه والأصول والحديث والعقيدة، فإن أية محاولة إصلاحية تقوم سوف تمتصها الأواني المستطرقة وتقضي عليها ولو بعد حين.
والله تعالى أعلم.
صفر 1423 هـ / 05-2002