في زمن الفتنة

144

في زمان الفتن حيث يمعن أعداء الإسلام في محاولاتهم للتضليل والتشويه ويوظفون لأداء هذه المهمة القذرة من أتقن نبش القبور وإثارة ما عفى عليه الزمان من ثارات التناحر على النفوذ والمغانم في تاريخ المسلمين، يتوجب على كل مسلم غيور أن يعيد نظرته إلى التاريخ لضبط المرجعية والهوية والتبرؤ من التجاوزات والمبالغات والشذوذات.

في زمان الفتن يتوجب على كل مسلم أن يستحضر كليات القرآن والسنة وأن يتواصل مع أحداث السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين؛ فينكشف عوار التضليل والتشويه ويستشعر المسلم اعتزازه بدينه وقيمه وأنه صاحب رسالة إنقاذ ورحمة للعالمين. ولا يتسرب إليه الشعور بالدونية والهوان أو الشعور بالذنب والإثم والمسؤولية عما تقترفه أيدي الغلاة المجرمين.

ومن هنا سأحاول تسجيل بعض ما جال في النفس وأنا أتفكر في محاولات التشويه وما تثيره في النفس من تطلع إلى معاني القدوة والأسوة في سيرة النبي الكريم وما تؤصله من مبادئ وأصول.

{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34]

قررت ملكة سبأ هذه الحقيقة الإنسانية فيما تؤول إليه صراعات البشر على النفوذ والجاه والسلطان. وأقر الله سبحانه هذه الحقيقة الواقعية بقوله “وكذلك يفعلون”. فالفساد يدخل على أهل القرى بتغيير ميزان الشرف والسيادة الذي تصنعه أعراف التكافل والتناصر والقربى، إلى ميزان آخر يعتمد القوة الغاشمة والتسلط بالقهر والعدوان.

عندما بعث الله سبحانه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، كذبت قريش وتعنتت وسلطت الأذى والفتنة على المؤمنين حتى اضطروهم إلى الخروج من ديارهم. ولما هاجر النبي الكريم إلى المدينة كانت قريش تؤلب على النبي القبائل وتجمع وتحشد لتستأصل شأفة الدين الجديد وتقضي على أتباعه. ولكن الله تعالى أراد لهذا الدين أن يظهر ويكتمل، وتوالت الأحداث حتى وصل النبي صلى الله عليه وسلم أطراف مكة بجيش عظيم من المؤمنين استعداداً للفتح الكبير.

استعرض زعيم مكة أبو سفيان طرفاً من جيش المسلمين في طريقهم إلى مكة فالتفت إلى العباس وقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فرد عله العباس قائلاً: إنها النبوة يا أبا سفيان.

وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأرسل منادياً ينادي في أهل مكة: من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وفي هذا الإعلان بيان واضح أن محمداً لن يدخل مكة دخول الملوك بل سيدخل دخول الأنبياء ليحطم الأوثان ولا يعبث بنظام السيادة والشرف الذي تستقر به أحوال الناس فلا يتطرق إليها الفساد. لقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع نظام القبيلة والعشيرة بما يضمن سكون الناس واطمئنانهم إلى أن الوضع الجديد لن يهدم منظومة السلم الأهلي الذي تعارفوا عليه. وأن الوضع الجديد يقر ما ثبت صلاحه فيهم ويهدم ما ثبت ضرره لهم. لقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن دماء ثارات الجاهلية ليس لها اعتبار، وأن ربا الجاهلية ليس له اعتبار. ونادى في بني شيبة ليسلمهم مفاتيح الكعبة ويقول هذا يوم الوفاء وليفهم أهل مكة الذين عاندوا وكذبوا واستحقوا عقوبة الفاتح المنتصف أن محمداً لن يدخل دخول الملوك بل سيدخل دخول الأنبياء الذين لا يرتبط انتصارهم بالفساد والإذلال لأهل الشرف والمكانة، فآمن أهل مكة جميعاً عندما أدركوا أن محمداً لا ينافسهم بل جاء لينقذهم من السفاهة التي تورطوا بها ويقر ما تعارفوا عليه محاسن العادات ومكارم الأخلاق.

لما دنا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وأدرك أهلها أن لا طاقة لهم بلقاء جيش المسلمين، لاذ بالفرار بعض من بالغوا في الأذى والكيد للمسلمين لما توقعوه من العقوبة والانتقام لما كان منهم. وكان من بين هؤلاء سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل. استأمنت زوجة سهيل وزوجة عكرمة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجيهما فأمنهما. وانطلقت المرأتان وراء زوجيهما لتشجيعهما على العودة ومقابلة النبي الكريم بعدما أدركوا أن محمداً صنف آخر من الفاتحين لا يذل عنده عزيز.

   لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم سهيل التفت إلى أصحابه ممن كان معه وقال: يأتيكم سهيل بن عمرو فلا يشدّنّ أحدُكم النظر إليه. لقد علّم النبي الكريم أصحابه أن نظرة محملقة متشفية تذكر بأضغان الماضي وحمية الجاهلية، قد تصد هذا الرجل الشريف في قومه عن الإيمان وتعين عليه الشيطان فتأخذه العزة بالإثم.

ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم عكرمة التفت إلى أصحابه ممن كان معه وقال: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل فلا تسبوا أباه، فإن سبّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت. لقد علِم النبي الكريم أن مداخل الشيطان على ابن آدم متعددة متنوعة وقد يكون أحدها الانتصار لشرف العائلة وكرامة الآباء والأجداد. فنهى أصحابه عن سب طاغية من طواغيت الكفر لأن السب يهيج أحقاد الماضي وآلامه ولا يبني الوشائج ولا يفتح القلوب للإيمان.

لقد علـّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن المسلم ناظر أبداً إلى المستقبل بأمل وثقة بالفطرة الإنسانية، ولا تستهلكه آلام الماضي ومظالمه، بل يتجاوزها وهو يعلم أن ما عند الله من الأجر للصابرين المحتسبين الذين ثبتوا على الإيمان والتزموا بمقتضياته أضعاف أضعاف ما يجده المتشفي من لذة الغلبة والانتصار. وعلّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن المسلم حريص على أن لا يكون حاجزاً بين الناس وإقبالهم على الإيمان ولو بأدنى ما يُـتصور من الموانع وما يحرّض على الصدود، ولو بكلمة عابرة أو نظرة يفهم اللبيب معناها ومغزاها ويكون نتيجتها الصد عن سبيل الله. فالمسلم يحزنه إعراض الناس عن الإيمان وهو دائم الاهتمام بما ينقذ الناس من غفلتهم كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: “إنكم تهافتون على النار تهافت الفَـراش وأنا آخذ بحُجُـزكم”.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم انساحت جيوش الفتح في بلاد الشام والعراق ومصر وخضعت شعوب البلاد المفتوحة لسلطان المسلمين. وتصرف الفاتحون العرب عند دخولهم الأمصار بوحي من دروس النبوة فلم يدخلوا على البلاد دخول الملوك بل دخلوا دخول ورثة الأنبياء. ويستغرب المرء أن الذين كتبوا تاريخ تلك الفترة من تاريخ الفتوح لم يلتفتوا إلى توثيق هذه الناحية المهمة من حياة الشعوب في المناطق المفتوحة وما أدخل الفتح على حياتهم من تغيير. وكان اهتمامهم منصرفاً إلى تسجيل الانتصارات العسكرية على جيوش الروم والفرس، أما حياة الناس في المدن والأمصار والقرى فلم تأخذ منهم ما تستحق من اهتمام، أو لعل استمرار الحياة والنظام الاجتماعي على ما كان عليه قبل الفتح لم يثر ما يستحق التسجيل والتدوين. وقد أشار المؤرخ “غوستاف لوبون” إلى هذه الحقيقة بقوله: “لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب”، ولكنه لم يتوسع في بيان هذه الرحمة وارتباطها بنموذج النبوة وتأسي الفاتحين بها.

أما المؤرخ الأمريكي “لابيدوس” فقد ذكر في كتابه (تاريخ المجتمعات الإسلامية) بعض التفصيلات المهمة عن سياسة الخليفة عمر بن الخطاب في إدارة شعوب البلاد المفتوحة بما يلقي الضوء على سبب اليسر والسهولة والسرعة التي تميز بها انتشار الثقافة العربية والدين الجديد بين أبناء الشعوب في المناطق المفتوحة.

ذكر “لابيدوس” أن سياسة عمر بن الخطاب كانت تتميز بالابتعاد عن التدخل في شؤون سكان البلاد المفتوحة وخاصة في أمورهم الدينية وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية. فمنع توزيع أراضي على الفاتحين وأبقاها في أيدي أصحابها من المزارعين. وأبقى على نظام جمع الضرائب بيد الدهاقين واستبدل النسبة التي كان الفلاحون يدفعونها والتي كانت تبلغ نصف المحصول إلى الخراج أو العشر. وقد اختط عمر المدن الجديدة في الكوفة والبصرة والفسطاط وغيرها لاستيعاب جنود الفتح لتأمين النقاء الديني والثقافي واللغوي لقبائل العرب المهاجرين، وللتقليل من مضايقة سكان البلاد في معايشهم ومساكنهم. وقد أصبحت هذه المدن الجديدة مراكز اشعاع حضاري وثقافي وديني جذبت سكان البلاد المفتوحة إليها، واُنجزت عملية الاندماج الثقافي لسكان البلاد بشكل تدريجي وتعربت لغة الثقافة حتى تبوأ كثير من الموالي (سكان البلاد المفتوحة) مراكز علمية مرموقة في المجتمعات الإسلامية عبر العصور.

لقد كان نموذج فتح النبوة هو النموذج الغالب في انطلاق جيوش الفتح في العصر الأول. ولكنه مع مرور الوقت اتسم تغلب جيوش المسلمين بشيء من فساد الملوك بالقهر والإذلال والإكراه وخاصة عندما صار الاقتتال داخلياً وتناحراً على النفوذ والمغانم والسلطان. وسجل التاريخ صوراً من شناعات الفساد والتشفي والإكراه لا تتصل مع نموذج النبوة بقرابة أو نسب. وفي زمن الفتنة حيث تكثر أصوات الذين يحصرون أنفسهم في صفحات سوداء من تاريخ الأمة ويترجمون ذلك جلداً للذات وشعوراً بالدونية والهوان، استجابة لتصرفات خرقاء ممن يرفع شعارات وأسماء إسلامية بلا مضمون أو مصداقية أو مرجعية. وتظهر أصوات مشبوهة موتورة لتزعم أن هذه التصرفات الخرقاء هي ديدن المسلمين في تاريخهم الطويل في تعميم ظالم جاهل لتحقيق مآرب الفتنة في دفع المسلمين للتخلي عن الاعتزاز بدينهم واعتباره أصل مشكلتهم ومعاناتهم.

لا بد من الكف عن جلد الذات أو استشعار الهوان والدونية مما يصنع الغلاة المتنطعون المحسوبون على الإسلام. وأغلب الظن أنهم متورطون في تنفيذ ما يريده أعداء الأمة بتوجيه منهم وإمداد بالسلاح والمال (فمن ثمارهم تعرفونهم).  ولا بد من التأكيد على أن المسلم الملتزم بنموذج النبوة ما يزال يمثل الأمل للإنسانية التي تعاني من تجبر النظام الدولي وما يدخله على المجتمعات من الفساد وخلخلة النظام الاجتماعي وتعميق الفروق بين قلة من الأغنياء وجماهير عريضة متزايدة من الفقراء. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.