مفهوم الكفاية كاستراتيجية للأمة
درج الفقهاء على تقسيم الفرائض الواجبة على المكلفين إلى فروض عينية بمعنى أنها تجب على كل فرد، وإلى فروض كفائية بمعنى أن هناك في الأمة حاجة و وظيفة فمن قام بما يسد الكفاية في هذه الحاجة فقد حقق الأمر وسقطت هذه الفريضة عن مجموع من كانت واجبة عليهم. فالصلوات الخمس والصوم والزكاة أمثلة على فروض العين التي تجب على آحاد المسلمين بدون تفريق. ويمثلون على الفروض الكفائية بالقيام بحقوق الميت من غسل ودفن وصلاة الجنازة في باب العبادات، و يمثلون بوظائف الإمامة والقضاء والتدريس والفتوى وما أشبه ذلك في الأبواب الأخرى. ويلاحظ المتتبع لمعنى الكفاية في كتب التراث أن هذا الأمر أصبح ضامراً مقتصراً على بعض الأمثلة في باب العبادات وغاب المعنى الاجتماعي أو الوظيفة الاجتماعية لمفهوم الكفاية و الذي يعني أن تكتفي الأمة بما عندها من الخبرات والمهارات بما يمكنها من القيام بواجباتها و وظائفها و ترتكس بشكل طبيعي للعوارض والمؤثرات الخارجية أو الأمراض والثغرات الداخلية.
وإذا أمعنا النظر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”. لوجدنا أن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بالجسد يعطي آفاقاً جديدة لمعاني بعض المصطلحات النبوية التي عبر بها صلى الله عليه وسلم عن بعض أمراض الأمة وما ستبتلى به في مستقبلها مثل “الوهن” الذي يعني بالنسبة للجسم البشري الضعف و العجز عن القيام بالوظائف الطبيعية الحيوية للأعضاء مما يجعل الجسم لا يرتكس و لا ينفعل بشكل صحي طبيعي للظروف المحيطة والتحديات الطارئة داخل الجسم وخارجه على حد سواء . فإذا فهمنا ” الوهن ” كمصطلح نبوي في إطاره الاجتماعي علمنا أن البعد عن الكفاية هو الوهن والعجز والكسل الذي يضرب الأمة فتفقد قدرتها وارادتها وحريتها وتفقد امكانية القيام بما يكفيها في أساسيات وجودها، وتفقد الخبرات والمهارات التي تحميها من العوارض الخارجية أو الأمراض الداخلية. فالعجز يعني انعدام القدرة على القيام بالواجبات والأعباء والمهمات، والكسل يعني انعدام الإرادة لاستعمال ما توفر من القدرات والامكانيات
لقد كان واضحاً أن المحاولات الاستعمارية الدائبة تجرد الأمة من عناصر وجودها وما بقي لها من عناصر مقاومتها ويجعلها عالة في كل حاجاتها الاساسية لا تستطيع القيام بما يقوم به الجسم الطبيعي الحي من الوظائف. فتجريد الأمة من أساسيات الأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن السكني وما شابه ذلك أصبح ضامناً أكيداً لاخراجها عن إرادتها وإرغامها على التوجه إلى غير ما تريد.
لقد خفي هذا المعنى من الكفاية والإعداد للكفاية وغاب حتى عن الدعاة والعاملين للاسلام . وحتى الحركات الوطنية التي تصدت لطرد المستعمر من البلاد كان الاهتمام بالكفاية بهذا الشمول غير وارد بالنسبة لها، فلم يعد يغني الأمة غياب المستعمر بشكله العسكري عندما فقدت الكفاية في كل أساسيات حياتها وخاصة الأمن الغذائي. وقد ظهر للعيان خطورة هذا الأمر وأصبح مجرد التهديد بالمقاطعة كافياً لإحداث الضغط الكافي لاخراج الأمة عن قناعاتها المبدئية. ويكفي أن يطلع المرء على تقارير الاحصاء عن طبيعة البضائع المستوردة إلى جميع بلاد العالم الاسلامي ليتعرف على الحقيقة المؤلمة أن الاكتفاء بالغذاء والدواء والكساء هو الحالة الشاذة في العالم الاسلامي.
ومن اطلع على بعض تفصيلات شروط معاهدات الصلح وشروط القروض التي تنهال على بعض البلاد الإسلامية علم أن بعض هذه الشروط يكاد أن يفقد الشعب قدرته على تغذية نفسه. فبالقرار الرسمي الحكومي يمنع الفلاح أن يزرع القمح، بل يجب عليه أن يزرع القطن، ويخشى المرء أن تنقرض وتنمحي تقاليد وأعراف وخبرات وصناعات زراعة القمح في ذلك البلد، لأن مرور جيل من الناس لم يروا في حياتهم مزرعة قمح ولا عرفوا كيفية زراعته وحصاده ودراسته وتخزينه … يجعل الأمة بحاجة إلى من يطعمها إلى الأبد، وتفقد حرية القرار السياسي للمدة الكافية لفراغ مستودعات الدقيق المستورد التي لا تمتد لمدة أسبوع واحد على الأكثر.
وكذلك فإن السياسات الاقتصادية الوطنية ربما تساهم عملياً في زعزعة الكفاية في الأمن الغذائي ركضاً وراء المنفعة العاجلة. فمثلاً تستبدال زراعة القمح بزراعة التبغ، ويكون سبب هذا التحول ترتيب استيراد القمح الرخيص بحيث لم يعد الفلاح قادراً على تغطية تكاليفه بالأسعار الموجودة للقمح المستورد، مع وجود نظام جمركي يفرض بعض الرسوم على التبغ فأصبحت زراعته مربحة ومجزية. و نتيجة لهذا الدافع الاقتصادي بوضع ضريبة هنا ورفعها هناك حرمت الأمة من موضوع كفاية أساسية جداً والتي تشل المجتمع ككل على المدى البعيد أن يكون قادراً على امتلاك حرية القرار السياسي لفقدانه الأمن الغذائي لأكثر من مدة أسبوع واحد.
وهناك أمثلة أخرى في العديد من بلاد العالم الاسلامي والتي تشير إلى وجود هذا الأمر الخطير. ولكن المقلق حقاً عدم وجود فهم لهذه الحقيقة وأبعادها العملية على مستوى الاسلاميين عندما يطرحون المشكلات أو يرفعون الشعارات العامة التي يريدون أن يحركوا الأمة بها في اتجاه طريق للخلاص. فليس الأمر موضوع شعار دعائي ولكن المشكلة تكمن في تخلف الطرح الاسلامي عن تصور حقيقة الواقع بما يضع الأمة بجدية عند واجباتها، فليس الطرح الاسلامي دغدغة للرغبات الاستهلاكية وتلويحاً بالحقوق و المكاسب، بل يجب أن يكون تحريضاَّ لكل ما يعني المسؤولية والجدية في امتلاك الخبرات و المهارات وكل ما يتطلب التعب والنصب ومقاومة الضغوط والتحديات لتقف الأمة على رجليها قادرة على كفاية نفسها في الأساسيات ثم تتوسع الأمور بعد ذلك إلى الحاجيات والكماليات.
إنها ثغرة كبيرة في فهم التدين أن نبدأ بالحرص على التحسينات والكماليات من شكليات العبادات وأواخر ما يمكن أن يعد من الأولويات، حتى إذا وصل الأمر إلى الأساسيات في حفظ النفس أو حفظ العقل أو حفظ الدين يكون الغياب كاملاً وليس عندنا ما نقدمه للأمة من خلال مفهوم الكفاية.
يجب أن تكون الكفاية هي المحدد لمجالات التغيير ومجالات الانتقاء والأخذ والرد من الاحتمالات المطروحة. ورغم أهمية هذا الأمر لا أجد الكثير ممن يتنبه لوضع استراتيجية وخطة شاملة في طرح البديل الاسلامي ومخاطبة الجماهير. ولقد غلب على الطرح الاسلامي في خطاب الجماهير موقف الرفض الكلي لأوضاع وسياسات الأنظمة والحكومات لأن مثل هذا الطرح هو الذي يعبّر عن الغضب أكثر مما يعبّر عن الجهد لإيجاد رؤية بديلة. حتى أن بعض من يوصف بالإسلاميين ليتورط أحياناً في دغدغة رغبات استهلاكية فتراهم يشاركون العامة نقدهم افتقاد الدولة للكماليات ، مع أن ذلك مخالف لقناعات المسلم المبدئية. إن دغدغة حاجات الناس إلى استهلاكيات ترفيهية لا علاقة لها بمفهوم الكفاية لكسب موقف في تأليب الناس على الحكومات هو تكتيك سياسي رخيص يشير إلى أن البعض ليس عنده وضوح في مفهوم الكفاية، كما يدلّ على أن الطرح الاسلامي العملي في خطاب الجماهير وخطاب الأنظمة لم يرقَ إلى مستوى الواجب الذي ينتظر من يقوم به توضيحاً لمجالاته ورسماً لتوجيهاته وسياسياته العملية.
يجب أن يقدّم الحل الاسلامي طرحاً جهادياً بمعنى أننا ندعوا الجماهير للبذل والعمل الجاد ولا ندعوهم إلى الاسترخاء، ندعوهم لاكتساب الخبرات والمهارات وضبط النفس عن الانزلاق إلى الاعتياد والإدمان لاستهلاكيات ومنتجات مستوردة بدون تمييز، وفي مقابل الصعوبات الاقتصادية للأنظمة لا نقابل الجماهير بالدعوى العريضة بأن الاسلام يحل مشاكل تخلفهم بطريقة سحرية. فالحل الاسلامي سيواجه عملياً من الصعوبات والعراقيل مالم يعرفه الناس من قبل، وأبسط أنواع هذه العراقيل المقاطعة الاقتصادية العالمية. و لا بد لمن هو جادّ في خدمة أمته أن يدرس كيف يواجه مثل هذا الاحتمال.
إن التفكير الجاد في موضوع الكفاية يجب أن يشكل البديل عن استراتيجيات الكسب السياسي للحركات الاسلامية التي تندد بالأنظمة وتطرح الاسلام الشمولي بدون أي إعداد على هذا الصعيد. ويجب أن نعلم أن شعباً لا يغذّي نفسه لا يستطيع أن يستقل بقرار، وأن غياب استراتيجية في وضع الأولويات فيما يتعلق بالكفاية ومنهج الإعداد لها يشكل أخطر ثغرة في طريق ترشيد مسيرة الأمة.
إن القضايا الأساسية في التنمية مثل سياسة الأراضي وسياسة الاجور وقوانين العمل وحوافز الإنتاج وحوافز الإتقان ومشكلات التمويل وتأمين فرص العمل وغير ذلك من المشكلات هي التي يجب أن تكون في أذهان من يفكر بالبديل.
إن طريقة الخطباء في الحديث عن مآثر السلف والإيهام بأن الإسلام يحل المشكلات بطريقة سحرية، لا شكّ أنها تسكر الجماهير وتهزهم طرباً ولكنها لا تجعلهم يلمسون الواقع السخيف الذي تعيشه الأمة. فما من شيء وطني إلا ويمثل رمز المهانة التي يجب أن يتبرأ منها الوجيه و ذو المكانة الاجتماعية، والبلدي منقصة، أما المستورد و الافرنجي والاوروبي فهو رمز الاحترام والقبول ومدعاة الفخر لمقتنيه، ويلمس المرء توجهاً مرعباَّ يمسخ هوية الأمة واعتزازها بذاتها ومقدرتها على الاعتماد على نفسها في سدّ حاجاتها، والكل متورط في هذا التوجه إلى حد الادمان . بل على العكس عندما كانت بعض التدابير الاقتصادية تهدف إلى حماية الصناعة الوطنية تجد البعض يدافع وينافح عن التهريب وأنه حلال وينحدر إلى مستوى المصالح الشخصية الأنانية.
إن المشروع الاسلامي في خطاب الجماهير لرفع الأمة من تخلفها وضعفها يجب أن يضع موضوع الكفاية في صلب المشروع واستراتيجيات النهضة، ومنطق الأشياء يدلنا على أنه لم تتمكن حركة من الحركات أو دولة من الدول من الوقوف في وجه التحديات العالمية إلا وهي تستند إلى حد أدنى من الكفاية والأمن الغذائي والأمن في الضروريات.
لقد وقعت الأمة بما يمكن تشبيهه بحالة الإدمان وأصبح الناس لا يشعرون بالارتياح والاطمئنان والتوازن والاستقرار إلا بجرعات من مستوردات واستهلاكيات الغرب وكمالياته، وأصبح عيباَّ وتخلفاَّ ومدعاة للسخرية والاستغراب أن يفكر المرء باستعمال ما يربطه بهوية بلده ووطنه. وسيطر على الناس الشعور بالدونية والعجز وفقدوا القدرة على التفكير بما آل إليه حالهم في ظل الاعتماد على المستورد تماماً كما يعتمد المدمن على جرعات الافيون ويجد نفسه عاجزاً عن مقاومة ضغطها على أعصابه وعقله وإرادته. إن نشر ثقافة الاستهلاكيات والمستوردات هي نشر للأفيون المدمر لاقتصاد الأمة وذاتيتها وهويتها وقدرتها على التفكير بالاعتماد على النفس والصبر على متطلبات الكفاية.
إن هناك عملية غسيل دماغ ايديولوجي لاقناع الناس أن هناك حاجات لا يمكن للانسان أن ينفك عنها … وكلها تدور حول مستوردات ومنتجات ثقافية غربية. إن استدعاء النموذج الغربي للحياة وإغراء الناس به على أنه المثال الأعلى والأفضل من خلال الدعاية والهيمنة الامبريالية على وسائل الاعلام يشكل التحدي الاساسي والعقبة الكبرى في وجه المشروع الإسلامي في الكفاية ومعالجة التخلف.
بعض آفاق الكفاية
من الملاحظ خصوصاً أنه ليس عند الحركة الاسلامية تصور عن مفهوم الكفاية في مجال التعليم والسياسة التعليمية. فالمفروض أن نعلم كيف نؤهل الانسان ليكون منتجاَّ فعالاَّ ضمن منظومتنا الفكرية ومنظومتنا الاقتصادية والثقافية، ولا يجوز أن يكون الانسان منتجاَّ في إطار منظومة اقتصادية أجنبية يعتمد كلياَّ على التعامل مع المواد المستوردة. وعلى سبيل المثال يؤهل المهندس في جامعات العالم الاسلامي ليكون قادراَّ على التعامل مع المواد المستوردة و لا يمتلك المقدرة على تطوير المواد المتوفرة و ضبط جودتها محلياً. وقد عجز الاسلاميون عن طرح البديل العلمي والعملي لحل أزمة السكن وعجزوا عن معرفة التوجهات التي تفتح باب الأمل والكفاية في هذا المجال الخطير.
وعلى سبيل المثال عمل المعمار المصري حسن فتحي على تصميم أبنية جميلة تحقق متطلبات البيئة بمواد بناء محلية وذلك في مشروع إعادة بناء إحدى قرى صعيد مصر. وأبدع نماذج جميلة جداَّ محققة للغاية إذا تبنيناها كسياسة عامة فستنخفض كلفة حل أزمة السكن إلى حد بعيد. ومع ذلك لم يلتفت إلى هذا المشروع كنموذج يمكن طرحه لحل مشكلة السكن في الأرياف التي تشكل نسبة عالية من عدد السكان لتخفيف الضغط على المدن. فالمدن بطبيعتة منشآتها تتطلب مواد بناء أخرى والتي يجب أن تدرس وتطور للتخفيف من الاستيراد وزيادة الاعتماد على المواد المحلية وهذا ممكن. فسياستنا في التعليم الهندسي وأولوياتنا في التعليم يجب أن تنطلق من هذا الإطار.
وإذا نظرنا إلى الواقع الطبي نجد تخلفاً مزرياً في تأمين الحد الأدنى من الكفاية، ويبدو واضحاً أن تكاليف ومتطلبات هذه الكفاية إذا وضعت في إطار نظام مستورد من مجتمع اخر ذي خلفية ثقافية واقتصادية مختلفة يجعلها غير قابلة للتحقيق. فلا بد من التفكير في نظام يؤمن الكفاية الطبية بالاعتماد على توجه محلي للخروج من التكاليف الباهظة لاعداد وتغطية الحاجات الأولية على الطريقة الغربية.
وقد نشرت مؤسسة “اليونيسيف” مؤخراً كتاباً عن الأمراض الأشد فتكاً بأطفال العالم، وأشار الكتاب إلى أن طرق ووسائل معالجة هذه الأمراض والوقاية منها متوفرة ميسرة، ولكن العقبة الكبرى في وجه امكانية حل هذه المشكلة يكمن في كيفية توصيل هذه المعلومات إلى الأمهات. فلابد من توجه لتأمين متطلبات الكفاية ابتداء من العادات الصحية وتدابير الوقاية وترتيبات العلاج المبكر ثم التفكير في نظام يؤمن الخدمة الخدمة الطبية على المستوى العام بكفاءة وباعتبار الخلفية الثقافية الاقتصادية للأمة.
إن الخطاب الاسلامي للأمة يجب أن يخرج من اطار الترف الفكري والنظريات التي لا تعيش مع واقع المعاناة اليومية وهموم الأمة، ويبدو أن مثل هذا التوجه هو الذي أتاح للحركة الاسلامية في مصر أن تتمتع بمكانة ومصداقية من خلال المبادرات والمساهمات في معالجة هموم الأمة وخاصة عقب زلزال القاهرة سنة 1993 أو المستوصفات والعيادات الملحقة بالمساجد وغيرها من المشاريع الخيرية الاجتماعية. ولنفس السبب تمكنت حملات التنصير من التأثير على مناطق من العالم الاسلامي من خلال استغلال ثغرة في ضرورات التعليم والعلاج الطبي.
ومما يبعث على الأسى أن مجالاً كالطب في مصر تتوفر – وتوفرت – له أفضل الظروف “لتمصير” العلم والتكنولوجيا لم تتحقق فيه الاستفادة من التكنولوجيات التقليدية البالغة الثراء والآخذة في الاختفاء مع سيادة نموذج التكنولوجيا الحديثة في العلاج. ففي مجال كالولادة على سبيل المثال لا يعترف الاطباء الممارسون بالدايات – رغم أنهن ولأسباب اجتماعية وثقافية يؤدين هذه الخدمة للسواد الأعظم من أفراد المجتمع، فثمانين بالمائة من حالات الولادة تتمّ عن طريقهن- ويتركونهن وشأنهن يؤدين عملهن تحت الأرض ولا يتعاملون إلا مع الأخطاء المميتة التي تأتي إليهم عندما تفشل الدايات في بعض حالات الولادة المتعسرة والتي يتخذونها مبرراً إضافياً للهجوم على الديّات ومطالبتهم السلطات بمنعهن من ممارسة المهنة.
إن من الممكن تحسين طرق متابعة الأم في المرحلة الأخيرة من الحمل ولتسهيل الولادة الطبيعية كما يمكن تقسيم العمل بين الدايات (مع تزويدهن بالإرشادات الصحية المناسبة والأجهزة التي تسهل أدائهن للعمل) والأطباء الممارسين والاخصائيين وفقاً لحالة الولادة، إلا أن الطابع الصراعي للتكنولوجيا الحديثة – بما تحمله من سمات تنظيمية وقيم غربية- يمنع قيام علاقة تعاونية تكاملية مع الطب الشعبي!
وإذا نظرنا إلى الأمية نجد أن نسبة الأمية تصل إلى نسب عالية جداً في بلاد العالم الاسلامي ويعجب المرء أن شعار محو الأمية لم تطرحه الحركة الاسلامية ولم تتوجه إليه وكأن الكتاب الذي بدأ بكلمة ((اقرأ)) نزل على غير هذه الأمة وحرّك ضمير شعوب أخرى لتؤمن الكفاية في وسائل إشاعة القراءة. ولابد من إعادة النظر إلى الكفاية الإدارية والتنظيمية، فليس من المعقول أن ينتج العامل أو الموظف عندنا في عشر ساعات ما ينتجه العامل في الحضارات الأخرى بساعتين فقط. ولابد من توسيع معنى الكفاية ليشمل خبرات الأداء ومعرفة طرق التعامل مع المادة والبيئة من حيوان ونبات، وهو المعنى الذي يلخصه مصطلح التكنولوجيا. فهناك تقنية معقدة وغالية جداً، وبالمقابل هناك “تقنية ميسرة” (Appropriate Technology) يمكن أن امتلكها بامكانيات متوفرة محلياً وذات فعالية لا بأس بها ويمكن أن تضع الأمة بجد على طريق النهضة بدل انتظار حلول يقدمها “الخواجة” ليكرّس تواكل الأمة وعجزها ويكرس استنزاف طاقاتها لما وراء الحدود.
وقد يعرض إشكال مفاده بأن الاسلاميين إذا تحركوا بهذا الاتجاه فقد يقال أنهم في هذه الحالة يمدون من عمر الأنظمة الظالمة التي تعارض الأمة. فنقول أن الأمة جسم حي، وعملية البناء لا تتم بين عشية وضحاها وأنما هي عملية متواصلة تأخذ مجالها في التجربة والخطأ واكتساب الخبرات ومن الواجب أن تطرح توجهاً يتسم بالصدق مع النفس ونعلم جيداً أن أول من يعارض ويقف في طريق هذا التوجه هم الكذابون المنتفعون من الواقع الفاسد والفساد السياسي. يجب أن نفتح باباً من الأمل للأمة التي بلغت حد اليأس. فلو كبت الناس في بيوتهم فإن عليهم أن يعلموا أن من واجبهم اكتساب خبرة ما يوظفونها يوماً في طريق الكفاية فبهذا نكون قد بدأنا طريق اكتساب الخبرات وتشكيلها بعيداً عن الجعجعة والادعاء بدون صبر على مقتضيات الإعداد. وبعد هذا استفادت السلطة أو استفاد النظام أو لم يستفد فالأمر على المدى البعيد هو في صالح الأمة وكما يقول العقاد رحمه الله: “مهما تكن السياسة فالعقيدة أقوى منها ومهما تكن السلطة فالأمة هي الباقية”.
أما عقلية الشحّ بالخير وما ينفع الناس إذا لم يُضمن الكسب السياسي من ورائه فهذا كله يؤكد التخلف والعجز والوهن والكسل، وتشكل الحزبية غشاء رقيقاً ساتراً لواقع تأكيد التبعية والقضاء على الامكانيات المحلية وإحالة العجز إلى مبرر خارجي موهوم. إن انهيار المجتمع يسبق انهيار الدولة، والنظام الفاسد هو حالة عارضة في مجتمع صالح وأمة حية تمتلك مقومات الوجود. إن دعوة الاسلاميين إلى توجه الكفاية وقيامهم على تأمين متطلبات الفكرية والأخلاقية يشكل البرهان على أهليتهم للحياة واستحقاقهم لكرامة التمكين في الأرض: ((ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغاً لقومٍ عابدين، وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)).
ذو الحجة 1424 هـ / 04-2004 م