مقاربة لتجربتي الجزائر والثورة السورية

131

عشتُ في الجزائر مرحلة الطفولة والشباب، وكان مما عايشته واقعاً، الصدام المسلح الذي اندلع بإلغاء انتخابات البرلمان سنة 1991 بعد الدورة الأولى، التي فاز فيها حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية بالأغلبية، فدخلت البلد في دوامة صراع دامي خلف أزيد من ربع مليون ضحية.
بالنظر إلى تلك الأيام، وبعد تتبع متواصل للكتابات حولها فيما بعد، أستطيع أن أزعم أن النتيجة الأولى كملاحظة تتعلق بالذات قبل الموضوع، ذات الملاحظ قبل لحاظ موضوعه؛ فالمعايشة للقضية على مدار اليوم في الداخل لا يستلزم أن تكون رؤيتك موضوعية ومحايدة أكثر من المتابع من الخارج، فالمعايش منفعل وهو ذاته موضوع الموضوع السياسي.

فكثيراً من التصورات يومها كانت محصلة للتلاعب النفسي والتشوه الدعائي، كما أن كثيراً من المشاهد اليومية الفظيعة، كروتين في حركة الدورة الدموية، كانت تثير قضايا أخلاقية الطابع في وعي الجماهير تكون معها معادلات التعقيد السياسي للواقع يومها ذات صبغة قيمية ثنائية الفضيلة، تحسم بناءً على وقع صدمتها في الوعي الإنساني البسيط الموقف السياسي تجاه أطراف الصراع وموضوعه من خلال موضعة الموقف الذاتي في قطب الفضيلة المعبر به عن الحقيقة والصحة. وهذه نقطة نحتاج أن نحتفظ بها ونفحص نمط عملها لأنها ستعود بذاتها مع أطراف مختلفة ومعارضة للطرف الأول، ولكن بالآلية نفسها القيمية في التصور التخيلي للحكم على قضايا معقدة ومتشابكة جداً.

الأسباب الأولية المباشرة للصراع تشبهها في هذا الجانب تجربة مصر فيما بعد، ولكن صيرورة الصراع الدامية تشبهها حالياً تجربة سورية في الثورة على نظامها.
المشترك بين هذه النماذج الثلاثة وجود العسكر في بنية النظام الحاكم، جهاراً أو خفية، في مقابل وعي مدني شديد الحساسية للعسكر، وقابل للمصادمة بجنس ما يفهم؛ ولهذا عوامل عديدة تجعله قابلاً للتسلح من أهمها كون العسكر هم أنفسهم النظام ذاته في الاجماع الشعبي.
كتب راشد الغنوشي يومها مقالاً حول هيبة الدولة أم هيبة الشعب، وكان رأيه السياسي أن من يخوض مستقبلاً الغمار الانتخابي من القوى الشعبية الإسلامية يجب أن يتسلح بالإجابة عن سؤال ماذا هو فاعل إذا انقلب العسكر على نتائج الانتخابات؟ ومن لا يملك القوة ممثلة في الجماهير الهادرة التي كان – الغنوشي – متأثراً بضخامتها وصلابتها ويملك القدرة على التصعيد بما يحجم الدولة من التمادي في طغيانها، فلا يجب أن يشارك في اللعبة السياسية من أساسها، أي أنه يومها كان يرى شرعية العنف السياسي الجماهيري في دفع طغيان وتجاوزات الطغمة العسكرية بما يخالف ما آل إليه فيما بعد من استخلاص نتائج مغايرة!

كانت التجربة الجزائرية سابقة على الثورات العربية بعقد كامل، وهي متميزة عنها في جوانب ومشابهة لها في أُخر، يمكن رؤية منطلقاتها كمماثل لأسباب الثورات العربية، كما نستطيع قراءة سيرورتها الدموية كممثل لمرحلة الثورة المضادة من جهة طبيعة التعامل من الجماهير الثائرة.
الفرق المائز هو ما يشكل محرق اهتمامي هنا، ويتمثل في القوى الحاملة للفكرة في مواجهة القوة. فتجربة الجزائر كان فيها النظام يواجه قوة إسلامية واحدة تحظى بقدر من الشعبية العاطفية الضخمة، وهذا التركيب يستلزم أسلوب معين تمثل في عدم جعل الإسلاميين كتلة واحدة لتفريق القوة لديهم، حتى يسهل الاستفراد بالمعارض الحقيقي.

تفرقت القوى الإسلامية كل حسب مقتضيات المصلحة، وهذا يلفت الانتباه إلى قضية مهمة في السياسة كما في الشرع وهي: هل المصلحة واحدة في وعي الناس والقوى المنادية بها؟ أم أن المصلحة مصالح متفاوتة من جهة إلى أخرى؟
وهذا الافتراق يكشف لنا أن المصلحة تتباين عكسياً مع القيمة في أرض الواقع، وتحت سقف الخطاب الواحد نفسه، وذاك هو الاختبار الحقيقي.

تحكمت بالتجربة جدلية معقدة من الفعل ورد الفعل حتى غابت الغاية من الفعل الأصلي ذاته لدى الطرف المعارض على الأقل، أو تناساها طلابها وبعدت الشقة عنها، مما ألب الفعل إلى أن تكون قاعدة شرعيته تعتمد على القوة ولا تتأسس على الأخلاق، فتماثل المجرم والضحية في وعي العامة؛ لأن الأخلاق لم تعد إلا أخلاق القوة، ناهيك أن نفوذ القوة وإمكانياتها التي عملت جاهدة على التغطية بخطاب الأخلاق في فعلها اللاأخلاقي أساساً لتخلق بهذا الرفض والنفور منه، وهذا ما مكنها من الحسم مرحلياً؛ لأن قاعدة الاشتراكيين المتخاصمين هي الإيمان بالقوة والعمل بها، وهذه معادلة يرتضيها أي نظام سياسي.

خلقت تجربة الجزائر نتائج سلبية في وعي طلاب التغيير بفعل جرائم رهيبة وكم ضخم من الضحايا والخطايا، بل إنها شكلت مفترق الطرق المطروقة في حركة تحقيق المنشود؛ فهي أكدت لدى البعض على ضرورة البتر بالقوة مع بنية النظام لأن سلوكه بالذات مع شعبه لا يؤسس إلا لاستحالة العيش معه، ولدى البعض الآخر، وهو الغالبية، خلقت القناعة بأنه لا بد من سحب الذرائع من النظام حتى لا يغرس أنيابه عند تهديد مصالحه، وعليه فلا بد من التدرج والتعايش معه حتى يسلم المجتمع.
جرائم النظام هي نفسها من شكّل مفترق الطرق وحدد طبيعة الفعل؛ فوقعها أرهب البعض فتحجج بحجج هي هواجس نفسيته أكثر مما هي أحكاماً عقلية، ووقعها الثاني استفز الشباب فثاروا لطهارة المبدأ دون وعي لغياب شروط تحققه الموضوعية.
التنافس بالقوة لتحصيل القوة هو تساوي في الطبيعة رغم تباين المرجعية الشرعية والأخلاقية.

وعند تماثل الطبائع بين المتخاصمين تصبح قضية البديل تعبير عن مجرد حذاقة في التلاعب بتوظيفات الدليل المقدس في وعي الثائرين وحاضنتهم، وهذه هي جريمة النخبة الذهنية في تلطيخ المبادئ الطاهرة للناس.
لم تعرف القوى الثائرة يومها كيف تعبر عن تعدد الوسائل وتوزيع الأدوار في بلوغ الأهداف الواحدة، فتعددت القوى بتعدد وسائلها، فنتج فراق في الأهداف والغايات، لأن لكل وسيلة نصيب من غاياتها المنشودة، بما يكون معه الهدف النهائي مجرد تراكم في وسائله وهذا قيد أخلاقي في الاستراتيجية، مفارقته تجعل من الاستراتيجي مجرد تكتيك محض يكتفي بذاته عن غايته.

هنا يجب أن نتذكر الملاحظة الأولى أعلاه، والتي عبرتُ عنها قبل قليل بالمفارق الأخلاقي في العمل، التي يحكم من خلالها الإنسان البسيط في فهمه للحق والباطل كصورة للخير والشر بالتطابق على ظاهرة سياسية شديدة التعقيد .
حدثت مذابح إبادة هدفها الاسم بعد المسمى؛ أي أنها نفذت جرائم إبادة فأزاحت المسمى من طريقها لتنال بعدها من الاسم ذاتها، أو بتعبير آخر من اللاهوت، أن الصفة قضت على الذات؛ فالاسم –شعار الحركة كممثل للدين– ليس إلا قيمة وصورة تعلق بها الضمير والوعي كمثال حقيقي من التاريخ يحتاج لأقدام صلبة ترفعه، فجعل هذا المثال سيفاً يبتر سيقان حامليه لينبذه أهله ويفترقوا عنه.
بالتعبير السياسي هو أسلوب ضرب الحاضنة الشعبية لتنقلب على نفسها، فيسهل الاستفراد بالثائر وتصفيته.

في سورية تم الضرب مباشرة للإبادة المدنية من اليوم الأول، لأنه أريد تخليق الظاهرة المسلحة فوراً لتبرير السلوك الذي قُرر مسبقاً اتخاذه، فكان أن كانت تلك الإبادات للمدنيين هي الشرط الضروري اللازم لبزوغ العمل المسلح لحمايتهم؛ أي عكس السياقات السابقة، فضرب المدنيين كان لرفع الغطاء عن المسلحين بغية تصفيتهم؛ فالمدني هو من حمى المسلح في حروب العصابات، في حين أن المسلح في سورية وجد للتغطية على المدني في حركته؛ أي أن المسلح وجد لحماية المدني أساساً وهو مدني كذلك.
في الحالة السورية ليس هناك حاجة لرفع الغطاء عن المسلحين بضرب مدنييهم؛ لأن قتل الناس كان لتأديب الناس الأبدي، ولكن القتل بالجملة في حق الأبرياء ليس إلا تعبير عن عقيدة تاريخية سنحت لها الظروف لتتخندق على نفسها لضمان وديمومة بقاء ذاتها سليمة.
لهذا، الخطر في سورية ليس من رفع الغطاء الشعبي عن الثورة، وإن كان هذا قائم في حق البعض من التنظيمات المسلحة لكنه صعب جداً في حق الأغلبية لكون الثورة شعبية بالأساس وليست نخبوية وحزبية؛ بل الخطر الحقيقي في تحول المسلحين لبدلاء للشعب المدني بدل أن يكونوا بدلاء النظام، أي أنهم يستنسخون نموذج النظام في سلوكه مع شعبه.

ما يميز الحالة الجزائرية هو تلك الحساسية المفرطة تجاه الآخر، بحكم الخبرة التاريخية المريرة، مما جعل من مجرد التلويح بالتعامل مع الآخر تهمة يتبرأ منها المتهم بقوة، وحتى السلطة عملت على إخفاء الدعم الخارجي تحت عنوان شرعية الدولة، فكان الصراع داخلياً وداخل الدولة مع بقاء تهمة العمالة مشرعة عند كل حدث كنوع من التكذيب الذاتي الذي يكرره الشخص على سمعه لبقاء الذات طاهرة في وعيه.

تشف طبقة الدولة في السلوك السياسي المصري المعاصر فتنزل إلى مرتبة تكون فيها طرفاً في النزاع الداخلي على السلطة، رغم عراقة التاريخ فيها، في ظرف استنتج فيها الطرف المقابل لها من تجربة الجزائر ما يؤكد ويلائم جبلته النفسية والعمرية، من عدم استفزاز العسكر أو مواجهتهم حتى يتجنب المصير الدموي والذي خبره مسبقاً من تجارب مماثلة، ولكن للآسف كان هذا عكس الشروط القدرية التي توفرت عقب الثورة مما يمكنه يومها من تنزيل التشريع واقعياً والتحرر من قبضة المطاردة إلى رحاب الأمة. ورغم سلطة الخارج الجلية على النظام إلا أن التعامل من خلاله ولو كان علانياً وفي سياق فاضح عكس النظام الجزائري أبقى على طبقة الدولة كرمز يخشى الجميع من ذهابه، أحكمت السيكولوجيا الداخلية للجماعة قرارها برفض السوسيولوجيا
الداخلية للمجتمع، رفضاً لا واعياً لتنفصم الذات معه، فهي شهيدة في الدفاع ونتغنى بها ولا تجرؤ أن تكون شهيدة في الهجوم فنتخلى عنها.

أما في سورية، فالدولة ليست إلا عصابة احتمت بعصبية الطائفة بعدما قتلت باسمها، الخارجي فيها أصبح داخلياً بوضوح، بل إنه يحكم مع بقاء الاعتبار للشكل الرسمي الذي اُختزل إلى شخص الرئيس في مفارقة عجيبة تتوافق مع وثنية النظام، فليس من بنية الدولة إلا بقاء الرئيس، ولا من بنود الحل ما يخلو من إشارة إلى ما يتعلق به، وهذه مأساة بلد بديع وشعب عريق في الحضارات والتاريخ، أن كل التطلعات الإنسانية الجدير بها تستفحل قوى كبرى في حصرها به!

ولأن الخارج أصبح في الداخل، فإن أفق الصراع يتحدد لدى التابع للخارج بأفق مصالحه، ولا ينضبط لتطلعات شعبه القيمية وآماله المستقبلية، وهذا يفضي بالثورة إلى كونها احتراب داخلي في حين أنها تجاوز له.
في النظريات تكون مراعاة السياقات شرط في استخراج الأنساق، وكذلك في الحكم السياسي؛ فالظرف الاجتماعي في الجزائر كان يتوسط نموذج حماة ونموذج الثورات العربية بحكم ضخامة شعبية الجبهة، في حين أن تجربة مصر وملحمة سورية مقطع من سياق واحد ممتد، كان يفترض القطع مع مأساة حماة من جهة أن المجموع هو المسؤول عن العمل وليس الفرد وإن كان حزباً أو جماعة، فأعادته الثورة المضادة إلى نموذج الجزائر المكبر عن مأساة حماة، ليكون فيه الجمع معبر المفرد، فالجميع واحد، وهذا مفتاح الخطاب الذى تنزلق إليه صراعات الهويات التاريخية كآلية لديمومة الكيانات وتخلفها.
وهذه العودة تفسد وتكذب صدق إمكانية التغير بالوسائل السلمية لتوهمها السلم في الطبيعة السلطوية محاكاة لها بالآخرين وتحت تأثير نشوة الكَم، وهي برهان غير منجز بعد لصدق وصواب التغيير بالعنف لدقة فهم بنية هذه الأنظمة وتباينها عن الآخرين، وإن كان انقسم إلى قسمين:
قسم يرى المنهج القديم وهو نخبة تقود العمل نيابة عن الأمة وهذا التقى، ويا للعجب، مع الأنظمة ضد الأمة، لأن هذا الاستقطاب يبقيه طرفاً في المعادلة مع توهم التميز بحيازة الحق، وقسم آخر يرى أن الظرف أمكن من أن الجهاد يصير إلى جهاد أمة وليس جهاد نخبة مهما كانت محقة.

لا يمكن الحل في نطاق الدولة القطرية، فالثورة تختزل بسيرورتها تجاوز للقطري، كما أن تكاثف الثورة المضادة يرسخ هذا الاستنتاج ويفرض على الثوار تجاوزه، وإلا كانت مآلات المخاض الجزائري هي المصير المحتم.
لم يفهم الثوار هذا الأمر بعد، لعقد التربية القطرية ولتأثير تراكم الشحن والتعبئة للأنظمة تجاه خصومها ولتخوفهم من المماثلة مع إيديولوجيات ناشزة، وهذا قصور معرفي سيدفع الواقع نحو تجاوزه بمرارة فضيعة.
لم نفهم معنى الجسد الواحد بعد، وكل جزء يخال نفسه كلا، والثورة كي في الوعي، و خدش في المثال، ولكن مِن رحم لهيبها يتسلح الوعي بالضمير ويستقيم المثال بالنقد.

13-12-1437 هـ / 14-09-2016 م