ملاحظات حول العلمانية وفصل الدين عن الدولة

448

فاجأ قرار الدولة الفرنسية منع ارتداء غطاء الرأس والصلبان الكبيرة والقبعة اليهودية في الأماكن العامة كثيراً من الناس وجعلهم يتساءلون عن السلوك العملي للعلمانية وعن قدرتها على تأمين الحريات العامة. وذهب كثيرون إلى تفسير ذلك ضمن مفهوم عداء ديني أو قومي أو حضاري دون تحليل كافٍ لتبعات المضامين الفكرية وأزمتها عند التطبيق، وهذا ما يسعى هذا المقال لإيضاحه. 

 ويشير مصطلح العَلمانية (نسبة إلى العالَم وليس إلى العِلم) إلى معانٍ متعددة علّنا نستطيع حصرها في ثلاثة توجهات: التوجه الأول يستمد من الخيال التاريخي الأورُبي في هجر خرافات المجتمع والكنيسة وتحكيم العقل والاعتماد على مقولات العلوم التجريبية. ويركّز التوجه الثاني على النواحي العملية في إبعاد الدين عن التدخل في ممارسة الحياة المدنية، وبخاصَّة مجالّي التعليم والسياسة، إلى جانب تأمين حرية الاعتقاد الشخصي. أما التوجه الثالث فهو أكاديمي فلسفي يشير إلى رفض الاعتراف بكل ما هو خارج العالم المحسوس للإنسان وقصر مصدرية القيم على ذات البشر واختزال الحقيقة إلى عالم المادة.

ولا يخفى أن الذي يُشكِل من المنظور الإسلامي (ومن المنظور الديني عموماً) هو المعنى الأخير، أما المعنى الأول للعلمانية فلا مِراءَ فيه. وفي حين يَكثر استعمال المعنى الثاني ضمن تصور احتكار طبقة رجال دين للساحة السياسية وتصور ممارسة دينية لا تَتّسِم بشيء من التعقل وليس فيها أي مكان للآخر، فإن المعنى الأول لا يستعمل عادة إلا في سياق التاريخ الأورُبي. ويبدو أن استعماله خارج ذلك السياق يمثل اختلاطاً فكرياً يستورد المفاهيم ويغيب عنه أصولها وجذورها التاريخية. والمصطلح في أصله يتعلق بالفصل بين عالم الـ”مقدس” وعالم الـ”دنس” في الثقافة الغربية المسيحية. كما تتصل بخاصّة تاريخ الكنيسة (الكاثوليكية) وبتقسيم أعمال رجال الدين فيها إلى خدمة دينية وخدمة دنيوية أطلقوا عليها عبارة “زماني”. وسيتطرق هذا المقال إلى بعض تجليات العلمانية ضمن مفهومها الثاني بخاصّة مشيراً إلى تأزماتها على المستوى العملي.

الحرية بين العام والخاص

كان من جملة ما ثارت به العلمانية على الكنيسة هو قضية الحرية الشخصية، حيث تميزت المجتمعات القديمة عموماً بتأكيدها على عدم الاستقلالية التامَّة للتصرُّفات الفردية.  ونَمَت فكرة التمييز بين المجال العام والمجال الخاص كحل لمشكلة تسلط الكنيسة وتدخّلها في الأمور الشخصية. وتدّعي الرؤية العَلمانية أنها حلّت مشكلة الدين بشكل معقول بأن افترضت أن النظام العام يجري وفق طرائق عقلانية علمية محايدة، وأن يترك الحيز الشخصي والتديّن للذوق الخاص والاختيار الفردي. وتباينت التطبيقات العلمانية فيما بينها، ففي نسختها الإنكليزية ثم الأمريكية افترضت الحرية التامة غير المقيدة للفرد وأن واجب الدولة هو حماية الحريات الفردية التي أعطتها الأولوية. أما النسخة القاريّة الأوربية (فرنسا وألمانيا مثلاً) فإنها وإن أكدت مفهوم الحرية الشخصية أيضاً فإنها احتفظت بدور أكبر للدولة أو للنظام العام في تقييد هذه الحريات. وبغض النظر عن هذا الفرق المهم بين النظرتين فإن كلتاهما أكَّدَتا ضرورة الحرية التامة للمجال الخاص وأن قضايا الدين والتدين يجب أن تُحصر في الفضاء الخاص وأن يخلو الفضاء العام -قَدْرَ الإمكان- من أي أثر للتعليمات الدينية. وبالإضافة إلى الاعتقاد بأن الدين يقمع الفرد ويكبّل طاقاته، فإن العَلمانية تؤكد أن حصره في المجال الفردي ضروري للتآلف الاجتماعي لكي لا يتصارع أتباع الأديان فيما بينهم في المجتمع الواحد.

ولكن نظرة تمحيصيّة في قضية الفصل بين العام والخاص توضح أن أصل فكرة الفصل متهافتة نظرياً وغير ممكنة عملياً. فهي متهافتة نظرياً لصعوبة رسم حدود العام والخاص فهما فضاءين متداخلين. وإن الفعل الإنساني -بكل تنوعه- إنما ينتج عن تفاعلهما، فلا بد للنظام العام من أن يتدخل في المجال الخاص ولا بد للخاص من أن يؤثر في المجال العام. ثم إن ادعاء الفصل الحادّ بينهما يفترض تمكّن قيام المجتمعات دون وجود رابط يشترك فيه أفرادها. ولكن كيف يكون هناك مجتمع أصلاً إذا كان أفراده مستقلون استقلالاً كاملاً؟ إن المبالغة في مفهوم فصل العام عن الخاص تعكس نظرة ميكانيكية للحياة افترضتها الحداثة، وكأن الإنسان الفرد آلة تحركها شيفرات معينة عندما يدخل المجال العام ثم يستبدلها بأخرى عندما يدخل حياته الخاصة. إن دعوى فصل الخاص عن العام لا يمكن فهمه إلا كتبرير إيديولوجي مؤقت اضطرت إليه أورُبا في رحلة تخلّصها من سلطة الكنيسة، وكان لا بد لها أن تفعل هذا. أما أن يكون مفهوم الفصل مبدأً عاماً صالحاً لتنظيم المجتمعات وغير متناقض مع نفسه فإن الواقع العملي في الغرب نفسه يكذبّه كما تظهر الأمثلة التالية.

فمنع الضوضاء في ساعات الليل المتأخرة وقوانين السير (المرور) وتحديد السرعة ووجوب استعمال حزام الأمان تمثل أموراً اتصل فيها النظام العام بالمجال الخاص وكان له الأولوية.  وعندما يدخل الفرد الحدائق والمتنـزهات العامة في أمريكا فإن أول ما يقابله لوحة تنص على منع تعاطي المسكرات في تلك الأمكنة، ولا يُقْبَلُ من الفرد أن يتجاهل ذلك الأمر متذرّعاً بالحرية الشخصية كما لا يقبل منه أن يعتذر بقوله إنني سأشرب مقداراً قليلاً.  وإن حمل زجاجة مُسكِرٍ مفتوحة في السيارة ممنوع قانونياً سواء أكان السائق سكراناً أم لا. ويفرض النظام العام ضريبة عقار على الملكية الفردية الخاصة التي اكتسبها الفرد بجهده، ولربما منع القانون قطع أنواع معينة من الأشجار في الحيز الخاص محافظة على البيئة. ويطلب من مالك العقار أن يستخرج إذناً من البلدية عندما يجدد بناء منـزله الخاص ولا يمنح الإذن باستعمال عقاره إلا إذا تطابق التنفيذ مع مواصفات السلامة.  كما لا يمكن للأبوين أن يتخلفا عن توفير التعليم الابتدائي للأولاد رغم أن ذرّية الإنسان -بلا خلاف- هي من أكثر الأمور الخاصّة به.

وتوضح هذه الأمثلة الترابط الشديد بين العام والخاص من جهة، وأن هذا الترابط يستند إلى قيم ومعايير بنسب متفاوتة. ولا يخفى أنه عندما نتحدث عن الدين فإن القصد ليس ممارسات العبادة أو الاعتقاد، فهذه أمور لا خلاف في أنها شخصية لا إكراه فيها، وإنما القصد أن الحياة العملية مفعمة بالأطر والمعايير الأخلاقية غير المستقلة عن الدين والفلسفة، والتي تتخلل الخاص والعام ولا تنحصر في واحد منهما. كما لا يمكن لأي نظام مجتمعي إلا أن يفرض أموراً متماهية بين العام والخاص بناء على رؤية أخلاقية عامة يتبناها المجتمع طواعية، بغض النظر عن العقلانية المباشرة لهذه الرؤية. وربما صح القول أنه لم يأت زمن على البشرية تمكَّنت فيه الدولة وتمكَّن النظام العام من التدخل في الأمور الخاصة مثلما هو قائم في النموذج الحداثي للمجتمعات، وكما هو معروف فقد سهّلت التكنولوجيا هذه المهمة. وفي حين أنه لا يُنكر أن الملوك والجبابرة طغوا وظلموا في الأيام الغابرة، ولكن احتكاك الفرد بالملك والدولة وحاجته إليهما كان ضئيلاً. لقد اعتمدت الحياة في الأيام الغابرة على المحلّة الصغيرة المتاخمة لحيز الفرد على نحو أساس، ويمكن اعتبار قهر الملوك دلالة ضعف جهاز الحكم يومها حيث لم يتوفر لدى الدولة وسيلة فعالة للضبط غير الترهيب والتنكيل. وتكمن المفارقة في أنه إذ قلّص النموذج الحداثي قدرة الحي والجوار على ضبط تصرفات الأفراد وأتاح لهم مساحة كبيرة للنشوز، فإنه قد سمح عملياً للدولة أن تستأثر بكثير من النواحي التي تقيّد حرية الفرد. أي أننا إذا ابتغينا الدقّة فإن المسألة تبدو مسألة مفاضلة بين أنواع الضبط ومصادرها أكثر من قضية حريات.

فصل الدين عن الدولة

يكتنف فكرة فصل الدين عن الدولة اختلاط وسوء فهم بسبب عدم استحضار الخلفية التاريخية للمصطلح. وأصل الفكرة ليس فصل الدين عن الدولة بل فصل الكنيسة عن الدولة. أي أن فكرة فصل الدين عن الدولة تفهم على وجهين. الوجه الأول: هو عدم إخضاع الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لاحتكار سلطة دينية لها مؤسساتها البيروقراطية المستقلة عن المجتمع (إدارياً ومالياً) ولها أسس سيادة متميّزة ومختصّة بذاتها.  أما الوجه الثاني: فهو فصل الدين عن المجتمع، أو فصل المبادئ الدينية عن الحياة، أو حجب الأسس الأخلاقية من أن يكون لها قولة في إدارة شؤون الناس. 

إن مفهوم فصل الدين عن الدولة ضمن المعنى الأول محوري في فهم تطور الثقافة الغربية.  فقد شاركت الكنيسةُ الملوكَ في الحكم ونافستهم على السلطة والثروة في علاقة مدٍّ وجذر.  وقامت الكنيسة بخدمة المجتمع والعمل على وفاء بعض حاجات الناس مما لم تكن قد شملته فعاليات الدولة مثل مهمة التعليم. ولكن الكنيسة مارست ابتزاز الناس في أيام تَرَهُّلِها وحَجَرت على العقول ولاحقت العلماء وأصدرت قوانين الحرمان والطرد والقتل للمخالفين. واستمرت الأمور على هذا المنوال حتى بدأ التصدع في البنية الفكرية للكنيسة (إثر الاحتكاك مع المجتمعات المسلمة) لتظهر حركة الإصلاح الديني. ونشبت الحروب بين طوائف المجتمعات الأورُبية في نزاع متعدد الأبعاد ومتشابك المصالح بين الأمراء والملوك والنبلاء والسلطات الدينية المدافعة عن الكنيسة والمناهضة لها. فهذا هو الوجه الأول لمفهوم الفصل، ويتضمن رفض مبدأ القاعدة الثيوقراطية للدولة، وقد فعلت أورُبا خيراً في رفضها مبدأ الحكم المقدس الذي يتسلط على ضمائر الناس. وإن صح القول أن هذا الفصل قد حرَّرَ الدِّين من السياسة بقدر ما حرَّرَ السياسةَ من الدين في الحضارة الغربية، فإنه بالوقت نفسه أزَّم مشكلة مصدرية القيم العامة.

أما الوجه الثاني لمفهوم فصل الدين عن الدولة والذي يتضمن فكرة فصل الدين عن المجتمع أو فصل المبادئ الدينية عن الحياة أو حجب الأسس الأخلاقية عن إدارة شؤون الناس فإنه أيضاً متهافت نظرياً وغير ممكن عملياً. فالنظم الديمقراطية المعاصرة والتي تُسَّمى علمانية ما زالت تتصارع في داخلها حول هذا الأمر، ويختلط الدين مع السياسة فيها بدرجات متفاوتة. فهناك أحزاب لها ولاءات صريحة لتوجهات ومؤسسات دينية، وهناك جبهات تنضم إليها أحزاب دينية أو شبه دينية، وتتمحور في كثير من الأحيان حول مسائل دينية ضيقة جداً أبعد ما تكون عن التعقّل. بل لعل النموذج (العَلماني أو النفعي) المعاصر لتداخل الدين والسياسة هو من أكثر النماذج إشكالاً في تحقيق الوئام المجتمعي، إذ يحجب ‑عملياً- الحوار الجدّي في القيم ولا يفسح المجال للتداول في الأمور التي يراها الناس مهمة في حياتهم، ويحوّل هذه القضايا إلى محاور تكتلات فئوية إيديولوجية وعلاقات انتهازية. وبذلك انقلب الحوارُ عملياً في قيم المجتمع الكبرى إلى قضيةٍ استعراضية إلى حدٍّ كبير. 

وتختلف الدول المعاصرة التي تصف نفسها بالعَلمانية في استيعاب الدينيّ. فهناك نموذج الليبرالية ضد الدينية للدول الشيوعية الفائتة، وهناك نموذج الليبرالية الفردية الذي يفسح مساحة للتدين الشخصي ويضيق عليه في آن معاً. وهناك نموذج الليبرالية الحكومية (ومثاله فرنسا) الذي تتدخل فيه الدولة مباشرة في هيكلية التدين -وتسعى إلى إنشاء هذه الهيكلية في حالة غيابها- من أجل تحديد مساحات مضبوطة للممارسة الدينية. وهناك نموذج الليبرالية الجماعية (ومثاله كندا) والذي يستند إلى مبدأ التعددية الفئوية، وهو وإن كان يُبعِد الدين عن القرارات الكبرى للمجتمع فإنه يفسح مجالاً مريحاً للتدين بناء على الاعتراف بحقوق خاصّة لمجموعات تتكون وفق أساس عرقي إثني ثقافي وربما جغرافي. أما النموذج الأمريكي الثنائي فيحوي على عنصرين متناقضين: عنصر الحرية الفردية المطلقة في نظرة القانون (عنصر الليبرالية الفردية الإنكليزي) وعنصر ما يطلق عليه “المدني الجمهوري” (civic republicanism)، والذي تجلّى في بعض الممارسات المبكرة في تاريخ هذه الدولة؛ ورغم أن هذا العنصر الثاني يجري وفق منطق صديق للتدين بشكل عام إلا أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتقاليد المسيحية بخاصَّةٍ ويمكن أن يصل إلى حدٍّ يُطلق عليه اسم النموذج الإنجيلي. وإنه لمن المفارقة أن نجد النظم الاجتماعية المبنية على مفهوم الحرية الفردية المطلقة نظماً غير مريحة البتة للرؤى الدينية التي تسعى ضرورة أن ترى شيئاً من الانعكاس لتوجهاتها الأخلاقية والدينية في الفضاء العام، ولكن الأقليات الدينية تضطر اللجوءَ إليها عند طغيان توجهات دينية ضيقة ليس عندها مساحة للمخالف.

والخلاصة هي أننا إذا حللّنا التجارب العَلمانية المعاصرة فإننا نجدها قد حدّدت للتدين مساحات مختلفة مرتبطة بتاريخ شعوبها وظروفها الخاصة، وادعاء الفصل الكامل بين الدين والدولة أو الدين والمجتمع لم يتحقق كما يروّج له نظرياً.

العلمانية كدين

يقترح بعض علماء دراسة الأديان النظر إلى العَلمانية على أنها دين غير سماوي، وقد دعا روسّو فعلاً إلى “دين مدني”. وليس هناك تعريف واحد للدين، ولكننا إذا تأملنا بعض التعريفات المعاصرة له فإننا نجد مثلاً أن الدّين هو ما يمثل همّ الإنسان الأعظم، أو أن الدين هو مجموعة الاعتقادات والممارسات التي يستعملها الناس في عِراكِهم مع مشكلات الحياة الإنسانية الكبرى، وهناك من التعريفات ما تشترط بُعد الإيمان بالظاهرة فوق الطبيعية. وأياً كان التعريف فإن الممارسة العَلمانية تتشابه مع بعض الممارسات الدينية وخاصة في قضية تمفصلها مع الشأن السياسي.

فمثلاً تستند العَلمانية إلى مسلمات عن الخير والشرّ وتُعلي من خيارات أخلاقية (مثل التأكيد على النفعية أو نفيها)، وهذا موقف فلسفي واختيار ثقافي لا تُجلب إليه الأدلة، بل يقبل أو يرفض وليس له دليل عقلي أقوى من الأدلة العقلية على غيره من المعطيات الفلسفية. كما تتضمن العَلمانية مسلّمات حول وظيفة الإنسان في الكون ودوره وحول طريق السعادة الأمثل وحول طريقة العيش الرغيدة… وكل هذه مفترضات يمكن أن تُستجلب إليها الأدلة ولكن لا تُبنى على الأدلة. فمثلاً ادعاء أن هدف الإنسان في الأرض هو تحقيق أقصى درجة من المتاع يُمكن أن تُجلب إليه مفسرات تدعمه ولكن لا يمكن برهنته برهاناً قاطعاً ينفي فرضيات منافسة من أن هدف الإنسان هو تحقيق أقصى درجة من الاستغناء عن قيد المتاع مثلاً. كما أنه تشمل العَلمانية الحديثة إيماناً بنوع من الغيب الأرضي، فمفهوم الندرة الاقتصادي أو مفهوم البقاء للأشرس الاجتماعي أو مفهوم نهاية التاريخ… إنما هي غيبيات تُصاغ بشكل علمي وتُستدعى إليها الدلائل بشكل انتقائي.

فإذا انتقلنا إلى الساحة السياسية فإن التعامل مع الدستور يشبه التعامل مع القوانين الدينية، فهناك نص يحلّله القضاة (سبعة في أمريكا بينهم امرأة واحدة) ويرجعون إلى التراث القانوني من الوقائع وربما يعتمدون سابقة قانونية تسمح لهم قياسها على مسألة جديدة، كما تُفتي المحكمة الأمريكية العليا في قضايا شخصية بحتة لها متعلقات خلقية مثل الإجهاض أو الاستنساخ. أي أن العَلمانية ‑كأي نظام فكري‑ لا يمكن أن يبقى بمعزل عن القول في مسائل عملية يُرجع فيها إلى موقف فلسفي سواء كان دينياً أو غير ديني. وقد يقال بأن الدستور يتغير بينما لا تتغير القوانين الدينية. ولكن الدساتير تتمتع من ناحية عملية بثباتية هائلة، فلا يعتقد أحداً ‑على سبيل المثال‑ إمكان تعديل الدستور الأمريكي، وتحلّ قضية المعاصرة بالتفسيرات المتتالية والتأويلات ومحاولة فهم المراد الأصلي من نصّ الدستور. وإن الإشارة إلى نوع من التوازي بين طريقة التعامل مع الدستور والتعامل مع المبادئ القانونية الدينية لا ينفي أن بينهما فرقاً نوعياً. فبينما تشكل القوانين الدينية غالباً توجيهات عامة وطروحات قِيميّة، فإن صلب الدساتير هو التقنين المحدد والإجرائي والذي يتصف حُكماً بدرجة عالية من الـواقعية العملية والإجرائية التنفيذية، أو العَلمانية الجزئية التي لا تُشكُل من المنظور الإسلامي.

وكذلك فإن العَلمانية ليست أقل تدخلاً من الدين في حياة الناس الخاصة ‑كما يظهر مثال الإجهاض وفي مسألة طلب المريض مرضاً عضالاً من الطبيب أن ينهي حياته المليئة بالألم. ومثل ذلك تعريف الاغتصاب الجنسي الذي عُدّل ليصبح الإكراه على الجنس، وعلى هذا يمكن نظرياً أن تحدث واقعة اغتصاب بين الزوجين. وبغض النظر عن الموافقة على ذلك التعريف أو عدمها، فإنه تدخل عَلماني في أخصِّ خصوصيات الأفراد. وتنهمر على الذي يعيش في النظم العَلمانية اليوم الدعايات والإزعاجات التسويقية التي تُعطى لها أولوية عقائدية إيديولوجية، وتدخل بيت الإنسان قسراً. ولا يمكن القول بأن مثل هذه الممارسات هامشية وليس لها تأثير على حياة الناس إذ أنها تنتج ضغوطاً هائلة لتنميط السلوك، ويدفع الناس ثمن هذا التنميط من أموالهم وأعصابهم وصحتهم وأعراضهم. إن دعوى عدم التدخل في المجال الشخصي الذي تدعيه العَلمانية هو شعار إيديولوجي مبني على موقف قيمي انتقائي. ورغم كل سعة مساحة التصرف الشخصي في النظم الحديثة فإن لديها أيضاً مساحة محرمات تتمسك بها بشكل إيديولوجي ومتزمت، وإن هذه السعة ليست بدون ثمن بل تأتي على حساب أولويات أخرى تبعاً لرؤية في تنظيم المجتمع أصبح يشكّ فيها ويشكو منها أهلها وخبراؤها. وإن العَلمانية التي تحاول جاهدة أن تتفهم الآخر وأن تكون لطيفة معه تمارس تحيزات كثيرة ارتكاساً من أمور بسيطة جداً، من نوع اللباس إلى نموذج السمر والترفيه، سواء كان هذا على مستوى الصداقات الفردية أو على المستوى الرسمي من إشغال الوظائف ومناصب العمل.

ولم تحقق النظم التي تعتبر نفسها عَلمانية سلاماً أكثر من غيرها من النظم، بل إن الحروب الحديثة التي خاضتها الدول تحت رايات غير دينية وعدد الضحايا التي أسقطتها يفوق ما راكمته البشرية في عصور طويلة، كما أن الديكتاتوريات والحكم الفاشي العَلمـاني لم يكن أقل قمعاً من غيره البتة. كما أنه لا يمكن أن تدّعي العَلمانية احتكارها استعمال العقل، فبعض كبار الفلاسفة القدامى كانوا من أحبار اليهود وما زالت معابدهم مراكز تعليم، وكذا الأمر بالنسبة للكنيسة. وإن أبلغ العطاء القانوني الدستوري في أمريكا إنما تحصّل على أيدي مجموعة المسيحيين الطهوريين. أما التجربة الإسلامية فإنها متميزة في إحكام العقل وغنيّة في عطائها على مستوى العلوم النظرية والتطبيقية على حد سواء.  ولذلك فإنه حين إجراء المقارنات يجب أن نقارن بين الحرية في النظم المتعسفة الدينية والحرية في النظم المتعسفة العلمانية أو اللادينية، والحرية في النظم الدينية المتسامحة مع النظم العلمانية المتسامحة. أو ربما يجب علينا الكفّ عن إلصاق العناوين الكبيرة التي تستعمل عبارات “علماني” و “ديني” في وصفٍ شمولي غير دقيق، فكل ديني فيه إجرائيات عَلمانية، وكل علماني فيه مسلّمات ميتافيزيقية. 

التجربة التاريخية المسلمة

وتنفع هنا الإشارة السريعة إلى طبيعة الممارسة الدينية التاريخية للمسلمين. فمن ناحية نظرية ليس في مبادئ الإسلام فكرة رجال الدين أو المسجد كهيكلية على الطراز الكنسي. ومن ناحية عملية كان حضور الإسلام حضور شخصية حضارية ولم يكن حضوراً خارجياً يتحرك من خلال مؤسسات مستقلة. ولنتذكر أنه لم يتصدر الحكم في التجارب السياسية المسلمة العلماء أو الفقهاء، وإنما مثّل هؤلاء نخبة مثقفة ذات ريادة فكرية كان لها دوراً مهماً في صياغة رؤى المجتمع والثقافة العامة للأمة. وزيادة على ذلك فإن كبار العلماء أبدوا تحفظاً شديداً من القرب من السلاطين وكانوا أقرب إلى المعارضة لسياسات السلاطين رغم عدم طعنهم عموماً في أصل شرعية الحكم. وغالباً ما كانت مشاركة العلماء مقتصرة على وظائف القضاء والفتوى وربما السفارة، ضمن تجارب سياسية كان ديدنها القيام على الحاجات المعيشية للناس في ضوء المعرفة العلمية والخبرة الحياتية المتوفرة في تلك الأزمان. إن النموذج الإسلامي لتفاعل الدين مع السياسة هو نموذج تحقق وليس نموذج قسر وإكراه. ولقد تحقق النموذج الإسلامي من خلال الممارسة الحياتية للأفراد ومن خلال التوجه المؤسساتي الذي صاغته الاجتهادات البشرية المحضة. وكما يقول العلاّمة الفيلسوف بارفيز منظور فإن الدولة في التاريخ المسلم امتلكت النفوذ المؤسـساتي في غياب النصِّ الداعم، في حين أن العلماء حازوا على النصِّ من غير مؤسـسة.  هذا مع الاعتراف بأن ادعاء الأحقية الدينية للحكم شكّل وقود كثير من حركات المعارضة، كما أن كثيراً من الحكام والسلاطين لم يقصروا في استخدام الشعار الديني لإضفاء الهيبة على حكمهم والتقليل من شأن المعارض. ولكن أهم ما يجب أن يلفت إليه هو أنه لم تكن الدولة المسلمة في يوم من الأيام مصدر قيم تفرض على الناس، بل كانت المرجعية الإسلامية متجذرة في المجتمع تُفعّل من خلال الثقافة المحلية السائدة حيث يكتسب الحكم شرعيته من احترام القيم العامة وحمايتها. وعموماً فإنه ليس من المنطق في شيء افتراض فصل قيم المجتمع عن إدارته السياسية وترتيبات الحياة العامة… وإن ادعاء الفصل بين السياسة والتوجهات الدينية لا يعدو أن يكون شعاراً قد يكون له مبرراته في سياق الثقافة الغربية، ولكنه أصبح بالياً لا يزيد عن كونه ممالقة أدبية.  ومن ناحية عملية بحتة، فإن المطلوب هو تحديد طبيعة هذه العلاقة الثنائية بدل التلاعب بالألفاظ.

خاتمة

يُفسر ما سبق تراكم الاعتراضات على العَلمانية الأصولية المتعصِّبة التي تتناسى حتى مبادئها الإنسانية، كما يفسِّر جزئياً فقدان الناس عموماً الثقة بالنظم العَلمانية وتطلعهم نحو مصادر دينية تاريخية لشرعية الاجتماع الوطني. ولكن لا بد أن يشار هنا إلى أن بعض الطروحات الإسلامية طاعنة في الغلو والتنطع وتبدي ميولاً إكراهية غريبة عن المبادئ الإسلامية والتجارب التاريخية المسلمة. وربما حمل التخوف والانكماش البعض على أن يصف كل غير مألوف أو ما سكتت عنه الشريعة من العاديات التي تُركت لاجتهاد البشر بأنه عَلماني، مع أن كثيراً من القوانين الوضعية والتنظيمات الإدارية الحديثة تتحقق من خلالها مصالح البشر وتقترب قليلاً أو كثيراً من مراد الشريعة. ولذلك فإن المطلوب تطوير تصور عملي عن الآليات والإجرائيات التي تتحرك من خلالها الحلول الإسلامية الموعودة والخروج من دوّامة الشعارات الغارقة في الخطابة التوفيزية التي تُخيف المتشكك ولا تقرّب المتيقّن من هدفه قدر أنملة.

وعودة إلى موقف فرنسا ومما سمّته إظهار الرمز الديني في المساحة العامة من الحياة، فإنه يمكن أن تفهم مسألة تغطية شعر المرأة المسلمة أنها مدفوعة بقصد العفة أو أنها رمز سياسي. فإذا كانت الأولى فهي جزء من الحرية الشخصية، وإذا كانت الثانية فهي جزء من الحرية السياسية. ولماذا لا تغطي فرنسا كنائسها بستائر ضخمة لأن منظر الكنائس يذكّر الناس بالدين، وهل ستنظّف فرنسا متاحفها من كل ما له إشارة رمزية للدين، وهل ستسمح فرنسا بالاستشهاد بنصّ ديني على مسألة السلام والتآلف مثلاً. أم هل علينا أن نعذر فرنسا على أنها لم تتعافى بعدُ من عقدتها من الكنيسة الكاثوليكية بعد أن رمتها فيما يعرف بـ”الحروب الدينية الفرنسية” في الجزء الثاني من القرن السادس عشر؟ ولكن الثورة الفرنسية العَلمانية بعد قرنين ونيف كانت دموية أيضاً. أم أن فرنسا باتت تضيق اليوم بمن استعمرته يوماً أن يستعيد عافيته وتماسكه الثقافي ولاسيما أنهم أصبحوا أقليّة ذات وزن عددي لا بأس به؟ وإنه لمن المعروف أن هويّة فرنسا الوطنية تعطي دوراً كبيراً للدولة وتفترض إرادة خيالية مشتركة (تبعاً لرسّو) لا يمكن تحقيقها عملياً إلا ضمن تجانس ديني وعرقي لم يعد موجوداً في فرنسا. ولكن لا بد لفرنسا أن تنضج وأن تتماشى مع متطلبات العصر وأن لا تتصرف بشكل رجعي دوغماتي. ويبدو أن فرنسا في حاجة ماسّة أن تجد من خلال عقائدها العَلمانية وتشريعاتها القديمة الثابتة حلولاً ومخارج للتعامل مع الواقع الحاضر، ولا سيما أنها شاركت بشكل طوعي في إنشاء هذا الواقع من خلال استجلاب الأيدي العاملة التي تُساهم في استمرار ازدهارها وبقائها.

ولا بد في النهاية من كلمة اعتراف وتوجيه الحديث إلى المسلمين الذين يقطنون في الغرب خصوصاً، فإنه يجري السؤال عن سبب إصرار البعض على طراز من اللباس الإسلامي منفّر للبلد الذي يعيشون فيه؟ أَوليس مطلوباً من المسلمين أن يتأقلموا مع الثقافات المحلية ضمن الشروط الإسلامية؟ أوليس جزءاً من عالمية الإسلام أنه أنتج ممارسات ثقافية متنوعة وغنيّة من مراكش إلى إندونيسيا؟ وهل يفترض الإسلام زياً موحداً لكل البشرية؟ ولماذا يصرّ البعض على لباس ليس فيه مسحة جمال ‑ولا سيما عندما يتصل الأمر بالمرأة‑ حتى في بلاد تتفاخر بذوقها المتميز؟

مسح آراء الأمريكيين بعد 200 سنة من التجربة العلمانية
¨         51% يعتقد أن الكنائس يجب أن تعطى حرية التعبير عن آرائها، ولكن 45% يقولون أن الكنيسة يجب أن لا تتدخل في الشؤون السياسية. ¨         70% قالوا أنه من المهم أن يكون للرئيس معتقد ديني قوي، ولكن 50% قالوا أنهم لا يرتاحون عندما يناقش الساسة آراءهم الدينية. ¨         54% يحبذون أن يعطى التمويل الحكومي للمؤسسات الدينية لتقدم الخدمات الاجتماعية.

المصدر موقع مؤسسة ( بيو) اللاربحية العريقة: http://www.pewtrust.com/ideas/index.cfm?issue=17

12-1424 هـ / 02-2004 م