ملاحظات منهجية تجاه تفسير ظهور العجم

147

مقدمة

تحليل الدورين الإيراني والتركي في المنطقة العربية يتطلّب منهجية صحيحة محكمة. وذلك لأن النقاش في هذه المسألة يمكن أن يسرد لائحة طويلة من الدلائل والشواهد، غير أن مجرد وجود الشاهد ليس كافياً لصلاحية الاستشهاد به، فلا بدّ للشواهد أن تكون ذات نوعية عالية، وإلا لوجدنا شاهداً على أي شيء وانتفت القيمة الدلالية للشاهد. وثانياً، من حسن التعامل مع الدلائل أن لا نُثقلها بالنتائج، أي أن لا نحمِّل نتيجة كبيرة على دليل صغير. ويلزم ثالثاً الانتباه إلى مسألة تعاضد الأدلة، بحيث يُكمل كلٌ الآخر، ولا يخفى أن الجمع بين الأدلة عملٌ عقلي ينتج عنه عدد من الأجوبة الاجتهادية. ورابعاً يُطلب التقدير السليم لوزن الأدلة، فنقصر الدلائل الصغرى على المسائل الجزئية الصغرى والدلائل الكبرى على المسائل الكبرى. وهذه أربع قواعد أساسية تساعد على ضبط التحليل والاستنتاج.

فمن ناحية الاستدلال يمكن أن تُصنَّف تصريحات المسؤولين وتعليقات الصحف في أدنى سلّم الأدلة الصالحة للاستشهاد على التوجّهات الكبرى، وذلك من وجه تغطية هذه التعليقات لمسائل جزئية فحسب (المساحة الدلالية المقبولة)، ومن وجه ميل هذه التعليقات لأن تكون مسيَّسة لحفظ التوازنات في الخطاب الشعبي العام (مستوى نوعية الدليل). ويُضمّ إلى هذا التصريحاتُ التي تكشف عن (حقائق) و (اعترافات)، لأنها دلائل جزئية ومفتقرة لإطار تفسيري أوسع (الوزن السليم للأدلة)، وذلك لأن سياسات الدول المقتدرة تراهن على أكثر من جواد، وكثيراً ما تدعم توجهات مختلفة ومتعارضة تعارضاً تاماً بغية زيادة إمكانية التأثير وخلخلة التوازن.

الإطار الجيوسياسي

إن أولى الأطر التي يحسن أن تناقش فيها مسائل السجال العربي/التركي/الإيراني هو الإطار الجيوسياسي. وإن أولى الأوجه بالإبراز والتركيز هو الدور الاقليمي الذي تنوي كل كتلة أن تلعبه. ولا يخفى هنا أن الكتلة العربية ليست واحدة بل هي متعددة ومتنافرة حتى في المجال الجغرافي الواحد. وبعد استقالة مصر وانعزالها، وزوال العراق الذي ناء تحت سطلوية شرسة تُضعف قوة المجتمع وتخمده… بعد ذلك تناقص الوزن العربي ليفسح المجال أمام الصعودين التركي والإيراني، ولكليهما مشروع وطني متماسك مقابل غياب أي مشروع جدّي في الطرف العربي. وإذا ركزنا على الأبعاد الجيوسياسية لم يعد يصحّ انفراد الأبعاد الأخرى بما فيها قضية شيعية إيران.

إن انخفاض الضغط الجوي في المنطقة العربية يدعو حكماً وبشكل شبه آلي للمكوّنات المجاورة أن تمتد وتنتشر، سواء أكانت إيران شيعية أم لا، أو كانت تركية تحت سيطرة العَلْمانيين أم تحت نفوذ من لهم توجّه ديني. ولا يعني هذا أن التوجهات الثقافية ليس لها أي أثر، وإنما ضمن هذا الاعتبار تُشكِّل المذهبية ناظماً للتوجّه ومسطرةً لترتيب الجهد وأداة تحريكية تساهم في الدفع، ولكنها لا تعمل بالنيابة عن الفاعليات الجيوسياسية.

إن الإطار الجيوسياسي هو الذي يجب أن يحكم التحليل، ويمكن بعد ذلك مناقشة الأبعاد الأخرى (الطورانية أو التشيع مثلاً) على المستوى الجزئي لا الكلي. ولنا أن نلاحظ أن الدعاية الإيرانية لا تقتصر على الإشادة بالتشيّع ومهاجمة الإنجازات التاريخية للمسلمين (السنة)، بل وتشفع ذلك بإعلاء كل ما هو إيراني وبخس كل ما هو عربي غير فارسي. وعلى الطرف التركي لا يفوت المراقب ملاحظة الاعتزاز الخاص بالمساهمة التركية التاريخية في حماية الوجود المسلم والثقة بلعب دورٍ قيادي للأمة في المستقبل.

والخلاصة أنه ينبغي اتخاذ الإطار الجيوسياسي الإطار العام للتحليل، تُنظم الجزئيات الأخرى ضمنه وليس العكس. ولذلك يُجمع علماء السياسة الغربيون أن إنجازَي جنوب لبنان وغزة غيرّا في معادلة توازن القوى في المنطقة، وليس في هذا الاستنتاج علاقة بحبّ أو بغض التشيع أو حب أو بغض حركة حماس. ولو حدث الإنجاز نتيجة زلزال أو إعصار ليس للبشر فيه دور رفع غزة فصارت على رأس جبل يصعب اختراقه، لوجب القول بأنه حدث تغيراً هاماً.

الاستشهاد بالتاريخ

ويشكّل التاريخ مادة أساسية في الجدال حول الدورين الإيراني والتركي، وسلامة الاستدلال ودقّته هنا مطلوبتان أيضاً. إن التاريخ سجل حافل يمكن أن يجد فيه المتخاصمون شواهد تروق لهم وتدعم استنتاجاتهم. فالتاريخ من ناحية الحقائق وما جرى محطّ المراجعة والتمحيص، ويشكل المنظور الذي توضَّع فيه المعلومات التاريخية أمراً أهم من الوقائع بعينها. ولذلك مثلاً نجد فروقاً هامة في الاستنتاجات التاريخية بين المسلمين والمستشرقين حتى إذا اعتبرنا فقط أعمال (المنصفين) منهم، وليس ذلك لاختلاف على الـ(حقائق) وإنما للنهج التحليلي ولطبيعة الإطار التي توضع فيه هذه الحقائق. ولذلك يُقال بأن كل روايةٍ للتاريخ تقوم بإعادة بنائه ورسم صورة جديدة له.

الأمر الآخر الذي يجب أن يُذكر عند الاستشهاد بالتاريخ هو التفريق بين التوجهات العامة والنشاطات الجزئية. ولما كان التاريخ سجلاً للحياة البشرية بتنوعها فإنه يحتوي حكماً على كمّ كبير من التفاصيل المتباينة تبايناً شديداً في دلالاتها إلى درجة التعارض الكامل. فمثلاً هل كان تاريخ المسلمين تاريخ العلماء والتقاة أم تاريخ الشعراء الماجنين؟ إن إطلاق قصة القاضي شُريك من ناحية أو شعر ابن زيدون من ناحية أخرى غير مفيد، ولا يساعد كثيراً في فهم استراتيجيات الغزو المغولي أو الحروب الصليبية. إن صواب الاستدلال يدعو إلى النظر في الأنساق العامة للتاريخ وليس في التفاصيل الجزئية.

وعند الكلام عن إيران اليوم، يأتي ذكر التشيع في التاريخ المسلم. غير أن علينا أن نحلّل مدى تطابق تشيع اليوم مع الأمس، وأي حقبة من التاريخ الشيعي نقصد. فتشيع إيران اليوم هو أقرب إلى القومية الدينية. ولدى تقييم التجارب التاريخية ينبغي على التحليل ألا يقتصر على الجانب السياسي وأن يشمل -على الأقل- الأبعاد الأربعة التالية: (1) تمكين التماسك الداخلي والضبط الإداري؛ و (2) دعم العلم والمسيرة الثقافية؛ و (3) تحقيق القوة الاقتصادية المالية؛ و (4) تمكين المواجهة مع التهديدات الخارجية.

ولا يخفى أنه كثيراً ما يتمَّ التركيز على البعد السياسي لتاريخ المسلمين، وبالتحديد بُعد الفتوحات والامتداد الخارجي، ويأتي ضمن الحديث عن العلاقات السياسية الخارجية ذكرُ التحالفات التي تقيمها الدول، إذ تثير مسألة التحالفات شغف الناظر إلى التاريخ نظرة سريعة وتعطيه أداة طيّعة للحكم على التاريخ تخويناً واتهاماً. وإنه لمقرر في علم السياسة أن القوى الإقليمية الصاعدة تبحث عن أي حليف لتقوية وضعها، ولو كان هذا الحليف عدواً لها يوماً ما. والمرونة في السلوك السياسي (إن صحت التسمية) موجودة في التاريخ السياسي لكل الدول وتصل أحياناً إلى حدّ مفرط جداً، وأحياناً يضحّي السلوكُ السياسي بالمصلحة الآجلة من أجل مصلحة عاجلة تحت ضغط وهم الاستفادة الآنية.

فما القول مثلاً في النزاع العثماني الصفوي؟ يُشار عادة إلى أن الضغط الصفوي في الشرق ساهم في عجز العثمانيين عن إغلاق الحلقة في شمال البحر المتوسط وفوّت فرصة تاريخية نادرة. ولعل هذا التحليل صحيح؛ غير أن الأمر لا يخرج عن طبيعة سلوك القوى الإقليمية. وعلينا أن نتذكّر أن العثمانيين أجروا تحالفات كثيرة مع الأمم والدول النصرانية، قاربت الخطأ أحياناً والصواب أحياناً، وكانت أولاً وآخراً تصرفات سياسية بحتة من قِبَل قوة راسخة من أجل أهداف استراتيجية. تكمن المشكلة عندما تقوم دولة ما بالتحالف ولتلك الدولة مشروع أناني قومي أو مذهبي، لا يسع الأمة ولا يرعاها؛ وهذا هو الذي يُعاب على التحالف الصفوي مع الفرنجة.

وإذ لا نصف مناورة المتمكّن الذي يسعى نحو مشروعٍ سياسيٍ بالخيانة، الأمر مختلف في مناورة وبراغماتية فرقة أو أقلية تمتلك خيال مشروعٍ سياسي خاص بها. ولا يسع الباحث إلا ملاحظة أن تمحور الشيعة حول أولويات مصالحهم الخاصة أمر مطّرد، وهو أمر مقلق حقاً وله اتصالٌ أكيدٌ بالخيال المذهبي الطوباوي الذي يشتطّ ببراغماتيه إلى حدٍ بشع. والمعيار التقييمي في مسألة التحالفات هو مصلحة عموم الأمة. ولنا أن نتذكّر قبول المسلمين من السنة التحالفات العثمانية برغم تجاوزاتها إنما هو للاعتقاد بأنها قصدت دعم هدفٍ عامٍ للأمة، ويقابل هذا شعور الخزي بتحالفات ساسة طوائف الأندلس لإدراك ضمير الناس أنها لم تخدم إلا مصلحة ضيقة ومؤقتة قاربت خيانة الأمة.

التأجيج المذهبي الطائفي

وبذكر التفريط في المصالح الراجحة للأمة يُشار إلى أن سلامة النسيج الوطني من التضارب الداخلي أهم من صفاء الشارات المذهبية. وإن التأجيج المذهبي الطائفي يصرف النظر عن التفكر في العوامل الجيوسياسية والاستراتيجية الكبرى التي سبق بيان أولوية فهمها وتدبّرها. وليس هناك شك في أن الشرخ السني/الشيعي هو أعمق شرخ في بنية الأمة، له امتداداته التاريخية ولا يُتصور زواله تلقائياً وخلال فترة قصيرة، ولا سيما أنه يستدعي مراجعات علمية على مستوى الفهم التاريخي والفهم الشرعي ويفتقر إلى نضوج غير متوافر، فالنضوج اليوم لا يسمح حتى بتدبّر الخلاف الداخلي.

وليس هناك شك في أن القوى الخارجية تسعى حثيثاً لاستثمار هذا الشرخ، ويُمكِّن المسلمون نجاعة هذا الاستثمار بانعكاساتهم المتعصبة مذهبياً. والقول برفض التعصب المذهبي لا يعني الدعوة إلى السيوبة والاعتباطية الفكرية، وإنما أن الحجة تُقارع بالحجة. إن التعصب المذهبي المذموم هو الذي يتمسك بالظاهر والشعار إلى درجة الذهول عن العوامل الفاعلة في حياة الأمة، ويضحّي بالمصالح الكبرى من أجل التحسينيات الصغرى. وهذا لا ينفي أن إيران اليوم معقل الكمون الشيعي تتربّص وتخطط، وما ذكرته يطلب مقابلة التخطيط بالتخطيط لا بالمبارزة المذهبية. كما أنه لا شك بأن القوى الخارجية متربّصة لاستثمار التوتر السني الشيعي وأي خلاف داخلي (مذهبي أو قومي) مثلما يحصل في قضيتي دارفور والكُرد. ولنا أن نؤجّج الصيحات ونلوّح بالشعارات ونخوِّن هذا أو ذاك، أو لنا أن نتفكّر مليّاً بالأسباب الواقعية التي تدفع نحو الرغبة بالانفصال، بغض النظر عن أن التفتّت والانفصال هو -بديهة- في غير الصالح العام.

المصلحة العربية

إن المصلحة العربية لتقتضي الاستفادة من القوى الإقليمية المجاورة الصديقة لتخفيف قوى الضغط والمحاصرة والإضعاف الداخلي والشرذمة التي تتعرض لها الكيانات العربية، وإن أي صدام مع القوى المجاورة يستهلك الطاقات النادرة ويصرفها عن الأولويات المهمة. ولن يحلَّ العجز العربي إلا رشاد الهمة العربية واجتماع أمرها على أهدافها الكبرى، وإلا سيبقى العرب على هامش الحراكين الفارسي و التركي، يرجون من الآخر أن يحلّ مشاكلهم وأن يقوم بواجبهم نيابة عنهم.

وأخص بالذكر هنا المشروع التركي لأن أوجه انسجامه مع المصالح العربية أمر له أبعاد استراتيجية خلافاً للمشروع الإيراني؛ غير أنه يبقى مشروعاً تركياً بامتياز، ويتضح هذا في الموقف من مياه دجلة والفرات. ويشار إلى أن المشروع التركي قد يكون أقل تماسكاً ورسوخاً من الإيراني، إذ يعتمد على توازنات داخلية تحكمها الانتخابات وهي قابلة للتغير المفاجئ، ويعتمد في المستوى الخارجي على توازنات مع الدول الأوروبية وعضوية الناتو مما يحاصر خياراته الكبرى. النقطة هنا هو أن تحليل الصعود التركي مفهوم من ناحية اعتبار الخيارات الاستراتيجية والتصرفات نحوها، وليس من مجرد المنزع الإيديولوجي، إسلامياً كان أو غير إسلامي. وكذا المشروع الإيراني، ولو أن هذا الثاني يستثمر المذهبية (العقدة الشيعية) أي استثمار.

أوليس من المفارقة أن الولايات المتحدة التي تقلق قلقاً شديداً من الحراك الإيراني وتعدّه مما يهدد مصالحها العالمية الاستراتيجية -كما يُجمع على ذلك المخططون الأمريكيون- وتحاصر إيران اقتصادياً وسياسياً وتكنولوجياً… أوليس من المفارقة أن تكون الولايات المتحدة برغم كل عدائها للمشروع الإيراني مستعدة لعقد صفقة استراتيجية مع هذا العدو الذي دفع بقوة مشروعاً وطنياً متماسكاً. أوليس إذا امتد بنا التواكل والتمني والاكتفاء بترديد الشعارات الذامّة لفريق والمادحة لفريق آخر سيوصلنا إلى مفاجآت جديدة نبرَع عندها في اختراع مسبَّات جديدة وهجاء لقومٍ جدد. وهل إذا وجدنا يوماً أن في المشروع التركي بعض التمحورات القومية تأخذ أولوية فوق أولوية الأمة المسلمة سنعود إلى هجاء القومية الطورانية ومدح القومية العربية. وإذا بقي هجاؤنا يومها هجاء مذهبياً بحتاً، أوَلا يكون فارغاً وعاجزاً عن النهوض بالأمة العربية أو دفع الظلم عنها.

تفاعل المذهبي مع السياسي

وأعود لما استفتحت به هذا المقال من ضرورة دقة استعمال الدلائل لا على مجرد جلبها، وعلى ترتيب الأولويات لا تجاوزها، وعلى الحذاقة في اكتشاف القواعد المشتركة لا على التنقير عن أوجه الخلاف. والذي أحاول التأكيد عليه من وجوب استحضار العوامل الجيوسياسية لا يعني أن المذهبية والإيديولوجية ليست مهمتان، وإنما أنه حين نقوم بالتحليل السياسي يجب أن نستحضر الأبعاد السياسية أولاً، وحين نقوم بالتحليل الثقافي نستحضر الأبعاد الثقافية أولاً، فلكل أسيقته وأنساقه برغم التقاطع بين الفضائين.

وعند التحليل الثقافي يصح القول إن تشيع إيران أمر له تبعات واقعية كثيرة. ويقتضي هذا دراسة تطور التشيع في إيران، وبخاصة الفترة القاجارية التي تبعت المرحلة الصفوية وسبقت مرحلة الأسرة البهلوية. ويقتضي هذا دراسة الاعتراك الداخلي للتشيع مع تجاربه المعاصرة بعد أن وصل سدّة الحكم، وكيف عالج مفهوم الإمامة ودور الفقيه وولايته، ودور المرجعيات. وعندها يلزم التفريق بين التشيع العربي والتشيع الفارسي، إذ يستصحب التشيع الإيراني كمّاً هائلاً من التراث المحلّي الفارسي لما قبل الإسلام.

ويجري التساؤل عند هذه النقطة: أليس هناك تفاعل بين البعد المذهبي والبعد السياسي؟ والجواب هو الإيجاب. ولكن القول بوجود التفاعل أمر مختلف عن استبدال أسئلة بُعدٍ بأسئلة بُعدٍ آخر. فمثلاً إذا كنا نتكلم عن فاعليات السوق فإن التركيز يجب أن ينصبّ على سلوك المستثمرين وأصحاب العمل والعمال والموظفين، وليس على سباق الترشيح لعضوية البرلمان برغم أن السياسة توثر في الاقتصاد. ولا شك في أن التحليل الرصين هو الذي يشبك العوامل المختلفة بنسبها المقدّرة، وإذا جرى تطفيفٌ لعاملٍ على آخر لَقَدَحَ في قوة التفسير. وباعتبار البُعد الثقافي، يصحّ القول إن تمكّن إيران وظهورها سوف يجلب متعلقات فارسية من تراث إيران، مثل التصوف الفلسفي والفهم العقدي الذي يركّز على الإشراق.

وأُذكِّر هنا بأن التفسيرات التآمرية المرفوضة منهجياً قد لا تكون وهماً خالصاً بقدر ما هي تضخيم لعوامل جانبية وهامشية. أي أن الدلائل موجودة ولكن استُخدمت على نحو غير سليم.

ومرة ثانية، مما يدعم وجوب التركيز على البعد الجيوسياسي عند الحديث عن إيران هو أن سلوكها العملي قد لا يختلف كثيراً لو لم تكن إيران شيعية، فلو كان الشاه وحفنته اللادينية موجودين اليوم لاستغلت سياسة إيران التخلخل السياسي العربي. ولو تحقّق لإيران بسط نفوذها فإن نرجسيتها السياسية سوف تقمع المخالفَ الذي يُصنَّف بأنه سنيّ قمعاً شديداً، وتقمع المنافسَ الشيعي العربي قمعاً مختلفاً. وقد يكون قمع المنافس الشيعي ناعماً بسبب الاشتراك المذهبي، أو قد يكون قاتلاً إذا هدّد بتشيعه أحقّية الحكم وشرعيته؛ وتأمّل كيف وُضع آية الله المنتظري تحت الإقامة الجبرية سنيناً –إلى أن فارق الحياة- برغم أنه كاد أن يكون خلفاً للخميني. فهل مردّ هذا إلى المذهب أم إلى السياسة؟

إنَّ المطلوب هو تطوير مشروع عربي ملتزم بالمصالح العربية الكبرى معتمداً على ذاته وكموناته الحضارية وواعياً لمصالحه الاستراتيجية. ويتطلّب هذا تعاملاً دقيقاً مع الفاعليات الجيوسياسية، فالذي يصعد بسببها ولا ينتهز الفرصة العالمية السانحة لإصلاح الداخل يهبط عندما تمضي هذه الفرصة.

خاتمة

وأختم بذكر قصة واقعية فيها درس في منهجية التحليل مثل ما استفتحت به المقال. كنت أكلّم أستاذاً جامعياً صديقاً لي، فذكر لي قصة تعديل مناهج تدريس الرياضيات في فرنسة. وذلك أن أهل الاختصاص شعروا بأن هناك إشكالاً في طريقة تدريس الرياضيات، فقاموا بالتجربة التالية. قاموا باختبار عيّنة من الطلاب في مسألة عربة لبيع الخضار. وأُعطي الطلاب الممتحَنون معلومات مفصّلة عن العربة وقطر عجلاتها وأحجام أوعية الخضار التي تحملها وغيرها من التفصيلات، وطُلب حساب عمر سائق العربة. وكانت المفاجأة المتوقعة في أن كثيراً من الطلاب قاموا بصياغة معادلات رياضية لحزر عمر السائق، فكان ذلك دليلاً ناصعاً عن إمكان تغييب الأطر المطلوبة للفهم السليم والانشغال بجزيئات هي صحيحة بذاتها لكن لا تصلح ولا تُعين على الاستنتاج القويم.

28 ذي الحجة 1430 هـ/ 15 ديسمبر 2009 م