حديثٌ صحيحٌ مُجرّب

265

كان الشيخ الوقور منكباً على قراءة كتابٍ من كتبه القديمة التي يحبها ويستمتع بقراءتها ولا يملّ من تكرار النظر فيها ليلَ نهار..

وعلى الضوء الشّاحب لشمعةٍ قديمة كان الشيخ يمضي أوقاتاً طويلة بعيداً عن صخب الحياة وعناء التعامل مع الناس ومكابدة أحوالهم ومشكلاتهم . وفي أثناء القراءة ، مرّ على عبارة بدون سندٍ أو تحقيق تقول: “من طالت لحيته خفّ عقله” فاستبعد الشيخ أن يكون لهذه العبارة نصيبٌ من الصحّة ، فمضى في قراءته لا يبالي .

ولكنه بعد قليلٍ توقف عن القراءة وسأل نفسه: هبْ أن أحد السفهاء نظر في هذا القول أو سمع به ، فلا شكّ أنه سينالني منه نصيبٌ من السفاهة والغمز واللمز ، وربما ناداني أحدهم بهذا الوصف (يا ذا اللحية الطويلة) ليغري بي الصبيان والسّفهاء . إنني لن أخسر شيئاً إذا قصّرت من لحيتي وتخلّصتُ مما زاد على القبضة ، بل ربما أستريح من مضايقات السفهاء و غمز جيران السوء.

أخذ الشيخ لحيته بيده فوجدها أطول من قبضة ، فأراد أن يتخلص مما زاد عنها ، فقرّب لحيته من لهيب الشمعة ، وإذا بلحيته تحترق عن بكرة أبيها !.. اندهش الشيخ لما حدث ، ولكن دهشته لم تصرفه عن التحقيق والنظر في الكتب ، فأمسك بقلمه وكتب حاشيةً تحت العبارة تقول “حديثٌ صحيحٌ مُجرّب” …

~ ~ ~

ما أكثر الذين يظنّون أن العلم المسطور في الكتب – بغضّ النظر عن صحّته وصوابه – يغني أو يمكن أن يكون بديلاً عن مكابدة الواقع ومعرفة مداخله ومخارجه وملابساته وقرائنه .

وكم تكون المفارقةُ مؤلمةً والمصيبة حقيقيةً عندما يكون أمثال هؤلاء من يتصدون لإصلاح الواقع وتغييره وتزكيته .

فإذا حدثَ ما يكرهون ، كأن تصرفَ الناسَ عن الخير صوارفُ ومذاهبُ وضغوط وأحوال معينة ، انسحبوا دون أن يبحثوا عن سبب ما حدث في الواقع الذي دهمهم ، بل وأعرضوا عن هذا الواقع حالمين أن يجدوا ما يزيدهم فهماً وقدرةً على علاج الواقع في الكتب والنصوص وأقوال الحكماء الأقدمين .

إن الكتب والنصوص وحكمة الأقدمين لا ينتفع بها إلا من عاش واقع الناس وكابد مشكلاتهم وهمومهم ، واطّلع على ما يجري وفق عالم الأسباب ، ولاحظ النتائج في انسجامها أو اعوجاجها عن المقدّمات والأسباب .

وما أكثر من يدفعون الثمن من عرقهم ودمائهم وأعمارهم وأموالهم وجهودهم فقط لأنهم أعرضوا عن التعامل مع الواقع لفهم ما يجب فعلهُ في هذا الواقع ، غارقين في بطون الكتب بحثاً عن “حديثٍ صحيحٍ مجرّب” ليدفعوا ثمن التجربة في كل مرة ، وكأن الاعتراف بوجود ذلك الواقع والتعامل معه “كما هو” إنما هو إقرارٌ أو قبولٌ وتزكيةٌ لكل ما يمثّلهُ أو يقوم عليه ..

والحقيقة الحزينة هي أن من يقفزون فوق الواقع وهم يحاولون التطهّر من آثامه وأخطائه ، إنما يتعاملون مع الأوهام والأحلام، حتى إذا ما تكلّموا لم يجد الناس مِصداقاً لكلامهم في حياتهم أو معاناتهم أو تجاربهم ، وإنما كان أقصى ما يجدونه آثار ومعطيات تلك الأوهام والأحلام ..