الإسلام ونظُم التشغيل

211

من الأفكار التي يردّدها كثيراً أحدُ الدعاة -المشهورين إعلامياً- أنّ الله تعالى لم يخلق الإنسان ليتركه سدىً بل أرسل له (كتالوج) -على حدّ تعبير الداعية- أي نظام تشغيل تفصيلي فيه تعليمات الصانع، وأنّ على الإنسان أن يطالع هذه التعليمات الشاملة لكل نواحي حياته ويلتزمها وإلا فسد حاله، وأننا بالتزامنا بهذا النظام وهذه القوانين سيصبح هواؤنا الذي نتنفسه ديناً وشريعة.

أظنّ أنّ هذا الكلام يحمل رسائل سلبية مضرّة بفهم الإسلام وبواقع المسلمين، وكثيراً ما نغفل عن هذه الرسائل ونتشرّبها، لأنها تُقدَّم لنا على ألسنة الدعاة في ثوب النصح وإرشاد الناس، وبالتالي تحمل مشروعيتها في أذهان الناس، ويصبح الناقد لها عندهم معترضاً على أبواب الخير وصاداً عن سبيل الله.

إذا نظرنا إلى النصّ القرآنيّ كمّاً -والقرآن هو أساس الشريعة ودليل حياة المسلمين- لوجدنا أنه يتألف من 6235 آية، ولوجدنا أن آيات الأحكام لا تتجاوز في أقصى تقدير 500 آية، أما باقي آيات القرآن أو لنقل الجانب الكبير منه هو جانب القصص القرآني الذي تشكل آياته ربع آيات القرآن تقريباً في 1453 آية، وهذا يجعلنا نقول إن النظرة القانونية نحو القرآن أو نحو الإسلام عموماً أي النظرة التي تعطي أهميتها لآيات الأحكام دون غيرها أو النظرة الآلية التي تنظر إلى الإنسان المكلّف على أنه مجرّد آلة يتلقى الأوامر وأنّ له نظام تشغيل، هي نظرة غير دقيقة وتحتاج إلى تصحيح.

بداية إنّ الفرق بين آيات الأحكام وآيات القصص والأخلاق أنّ آيات القصص تشير ولا تحدد، تترك للإنسان مساحة أكبر للفهم والتأويل وتحديد المعنى، تعطيه حرية أكثر في التعامل مع النص وإسقاطه على واقعه وحياته بعيداً عن التعامل الآلي الجاهز، آيات القصص تشعرنا أن النص يتفاعل مع الواقع، مع الزمان والمكان، وتجدّد فينا معنى الوحي والآية، وأنّ الإنسان يتعامل معهما بحضور عقلي وقلبي كأنه هو الذي يتلقى الآيات وهو الذي يتنزّل عليه الوحي، والنظرة نحو الإسلام على أنه نظام تشغيل آليّ أو على أنه قوانين دستورية فقط، وإغفال الجوانب الأخرى، تحمل –في رأيي- أربعة إشكالات ينبغي الاهتمام بها، ولكنْ قبل ذكر هذه الإشكالات من المفيد أن ندرك أن غرض الكلام ليس التحلّل من الأحكام الثابتة التي فرضها الإسلام أبداً، وليس الغرض التساهل والتفريط بقوانين الشريعة، إنما الغرض هو توسيع النظرة نحو الدين ومفهومه وحضوره في حياة الإنسان، وبالتالي الوصول إلى حالة آمنة في التعامل مع الدين دون إفراط ولا تفريط، بل إنّ هذا مقصد من مقاصد التشريع، وقد تحدث عن ذلك الإمام الشاطبي في فهم القرآن وفي دلالات أحكام الشريعة.

الإشكال الأول: في هذه النظرة القانونية والآلية للإسلام تغييبٌ للمساحة الكبيرة التي أعطاها الشارع سبحانه للإنسان ليتحرّك بها، ويحدّد خيرها وشرها، وما يناسبه فيها وما لا يناسبه، وما يفعله وما يتركه، هذه المساحة الواسعة التي لم يرد فيها نصوص شرعية هي الأصل عند الأصوليين قبل إنزال أيّ نصّ شرعي، بمعنى آخر: إن القاعدة التي يقرّها الأصوليون “الأصل في الأشياء الإباحة” تدلّ على البراءة الأصلية لهذا العالم، وأن الإنسان خلقه الله وسخر له ما في الأرض جميعاً ليتصرّف به كما يريد، ثم بعد ذلك بدأ ينزل الاستثناء بما حرم الله ورسوله أو بما أمر به ونهى عنه، وهذه قيمة إيجابية في الإسلام وفي نظرته نحو الإنسان، وكثير من المسلمين يغفل عن هذه القيمة، بل إن تعامل بعض الدعاة والفقهاء اليوم مع الإنسان والتشريع على عكس هذه القيمة الإيجابية تمامًا؛ فهم بإلحاحهم على تصوير الإسلام بأنه مجموعة واجبات ومجموعة محظورات ولّدوا ثقافة في أذهان المسلمين قائمة على المنع والحظر والأمر وبالتالي ثقافة تعتني بالخطيئة والذنب وتركز عليهما وتقصي الناس لأجلهما، وثقافة تقيّد الإنسان أكثر مما تطلقه.

هذه المساحة المباحة قلّصها بعض الفقهاء في أذهان الناس، حتى وصلنا لطرائف غريبة في التعامل مع الدين ومع الفقه تحديدًا، فمن الطريف مثلاً أننا إذا تصفحنا موقع “ASKfm“، ودخلنا حساب أحد المشتغلين بالفقه والأحكام الشرعية لوجدنا أسئلة غريبة من قبيل اختيار التخصص الجامعيّ والعلاقات الزوجية وأحياناً عن الرياضة والأفلام، بل ومن المضحك أننا قد نجد أسئلة عن تخسيس الوزن، كل ذلك والشيخ يقدّم إجابات يمكن وصفها بأنها بهلوانية، وهذا على ما فيه من اجتراء واضح على مفهوم الدين في أذهان الناس وإقحامه في مساحات تركها للإنسان وعلى ما فيه من قتل للإنسان نفسه وتعطيل لاختياراته، إلى جانب كل هذا هو عكس التصرّف النبوي الذي كان يقول للصحابة “ذروني ما تركتكم”، بل على عكس التوجيه القرآني  {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101- 102].

الإشكال الثاني: هذه النظرة القانونية للإسلام غالباً ما تحمل تسطيحاً لمعنى الاختلاف ضمن أحكام الشريعة نفسها، وبالتالي يصبح في أذهان الناس أنّ حضور النص كافٍ لإطلاق الحكم وكافٍ لترتّب آثاره، وفي ذلك نرى إنكار الناس على بعضهم في الجزئيات والتفصيلات التي يعتقد كل واحد فيها أنه المصيب لأنه يمتلك النصّ، ويكثر هنا ترداد القاعدة الأصولية “لا اجتهاد في مورد النص” وهذا اختزال للقاعدة عن معناها الحقيقي الذي يقوله الأصوليون أنه لا اجتهاد في مورد النص القطعي وروداً والقطعي دلالة، ووفق هذا المعنى الحقيقي لا يدخل إلا عددٌ محدود من آيات الأحكام ومن أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهنا يظهر باب الاجتهاد البشري والمساحة التي فتحها الله تعالى لعباده في داخل المنظومة الدستورية التي نفترض عادة أنها محكمة وثابتة، ونفترض أيضاً أنها معطيات جاهزة آلية لا يؤثر فيها الإنسان، وإنما هي لو تمعنا فيها لوجدناها تقدّم نفسها ضمن شروط الفهم الإنساني وتأثير الواقع عليه.

الإشكال الثالث: أن النظرة نحو الإسلام على أنه مجموعة من الأنظمة التي ينبغي تفعيلها، أو على أنه مجموعة من القوانين الجاهزة، هذه النظرة لا تغطّي فقط على المساحة الكبيرة التي أباحها الله لحركة الإنسان وسلوكه واختياراته ضمن ظروف الزمان والمكان، حيث لم يحدّد فيها نصوصاً واضحة بل تركنا نتصرف ضمن حركة التاريخ والمجتمع، بل قد تغطي أيضاً على تقديم القرآن لنفسه من خلال أكثر الآيات على أنه قيمٌ موجّهة للمجتمع وللخط الحضاري أكثر من كونه قوالب جاهزة وأنظمة آلية للتشغيل، وطبعاً نحن نتحدث عن اللامحدد واللامنصوص، ولا ننفي أبداً أن الإسلام جاء بمنظومة دستورية ضابطة لمجالات الزواج والطلاق والبيوع وغير ذلك، وإنْ حملت هذه المنظومة في داخلها مساحة واسعة للاختلاف والاجتهاد البشري، لكن ما نراه مثلاً في تعامل الصحابة والخلفاء الراشدين والمصلحين مع واقعهم يوحي بفهمهم الواضح تجاه هذه المسألة، وخصوصاً في مسائل الإدارة والحكم واستعارتهم تقاليد كثيرة من بلاد فارس والروم، واختلاف أسلوب تولية الخليفة، أو تعطيل بعض أحكام الشريعة كما فعل عمر في حدّ السرقة عام المجاعة، وحصول هذا كله كان ضمن قيم موجّهة يوجهها الإسلام والقرآن مثل قيمة العدل {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ومثل {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ولعلنا بهذا قد نفهم لماذا يتمّ تصوير الشورى على أنها نظام وهي في الحقيقة أقرب إلى أن تكون قيمة موجّهة نعمل في ضوئها أكثر من كونها آلية جاهزة واضحة المعالم نسعى لتطبيقها. كذلك مثلاً نجد في ديننا حثاً واضحاً على “جهاد الظالم” وعدم الركون إليه، وهذا المبدأ العظيم يخلق الحافز في نفوسنا للجهاد ضد الطواغيت في الأرض، لكنّ آلية هذا الجهاد وكيفية تحرير المجتمع من هذا الظلم إنما هي قضايا تركها الإسلام للعلوم والتجارب والفنون المعاصرة لكل زمن، وللشروط التاريخية والواقعية.

الإشكال الرابع: وهو يقع في دائرة أزمة الخطاب التي تعاني منها التيارات الإسلامية والدعوية وطريقة تعاملها مع المجتمع دون دراية بالتحولات الطارئة في أنماط التدين بين الشباب، فمازال الخطاب الإسلامي يتعامل مع التدين على أنه الدين ويتعامل مع الدين على أنه التدين، ولا يفرّق بين المقدّس والتاريخي، ولا بين المتعالي والبشري. ونستطيع أن نلمس من هذا الخطاب فهمه للعلاقة بين العبد والله تعالى على أنها علاقة أحادية الاتجاه فقط، أي علاقة خضوع وتسليم وعلاقة امتثال للأوامر والنواهي، علاقة دستور وقوانين ومكلفين، وهذا فهم حاصل بأثر رجعي واضح من المدارس الفقهية في مجتمعاتنا التي تقوم على دراسة الأمر والنهي والفعل والترك، وفي الحقيقة أظن أنه من الضروري بقاء هذا الفهم وبقاء معنى العبودية والطاعة لكن من الهامّ الانتباه لأثر تفرّده في الخطاب مع التغيّرات الاجتماعية الحاصلة في النظرة تجاه الدين وتجاه العلاقة بين الإنسان والله تعالى، لذلك أظنّ أن سحب نسبة الالتزام الديني والتديّن عن شريحة من الشباب التي تتملّص من الأوامر والنواهي لا لغرض الإنكار بل لغرض إعادة الفهم والتأويل وإن كان تأويلا غير سائغ؛ هذا السحب هو تصرّف لم يدرك أن هذا الشباب يريد أن يلتصق أكثر بالدين لكن بشكل آخر من أشكال العلاقة وهي العلاقة التفاعلية التي تنظر إلى الصلة بين الإنسان والله تعالى صلة تقوم على المحبة والانجذاب وتقوم على روح القوانين لا على القوانين نفسها، وبالتالي هي تعدّ نفسها متدينة، لكنّ هذه الفئة جاحدة للدين وتستحق التعنيف برأي الذين ينظرون للدين على أنه التديّن الآلي المطبّق لتعليمات الصانع، وذلك لأنهم -أي أصحاب النظرة الفقهية القانونية- يغفلون الدين بمعناه الوجودي والروحي والأخلاقي ويتعاملون معه على أنه التديّن بمعناه التطبيقيّ، وأظنّ أننا لا ينبغي أن ننظر لهؤلاء الشباب بعين الرضا والتشجيع ولا بعين التعنيف والإقصاء ولكن بعين القلق والتفكير، وأن يستوعب الخطاب الدعوي هذه الاختلاف الجديد، وأن يقدّم مواقف وسياقات تلبي رغبة التديّن الشبابي في الفهم وتتجاوب مع محاولاتهم وتوجّهها، وأن تخفف من هذه النظرة الحادة تجاه الإنسان والمكلّف والتعامل معه على أنه روبوت آلي. 

أعتقد أن الوصول إلى حالة آمنة في التعامل مع مفهوم الدين والشريعة دون إفراط ولا تفريط، ودون اختزال لمضمون الشريعة والوحي يقدّم لنا ثلاثة أمور هامة في حياة المسلم:

الأمر الأول: يضع المسلم في طريق التكوين الحضاري للأمة، وخصوصاً حين يعلم أنه مدفوع بالوحي والإسلام ليعمل ويختار ضمن المساحة الواسعة المتاحة له، وأنه بذلك لن يكون آثماً حين يسعى دون معطى شرعي جاهز، بل يرى في عمله المثوبة والأجر حين يجري عمله ضمن معطيات موجّهة بالوحي أخلاقياً وإنسانياً تترك له حرية التعامل مع الواقع.

الأمر الثاني: يقي المسلم من الجمود الحضاري الذي تضعه به النظرة السابقة في سياق البرمجة والآلية والمعطيات الثابتة الجاهزة التي ينتظر تحقيقها، أو التي تجعله مستلباً دوماً لأمثلة تاريخية ماضية يسعى إليها ويظنها جوهر الإسلام أو يظنها نظام التشغيل الصحيح.

الأمر الثالث: يصبح حرصه على قيم الإسلام ووجودها يماثل حرصه على الإمساك بالأحكام الشرعية وتطبيقها، ويقلل من كونه مشدوداً إلى شكليات عامة يراها لبّ الإسلام وعلى أساسها يصنف الناس ويقيّم خدمتهم وعطاءهم للمجتمع أكثر من تركيزه على القيم الجوهرية التي احتفى بها الإسلام أيضاً.