قراءة تجديدية في المناهج الفقهية

655

لتحميل الدراسة بصيغة PDF اضغط على الرابط التالي: قراءة تجديدية في المناهج الفقهية

حفل التراث الإسلامي بكم ضخم من الإنتاج الفكري في مختلف مناحي العلم من  الرياضيات إلى الإرث ومن الكيمياء إلى السلوكيات، ولكن احتل الفقه مكانة ما بعدها مكانة. ورغم ما لعلوم القرآن والحديث والأصول من مركز عال، فإن منـزلة الفقه تاريخياً حازت على أعلى الاهتمام، ورتّب الفقه التشكيلة العقلية للخاصة والعامة وصاغ طبيعة فهمهم للدين والتدين. ويمكن أن نميز اليوم أربعة مواقف من التراث الفقهي: موقف يرى فيه كل الأجوبة ولا يرى إلا حاجة التفتيش في كتب الأقدمين؛ وموقف ينادي إلى توسيع أو تعصير الطروحات الفقهية القديمة؛ وموقف يؤكد لا على ذات الأقوال وإنما على التخريج وفق المنطق الفقهي وقواعده؛ وموقف يدعو إلى الارتفاع إلى ما فوق الفقه والنظر في مقاصد الشريعة.

وأحب في هذا المقال أن ألقي بعض الأضواء على مناهج الفقه التاريخية -والتي غلبت عليها النـزعة القانونية– محاولاً اكتشاف كمونها وتجديد فهمنا نحوها. وتكمن ضرورة القراءة التجديدة للمناهج الفقهية في أنها تدعم التوجه المقاصدي الذي تنادت الأصوات بضرورة استحضاره، كما تزيح عقبات التخوف في أنه يهدم تراثنا الفقهي. ومن ناحية أخرى فإن المقال يعالج بشكل غير مباشر إشكالية قراءة أي نص تاريخي مشيراً إلى تاريخانية التراث الفقهي، وهي تاريخانية مزدوجة وجهها الأول هو نمو هذا الفقه في واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي معين تأثر به حكماً، ووجها الآخر هو طريقة فهمنا نحن لهذا الجهد العلمي وهذه المنطوقات التاريخية. والمقال يشير -ضمناً- إلى أن القراءة التي تستصحب عناصر تاريخانية لا يلزم بالضرورة أن تكون قراءة هدم، بل يمكن أن تكون قراءة تفهم دقيق.

حال الفقه قبل التمدرس

انقضى عصر التابعين وأوائل عصر تابعي التابعين والعلماء منتشرة في الأمصار تواجه الوقائع اليومية بما آتاهم الله من فهوم، متسلحة بذخيرة من الأحاديث والوقائع على زمن الصحابة. فكان هذا هو “المستودع المرجعي” إن صح التعبير الذي يُعملون عقولهم فيه ناظرين في الواقع ومحاولين إخراج موقف فقهي يحقق مقصد الشريعة في ذلك الحال الذي يواجهونه. أي أن الفقه في ذاك الزمن لم يكن منظماً ومقنناً بالصورة التي نعرفها اليوم، بل كان آراءً منثورة تتناقلها العلماء وتلامذتها، وتتوارثها الناس في عاداتهم وتصرفاتهم المعاشية التي تتقارب إلى هذه الآراء. وأصبحت جملة آراء وفتاوى وفهوم علماء هذه الفترة بحد ذاتها مناخاً ثقافياً ومرجعاً فقهياً استأنس به الفقهاء فيما بعد وأثّر في استنتاجاتهم. 

منهج الفقه الحنفي

كان المذهب الحنفي أول محاولة منظوماتية تبغي نقل الفقه من مرحلة الإبداع الذاتي التلقائي في مواجهة الوقائع إلى مرحلة التأسيس المدرسي المقنن. ففي المناخ الثقافي للعراق آنذاك حاول المذهب الحنفي شق طريقه في مناخ فيه نقص في الحديث، إلى جانب وجود ثقافة فلسفية مجردة تبلورت فيما بعد في توجه المعتـزلة. وبالطبع فإن القرآن موجود، وكما هو معلوم فإن القرآن توجيهات عامة ومساحة الأحكام والتوجيهات اليومية فيه قليلة خلاف الحديث الذي تعامل مع الواقع المفصّل. وهكذا ترعرع المذهب الحنفي في مناخ يضغط نحو منهج عقلي تحليلي لمواجهة الوقائع، ووضع الأحناف لأنفسهم قواعد لقبول الحديث في مناخ كثر فيه التقول على النبي صلى الله عليه وسلم قواعد تخالف أو لا تتفق في معظمها مع قواعد المحدثين التي تبلورت فيما بعد. واستحق المذهب الحنفي لقب الأرأيتيين بتبنِّيهم منهج التحليل المنطقي والتخريج على المسائل. ومنهج  التخريج المنطقي هذا عنده قدرة هائلة على التوليد حيث يقسم كل فرع إلى عدة احتمالات ثم يقسم كل احتمال إلى عدة فروع، وهكذا قيل إن الأحناف ناقشوا مليون مسألة فقهية.   ولكن وصف المذهب الحنفي بأنه عقلي (مقابل نصي) وصف غير دقيق، بل الأصح أن يقال بأنه منهج منطقي سريع التكاثر، وقد يقترب من العقل أو العملية والسهولة أو يبتعد. كما أن طبيعة هذا المنهج تفتح أبواباً للمرونة لعدم التصاقه القريب بالنص بالقدر التي تغلق أبواباً بسبب التقيّد بالشروط التي استلزمها التخريج المنطقي. وهذه صفة ظاهرة في المذهب الحنفي حيث يتعجب المرء أحياناً من أين لهم كل تلك الشروط التفصيلية وكيف يُحكم بأنها شرع رغم أن بعضها يصعب فهم مغزاها.

وهكذا فقد اقترب المذهب الحنفي من نقطة أقصى عطائه في فترة قصيرة نسبية مستنداً إلى أمرين، الأول هو قدرة منهجه العالية على التكاثر، والثاني هو التبني السياسي له. ولقد تواقت التبني السياسي هذا فترة نمو الدواوين، والجو الإداري مغرم بالقواعد ويضيق بالمنفتح من الاجتهاد.

وبالخصوص فإنه في دائرة ما يسمى بالعبادات أغضبت من سُموا بأهل الحديث قديماً (وما زال يغضبهم إلى اليوم) بإعراض أو تأويل المذهب لأحاديث صحيحة صريحة والتجائه إلى قواعد المذهب العامة وفنيّات التخريج والقيود والشروط. وهكذا ابتعد المذهب الحنفي بالعبادات عن معانيها التربوية أكثر ما ابتعده أي مذهب فقهي آخر، أو أنه أول من قدم صياغات فقهية تبتعد عن المعاني التربوية تابعت عليها كل المذاهب الفقهية فيما بعد. ومقابل هذا فإن المذهب الحنفي وصلته الوثيقة بالواقع السياسي (ابتداء بالعباسيين وانتهاء بالعثمانيين) أورث كمّاً هائلاً من الخبرة التي استجابت لحاجات المسلمين الواقعية.  وإذا كان كمونه قد استُنفد في مناحٍ فإن اعتبار منهجه لمبدأ الاستحسان يُعطيه كموناً مازال فيه قدرة كبيرة على العطاء.

منهج المذهب الحنبلي

أما منهج المذهب الحنبلي فإنه من وجه يمكن أن يعتبر المقابل لمنهج الأحناف، لا لأن الأحناف اعتمدوا العقل والحنابلة اعتمدوا النص فإن هذا التقسيم جائح وغير مفيد؛ فكلاهما تعاملا مع النص لكن بطرق مختلفة، وفي كليهما كثير من التدبر العقلي في التعامل مع الواقع رغم تباين طرق هذا التدبر. ولكن المذهب الحنبلي يمكن أن يعتبر مقابلاً للحنفي من جهة أنه أقل المذاهب ترتيباً منظوماتياً.

لقد تعامل المنهج الحنبلي مع الواقع بالتأكيد على تعدد الأقوال في المسألة الواحدة مستنداً إلى تنوع الأحاديث الواردة فيها. وبهذا الشكل هدف المذهب الحنبلي إلى التوسيع والنماء لا عن طريق الاستحسان _كما فعل الأحناف_ وإنما عن طريق مقابلة الوقائع المستجدة بطيف من النصوص بحيث تأخذ الحوادث موقعاً ما بينها. ويمكن فهم مبدأ الاستصحاب الحنبلي على أنه إدراك لتعقد الواقع وتقدير لما تعاهد عليه الناس في تسيير حياتهم، وإن وسعة باب العقود عند هذا المنهج يمكن أن تفتح باباً للتوسع.

ويمكن أن يُتهم المذهب الحنبلي بأنه مارس الانتقائية للشواهد والدلائل النصية لتقصيره في الترتيب المنظوماتي لمسائله. ولكن هذا اللوم لا يلزم فإن كتاب “المغني الموفق الشرح الكبير” من أعظم كتب الفقه في التراث، وأثبت المنهج الحنبلي حيويته بعد مئات السنين في أعمال ابن تيمية وابن القيم. ولعله يصح القول إن المنهج الحنبلي ألقى بمهمة المعالجة الحية للنص على عاتق القارئ ولم يمدّه بآليات هذه القراءة الحية. وفي قراءة متدبرة للمذهب الحنبلي يمكن أن يلاحظ أنه تراوح بين مدخلين، مدخل حرفي فيه حظ كبير من الجمود، ومدخل انفتاح حرص على تخفيف إلزامية النص الحرفية بـ”تعويم” أو “اسـتنفار” الأحاديث إن صح التعبير_ وترك المجال للوقائع أن تنجذب نحوها بدل أن تُفرض هي قسراً على الواقع. وفي حين أن المنهج الحنبلي ضمن ظرفه التاريخي حرم المذهب نسبياً من التجريد، فإنه ربما قصد أن ييُقي الأحاديث يانعة العطاء في إبقاء هامش الظرفية اللاتنظيرية مفتوحاً، مع المخاطرة بأن تقطف هذه الثمار فجّة. وأظن أن هذا الذي يفسر إبداع ابن تيمية وابن القيم مقابل الجمود الهائل الذي تميز به آخرون.

وأؤكد ثانية أن النظر في النصوص لا يعني بحال التخلي عن العقل، فإنه إذا كان في أعمال ابن تيمية وابن القيم ميزة بارزة فإنما هي اعتبار الواقع وإعمال المحاكمة العقلية في تقدير الحكمة الشرعية في الواقع المستجد الذي واجهوه. ومؤلَّف ابن تيمية المشهور “الفتاوى” تكمن قيمته تحديداً بكونه (فتاوى) وليست مجرد أحكام أي أنها أحكام منـزلة على واقع مخصوص، وإن أي قراءة جامدة لفتاوى ابن تيمية (والتي تغلب على قراءات اليوم) تتناسى الواقع الذي واجهته هذه الفتاوى تحرمها من ديناميتها التي تميزت بها. بل إن الناظر في منهج ابن تيمية وابن القيم يرى فيه بعد المصالح المرسلة مرسخاً (وربما أوضح ما يظهر في رسالته “السياسة الشرعية”) ولو أنه لم يدخل بعد المصالح المرسلة كمفهوم منظوماتي منصوص عليه في المذهب. وهكذا يمكن أن نقول إن المنهج الحنبلي ترك باب المرونة مفتوحاً على مصراعيه ولكن لم ينظّر لهذه المرونة فبقي في عرضة دائمة للتفسير الحرفي، بل وشديد الحرفية، ولعل ما نشاهده اليوم دليل على ذلك.

منهج الظاهرية

أعرج هنا على منهج الظاهرية رغم عدم اشتهاره كمذهب ولأني أحسب أنه لفّه سوء فهم تاريخي حرمنا اكتشاف مواقع قوته. ومنهج الظاهرية في إطلاقه للمطلقات يتشارك مع مبدأ الاستصحاب في المنهج الحنبلي. وبالطبع فإنه إذا أخذنا المنهج الظاهري من زواياه الضيقة لكان جموداً محضاً على النص مما يقيد الشريعة ويحرمها من أي قدرة على التعامل المعقول مع الواقع. أما إذا قرأنا المنهج الظاهري قراءة شمولية لا تعنى بأفراد النصوص بل بمجموعها لوجدنا أن فيه كموناً كبيراً للتعامل مع الوقائع والمستجدات. وبالنظر من هذا الوجه يمكن أن يُعد نفيهم للقياس إطلاقاً واسعاً وليس نفياً للعقل كما وصمهم بعض الفقهاء. بل إن التوجه نحو تفعيل العقل واستحضار الحكمة خاصة من خصائص المنهج الظاهري (وعلمهم ابن حزم سيد في العقل والفلسفة). وذلك أن القياس في وجهة نظرهم وسيلة منطقية يُستغنى عنها لأنها قد تورد إلى انحصار في النص لا داعي له وإلى نوع من السفسطة. فمثلاً _ومن منظار المنهج الظاهري_ ما الداعي لقياس أنواع المسكرات على الخمر لنقول بالتحريم قياساً، ولماذا لا نُطلق النص بكل عزمه ليحرّم المسكرات تحريماً مباشراً بدون شبكه بآلية القياس واستنفاد الجهد في الاستخراج المنمط للعلل.

وتكمن إشكالية القياس في أنه ينـزع إلى قسر التكافؤ التام رغم تخلفه. وهذه إشكالية تستحق الدراسة الوافية خارج أطر المعالجة التاريخية الممذهبة. وأقترح هنا ثلاثة أوجه لإشكالية القياس: (1) أنه ينـزع إلى التفتيش عن علة واحدة غالبة في المسألة رغم أنه تتداخل عوامل كثيرة في واقع الحياة؛ (2) ابتعاده عن استحضار السياق لتركيزه على مكنون مطرد؛ (3) دفعه نحو الاتكاء الزائد على المنحى اللغوي رغم أن الضابط اللغوي شرط لازم غير كاف. وإشكالية أحادية البعد مرض يتسلل لأي صياغة قانونية وقد لا يكون منها مناص على المستوى الإجرائي، ولكن تعميم هذا على المستوى المفهوماتي للنصوص يظلمها ويختزل مقاصدها.

وهكذا وبإطلاق المطلقات ورفض المنهج الظاهري لمكانيكية القياس الجامدة نسبياً يمكن أن يكون أكثر المناهج إطلاقاً للعقل ووضع المسؤولية كاملة على كاهله بأن يُنـزل مجمل النصوص على الواقعة وأن يجِدَّ في توسيع مطلقاتها لتستوعب الواقعة. وهو في الوقت نفسه يُجنّب تحجيم آفاق النصوص حين تُقرأ من خلال الاستنتاجات الفقهية الكثيفة التي تُكيف النص وطريقة فهمه، الأمر الذي يعيق الفهم التجديدي ويدفع باتجاه الارتباط الزائد بضوابط اجتهادية قد يكون فيها حظ كبير من المدرسية (أي الميل إلى خدمة مسلمات المدرسة الفقهية وحمايتها من التناقض أكثر مما خدمة النضوج الفقهي ذاته) المرتبطة شديداً بظروف زمانها، الأمر الذي  ينعكس حرماناً على النص من حرية جولانه.

والخلاصة أنه يبدو أن المنهج الظاهري يحرص على إبعاد أي عائق عن النصوص لتتمكن من إطلاق قولتها وتقليب نظرتها بتحكيم العقل في مختلف نقاط التطبيق الزمانية والمكانية ودون الإلزام بماقبلية قاعدية، ولهذا فإنه لا يستغرب بأنه بقدر ما يُعطي المنهج الظاهري كمون انطلاق وسَـعة لذوي النهى بقدر ما ينقلب ضيقاً بحتاً وتحجراً عند أهل السذاجة.

منهج الشافعية

وأما منهج المذهب الشافعي فإنه توجه نحو تنظيم الفقه من خلال آليات مستمدة من النصوص نفسها مقابل الزهد في التقنين الذي ذهب إليه الحنابلة أو التنميط المنطقي الذي ذهب إليه الأحناف.  ولذلك اُعتبر الشافعي مؤسس علم أصول الفقه الذي سعى إلى وضع قواعد تضبط حركة الفقيه ذاته وتحميه من التناقض وذلك بمحاولة استخراج القواعد المنظمة وتوليد منطق استنتاج من داخل النصوص. ومن ناحية أخرى فإن المذهب بدأ بالنمو في الفترة التي ابتدأ فيه علم الحديث بالانتظام فكان أحرص المذاهب على الاقتصار على الحديث الصحيح (ويشار هنا أن في مسند الإمام ابن حنبل الكثير من غير الصحيح رغم اتكائه الشديد عليه). وإلى جانب ذلك الانضباط المنهجي في الاستنتاج فإن المنهج الشافعي تميز بمحاولته الجمع بين الأحاديث وعدم رد أي منها. فبينما حاول المذهب الحنبلي (كما أحب أن أفهمه) إبقاء تعددية النصوص وترك الوقائع المستجدة لتتمحور حول بعض منها، فإن المنهج الشافعي سعى لاكتشاف قواعد عامة من خلال التقاطع التشاركي للنصوص والتي يمكن أن تحكم فيما بعد في الوقائع المختلفة. أي أن المنهج الشافعي نزع إلى تشكيل نسق منسجم مع نفسه من خلال عدم رفض أي حديث صحيح ومحاولة رسم بناء متكامل تأخذ فيه جميع النصوص مواقعها وتأثيراتها النسبية. ويمكن أن يُعترض على هذا المنهج بأنه في سعيه للتكامل لم يترك مجال خلوص أو مساحة تنفس كافية تتوازى فيها الوقائع والنصوص. وربما يعترض عليه أيضاً في أنه بالغ في الاتكاء على البعد اللغوي للنص مما قد يدفع إلى تقديم معاني الحروف على فحوى النصوص.

ولذلك فلعله يصح القول بأن المنهج الشافعي قد استنفد أقصى عطائه في دور البعد اللغوي، ولكنه مازال عنده كمون العطاء في التأكيد على وضوح قواعد التخريج والبعد عن التناقض الداخلي.  والأهم من ذلك هو سعي هذا المنهج لرسم صورة كلية بالجمع بين النصوص، الأمر الذي يجب أن يُبقي الباب مفتوحاً لجمع آخر بين النصوص، وخاصة أن التجربة البشرية ُتمكن من زيادة المعرفة بعلل بعض النصوص وتوسيع وتعميق إدراكنا لِحِكَمها، الأمر الذي يسمح بإجراء تعديل على نسق الجمع بينها. ومثل هذه النظرة تفتح أبواباً هائلة وتبتعد عن الالتزام الحرفي بالسياقية التاريخية للجمع بين النصوص.

المنهج المالكي

وأما المنهج المالكي فإنه ركّز ابتداء على اعتبار الواقع الذي بدأ بنيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كموصلة هادية في فهم الأحاديث. وعلى هذا فإنه رأى في عمل أهل المدينة التكيف الصحيح مع مراد الشارع والتطبيق العملي المناسب للتوجيهات النبوية. وبينما حاول الآخرون (الحنفي والشافعي) بناء النسق الفقهي النظري في أعلى السلم قريباً من النص، حاول المنهج المالكي بناء نسقه الفقهي النظري في أدنى السلّم قريباً من الواقع. وهكذا قال بحجية عمل أهل المدينة رغم أن عملهم ليس نصاً بحد ذاته، وإنما اعتبره التنـزيل الدقيق والصحيح للنص على الواقع. وبلغ المنهج المالكي في ذلك أقصى عطاءه في ردم الفجوة الطبيعية بين النص والواقع. ويشار هنا إلى أن موطأ الإمام مالك -قاعدة انطلاق المذهب- يمكن أن تُقسم أحاديثه إلى زمرتين المرفوع وغير المرفوع، وكل المرفوع (تقريباً) صحيح حسب قواعد المحدثين.

وبالطبع فإنه لو أُخذ المنهج المالكي من زاوية ضيقة لجعل من الفقـه فقهاً وطنياً –كما قيل- مرتبطاً بمحلة مخصوصة في جملة ظروف معينة. ولكن المنهج المالكي تبنى ما يمكن اعتباره أعلى ما في الفقه الإسلامي كموناً من قواعد، وهي المصالح المرسلة. وذلك أن هذه القاعدة العريضة تشيد جسراً مباشراً بين الفقه وبين كل مسائل الحياة، وتدخل التقدير العقلي للواقع من أوسع الأبواب في محاولة إحداث التواؤم بين مستجدات القضايا مما تعايشه الأمة المسلمة وتحتاج إليه وبين النظر العقلي المهتدي بعموم النصوص للقول في هذه المسائل. أو بعبارة أخرى إن مبدأ المصالح المرسلة فيه الكمون الأعظم لمنع العقل الفقهي القانوني من تجاهل الحاجات الواقعة للمسلمين أو أخذها بخفة. وإن اهتمام المنهج المالكي بالمصالح المرسلة دفعه حكماً للارتفاع أو الانتقال من مستوى المصالح المرسلة (المستوى التطبيقي_التجريدي) إلى مستوى المقاصد (المستوى التجريدي_التطبيقي)، لتصاغ نظرية عامة في فقه السلوك الاجتماعي المسلم (بعيداً عن أي خصوصية مكانية أو زمانية) على يد الإمام الشاطبي الذي بلور ما كان قد قدمه إمام الحرمين والغزالي (غير المالكين) في هذا المضمار والذي يُدخل العقل من أوسع أبوابه للنظر في الأحكام.

الخلاصة

أولاً: إن في تراثنا غنى واتساع لا يمكننا إدراكه إلا بإطلاق النظر في ذات المناهج الفقهية وعدم الاقتصار على مساحة فهمها المعتادة. ومسألة رحابة الفقه المسلم لا تتحدد في أن هناك كنـزاً من الأقوال يكفي الأولين والآخرين، ولا في أن اختلاف الأقوال يفسح مساحة كبيرة للتحرك ويشير إلى مدى عمق البعد العملي في الفقه وارتباطه بالواقع الذي نشأ فيه. وإنما مكمن الغنى يتجلى في إمكان إجراء قراءة جديدة في هذه المناهج وعدم الارتهان إلى الفهم المدرسي السائد نحوها. ولقد حاولتُ في هذا المقال إجراء قراءة تجريدية تتفحص أساسات المناهج الفقهية (لا صيغاتها النهائية) لاكتشاف كمونها الذاتي الذي حجبه التمدرس. وإني لم أتطرق بالذكر إلا للمذاهب الأربعة المعروفة (بالإضافة للمنهج الظاهري) وبدون التعرض إلى المنهجيات المختلفة للأعلام والمرجحين داخل هذه المذاهب أو المجتهدين المستقلين الذين لم تسمح الظروف بأن يتأسس لهم مذهب. وإني أعتذر عن عدم مناقشتي للمناهج الفقهية الزيدية والجعفرية ومرد ذلك عدم اطلاعي الكافي عليها. والمتحصل لدي أن منهج الزيدية يتقارب من الشافعية فيصح فيه بعض ما قيل في الشافعية. أما المنهج الجعفري فإنه يشترك في كثير من الخصال مع المنهج الحنفي فيصح فيه بعض ما قيل في الحنفية رغم أنه يترك في خصال مع المالكية بعد استبدال آل البيت بأهل المدينة.

ثانياً: إن التراث الفقهي ليس غنياً بأفراد مسائلة فحسب _كما هو شائع بين الناس_ وإنما هو غني بمناهج فقهية مختلفة لها قدرات مختلفة ومتفاوتة على التعامل مع الوقائع، وقد حاولت تلمس نقاط القوة أو المحدودية في هذه المناهج. والأهم من ذلك هو فهمنا نحن لهذه المناهج ولعطاء الفقهاء، حيث نستطيع تقديم قراءات متعددة في عطائهم ومناهجهم واقتراح قراءة تتفحص جوانب المناهج المختلفة وتبين مفاصل ديناميته وحركيته التي تمكنه من مزيد العطاء بدل أن تحاصره تجربة الماضي.

إن قراءة منفتحة لمناهجهم تحرر من الاقتصار على ما خرّجته هذه المناهج من أقوال في الماضي، فلا نحصر الاستحسان الحنفي مثلاً بما اُستحسن في الماضي بل نفتحه لإمكان استمرار الاستحسان ضمن الرؤية الإسلامية الخالدة. ولا نكتفي مثلاً بالصورة التكاملية التي دفع بها المنهج الشافعي بل نتوجه إلى بناء صور تكاملية جديدة من خلال تراكم المعرفة والخبرة البشرية، الأمر الذي يؤهل إلى التغيير والتعميق في رسم الصور المتكاملة وغير المتناقضة لتوجيهات وأحكام الشريعة والذي يسمح بإضافة أبعاد جديدة لإتقان هذا الفهم الجُمَلي. وكذلك فإن منهج إعطاء النصوص مساحة التنفس الكافية التي قام بها المنهج الحنبلي (وبالخصوص أعمال ابن القيم وابن تيمية) تشير إلى ضرورة إدراك محدودية أي تنظير وأن الوقائع والمستجدات تأبى أن تنطبق تماماً مع الهندسة الفكرية، وكذلك الأمر في إطلاق المطلقات الذي تبناه المنهج الظاهري. أما مصالح المرسلة المالكية فإنه مفهوم يدفع -بشكل ما بعده وضوح- باتجاه اعتبار جدّي للواقع والحاجات العامة للمسلمين ويحمي من أن تقف النـزعة التقنينية حائلاً بين مصالح معتبرة شرعاً وبين الممارسة الإسلامية.

ثالثاً: إن العرض السابق للمناهج الفقهية يجب أن يكشف بوضوح عن مدى دور العقل في فهم الشريعة.  فمن جهة أن العقل الذي توجه لفهم النص في زمان ومكان معين أنتج المتنوع والمتباين، ومن جهة أخرى فإنه أسس مناهج وطرق (عقلية) للتعامل مع النص وفهمه وتطبيقه. ولذلك فإن عبارة لا اجتهاد في مورد النص يغلب أن يساء فهمها (أو يكاد لا يكون لها معنى) لأن البشر هم الذين ينشئون الوصلة العقلية بين النص والواقع، وتحرير المراد وتحقيق المناط غير ممكن بغير العقل أصلاً. وأحسب أن تهمة تفارق الشريعة عن العقل إنما تصدر عن محدودي العلم الذين لم يتفحصوا الهامش الكبير الذي تحرك فيه الفقهاء وهم يُقلِّبون الُنهى في فهم النصوص وتخريج الأحكام.

رابعاً: إن المدخل الفقهي القانوني الذي سارت فيه مذاهبنا الفقهية بشكل رئيس وسرى في عقلية الأمة له محدوديته كأي نظام قانوني. وكثيراً ما نضيق ذرعاً بهذا التكبيل القانوني، ولكن يجب أن نفهمه على أنه جزء من حركة الحضارة المسلمة وتطور المجتمع المسلم، والتكبيل إنما يأتي عند عدم إدراك تاريخانية الفقه. أي أن الميل نحو التقعيد هو نتيجة طبيعية لنمو المجتمع المسلم واستقرار المنظومة السياسية وبناء الدواوين والتنظيمات، ولا بد لأي نضوج سياسي أن يواكبه قرار اجتماعي ينعكس في تقنين لـه حظ من الثباتية المؤقتة. فالفقه ضمن هذا المنظور علامة حضارية تشير إلى ارتباط نفسي وتعبدي بالنظام الذي يحكم الحياة اليومية من أبسط مسائلها في النظافة والتطهر مروراً بالأعمال التعبدية المباشرة ووصولاً بأمور المال والحكم.

ولكنه وكأي توجه قانوني سرعان ما ينحصر في منطقه الداخلي ويعجز عن المواكبة للأحداث ما لم تتكامل في بنيانه عناصر التوجه المقاصدي. ولا يمكن للتوجه المقاصدي أن يستقيم ما لم يُعمد إلى إعمال العقل في مصادر التشريع ويتسلح بعموميات القرآن والسنة بحيث تنتظم معاني أفراد الأحاديث ضمن الأنساق القرآنية ويتحول الأمر من الاجتهاد الفقهي المقنن إلى الاجتهاد المقاصدي الذي يُفعّل العقل في النظر الآني في النصوص وأهدافها وفي الواقع وتعقيداته، وهو الأمر الذي حاول القضاة المفتين في تاريخنا (مقابل الفقه المدون الثابت) القيام به على مستوى فردي غير مبلور في تصور شمولي واضح. 

***

لقد كان هدفي من هذا المقال أن أحاول تلمس أعلى نقاط كمون المناهج الفقهية والتي غلبت عليها الصبغة القانونية لتكون مقدمة للبحث في ما ورائيات الشريعة. لقد كان مجمل تركيز هذه الخلاصة على المذاهب الفقهية المشهورة ومناهجها ولم أتطرق إلى مقاصد الشريعة الأمر الذي يفتح الأبواب إلى أقصاها في تحري العقل لمراد الشارع. وأحسب أن تقليب الأوجه في المناهج الفقهية أشار بشكل عريض إلى مدى فعالية وحركية ودينامية الفقه (أو كمونه)، الأمر الذي يجب أن يقودنا بشكل طبيعي إلى توجه الفهم المقاصدي الذي يطلق زمام العقل في التوفيق الدقيق بين النصوص والأحكام من جهة وبين الواقع المتبدل المتلون دائم التقلب من جهة أخرى. لقد كان مجمل العرض مركزاً على الفقه ضمن مفهوم قريب من الدور القانوني وحاولت إظهار الوسعة حتى في هذا التوجه الضيق ليكون منصة انطلاق للبحث في الأسس المجردة التي تشكل الشريعة واحتوائها على البعد المقاصدي والخلقي والرحماوي، وهذا موضوع بحث منفصل بإذنه تعالى.

 

23 شوال 1418/22 شباط 1998