حد الردة في ضوء القرآن والسنة والمقاصد

1٬199

1/1- المقدمة الصحيحة التي ينبغي أن ينطلق منها البحث في موضوع الردة هي قوله تعالى: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” [البقرة: 256] [i]… فالآية تقرر قضية كلية قاطعة، وحقيقة جلية ساطعة، وهي أن الدين لا يكون ـ ولا يمكن أن يكون ـ بالإكراه؛ فقد جاءت الآية  بنفي الجنس “لا إكراه”  لقصد عموم النفي وإطلاقهً، وهذا دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه… فالدين: إيمان واعتقاد يتقبله عقل الإنسان وينشرح له قلبه، وهو التزام وعمل إرادي، أما الإكراه –بأي شكل وتحت أي مسمى كان- فينقض تعريف الإيمان  ويتناقض معه.

1/2- والدين والإكراه لا يمكن اجتماعهما، فمتى ثبت الإكراه بطل الدين… لأن  الإكراه لا ينتج تديناً وإنما ينتج نفاقاً وكذباً وخداعاً، وهي كلها صفات ممقوتة في الشرع، ولا يترتب عليها إلا الخزي في الدنيا والآخرة.

وكما أن الإكراه لا ينشئ ديناً ولا إيماناً، فإنه كذلك لا ينشئ كفراً ولا ردة، فالمكرَه على الكفر ليس بكافر، والمكره على الردة ليس بمرتد، وحسبنا في ذلك ما ورد في سبب نزول آية سورة النحل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فقد جاء عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي لما أكرهه المشركون على النطق بما يخالف الإيمان، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان، فقال له النبي الكريم: فإن عادوا فعد. وهكذا فالمكره على الكفر ليس بكافر والمكره على الإيمان ليس بمؤمن… ولن يكون أحد مؤمناً مسلماً إلا بالرضا الحقيقي الذي يترجمه الدعاء المأثور “رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً”.

وإذا كان الإكراه باطلاً حتى في التصرفات والمعاملات والحقوق المادية والدنيوية، حيث إنه لا ينشيء زواجاً ولا طلاقاً، ولا بيعاً، ولا بيعةً، فكيف يمكنه أن ينشيء ديناً وعقيدة وإيماناً وإسلاماً؟!

1/3- إن “لا إكراه في الدين” هي خبر؛ فالاعتقاد  –لكونه اختياراً حراً- يستعصي على الإجبار، ومتى تبين الرشد من الغي، فكل امرئ وما يختار. أو إن شئت قلتَ: هي أمر أي: لا تكرهوا في الدين لأن الإكراه والدين لا يجتمعان.

أرأيت شعيباً (عليه السلام) وقومه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88]… فهذا شعيب يسفه قومه؛ لأنهم يريدون إكراهه هو ومن معه على الخروج من دينه والعودة في ملتهم، ودليله على سفههم أنهم يظنون الإكراه سبيلاً للإيمان.

أرأيت نوحاً (عليه السلام) وقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]… فهذا نوح يدرك حقيقة الدين وطبيعته، فيستبعد إكراه المخالف على الدخول في دينه.

ونلاحظ في الآيتين أن كلاً منهما ختم باستفهام استنكاري؛ للدلالة على سخف المخاطب الذي يتجاهل الطبيعة البشرية ويتعامى عن المسلمات. كما نلاحظ أن كلاً من النبيين الكريمين قد دلل على فساد منطق قومه بالتعجب من أن يكون الإكراه عندهم سبيلاً لحمل إنسان على ترك دين آمن به، أو فكرة اقتنع بها، بغض النظر عن صحة ذلك أو فساده؛ لأن الإكراه ليس من شأنه أن يكون وسيلة لتحقيق هذا الغرض.

1/4- إذن، فقضية “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” هي قضية كلية محكمة، عامة تامة، سارية على أول الزمان وآخره، سارية على المشرك والكتابي، سارية على الرجال والنساء، سارية قبل الدخول الإسلام، وبعده، أي سارية في الابتداء وفي الإبقاء، فالدين لا يكون بالإكراه ابتداءً، كما لا يكون بالإكراه إبقاءً… وكما لا يجوز الإكراه على الدين في الابتداء –لأن الإسلام الذي يحصل به فاسد قطعاً-، فكذلك لا يجوز الإكراه على الدين في الإبقاء –لذات العلة-.

1/5- ولو كان للإكراه أن يُدخل الناس في الدين أو يبقيهم عليه، لكان هو الإكراه الصادر عن الله عز وجل، فهو سبحانه وحده القادر على الإكراه الحقيقي والمُجْدي، وذلك بإلغاء حرية الاختيار التي منحها لهم، فيجعل جميع الناس مؤمنين مسلمين. ولكنه سبحانه  لم يفعل: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، {وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107].

فحكمة الله جعلت الإكراه في الدين مخالفة لحكمة الخلق ولا يمكن أن تقره حيث لا ينتج سوى الكذب والنفاق.

1/ 6ومن ثم فآية “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” غير منسوخة وغير قابلة للنسخ وغير مخصصة وغير قابلة للتخصيص؛ إذ الإيمان بالدين: تصديق بالقلب يبلغ مرتبة اليقين – بعد مروره بمرحلة الاقتناع العقلي-… و(التصديق القلبي) –كما (الاقتناع العقلي)- لا سبيل مطلقاً لتحقيقهما بالإكراه، ولذلك لا يمكن أن يكون الإيمان –ابتداءً أو بقاءً- ثمرة للإكراه بأي حال من الأحوال… ولهذه الحقيقة التي تنفي إمكانية الإيمان بالإكراه، كان التعبير القرآني “لا إكراه في الدين”، وهو تعبير يحمل في أحشائه (نهياً) و (نفياً)؛ (النهي) عن إكراه الإنسان على الإيمان، و(النفي) لإمكانية حصول الإيمان عن طريق الإكراه  سواء تعلق هذا الإكراه بالآخر حتى يسلم أو بالمسلم حتى يستمر على إسلامه.

“لا إكراه في الدين” لأنه “قد تبين الرشد من الغي” تعليل رباني بديع غير قابل للإبطال أو المعارضة بدعوى نسخ أو تحصيص أو تقييد؛ لأنه تعليل عقلي منطقي قطعي يزيد جملة “لا إكراه في الدين” إحكاماً على إحكام، وقطعية على قطعية.

2/1- قد يقول قائل: إذا تقرر أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وعامة غير مخصوصة، وإذا كان هذا واضحاً وصريحاً بلفظ الآية ومنطوقها، فلماذا كان للردة حد، وهذا – كما لا يخفى – إكراه على البقاء في الإسلام، وهو خلاف ما ثبت من معنى للآية الكريمة “لا إكراه في الدين”؟!

2/2- فالجواب ينطلق من التذكير ببعض القواعد المنهجية:

1-     إن الكليات لا نسخ فيها.[ii]

2-     إن الكليات المحْكمات هن أُم الكتاب وأُس الشريعة، وهي حاكمة على الجزئيات ومقدَّمة عليها؛ أي أنه يجب فهم الجزئي في إطار الكلي.

3-     إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة – كما يقرر الشاطبي بحق- فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال؛ وذلك لأن القاعدة الكلية تستند إلى أدلة قطعية غير محتملة، بينما القضايا الجزئية المتعارضة معها ترِد عليها الاحتمالات والتأويلات. 

4-     الإيمان عبارة عن إذعان النفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإكراه –كما أوضحنا سابقاً-، وإنما يكون بالبيان والبرهان.

5-     أكد القرآن اختصاص الباري وحده، في الآخرة، بحساب من يكون على خلاف عقيدة الحق .{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117].

6 – لقد بين الله –سبحانه- أن شأن العقائد أن لا تخضع للإكراه من أي نوع كان، حتى ذلك الذي يأتي من زاوية الحرص على المدعو والرغبة في إنقاذه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

إذا علمنا هذا وتمسكنا به ولم نحِد عنه، كان بإمكاننا أن نتعامل بشكل سليم مع الأخبار والآثار التي تفيد قتل المرتد عن الإسلام، إذا لم يتب ويرجع عن ردته.

إن القول بأن القتل يكون للردة وحدها –لا للشيء معها أو سواها- يتنافى تنافياً واضحاً مع قاعدة “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” -إذ قتل آبي الرجوع إلى الإسلام إكراه له عليه-، فتعين رد هذا الفهم وعدم التسليم به… ومن ثم، يجب أن تفهم الأخبار والآثار الدالة على قتل المرتد على أنها:

إما متعلقة بعقوبة تعزيرية، تراعى في اعتمادها الملابسات والمخاطر التي كانت تشكلها حركة الردة على الكيان الإسلامي الناشئ… خاصة ونحن نعرف من خلال القرآن الكريم، ومن سياق الأحداث والوقائع يومئذ، أن كثيراً من حالات الدخول في الإسلام، ثم الخروج منه، كانت عملاً تآمرياً مبيَّتاً ينطوي على الخيانة والغدر؛ بهدف تحطيم وتدمير الجبهة الإسلامية الداخلية، وزعزعة ثقة المسلمين بدينهم –خاصة من هم حديثوا عهد بالإيمان والإسلام-، وللإرجاف في المدينة والكيد للمسلمين: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]… إن مثل هذا السلوك يمثل أقصى وأسوأ درجات استغلال الحرية الدينية… ولذلك، فقد كانت الحكمة –أي متطلبات الرسالة في ظل ظروف وأحوال وأوضاع مجتمع الرسالة- تقتضي من النبي (صلى الله عليه وسلم) قطع هذا الطريق، وإيقاف هذا النوع من التآمر على جبهة الأمة الداخلية ومحاولة تمزيقها.                                                          

ومن ثم، يجب التمييز والتفريق بين حالات (الخيانة والغدر) –وأشباهها من (المتاجرة بالارتداد) و(إساءة استخدامه) و(التعسف في استعماله)- وبين حالات الردة التي تحركها، وتحكم مسيرتها، وترسم حدودها وغايتها، (قضية الاعتقاد).

وإما متعلقة بما يقترن عادة مع الردة من الأفعال (الموجبة للعقوبة) و(الدالة على مفارقة الجماعة)… صحيح أن النبي (ص) قال: “من بدل دينه فاقتلوه”[iii]، ولكم صحيح أيضاً أنه قال: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”[iv]… وبالجمع بين هذين الحديثين –وجمع الأدلة، وحمل المطلق منها على المقيد، يظهر واضحاً أن (المبدل لدينه المستوجب للقتل) هو (التارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين)… و(مفارقة الجماعة) –وهي إضافة من رسول الله (ص) لا يمكن أن تكون دون فائدة أو أثر في موجب الحكم- تعني التمرد والعصيان والمحاربة –مادياً و/أو أدبياً- وربما الانضمام إلى العدو المحارب… فالمفارقة أعمال ظاهرة تسعى لهدم مقومات حياة المسلمين… ومن ثم، فقتل المرتد –أو عقابه- حكم مختص بمن فاصل جماعة المسلمين، وفارقهم، وأتى بأفعال تعني السعي في هدم المجتمع المسلم، وتقويض أركانه، والعمل على هدم مقوماته… فقتل المرتد هنا ليس مبنياً على ما اعتنقه من اعتقاد وإنما هو مختص بأفعال إجرامية تقصد إلى هدم المجتمع المسلم، مما يدخل صاحبها في مفهوم (الخيانة العظمى) للدين والوطن[v]… فمناط العقوبة في الردة ليس هو (الخروج من الإسلام)، ولا هو (محض النقض الشخصي للعلاقة الإيمانية بين العبد وربه)، وإنما مناطها هو (الخروج على أمة الإسلام) – أي: قصد الإساءة إليهم، أو العبث بأمنهم، أو المساس بمقومات مجتمعهم – و(اقتران الردة بمناهضة فعلية ) يخشى معها من النيل من الأمة الإسلامية وعقائدها، مما يلحق ضرراً ما أتت العقوبة إلا لدرئه… فالعقوبة ليست على (مجرد الردة)، وإنما هي على (المقترن بها من صنوف الإجرام والتعدي مادياً و/أو معنوياً).

أما من اقتصر مجال الإنكار أو الشك عندهم على خصوص العقيدة دون فعل أو تحريض يهدم مقومات المجتمع، فهؤلاء إن ستروا أمرهم، وتعاملوا مع المجتمع بقوانينه وأعرافه وآدابه، فالله يتولى المغيب منهم.

وإن ظهر منهم جحود أو شك، وصرحوا بذلك، فليدخل العلماء والمختصون معهم في حوار بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن؛ حوارٍ طويل ليس له أمد معين… وإذا أرادوا إغلاق باب التحاور بينهم وبين العلماء، مكتفين بما استقروا عليه من اعتقاد جديد، فلا تثريب عليهم… مع ضرورة ألا يترك العلماء أي شبهة دون دراسة –أو دراسات- تزيلها وتقرر الحقيقة فيها.

ومما يزيد هذا الرأي رجاحة، أننا عاصرنا أفراداً من المسلمين، جهروا في وقت ما بـ (عقائد وأفكار وانتماءات) مخالفة للإسلام، وأخرج بعضهم كتباً ودراسات في هذا الشأن، ثم شاء الله تعالى لهم أن يعودوا عوداً قوياً إلى حظيرة الإسلام، وأن يصبح بعضهم من أفضل المناضلين عنه عن فهم وبصيرة –وعلى رأسهم: فارس العلم والإيمان، د/ مصطفى محمود-؛ حيث تسلحوا بمقولات الضالين، وأحاطوا بها وقت ضلالهم، فلما هداهم الله للرجوع إلى الحق، كانوا من أعظم المنافحين والمدافعين عنه، والداعين له… ولو أنه استعجل عليهم بالقتل لما كان في ذلك أية مصلحة، بل لكان فيه ضرر من وجوه كثيرة… فالأناة والرفق إذن فيهما كل خير.

وهذا الفهم  لمسألة الردة هو اجتهاد لفهم الأحاديث النبوية في إطار نصوص الإسلام الأخرى ومقاصده وثوابته… فاجتهادنا هو فهم للجزئي في إطار الكلي.

إن هذا الإجتهاد في مسالة الردة لا يعني أن يفعل المؤمن ما يشاء دون أن يحاسب على أفعاله لوضوح الفارق بين (الإكراه على الدين) والإكراه على مطلوب إقامة مصالح الأمة – وهو أمر واجب-… فلا نكره أحداً على دين لا يريد الانتساب إليه، وإنما نكره من عاش في مجتمع وانتمى إليه على متطلبات الإلتزام بحقوق الناس، وهي من الدين لإقامة العدل والأمن رضي من رضي أو كره من كره.

لقد توعد الله المرتد عن دينه بالعذاب الشديد في الآخرة واستفاضت في بيان ذلك  آيات القرآن الكريم ولكن قتله لمجرد ردته أو كفره هو خطأ، إذ الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم[vi]، وإنما المبيح للدم هو محاربة المسلمين، والعدوان عليهم وعلى مقومات حياتهم ومجتمعم، ومحاولة فتنتهم عن دينهم.

ولو جاز أن يأمرنا الإسلام بقتل من ينسلخ منه بعد الدخول فيه، لوجب أن يكون أوجب كذلك قتل من يرفض ابتداءً الدخول في الإسلام؛ لاتحاد العلة، وهي الكفر. وذلك غير صحيح لما سبق أن بيناه.  

والحق أن معصية الكفر تختلف عن سائر المعاصي في أنها تقع عدواناً على حق الله الخالص؛ لأن إيمان الناس بالله والتزامهم بدينه هو (من حقوق الله الخالصة) التي (لا يتعلق بها حق لأحد من البشر)؛ فوجب ألا يكون عليها عقاب دنيوي، بخلاف بقية المعاصي التي تقع عدواناً على حق الجماعة والمجتمع، وتلحق الأذى بهم، فوجب –لذلك- أن توقع عليها عقوبات دنيوية، وليس الأمر كذلك بالنسبة لإيمان الناس، أو كفرهم، بالله تعالى.

ولا يعقل أن يأمرنا الله بقتل من يرتكس في الكفر بعد إيمانه، والله هو الغني؛ لا يزيد في ملكه أن يعبده الناس، ولا ينقص من ملكه أن يكفروا به {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] .

إن الله لم يحرم أحداً من خلقه من عطاء ربوبيته، فوسع ملكه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وكان –سبحانه- قادراً على أن يعطل الأسباب فلا تستجيب لمن كفر، وكان قادرًا على أن يزهق روحه، بل على ألا يخلقه ابتداءً… فكيف نضيق بمن لم يضق به ربه في ملكه، وكيف نزهق حياة من منحه ربه الحياة بدعوى أنه لا يؤمن به، وكأننا أغير على الله من الله.

وقد يقال: إن المرتد وإن اقتصر فعله على تغيير اعتقاده  فإنه مظنة العداوة والخروج والقتال فتنزل (المظنة) منزلة (الوقوع الحقيقي). وهذا غير مقبول إذ (المظنة) غير كافية فقهاً ولا شرعاً ولا عقلاً لأن تكون سبباً لإزهاق النفس على سبيل الحد أو العقاب؛ إذ لابد من الدليل القاطع، أو الواضح الذي لا شبهة فيه… أما (مجرد الظن) فإنه لا يغني من الحق شيئاً.

صحيح أن الردة كثيراً ما تكون ثمرة تحول شامل لدى الإنسان عن الولاء للأمة، والقبول بنظامها، واحترام شرائعها، والانتماء إليها ثقافياً وحضارياً… ولكن ذلك لا ينفي ولا يمنع وجود الردة المجردة نتيجة تغير الموقف الاعتقادي من غير أن تصحبه أفعال إجرامية أو تواطؤ مع الأعداء ومن ثم يجب التعامل مع كل حالة بحسبها. فتأمل.

المصادر والمراجع

1-     الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، أد. أحمد الريسوني، ص (109-110، 111، 113-114، 115، 116)، ط 2007م، إصدارات اللجنة العلمية لحركة التوحيد والإصلاح، الرباط – المغرب.

2-     الجنايات -وعقوباتها في الإسلام- وحقوق الإنسان، أد. محمد بلتاجي، ص(19-21، 23، 24-26)، ط1، 2003م، دار السلام- مصر.

3-     في أصول النظام الجنائي الإسلامي، أد. محمد سليم العوا، ص(هـ 183، 201، 202، 203-204)،  ط1، يناير 2006م، مكتبة نهضة مصر.

4-     التفسير الماركسي للإسلام، د. محمد عمارة، ص (9-10، 11، 22-29)، ط2، 2002م، دار الشروق- مصر.

5-     لا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، أد. طه جابر العلواني، ص (93، 94، 123، 147،150، 176)، ط 2، نوفمبر 2006م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي- مكتبة الشروق الدولية- مصر.

6-     الموافقات، الشاطبي، (3/289، 339، 365، 366)، تحقيق/ عبد الله دراز، دار المغرفة- بيروت.

7-     جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة، أد. يوسف القرضاوي، ص (35-36)، ط1، 2001م، مؤسسة الرسالة –بيروت.

02-2009

هوامش



[i] وفي معنى تلك الآية أخوات لها كثيرات: {وَلَوْ شَـاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُـوا مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99] .. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}[يونس: 108]… {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]… {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]… {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]… {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [النمل: 92]… {مَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر: 41]…{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 27- 28]… إلخ.

[ii] ولتفصيل ذلك, انظر: الموافقات للشاطبي, 3/ 339, 365, 366.

[iii] رواه البخاري (6922) والنسائي (4060) والترمذي (1458).

[iv] رواه البخاري (6878) ومسلم (1676) والنسائي (4016)، واللفظ للأخيرين، وهو أصح ألفاظ هذا الحديث، وتفصيل ذلك لا يتسع له المقام.

[v] ورعاية الوطن من مقاصد الإسلام – وإنما قلت: “رعاية”؛ لأنها (حفظ) و(تنمية)؛ أي (حفظ) بـ (السلب) و(الإيجاب)، لا بـ (السلب) فقط- ، وتفصيل ذلك لا يتسع له المقام.

[vi] وتفصيل ذلك –مع مناقشة المخالفين- لا يتسع له المقام هنا، فنكتفي بالإشارة الواردة في المتن.