حول عودة الروحانيات إلى العالم
كانت وعود رواد حركة التنوير وآباء علم الاجتماع تتضمن فرضية مؤسِّسة لرؤاهم وتصوراتهم عن مستقبل العالم، وهي أن المظاهر والممارسات والأفكار الدينية ستنحسر عن العالم على حساب العلم والعقلانية والتقدم والرأسمالية، وذلك على اعتبار وجود تعارضات جوهرية تجعل من الدين وما يرتبط فيه من روحانيات أمراً لا يتَّسم مع روح العصر الحديث.
وبالرغم من استمرار هذه الفرضيات بالانتشار، ووجود بعض مظاهر تغير موقع الدين في المجتمعات الغربية عما كانت عليه في السابق؛ إلا أن هذه الفرضيات لاقت نقداً شديداً من العديد من الكتَّاب والمنظرين الذين تبنوا رؤى مختلفة تدعم عكس ما يقال، بالإضافة إلى وجود العديد من الشواهد الواقعية التي تنفي صحة هذه الفرضيات.
فمثلاً نجد عالم الاجتماع خوسيه كازانوفا يحاجج في كتابه “الأديان العامة في العصر الحديث” كيف أن هناك عودة وحضوراً شديداً للدين مع مطلع السبعينيات في القرن المنصرم، ليس فقط في المجال الخاص والتدين الشخصي، بل بروز الحركات التي تنبني على رؤية دينية وتنافس في المجال العام وتقدم رؤى إصلاحية على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، سواء في الشرق أو الغرب، وقد استخدم كازانوفا هذه الشواهد لنقد وتفنيد نظرية العلمنة القائلة بانحسار الدين عن المجتمعات المعاصرة.
كما قدَّم عالم الاجتماع الديني رودني ستارك العديد من الكتابات والأبحاث التي تبين حيوية النشاط الديني في المجتمع الأمريكي والبريطاني، وانخراط العديد من الجمعيات الدينية والكنسية في العمل العام وحيويتها في العديد من الأوساط الاجتماعية في تلك الدول.
وهناك العديد من الطروحات الأخرى والشواهد المختلفة التي تبين هذا الحضور القوي للدين، أي على عكس ما بشر به رواد التنوير وآباء علم الاجتماع، ولكن ما نريد التركيز عليه في هذا المقال هو أمر متصل بهذا الحضور الجديد للدين، وهو عودة الروحانيات للغرب، وبروز الحاجة الملحة لشكل ما من الروحانيات في ظل واقع المجتمعات الغربية.
فمما لا شك فيه أن العالم يشهد اليوم تحولاً روحياً بارزاً ومؤثراً، وهو ما لا يتجلى فقط في الكتابة النظرية والأدب والرواية، بل في الممارسة العملية للعديد من الأوساط الاجتماعية التي تعيش في الغرب.
فالتغيرات الحاصلة على موقع الدين في المجتمعات الغربية، وانتشار المجتمع الاستهلاكي نمط الحياة المادي القائم على التملك والمظاهر، وغيرها من الأمور التي تعاكس نمط الحياة الديني والروحاني؛ كل ذلك لم يؤدِ إلى نزع الدين والروحانيات من الفرد في العالم الغربي، بل كان من ضمن نتائجه بروز نزعات احتجاجية ومعاكسة لهذا التيار تجلت في عودة للروحانيات.
ولكن هذه العودة للروحانيات ليست عودة لنمط تاريخي سابق كما هو، بل هي عودة جديدة، تتسق مع واقع التحولات التي يعيشها العالم الغربي، بما تتضمنه هذه التحولات من انعكاس على حياة الفرد.
وسأحاول في هذا المقال الإشارة إلى أشكال هذه العودة، وأود الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن الهدف من وراء فهم هذه الظاهرة هو التنبيه إلى وجود نزوع نحو الروحانيات قائم اليوم، وهو نزوع ما زال قيد البحث، وقد يشكل فهمه مدخلاً لتقديم حلول وتصورات تنبثق عن الرؤية الإسلامية وإمكانياتها الروحية، بحكم وجود الحاجة في العالم لهذه الروحانيات، وبهدف تقويمها.
أشكال العودة للروحانيات:
– الكتابة النظرية
يمكن الإشارة هنا إلى العديد من الكتَّاب والمنظرين الذين حاولوا معالجة قضايا العصر من منطلقات روحانية وكبديل عن واقع اليوم، مستمدين ذلك من عدة مصادر.
فهناك إريك فروم، الناقد الاجتماعي والمحلل النفسي الألماني، والذي عاش في أميركا ولمس فيها هيمنة نمط الحياة الاستهلاكي والتملكي، وبنى تصوره عن ما ينبغي أن يكون عليه الفرد اليوم على افتراض وجود نمطين من الحياة يمكن أن يعيشهما الفرد؛ النمط التملكي ونمط الكينونة، أي بين أن تملك وأن تكون، بمعنى بين أن يعرِّف الإنسان نفسه بناءً على ما يمتلكه من سلع ومظاهر ومقتنيات، وما ينعكس ذلك على نمط حياته وعلاقته مع نفسه ومع الآخرين التي ستنبني على أساس تملكي، وبين أن يعرِّف الإنسان ذاته بناءً على كينونته وباطنه وتجربته الشخصية، وعلى قيمه الروحية والأخلاقية وعمله ونشاطه الإنساني المنطلق من المحبة، وتأكيد على الوعي الذاتي.
ويستعير فروم تصوراته عما ينبغي أن يكون عليه الفرد من بوذية الزّن، القائمة على ممارسات من التركيز والتنفس التي تبغي العودة للذات والوعي بها، والانفكاك عن تعريف النفس بناءً على التملك واللذات المادية، باعتبارها تقدِّم نوعاً من الممارسات الروحانية.
كما يمكن الإشارة إلى كتابات المفكر الفرنسي إريك جوفروا، والذي أسلم وغيَّر اسمه إلى يونس جوفروا، وهو يحاول أن يقدم حلولاً مستعارة من التجربة الروحية الإسلامية المستقاة من التصوف، كنوع من مجابهة حالة الاغتراب والعدمية والأنانية التي يعيشها العديد من الأفراد في المجتمعات الغربية، وكتأكيد على أن الروحانيات الإسلامية تقدم حلولاً ناجعة لتجاوز الأزمة الروحية في الغرب، وعلى أنها تساهم في كبح جماح النزعة الفردانية التي باتت حاكمة لتوجه الفرد نحو العالم، خاصة مع هيمنة الأفكار الليبرالية والنيو ليبرالية.
– الأدب والرواية
يمكن أن نجد العديد من الشواهد في النصوص الأدبية التي لاقت رواجاً وانتشاراً في الغرب وكان لها تأثيرها على الأفراد، والمليئة بالإشارات الروحانية التي تدعو إلى عيش نمط حياة روحاني بعيد عن صخب الحياة الحديث وروتين الحياة اليومية.
ولعل أشهر هذه الروايات هي “الخيميائي” للكاتب البرازيلي المعروف باولو كويلهو، وهي من أكثر الروايات انتشاراً ومبيعاً في الشرق والغرب، وقد تُرجمت إلى لغات عدة، ومختصر فكرة أن البحث عن السعادة أو “الغبطة” الروحية لا يكمن في شيء إلا في الذات الإنسانية عندما تصل إلى حالة الاطمئنان والسكينة الروحية، وأن العبرة القائمة في تجارب الحياة هي الطريق ومسار التجربة الذي نتعلمه منه، وهو ما تم تجسيده ببطل الرواية الذي كان يبحث عن الكنز وجاب الأرض ولَم يجده إلا بعد العودة لمنزله ليكتشف أنه كان تحت شجرة المنزل، وليترك أن العبرة كانت في رحلته وتجربته للبحث عن هذا الكنز.
والعجيب أن الكاتب يشير إلى أن هذه الفكرة مستقاة من التصوف الإسلامي وتحديداً من شخصية الشاذلي الصوفي المعروف ورحلته إلى تونس وما لقيه في طريقه، بالإضافة إلى أن فكرة الطريق والتجربة في التصوف لها مكانة أصيلة وقد استعارها الكاتب في الرواية. وانتشار مثل هذه الأفكار القائمة في الرواية يعبِّر عن نزوع كبير للروحانيات قائم في الغرب وعن التعطش لمثل هذه الأفكار.
وهناك رواية “طعام، صلاة، حب” للكاتبة الأمريكية إليزابيث، والتي تروي فيها قصة امرأة تعمل في إحدى الشركات الضخمة، ومحصورة داخل عجلة الإنتاج والاستهلاك، ثم تراودها نفسها أن تهرب من هذا القفص وتغير نمط حياتها، فتتوجه إلى بلاد الشرق الأقصى في الهند والصين (لاحظ مركزية الشرق الأقصى في أنماط العودة للروحانيات) لتتعلم الفنون الروحية والنفسية التي تتوجه للذات وتحقق السلام النفسي وتتفلت من عجلة الرأسمالية ومن روتينية الحياة اليومية.
ولا ننسى الرواية التي أخذت رواجاً واسعاً مؤخراً ليس في الغرب فقط بل في البلدان العربية كذلك، وهي رواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة الأمريكية تركية الأصل إليف شافاق، والتي تحكي عن امرأة أمريكية ملَّت من رتابة الحياة اليومية، ثم تصلها نص لرواية تتحدث عن الصوفي المشهور جلال الدين الرومي، فتتعرف على أفكار المحبة والعشق الإلهي وتغير نمط حياتها لتعيش حياة مليئة بالتجدد والمحبة والروحانية، ولعل أهم إشارة في الرواية هو الحوار الدائر بين هذه المرأة وكاتب نص الرواية، حيث يكون متأثراً بأفكار الرومي والتصوف، فتسأله قائلةً: هل أنت متدين؟ فيجيبها بـ: لا، أنا روحاني!، وهذه إشارة سنعود إليها في نهاية المقال.
– التجربة العملية
لا تنحصر عودة الروحانيات في الكتابات النظرية والأدبية فقط، بل هناك شواهد وتمظهرات عديدة لها في الحياة اليومية والتجربة العملية في المجتمعات الغربية المعاصرة.
فقد نشأت حالة بعد فترة الستينيات والسبعينيات تقوم على تمرد الشباب على مختلف أشكال السلطات الفكرية والثقافية التي كانت سائدة، وهو ما لا ينفصل عن التحولات السياسية والاجتماعية التي كانت مليئة بالقلق في تلك الفترة، والتي أنشأت مواطناً قادراً على تعريض انتماءاته السابقة جميعها للمساءلة، ومع تضخم المجتمع الاستهلاكي وهيمنته على حياة الفرد، أصبح نموذج الفردانية هو المهيمن على الفرد، وهو ما يجعله يبني خياراته الفكرية والثقافية والروحية بالاستناد على رغباته وحاجاته الفردية.
فنحن لا نتحدث هنا عن روحانيات منبثقة عن دين محدد، بل عن شكلٍ من الروحانيات يحاول تعريف نفسه من خارج الأطر الدينية، شكل من التدين الروحاني الفردي الذي يتسق مع حاجات الفرد الذي يشعر بالاغتراب والفراغ الروحي في مجتمعه، وفي الوقت نفسه لم يجد ضالته في المؤسسات الدينية المسيحية القائمة في الغرب.
وكان من تجليات ذلك إقبال عدد كبير من الشباب على التجارب الروحية التي تحاكي الروحانيات الآسيوية والهندية، كتجلي للتدين الفرداني والروحاني، عن طريق عمل جلسات اليوغا وجلسات العلاج الروحي وغيرها.
وهناك عدة عوامل دعمت هذا التوجه نحو أديان الشرق الأقصى والذي نراه متكرراً باستمرار في العودة للروحانيات:
- أن الفرد يمكن أن ينتمي لهذا النمط ويعيش عليه من دون أن يتحمل تكاليف أخلاقية ودينية ومسؤوليات اجتماعية كالتي يضطر أن يلتزم بها إذا كان منتمياً إلى الدين المسيحي مثلاً، فالنمط الذي يسعى إليه يتسق مع فردانيته ورغبته بتحقيق ما يناسب رغباته من دون إملاءات خارجية، أي السعي نحو شكل من التدين منزوع التكاليف.
- فشل الكنيسة في تلبية الحاجات الروحية في ظل مجتمع استهلاكي وضغوط العمل ووطئة الحياة المادية على الفرد، حيث لم تستطع الكنائس الاستجابة للحاجات الروحية الملحة للشباب مما جعلهم يلجؤون إلى مصادر روحية أخرى مواتية لهم.
- الطابع الجمالي الذي تتسم به الروحانيات الآسيوية، وزهدها الدنيوي الذي يعاكس نمط الحياة الذي اعتاد عليه الغرب، مما يجعلها أمراً جاذباً ونوعاً من المغامرة الجديدة التي يفتقدها الفرد.
ونلاحظ أن هذا النمط لا يعرِّف نفسه بأنه متدين، بل باعتباره روحاني، وهذا يتقاطع مع الإشارة التي وردت في رواية “قواعد العشق الأربعون”، ويشير إلى نزوع الفرد الغربي إلى تدين منزوع التكاليف، يقدم له الروحانيات من دون أي شكل من المسؤوليات الأخلاقية والاجتماعية.
يعرِّف هذا النمط نفسه باعتباره “روحاني لكن غير متدين” (Spiritual But Not Religious)، وبحسب الإحصائيات التي ينشرها مركز PEW المعروف، فإن حوالي الـ ٢٥٪ من الأمريكيين يعرِّفون أنفسهم بأنهم “روحانيون لكن غير متدينين”، وذلك بحسب بحث ميداني أُجري في عام ٢٠١٢.
ويأخذ هذا النمط حظاً كبيراً من الدراسة في المراكز البحثية في الغرب، ورصد تحولاته ومآلاته، وقد تم تخصيص مجال بحثي خاص به في علم الاجتماع باسم “علم اجتماع الروحانيات” (Sociology of Spirituality).
*** *** ***
ليس الهدف من هذه الإشارات هو عرض ظاهرة الروحانيات وفقط، بل ما يجب أن نسعى إليه هو الإسهام الذي يمكن أن نقدمه كمسلمين في ظل هذا العطش الروحي الذي يعيشه العالم، وما هي الإمكانيات المتاحة لدينا وفي تاريخنا وتراثنا، وكيف يمكن تقويم وتصحيح مسارات الروحانيات اليوم ومدها بالأفق الإسلامي الذي يعزز الروحانيات جنباً إلى جنب مع المسؤوليات، والذي يجمع بين مقامي التزكية والاستخلاف.
وسيكون هذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله.