أزمة العلاقة بين الشرق والغرب تاريخياً

947

لعلّ من أصعب الأسئلة وأهمها وأشملها سؤال العلاقة بين الشرق والغرب، ولعل أكثر أزماتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية ناتجة بشكل أو بآخر من إشكالية الشرق والغرب، وهنا نسأل متى بدأت هذه الإشكالية؟ وما آثارها السياسية والفكرية على حياتنا اليوم؟   

– نقطة التقاء الشرق والغرب:

يظنّ كثير من الدارسين أن الشرق قد استيقظ على مدافع الغرب، وأن حملة نابليون بونابرت (1798- 1801م) هي التي أسست لمفارقة الشرق والغرب، وأن مفكري عصر النهضة الذين تأثروا بأفكار التنوير الأوربي من رفاعة الطهطاوي لطه حسين وقاسم أمين كانوا أول من اكتشف المدنية الأوربية والحضارة الغائبة عن بلاد العرب والمسلمين، لكن خالد زيادة في كتابه “المسلمون والحداثة الأوربية” يستدرك على هذا القول ويناقشه بأن العثمانين كانوا قد اكتشفوا الحداثة الأوربية وأحسوا بضعفهم تجاهها قبل قرن كامل من حملة نابليون، وذلك إثر هزيمة عسكرية كبيرة للامبراطورية العثمانية شكلت مفصلاً كبيراً في علاقة الشرق والغرب.

 كان العثمانيون واثقون بكفاية قوتهم حتى هُزموا عام (1699م) أمام روسيا والنمسا واضطروا لتوقيع معاهدة “كارلوفيتز” تنازلوا فيها عن المجر والبلقان وأوكرانيا وإعفاء النمسا من الجزية، وكانت هذه هي الصدمة الأولى للدولة العثمانية أمام التفوق العسكري الغربي، وهي تدلل على ضعف التقنية العسكرية العثمانية، كانت قدرة الامبراطورية العثمانية عالية في الحشد العسكري لكن أجهزتها العسكرية كانت أضعف من أعدائها، وهذا الضعف ناتج عن ضعف علمي بدا واضحاً في الدولة آنذاك. ومن اللافت للنظر في هذا الجانب أن الدولة العثمانية عندما كانت تحاصر النمسا وسط أوربا في القرن السابع عشر كان نيوتن وليبنتز باكتشافاتهما الفيزيائية والرياضية يؤسسان للعلوم الحديثة في أوربا.

أدركت الطبقة الحاكمة أن القوة الروسية الجديدة استنتدت على مؤثرات أوربية ساهمت في قوتها وتطورها، لذلك أصبحت فكرة الانفتاح على الإنجازات الأوربية فكرة حاضرة عند السلاطين والوزراء والمفكرين العثمانين، وهذا ما عبّر عنه “إبراهيم متفرقة” الدبلوماسي العثماني والمترجم في كتابه “أصول الحكم في نظام الأمم” الذي تحدث عن النهوض العمراني والصناعي الغربي والروسي وأنه لم يحدث إلا بسبب علوم أوربا، لكن لم يتوافر للعثمانيين (وربما للعالم المسلم بشكل عام) منهج واضح للانفتاح، فوقعوا في ردود فعل الإفراط والتفريط.

 وكان السلطان أحمد الثالث الذي تولى الحكم عام (1703م) عقب الهزيمة العسكرية للدولة العثمانية، وتوقعيها معاهدة كارلوفيتز، من المتأثرين بفكرة ضرورة الإصلاح لكنّ الانكشارية عزلت هذا السلطان عندما حاول أن يصلح وينفتح على أوربا وكان حظّه مثل حظّ سلفه عثمان الثاني الذي تخلصت منه الانكشارية وهي القوات العثمانية الخاصة عام (1623م) لأنه أدرك مبكراً أن الدولة قد هرمت وأنها بحاجة لتجديد فحاول إجراء بعض الإصلاحات الإدراية والعسكرية، لكنّ الانكشارية قتلته وكان أول حادث يقع في مقتل سلطان عثماني من قبل أعوانه ولم يكن الأخير.

ويبدو أن الفساد الموجود ضمن أجهزة الدولة العثمانية وتغول الانكشارية دفع بمستشاري الدولة كـ “قوجي بيك” و”حاجي خليفة” وغيرهم أن يرفعوا رسائلهم إلى السلاطين العثمانين ليشرحوا فساد الدولة وأجهزتها، وكانت من هذه الرسائل رسالة حاجي خليفة المعروف بكاتب جلبي إلى السلطان محمد الرابع (1653م) وسماها “دستور العمل في إصلاح الخلل” وكان جريئاً في نقد السلطنة وأجهزة الدولة.

لعل أقوى تجارب الإصلاح العثماني كانت على يد السلطان سليم الثالث (1789- 1807م) فحاول أن يشرع ببناء قوات نظامية منضبطة بديلة عن الانكشارية، كما أسس معاهد جديدة للهندسة والرياضيات خارج سلطة المدرسة التقليدية ومنفصلة عنها، وكانت بلا شك محاربة من هذه المدارس التقليدية، ولعل هذه أولى المفارقات العملية التي ظهرت ضمن الدولة العثمانية في علاقة الشرق والغرب، حيث صار يطلق على الدارس في المعاهد الحديثة لقب المتفنن، في مقابل لقب طالب العلم الذي يدرس العلوم الدينية، وبدأت تظهر الأزياء المتأثرة بالأزياء الأوربية والمباينة لأزياء المدرسة التقليدية، كما بدأ النقاش بين القوانين الفرنسية والشريعة الإسلامية، هنا قد بدأ صراع التراث والحداثة صراع الأصالة والتجديد، صراع المعرفة الإسلامية والمعرفة الأوربية، الدين والعلمانية.

ومن الأمور التي فعلها السلطان سليم الثالث أنه أوفد محمد علي باشا والياً لمصر بعد الحملة الفرنسية على مصر، حيث تمكن محمد علي من إجراء تحديثات ضمن الدولة لم تكن موجودة في الشرق وهذا ما جعل ولايته مصدر تهديد للدولة العثمانية نفسها.

انتهت تجربة السلطان سليم الثالث بالعزل ثم القتل من قبل الانكشارية، وكانت أهمّ المبررات لعزله اتهامه بتقليد الغرب الكافر والابتعاد عن الأصالة الإسلامية وأن من يتشبه بقوم فهو منهم، وكان عزله نتيجة تحالف بين المؤسسة الدينية المتمثلة بشيخ الإسلام محمد منيب ومراد زاده قاضي اسطنبول والجهاز العسكري المتمثل بالانكشارية، وبقيت الانكشارية قوة مؤثرة في بطء الإصلاحات ضمن الدولة العثمانية حتى جاء محمود الثاني (1808- 1839م) وتخلص منهم في مذبحة شبيهة بالمذبحة التي قام بها محمد علي ليتخلص من الماليك.

ما يمكن قوله إن عهد السلطان سليم الثالث كان عهداً مفصلياً في تأثر الشرق والغرب ودلالات هذا التأثر ونتائجه، وخصوصاً إذا وضعنا بأذهاننا أن الفترة التي حكم فيها هذا السلطان كانت متزامنة مع قيام الثورة الفرنسية في أوربا، حيث كانت مفاهيم الحرية والمساواة تثير كثيراً من القلق والاضطراب داخل الدولة لأنها لم تكن مجرد مفاهيم عامة بقدر ما كانت مفاهيم سياسية، وهذا ما أثار حفيظة النخب الدينية والعسكرية من إجراءات التحديث التي كان يقوم بها السلطان سليم الثالث لأنها غريبة عن مفاهيم العثمانين وشعروا أنها تهدد وجودهم.

كان صراع المفاهيم حاضراً في كثير من المفردات ككلمة الثورة التي كانت تحمل دلالات سلبية في الفكر الإسلامي وتقترن بالفوضى فاستُعيض عنها بلفظ الإصلاح، إلى لفظ الحرية المختلف سياقاً ومفهوماً إلى مفاهيم أخرى نشأت كالعلمانية التي سماها “جمال الدين الأفغاني” بالدهرية كما في كتابه “الرد على الدهريين”.

  المدارس الفكرية التي خرجت إثر التقاء الشرق بالغرب:

يقسم “برتران بادي” في كتابه “الدولتان” المدارس التي خرجت إثر التقاء الشرق والغرب إلى مدرستين مدرسة الإصلاح ومدرسة الإحياء وكلاهما ظهر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وكلاهما أنتج مدارس فكرية مختلفة موجودة إلى اليوم، أما مدرسة الإصلاح فعلى رأسها رفاعة الطهطاوي وابن أبي ضياف وخير الدين التونسي، وهذه المدرسة هي أقرب ما تكون إلى صحبة الغرب منها إلى مناكفته أو مناقضته فهي جاءت إثر صدمة حضارية رأتها في الحملات الفرنسية على مصر وغيرها، فلو تحدثنا عن رفاعة الطهطاوي نموذجاً لهذه المدرسة لوجدنا أنه كان فرداً من أول بعثة مصرية من البعثات التي بدأت مصر بإرسالها لباريس وفق سياسة محمد علي باشا، وكان الطهطاوي شيخاً أزهرياً وهو تلميذ الشيخ الأزهري حسن العطار، وإثر عودته طلب الشيخ العطار من تلميذه أن يكتب له تقريراً عن رحلته فكتب كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” تحدث فيه عن العمران والجيوش والشوارع والمرأة، وكان يصف أوربا بأنها أهل التمدن، وأن على المسلم أن يذهب لأوربا لكي يتدارك تأخره ويصلح جهله، وخصوصاً في المعارف والتقنيات، وعموماً لم يكن رواد مدرسة الإصلاح على الاختلاف فيما بينهم إلا راغبين بالتوليف بين المعارف الغربية والمعارف الإسلامية، والحياة الاجتماعية الغربية والحياة الإسلامية، لكن هذه المدرسة قد أنتجت فيما بعد مواقف وتيارات وشخصيات أكثر انتماء للثقافة الغربية ومناهجها وهؤلاء من كان يسمون أنفسهم بالتنويرين، ونذكر على سبيل المثال طه حسين وقاسم أمين، فطه حسين مثلاً كان يرى مصر  منتمية إلى الغرب أكثر منها إلى الشرق وكان يرى أن الفتح الإسلامي لم يغير من العقل المصري المتأثر بالثقافة اليونانية الأوربية، وكان يرى ضرورة تطبيق المناهج الغربية الحديثة على الثقافة العربية والإسلامية، وهذا ما فعله في قضية الشعر الجاهلي، التي تحولت إلى معركة شارك فيها الرافعي والعقاد ومحمود شاكر، وهنا نرى أن علاقة الشرق والغرب انتقلت بشكل واضح إلى الثقافة العربية والإسلامية، لتصبح فيما بعد معارك ثقافية شارك فيها الاستشراق بمدرستيه القديمة التابعة للكنيسة التي تريد زحزحة صورة الإسلام في أذهان أتباعها أو التي تحمل نفساً استعمارياً أو في مدرسته الحديثة التابعة لمراكز معرفية أكثر تجرداً وحيادية.    

وأما مدرسة الإحياء فقد كان روادها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، وكانت هذه المدرسة تريد إيقاف تدهور الشرق من خلال تحديث إسلامي خاص، فهي وإن كانت لا تمانع من التأثر بالغرب لكنها لا تنفتح بصورة مطلقة، الأفغاني (1897م) ألف كتابه “الرد على الدهريين” ليرد على أحمد خان بهادر الذي كان يطالب بوضع العلوم الغربية قبل القيم الدينية ويرى أن النور كما خرج من الشرق هو يخرج الآن من الغرب، هذه الحالة من الاستلاب لم تكن تعجب الأفغاني وعبده ورضا لذلك بدأ التفكير بتحديث مزدوج يستند إلى تجاوز التخلف من خلال البحث في الخصوصية الإسلامية، وهنا بدأ البحث في الإسلام باعتباره حضارة مؤسسة وليس ديناً فحسب، ومن هنا يمكن أن نفهم المدارس التي تولدت من حركة الإحياء والتي ترى في الإسلام باعثاً حضارياً وأن الإسلام قادر على تقديم الحلّ وهذا ما نراه في فكر البنا تلميذ رشيد رضا، بل قد تطورت هذه الرؤية حتى صارت ترى أن فشل الشعوب الإسلامية في الحضارة راجع لرغبتها في تقليد الغرب، وأن هذا انحراف كبير أو في فكر عبد القادر عودة تلميذ البنا في تصوره عن الدولة الإسلامية الحديثة، وما نراه بشكل أوضح في فكر سيد قطب في حديثه عن مفهوم الدولة الجاهلية، هنا أصبح سؤال الشرق والغرب مغايراً تماماً لنشأته وصولاً إلى ما كتبه أبو الحسن الندوي “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” لتصبح العلاقة بين الشرق والغرب أكثر استقطاباً وأكثر حدة وتمايزاً، وأكثر دفاعية.

علاقة الشرق والغرب سياسياً:

إثر سقوط الخلافة عام (1923م) كانت الدولة العثمانية قد أكملت ما بدأه سليم الثالث من الاتجاه نحو الغرب في شكل الدولة ومبادئها، وكان قد سبق ذلك على الساحة الفكرية نقاش سياسي حول الخلافة نفسها وكان هذا النقاش متأثراً بما أفرزه الغرب من ثورات خاصة به أقصت الدين وفصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية، وكان كتاب مصطفى عبد الرازق الذي أثار جدلاً كبيراً في وقته “الإسلام وأصول الحكم” والذي ألفه عام (1888م) قال فيه إن الخلافة ليست من أصول الدين وأن نموذج الدولة يتطور وهو خاضع للزمان والمكان، وهو بلا شك تأثر بشكل الدولة الغربية المعلمنة، وأثار هذ الكتاب موجة كبيرة من الجدل نعيشها إلى اليوم في شكل الحكم وطريقته وآليته وفي مواضيع مثل الديمقراطية والعلمانية والدستورية.

إن النقاش السياسي يدور دوماً حول مفردات تستند لأسس فلسفية كمفهوم الليبرالية والحرية، وتزامناً مع ما أفرزه الحدثان الإيراني والأفغاني ومن ثم أحداث أيلول في أمريكا من تبدلات في العلاقة بين الشرق والغرب أو تعزيزاً لمبدأ الاستقطاب بينهما، أصبحت هذه المفاهيم أكثر تفلتاً من الغرب نفسه، ولم تعد أوربا أو أمريكا تكترثان بأن تكونا مثالاً يُحتذى في الحداثة العالمية، وذلك إثر صعود نخب شعبوية وعنصرية تحكم بعض الدول الغربية، ولم تعد فكرة نهاية التاريخ حاضرة، لذلك يتساءل خالد زيادة سؤالاً مشروعاً هل بقي لدى الغرب ما يقدّمه للعرب، وهل ما قدّمه الغرب شيء كوني أو شيء خاص.

لا شك أن مفاهيم الحرية والمساواة نزعات بشرية طبيعية لكن هذه المفاهيم تأخذ معاني مختلفة وتطبيقات متباينة بحسب الإطار العام الذي توضع فيه هذه المفاهيم. ومن هذه الزاوية يسأل “الطيب بو عزة” في كتابه “نقد الليبرالية” هل المذهب الليبرالي مذهب بشري أو هو مثال بالمعنى الفلسفي؟ وهل الليبرالية واحدة أو متعددة؟ وهل تقدم الليبرالية نفسها كنموذج سياسي أو كنظام حياة؟

كان حضور الإسلام في وعي أوربا قديماً أكثر من حضور أوربا في وعي المسلمين أيامها، لكن اليوم نرى أن حضور أوربا والغرب في وعينا هو أكثر بكثير مما مضى، بل إن نظرة المسلم لنفسه غالباً ما تكون أسيرة للعلاقة بين الشرق والغرب، وهذا من العجيب أن لا نستطيع النظر إلى أنفسنا إلا بالقياس على الآخر، وفي الجهة المقابلة تحولت النظرة تجاه الغرب إلى أيدلوجية محملة بالفكر المؤمراتي دون الفصل بين موروث الغرب نفسه، وأصبح التعاطي معه بشكل جوهراني كأنه كتلة واحدة.

تتأزم العلاقة بين الشرق والغرب لأسباب سياسية ودينية، وربما يكون المخرج في جيل يخرج من حالة الاستقطاب ويخرج من حالة الاستلاب، وهذا وإن بدا كلاماً عاماً لكنه يدلل على واقع لا يمكن إنكاره.