الــحــيــــاة الــدنــيــــا في القرآن

1٬260

قال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. [يونس: 24]. وقال تعالى: {وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}. [الكهف: 45].

وقال: {ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ}. [الحديد: 20].

عند التأمل في تشبيه الحياة الدنيا بالماء الذي ما ورد في القرآن إلا في سياق بيان نعم الله وفضله وكرمه على عباده، وبيان تجليات قدرته وحكمته ولطفه سبحانه، ينقدح في الذهن سؤال لا بد من إجابته بما يشرح الصدر ويزيل الإيهام. والسؤال هو: كيف يشبه الله سبحانه الحياة الدنيا بالماء الذي جعله سبباً للنعم والرزق؟ وهل يسوغ أن تتمحض الحياة الدنيا في نظر المؤمن للشر والفساد ‑كما يردد كثير من الزهاد والواعظين‑ والله سبحانه يشبه حالها وطبيعتها بالماء النازل من السماء بركة وسبباً للنعم والأرزاق؟

وعند محاولة الإجابة عن هذا السؤال نذكر أن الحياة الدنيا هي سبب لدخول الجنان ونيل الرضوان وسبب للكرامة يوم القيامة وسبب للنعيم المقيم في الآخرة. والقرآن الكريم يحدثنا أن جزاء المؤمنين وإكرامهم وفوزهم بالنعيم كان جزاء لما كانوا يعملون في الدنيا وما كانوا يكسبون في الدنيا وما كانوا يتقون أو ينفقون في الحياة الدنيا. ولولا دخول المؤمنين دار الابتلاء في الدنيا لما استحقوا الجزاء والنجاح في الآخرة، ولما تميز الخبيث من الطيب ولما تحقق العدل الإلهي المطلق.

عند النظر إلى تشبيه الحياة الدنيا بما أنزله الله من السماء من ماء، آخذين بعين الاعتبار مقارنة جزئيات التشبيه وتفاصيل أركانه، ينفتح أمامنا أفق في فهم أمثال القرآن ودروسها ومواعظها لم نكن قادرين على ارتياده لو اقتصر اهتمامنا على الصورة الإجمالية للتشبيه كما التزمها المفسرون.

ففي ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، ضرب الله سبحانه مثل الحياة الدنيا بالماء الذي أنزله الله من السماء. ولكن هذا المثل كان في كل الآيات يأتي في سياق بيان ما تؤول إليه نعمة الماء في النبات وزينته وبهجته من الاضمحلال والزوال والهلاك. وقد أكّد المفسرون أن المثل هو لبيان تقلب الدنيا بأهلها واضمحلال زينتها وزوال بهجتها وأنها ليست بدار مقام وخلود. وقد كان المفسرون في توضيحهم لمعنى الأمثال ينطلقون من افتراضهم أن المقصود بالأمثال هو تشبيه الصورة الإجمالية للمشبه بالصورة الإجمالية للمشبه به، ولم يكن من منهجهم وطريقتهم أن ينظروا إلى جزئيات المثل أو تفاصيل عناصره، أو يحتفلوا بانطباق خصائص هذه العناصر والجزئيات أو عدم انطباقها.

لقد ذكر الله سبحانه وتعالى الماء الذي أنزله من السماء في سياق بيان الفضل والمنة والرحمة والعطاء وتصريف الكون لخدمة الإنسان وسد حاجاته من الطعام والشراب والزينة والبهجة والجمال في ثمانية وعشرين موضعاً في القرآن الكريم. وجعل الله سبحانه الماء سبباً في حصول الكثير الكثير من النعم والأرزاق وأنواع المتعة. وجعل الله سبحانه وتعالى الماء وعجائب الخلق واللطف المرتبطة به آيات للتفكر والتدبر والتعقل ليصل الإنسان إلى الإيمان بالله وربوبيته وقدرته وينضبط سلوكه بصبغة الربانية والخضوع فيستحق المكافأة في دار النعيم المقيم.

فتشبيه الحياة الدنيا بالماء النازل من السماء هو تشبيه لأصل طبيعة كل منهما من جعل الله سبحانه الحياة الدنيا سبباً لنيل نعيم الآخرة كما جعل الماء النازل من السماء سبباً لنعيم الدنيا وما فيها من رزق وزينة وجمال. فالحياة الدنيا هي سبب لنعيم الآخرة بأداء وظيفة الاستخلاف في الأرض بعمارتها وتسخيرها وارتفاقها ودفع الظلم والفساد عنها لتكون الحياة الدنيا طيبة ومعاشاً وزينة وجمالاً يستمتع بها المؤمن مع ملاحظة معنى الإذن الإلهي وتأدية الشكر والحمد للمنعم المتفضل.

فإذا غفل الإنسان عن معنى الإذن الإلهي وانساق وراء ما أودعه الله في فطرته من حب الزينة والمتاع وأصابه العُجب واستعظم ما أولاه الله سبحانه من نعم ونسي المنعم وأصابه الغرور فحسب أن ما يعيشه من نعيم وزينة دائم لا يفنى ولا يبلى وقال: {مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا} [الكهف: 35]، فعندها يأتي التذكير بسرعة انقضاء الحياة الدنيا وزوال بهجتها ونضرتها واستحالتها إلى هشيم تذروه الرياح، ليلجم الشاردين الذين أخرجوا الحياة الدنيا عن وظيفتها وطبيعتها وأنها دار ابتلاء وتنافس في الخير واستباق للفضل واغتنام للأوقات واكتساب للأجر والمثوبة عند الله.

فالذم للحياة الدنيا على الإطلاق (كما يورده أهل المواعظ ومن تابعهم من المفسرين)، لا يستقيم مع القضاء الكوني لله تعالى الذي جعل الدنيا مزرعة الآخرة و طريق الجنة ووسيلة نيل الدرجات والرضوان في دار الكرامة.

وقد ورد الذم للدنيا في القرآن في حال الاغترار بها واستحباب زينتها والغفلة عن اغتنامها للتنافس في الخير. وورد النهي في القرآن عن إيثار الحياة الدنيا والركون إلى متعتها وزينتها التي قضت حكمة الخالق سبحانه أن يجعل تلك الزينة المحببة للنفس ابتلاءً يبين من اختار السلوك الأخلاقي وضبط النفس عن رعوناتها، نتيجة إيمان ووعي بحقيقة الحياة الدنيا وإيمان باليوم الآخر وانتظار الجزاء المناسب لمن أحسن ولمن أساء.

ومن هنا يأتي المثل القرآني في تمثيل الحياة الدنيا بالماء النازل من السماء لينبه على أصل معنى الابتلاء بالنعم والزينة، وحتى لا يغلو الناس في ذم الدنيا بما يؤدي إلى إهمال وظيفة الخلافة في الأرض وإهمال عمارة الكون والسعي في رفع الظلم والفساد، بمواعظ يغلب عليها الدعوة إلى الكسل والبطالة والقعود عن الضرب في الأرض وابتغاء فضل الله، ويغلب عليها الغفلة عن بذل الجهد لامتلاك الكفايات من المهارات والقدرات للإصلاح ونفع الناس وسد حاجاتهم.

وقد وقفتُ عند الإمام الشاطبي في الموافقات على كلام نفيس في سياق حديثه عن التعارض بين الأدلة. يؤكد ما يقرره المثل القرآني من الفهم عن طبيعة الحياة الدنيا في القرآن الكريم.

قال رحمه الله باختصار: “وأما التعارض باعتبارين مختلفين فمثاله أن الله سبحانه وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين. وصف يقضي بذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها. ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد القبول لأنه عطاءٌ عظيم مهدي من ملك عظيم. فالوصف الأول له وجهان: أحدهما أنها لا جدوى لها ولا محصول عندها. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً. وعلى هذا المنوال نسج الزهاد ما نقل عنهم من ذم الدنيا وأنها لا شيء. والثاني أنها كالظل الزائل والحلم المنقطع. فهناك الكثير من الآيات والأحاديث المفهمة لمعنى الانقطاع والزوال وبذلك تصير كأن لم تكن. وهو حادي الزهاد إلى الدار الباقية.

وأما الثاني من الوصفين فله وجهان أيضاً: أحدهما ما فيها من دلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلى. وعلى الدار الآخرة. مثل الكثير من الآيات التي هي دلائل على العقائد وبراهين على التوحيد. والثاني أنها منن ونعم امتن الله بها على عباده وتعرف إليهم بها في أثناء ذلك. واعتبرها ودعا إليها ونصبها لهم وبثها فيهم. فامتن الله سبحانه في الكثير من الآيات وعرّف بنعم من جملتها الجمال والزينة وهو الذي ذم به الدنيا. بل عندما عرّف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا كقوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ}، وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا}، وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}. وأنزل الأحكام وشرع الحلال والحرام تخليصاً لهذه النعم التي خلقها من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات. وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} أي في هذه الحياة الدنيا{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْبِأَحْسَنِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي في الآخرة. وقال تعالى: {وَلِتَبْتَغُوامِنفَضْلِهِ} فجعل طلب الدنيا فضلاً كما جعل حب الإيمان وبغض الكفر فضلاً. والدلائل على هذا المعنى أكثر من الاستقصاء.

فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني. وهو ظاهر. فإن عدم اعتبارها وأنها لعب لا محصول له مضادٌ لكونها نعماً وفضلاً. وأن كونها زائلة وظلاً يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته واتصافه بصفات الكمال وعلى أن الآخرة حق. فهي مرآة يرى فيها الحق كل ما هو حق. وهذا لا تنفصل فيه الدنيا من الآخرة. بل هو في الدنيا لا يفنى. فالوصفان إذن متضادان والشريعة منزهة عن التضاد مبرأة من الاختلاف فلزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين أو حالتين متنافيتين. و بيان ذلك أن لها نظران:

أحدهما: نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها متعرفاً للحق ومستحقاً لشكر الواضع لها بل إنما يعتبر فيها كونها عيشاً ومقتنصاً لللذات ومآلاً للشهوات انتظاماً في سلك البهائم. فظاهر من هذه الجهة أنها قشر بلا لب ولعب بلا جد وباطل بلا حق. لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولاً ومشروباً وملبوساً ومنكوحاً ومركوباً من غير زائد ثم يزول عن قريب فلا يبقى منه شيء. فذلك كأضغاث الأحلام. فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق. وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما وصفه الله تعالى من أنها لهو و لعب وزينة وغير ذلك.

والنظر الثاني نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا فظاهر أنها ملآى بالمعارف والحكم، مبثوث فيها من كل شيء خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه. فإذا نظر إليها العاقل وجد كل شيء فيها نعمة يجب شكرها فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته فصار ذلك القشر محشواً لباً. بل صار القشر نفسه لباً لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن يشكر لله بها وعليها. فلا دِقّ ولا جِلّ في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم. ومن هنا أخبر تعالى عن الدنيا أنها جد وأنها حق. كقوله: {أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا} وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَابَيْنَهُمَا بَاطِلًا}. ولأجل هذا صارت أعمال أهل هذا النظر معتبرة مثبتة. فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة وليست مذمومة من جهة النظر الثاني بل هي محمودة. فذمها بإطلاق لا يستقيم كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم. والآخذ لها من الجهة الأولى مذموم يسمى أخذه رغبة في الدنيا وحباً في العاجلة. وضده هو الزهد فيها وهو تركها من تلك الجهة ولا شك أنه مطلوب. والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم ولا يسمى أخذه رغبة فيها ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود بل يسمى سفهاً وكسلاً وتبذيراً. ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعاً. ولأجله كان الصحابة طالبين لها مشتغلين بها عاملين فيها لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها وعلى اتخاذها مركباً للآخرة وهم كانوا أزهد الناس فيها وأورع الناس في كسبها.

فتأمل هذ الفصل فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظرين في الشريعة وفي أحوال أهلها وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه كما يفهمون طلبها على غير وجهه فيمدحون ما لا يمدح ويذمون ما لا يذم شرعاً”. اه

فتشبيه الحياة الدنيا بالماء هو المعنى الرمزي المناسب للوجه الثاني من النظر إلى الدنيا كما بينه الإمام الشاطبي فيستقيم لنا ما نحاوله من ربط الجزئيات في المثل ليكون من ارتباطها وتناغمها المزيد من الفهم والمزيد من القدرة على الارتقاء في معارج التدبر لأمثال القرآن الكريم.