الشخصية المسلمة بين إصابات الواقع المتغير وتطلعات البعث والإحياء
يحظى البحث في موضوع الشخصية المسلمة بأهمية بالغة لاعتبارات متعددة، تمليها ظروف المرحلة الراهنة التي تمر بها الأمة الإسلامية، وهي بلا شك مرحلة تاريخية استثنائية، تعرضت من خلالها لاختبار عسير، حاد بها عن صفات الخيرية، وسلب منها أسباب التمكين، وعوامل الشهود الحضاري، ومعلوم أن الشخصية المسلمة الناجحة هي قلب الأمة الذي به تحيا وتربو، وروحها التي بها تتنفس وتسمو، وحين نثير هذا الموضوع نوجه ضمنياً العناية إلى القيم الإسلامية التي ميزت هذه الشخصية عـبر العصور.
إن الشخصية المسلمة اليوم تشكو من مخاض فكري، وتموجات ثقافية لا تكاد ترسو على منهج ثابت وواضح، بسبب التأثر بالأزمة الفكرية والفوضى الأخلاقية والقيمية التي يشهدها العالم المعاصر، كل ذلك أفقدها العديد من مقوماتها ومواصفاتها الأصيلة، الأمر الذي يستدعي تعبئة قوية من مفكري الأمة، وصياغة جديدة للمعالم الإسلامية لتجاوز واقع الانفصام، والخروج بنتائج معتدلة من أزمة المرحلة.
في صميم القضية آثرنا أن نقدم هذه المساهمة، إذ وقفنا من خلالها عند تعريف الشخصية عامة تأسيساً لتحديد مفهوم الشخصية المسلمة، ورصد بعض صفاتها ومعالمها، ثم إبراز أثر القيم الإسلامية في تكوينها، لنتوجه بعدها لإبراز بعض الإصابات التي آلمتها قبل أن نقترح بعض الهياكل الكبرى التي تحتاج إلى إعادة تأهيل من أجل إمكانية بعث وإحياء جديد لها.
مفهوم الشخصية عامة
الشخصية أو الشخص كما جاء في العديد من تعاريف الفلاسفة والمفكرين، هي: “ذاتٌ واعية لكيانها، مستقلة في إرادتها، تفصلها عن محيطها الخارجي مسافة من خلالها يتحدد نمطها، وبهذا الاعتبار فكل إنسان له شخصيته التي تميزه عن الآخر، ومواصفاته التي ينفرد بها حسب ما تفرضه تصوراته وتطلعاته وكفاءاته، فهذه العناصر هي التي تتحكم في الإنسان وتوجه تصرفاته وسلوكه، وبالتالي تحدد شخصيته.
لا شك أن الدراسات الفلسفية مختلفة في تحديد مفهوم الشخصية وذلك لتنوع المقاربات من مقاربات أنثروبولوجية، وبيولوجية وسيكولوجية… وهي في نهاية المطاف “تتكون بتفاعل كل المورثات البيولوجية والقدرات السيكولوجية مع البيئة التي يعيش فيها الفرد… وما تتضمنه البيئة من أشكال مادية ولا مادية، تؤثر بشكل واضح في تحديد نمط الشخصية”(1).
أشار الدكتور أحمد عبد الحميد غراب إلى تصنيفات ثلاثة للشخصية، جلاها في: التصنيف الطبي، والتصنيف النفسي، وتصنيف ثالث يربط شخصية الإنسان بنوع بنية جسمه، وعلى أساسه تقسم الشخصية إلى شخصية اجتماعية، وشخصية محبة للسيطرة، وأخرى محبة للتفكير… ثم بيّن أن هذه التصنيفات كلها مبنية على الظنون ولا تسلم من النقد، لينتقل بعدها لمقياس القرآن الكريم الذي لا يقيم شخصية الإنسان من خلال طبقته أو جنسه أو قوميته… إنما مقاييس القرآن ترجع كلها إلى موقف الإنسان من هدي الله تعالى، فكان ذلك هو موضوع دراسته الذي أوضحه وجلاه بجهد مسبوق ومشكور(2).
بعيداً عن الدراسات الفلسفية التي لم تستقر على مفهوم واحد لتعدد المقاربات وتباين الرؤى بتنوع الإيديولوجيات، نريد أن نحدد مفهوماً واضحاً نجعله منطلقاً لهذه المساهمة، ونعني بالضبط مفهوم الشخصية المسلمة، بالوقوف عند مواصفاتها التي من خلالها تتحدد معالمها.
مفهوم الشخصية المسلمة
الشخصية المسلمة هي التي تتخذ من أحكام وتعاليم الإسلام مرجعاً لها، ومن قيمه قواعد بنيانها، ولبنات صرحها، ومن خصائصه مواصفات كبرى تتحلى بها لتكون رشيدة ومرشدة، فهي الشخصية الربانية السليمة من كل الأمراض القلبية، السوية والمتوازنة في كل أمورها، الواعية بوجودها، المنتبهة لمركزها وحيزها في هذا الكون، والمدركة لمصيرها وغايتها، لذلك فهي تتجه باستمرار وعلى خطى ثابتة نحو هدف أسمى وغاية عظمى، وهي نيل رضا ربها والفوز بالنعيم الذي أعده الله تعالى لها.
إن الشخصية المسلمة لا تأتي من فراغ، ولا تنبت في التربية الفاسدة، ولا تنمو وتترعرع في الهواء الفاسد، لأن غذاءها وريها من عناصر الكتاب، ومن ينبوع النبوة، ولا تستطيع أن تتنفس إلا في الأجواء النقية التي لم تلوثها البدع المستوردة، والأفكار الغازية ووسائل التحريف والانحراف والضلال التي تكاثفت قوى الشر والبغي لحشوها، كي تقتل هذه الشخصية الفريدة أو تخنقها(3).
لقد حدد حسن البنا صفات جامعة للشخصية المسلمة انطلاقاً من استقراء كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وواقع المسلمين وتاريخهم، وصاغها صياغة دقيقة ومحكمة، فحواها كون شخصية المسلم قوية الجسم، متينة الخلق، مثقفة الفكر، قادرة على الكسب، سليمة العقيدة، صحيحة العبادة، مجاهدة لنفسها، حريصة على وقتها، ومنظمة في شؤونها، ونافعة لغيرها.
إن هذا الوصف الباهر يكاد يقطع في المعالم التي تحدد شخصية المسلم السوية التي صنعتها تعاليم الوحي الإلهي، وجلاها القرآن في شخصية الأنبياء عليهم السلام، بدءاً من نوح وانتهاءً بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشخصية التي أرادها الله تعالى أن تُصنع في موسى عندما قال فيه مخاطبا: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}(4) وقال في موضع آخر: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}(5)؛ إنها الشخصية الموحدة، الخاضعة لربها، تعيش من أجل رسالة، وتراعي حق الأمانة.
وفي تصورنا فإن المعالم الكبرى لشخصية المسلم، تقوم على مثلث قيمي محتضن لجزئيات القيم، يمكن رصد زواياه من خلال عناصر نعتبرها أبعاداً رئيسة في بناء الشخصية المسلمة وتألقها، وبغيابها تميل وتضطرب ولا تستقر على حال، ويكون نجاحها في المعترك الفكري والوجودي من المحال.
أول هذه الأبعاد: الفكر الناضج والمتوازن والمستوعب لخط الزمن، يمتد مع امتداده، يدرك الماضي ويفهم الحاضر ويعي المستقبل، لا تأخذه الأهواء، ولا تخطفه العواطف أو يميل مع الأجواء، وثانيها: السمت في السلوك، والأدب مع الخلق الذي يجعل المرء يكبر في عين الكريم، وبه ينزه تصرفاته عن الطيش والعبث، وهي نتيجة حتمية للفكر الناضج الذي يرسي تطلعات الإنسان أن تميد أو تضطرب.
وثالثها: الحزم والجدية في الأداء سواء أكان دينياً أو دنيوياً؛ عنوان الأول فضيلة الإحسان مع الله تعالى وهو أن تعبده وكأنك تراه، والثاني الإتقان في العمل الذي يستجلب رحمة الخالق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رحم الله عبداً عمل عملاً فأتقنه”، وهذه الثالثة هي الصورة العملية والترجمة الفعلية لاستقامة الفكر ورشد السلوك.
ولا يقال إن هذا الوصف مثاليٌ ليس يسيراً أن ينطبق مع الواقع، فإن قصور الواقع الإنساني ينبغي أن لا يدعنا ننفي الآفاق العالية التي يجاهد المرء نحوها آملاً أن يرتقي إلى مصافّها.
أثر القيم الإسلامية في بناء الشخصية المسلمة
تعتبر القيَم الإسلامية هي الحارسة الأولى للشخصية المسلمة، فهي بمثابة السياج الذي يحميها أن تزل أو تنحرف عن هدي الفطرة، فالإنسان كائنٌ أخلاقي قبل أن يكون حيواناً مفكراً أو كائناً عاقلاً، لأن الفضائل والقيَم هي التي تعطي معنى لإنسانية الإنسان، بدونها أجوفٌ يصير لا روح فيه ولا ضمير، وبتصدع السياج القيمي وتآكل أسلاكه واهتراء أوتاده، تضطرب شخصية المسلم وتتراجع قوتها، ويأفل نجمها إلى أن تصير ضعيفة ذليلة.
إن المواصفات الباهرة الآنفة الذكر، لا تتحقق إلا في شخصية صنعها الإسلام، وحاكتها قيمه ومثله العليا التي أخرجت الإنسان من الظلمات إلى النور حتى استقامت البشرية بعد اعوجاج، وهدأت بعد اضطراب، ودانت لربها بعد أن كانت ممزقة الفكر وخاوية العقيدة ومسلوبة الضمير، لذلك نجد أثر القيم الإسلامية بارزاً بوضوح في الشخصيات الناجحة التي عرفها التاريخ الإسلامي، بدءاً من مثلها الأعلى معقل الفضائل والقيم، الموصوف بنعوت النبل والطهارة، والمشهود له في القرآن الكريم بحسن الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي صنعت الجيل الأول، وهو جيل قرآني فريدـ حسب تعبير سيد قطب “لا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة”(6).
مجمل القول “إن أثر القيم الإسلامية في الشخصية لا يخص…جوانب النفس دون الأخرى، بل إنه يهيمن عليها حتى لا يدع دقيقة من دقائقها، إن تلك القيَم الشاملة لا تجعل المسلم صادقاً في معاملاته وممارساته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية، متعاوناً فيها على البر والتقوى، عفيفاً معتدلاً في تعامله معها فحسب، ولكنها لتنفد إلى أعماق نفسه فتغرس فيها رهافة في الحس وشفافية في الذوق والضمير”(7).
الشخصية المسلمة في واقع متغير
منذ أن استقام عودها واكتمل وتماسك بنيانها بفضل تعاليم القرآن الكريم وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم، والشخصية المسلمة تتعرض لضربات موجعة -على كثرتها- لم تستطع أن تقسمها فتنهار انهياراً كلياً ويصير خبرها في طيّ الكتمان، مادامت ترد من معين الوحي الإلهي الذي يُعتبر بمثابة لقاح لها من جميع الأسقام الحالية والمستقبلية، لقد ظلّت الشخصية المسلمة على امتداد التاريخ الإسلامي معطاءة، وخلفت تراثاً فكرياً وحضارياً قلَّ نظيره عند الأمم الأخرى، وسلْ التاريخ يجبك عن ما قدمه علماء الإسلام من جهد في مختلف الحقول الفكرية والمعرفية، بل منهم من سبق زمانه ولا تزال مصنفاته من أقوى المراجع في قضايا جدّ متخصصة.
أما اليوم فالشخصية المسلمة تمر بمنعطف تاريخي غير مسبوق تخلت من خلاله عن العديد من مقوماتها وخصائصها الأصيلة، ويوجعنا أن نقول بكل حسرة: إن الشخصية المسلمة التي كانت في ما مضى تصنع الأمجاد، صارت اليوم عاجزة عن ردّ كيد الأحقاد، وكانت بالأمس القريب تبدع الكلمة، وتسحر العقول بالبيان، وترسي المنهج العلمي الذي يهدي الحيارى والتائهين إلى درب الخلاص من المناهج الفلسفية الضالّة والمضلّة، صارت اليوم تتوسد على موائد الفكر الإنساني بكل طرقه ومذاهبه التي أبان الواقع أنها عجزت تمام العجز على الارتقاء بالإنسان.
تعيش الشخصية المسلمة اليوم حالة مرضية مستعصية، ازدحمت فيها العديد من الأسقام التي أصابتها في مقلتها، فساد في العقيدة، انحراف في السلوك وفي التفكير، تقليد لنماذج حضارية فارغة من أي محتوى، اِرتجال وطائشية في اتخاذ المواقف، اِتكالية وعجز في تدبير الأمور…. وغيرها من الحالات المرضية التي تتولد بين الحين والآخر، وهي مؤشرات عن الاندحار الذي باتت تعانيه شخصية المسلم.
ويقوم عمر عبيد حسنة بذكر جملة من الإصابات التي لحقت بالعقل المسلم بعد أن أكد عن تقصير هذا الأخير في تبليغ الخطاب الإسلامي بأبعاده العلمية، والتقدم للمساهمة في حل مشكلات العالم، ونورد هذه الإصابات مختصرة لعلاقتها بموضوعـنا وهي: العدول في التعامل عن السنن الجارية واكتشاف قوانين التسخير، وانتظار المنقذ القادم من الغيب، وتعطيل قانون السببية، وفقدان التوازن فيها وذلك بالتردد بين تأليه الأسباب وبين تعطيلها، وعدم الاقتناع بجدوى النقد والمراجعة والتصويب والاعتبار بالتجارب السابقة واكتشاف السقطات والحفر والإخفاقات، وأضف إلى كل هذا تعطيل الحوار الذي يفتح الآفاق ويساهم رعاية القابليات ويشحذ الفعالية ويحقق الإبداع، وعدم القدرة على التمييز بين الغزو الثقافي والتبادل المعرفي، والعجز عن النظرة الكلية للأمور وإدراك المقاصد العامة للشريعة، والوقوع في الجزئية…(8) هذه بعض الإصابات التي أصابت الشخصية المسلمة، وأغلبها من إفرازات هذا الواقع الذي ابتعد كثيراً عن تعاليم السماء.
كل ما في الأمر، إن شخصية المسلم تعيش اليوم في عالم متغير، ومحيط لم تألفه، وبيئة غريبة ليست كبيئة الصحابة الكرام والرعيل الأول، وتتنفس في جو مختلط النسائم، كل ذلك نتيجة إفرازات التغيرات الحضارية الحديثة التي استعلت على منظومة القيم الإنسانية وتمردت عليها أيما تمرد، وصارت القيم المادية المبنية على الصراع والجشع والطمع في مقدرات الآخر والرغبة في إقصائه، هي التي تحكم قبضتها، وتوجِّه العلاقات بين الشعوب والأمم، والشخصية المسلمة تتصارع مع هذه المتغيرات، وتتأرجح بين قيَمها الأصيلة، وقيَم الحداثة الدخيلة، المهم أنها لم تمت، فهي لا تزال تتنفس وإن جثمت على صدرها العديد من التحديات التي تأبى لها العز والتمكين، وترضى لها الخذلان والتدجين.
في إمكانية البعث والإحياء للشخصية المسلمة
القابلية لإحياء وبعث الشخصية المسلمة من أقوى المطالب ومن أولى الأولويات، نظراً لحجم الإصابات وحجم التحديات الموجهة ضدها، ولأن العصعص الذي منه تولد الحضارة الإسلامية من جديد، هو الشخصية المسلمة السوية بمواصفاتها التي سبق ذكرها فـ “العلاقة بين الحضارة والشخصية علاقة أساسية وثيقة، لأن الإنسان بما يحمله من قيم وأفكار، وما يؤديه من سلوك، وما يستقر في خاطره من أهداف، وما يتخذه من وسائل، هذا الإنسان هو صانع الحضارة، وبقدر ما تتميز به شخصية الإنسان، يكون تميز الحضارة التي يعبر عنها، ويؤثر فيها ويتأثر بها…”(9).
إن الشخصية المسلمة مدعوة اليوم قبل الغد للخلاص من هذا المخاض وهذا المأزق التاريخي الذي باتت تعانيه، وإذا لم يكن هناك إحساس دفين عند كل غيور على الأمة الإسلامية يخبره بحقيقة التردي، وينبئه بجوهر الخطر الذي تعيشه شخصية المسلم، فعبثاً أن تكون ثمة وجود قابلية للإحياء والبعث.
يقول الدكتور طه جابر العلواني: “إن الأولوية الأولى ـ الآن ـ هي إعادة بناء الشخصية الإسلامية عقلية ونفسية، فالعقلية تنبني في إعادة بناء المعرفة الإنسانية، والنفسية تعتمد على إعادة صياغة الفنون والآداب، هذا على المستوى الإسلامي، أما على المستوى العالمي، فإن الحاجة تبدو أشد إلى تحرير العلم ومناهجه مما أحاطته به الوضعية العلمانية”(10).
عملية الإحياء لا شك ستكون جد شاقة ومضنية، لأننا لسنا إزاء مشكلة اجتماعية أو اقتصادية… وغيرها من المشاكل التي تعانيها الأمة، إنما نحن بصدد قضية مفصلية في بنيتها، لا تكفيها مجهودات فردية غير منسقة، إنما تتطلب عطاءات غير مسبوقة، واجتهادات جماعية؛ لأننا بصدد إمكانية لإقلاعة جديدة، هي مسألة ضرورية من الضروريات التي يمليها علينا ديننا، وهذه الإقلاعة إن لم تكن قوية وفعالة بما يكفي في قلب موازين الأمور كلها، ودخول عهد جديد غير مسبوق، فإن شخصية المسلم ستبقى عاجزة على هضم حجم الترسبات التي أصابتها، والارتهانات التي أقعدتها، ستظل على حالها تتجرع مآسي التخلف الفكري والوجودي وستظل أمتنا أحقر أمم الأرض.
من بين القطاعات التي تحتاج إلى إعادة التأهيل، والتي نعتبرها من أولويات المرحلة نذكر:
- 1.إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم
لقد أصاب جهازنا التربوي سكتة قلبية، وصارت المؤسسات التربوية عوض أن تخرّج ناشئة رشيدة، باتت تفرّخ لجيل ممسوخ ثقافياً، سُلبت منه عناصر التمكين والشهود الحضاري، كل ذلك نتيجة الاستلهام المبالغ فيه للنظريات التربوية الغربية القائمة على أسس مادية بحتة، دون أي نقد أو تحفظ أو مراجعة، وكأن هذه الأمة ليس لها أي برامج ومصوغات تربوية ناجعة! علماً أن الأساليب التربوية في القرآن والسنة لها سبق تاريخي، بشهادة العديد من المهتمين.
لذلك فإن إمكانية البعث والإحياء للشخصية المسلمة من جديد يبدأ من إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم. يقول عبيد حسنة: “إن نقطة الانطلاق في المعالجة، والنهوض والإصلاح والتغيير للواقع، إنما تبدأ من محاضن التربية والتعليم… مهما حاولنا التأكيد واستشعار الأهمية للمواقع الأخرى، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية… فالتربية والتعليم هي السبيل الأوحد للإصلاح والبناء والنهوض… وهي الرّحم التي تتخلق فيه وتنمو وتتغذى وتمتد وتتوجه أنهار الحياة المتدفقة والممتدة”(11).
ثم إن الجهاز التربوي إذا كان محكماً بحيث كل طرف من أطرافه يتحمل مسؤوليته كاملة، ويفهم جيداً احتياجات الناشئة في كل مرحلة من المراحل التعليمية، ويدرك دور القيم في التربية والتعليم التي لا يمكن أن يكون لها نفس إلا بها، إذا كان الأمر كذلك، فإن الجهاز التربوي هو السياج الحقيقي الذي يحمي الشخصية المسلمة من الغزو الثقافي الغربي القائم على منظومة قيمية مغايرة.
- 2.ترشيد وسائل الإعلام لهيمنة الفكر الإسلامي
مجمل الضرر الذي أصاب شخصية المسلم اليوم هو نتيجة التأثر بوسائل الإعلام المعاصرة التي لا تحكمها ضوابط، ولا ترشدها قيم، على تعدد أنواعها ومشاربها، أما إعلامنا الإسلامي الذي من واجباته أن يدرأ التضليل ويقدم البديل، بصياغة النموذج المطلوب للارتقاء بالإنسان المسلم، هو الآخر أبان عن فشله، وإن كانت نوايا الإعلاميين الإسلاميين حسنة، إلا أن جهودهم لم تستطع أن تُطمئن النفوس المسلمة الحائرة، التي تشكو تناقضاً بين ما تسمعه وتشاهده في وسائل الإعلام، وبين حالة الاضطراب التي عليها الواقع.
إن الشخصية المسلمة اليوم تعيش متأرجحة بين كفة الإعلام الهابط الذي تجاسر على كل القيم الإنسانية، ولم يُبق ذرة من الحياء إلا تمرد عليها بأعتى الوسائل، وأقوى الإمكانات، وبين كفة إعلام إسلامي حالم ينأى في معظم الأحوال عن حقيقة الواقع وهمومه.
الواقع أن الإنسان المسلم لم يجد بعد في إعلامه منطلقات النهوض المنشود، جلّ ما في الأمر أنه ربما تأثر اليوم أو غداً بموعظة واعظ هزّت أوتار فؤاده، لكن ما تلبث ذبذباتها تهدأ وتسكن بسيل جارف من البرامج الإعلامية الهابطة، بناءً عليه ولكي ينجـح الإعلام في إحياء الشخـصية المسلمة مـن جديد لابد من إعادة تأهيل إعلامي، و”من الضروري أن تخضع وسـائل الإعلام كافـة لهيمنة الفكر الإسلامي والتخـطيط للإسلام، وأن يقوم بالتنسيق فيها مع فئة من الرجال المؤمنين الواعين الذين يعرفون الإسـلام معرفة جيدة، بالإضافة إلى إلمامهم بالوسائل الحديثة في الدراسة والتخطـيط والتربية والـعلوم النفسية، ولابـد أن يكون هنـاك ترابط بين البرامج الدينية البحتة وغيرها من برامج الفنون والآداب والعلوم… حتى تكون تلك الفروع كلها دعامة للقيم الإسلامية الخالدة”(12).
- 3.إعادة تأهيل الوجود الحركي الإسلامي
لا يخفى على اللبيب أن الوجود الحركي الإسلامي، من أنجع القوى تأثيراً في الشخصية المسلمة، بل إن هذه الأخيرة لا يستقيم عودها ويتماسك بنيانها إلا داخل الحركة الإسلامية، التي فيها تتشرب القيم الإسلامية، وتكتسب المعارف الدينية اللازمة، ولقد لعبت الحركة الإسلامية دوراً كبيراً في النهوض بالإنسان المسلم على مر التاريخ الإسلامي، بدءاً من الجماعة الأولى التي كان مقرها الفكري دار الأرقم بني أبي الأرقم والتي كان قائدها الأسمى محمداً صلى الله عليه وسلم، لكن الوجود الحركي اليوم لم يعد موفقاً في صياغة المعالم الكبرى التي تحفظ للشخصية الإسلامية مقوماتها.
تسمرت أنظار معظم الحركات الإسلامية باتجاه السلطة، وغفلت أو تغافلت عن مفاهيم العالمية الإسلامية، فضلاً عن التفكير في مناهج بلوغها، ومستلزماتها ووسائلها وأدواتها، وآثارها التي لابد أن تبرز في سائر جوانب الخطاب الإسلامي، وكذلك جوانب الحركة الفكرية والعلمية، وإن كانت قد تمثلت بعض الأهداف الإسلامية، ولكن بوعي مفاهيمي محدد، لم تستطع بناء نموذج يربط بين تلك الأهداف وقوانين وسنن التحول والتغيير في المجتمعات(13).
إن الحركات الإسلامية هي مدعوة أكثر من أي عصر مضى إلى إعادة تأهيل وجودها وطاقمها من أجل استيعاب خصوصية المرحلة التي تمر بها الشخصية المسلمة، كما أنها في أمس الحاجة إلى صياغة برنامج دعوي وفكري وتربوي متين، قادر على الوقوف في وجه التحديات الحضارية المعاصرة، وإن خلاص الشخصية المسلمة من الضلال الذي ولده الفكر الغربي، وانتشالها من موجة التيه التي يعرفه العالم المعاصر مرهون بقوة الجماعة الإسلامية.
- 4.تفعيل دور المفكرين في التحصين الفكري والنفسي من الفكر المادي الغربي
المفكر المسلم هو عصب المجتمعات الإسلامية، به تحفظ كيانها، وتتقي شر عدوها، لأن ما يراه ويخبر به المفكر، قد لا يسعف أن يراه ويخبر به غيره من العوام، وعليه فإن مكانة المفكرين عظيمة، ومهمتهم جليلة، فإذا كان النظام التعليمي السياج الذي يقي الشخصية المسلمة من الغزو الفكري والثقافي، فإن المفكرين هم الحراس والجنود الحقيقيون، وما أحوجنا اليوم إلى جهاد الكلمة الذي يرينا الحق، ويجلي لنا الصواب، ويهدينا سبيل الرشاد.
مهمة المفكرين تنصب بالأساس نحو تحديد المفاهيم الكبرى التي باتت تعاني اليوم خللاً بينا، حتى صار الحليم يمسي حيراناً، وهذا الخلل في بناء المفاهيم ولَّد عند الشخصية المسلمة أزمة فكر بدأت تندرس معها التصورات الإسلامية عن الحياة والكون والمصير، وصرنا نرى ملامح هذه الأزمة الفكرية عند تفعيل الأفكار على الواقع الإسلامي، وأحسب أن ما سبق ذكره من إصابات العقل المسلم، ليعتبر مسرحا لتمثيل غياب معالم الفكر الإسلامي الراشد، عند الشخصية المسلمة.
فلابد إذن من تدخل حتمي لكافة مفكري الأمة لصياغة المفاهيم الكلية صياغة إسلامية جديدة تقي الإنسان المسلم حرب المصطلحات التي صارت اليوم من أعتى الحروب، ولابد أن تتجه الجهود وجهة واحدة لأن المشكلة هي مشكلة واحدة، أقصد أن تكون اجتهادات المفكرين جماعية، لأن العمل الفردي قاصر عن تحديد المعالم الكبرى لإعادة إحياء ما اندرس في الشخصية الإسلامية.
هذه بعض الهياكل التي نعتبرها ضرورية وأولوية في إمكانية بعث وإحياء الشخصية المسلمة، يعود السبب في اختيارها لقربها وتأثيرها في الإنسان المعاصر، فهي المعاول الرئيسة في إعادة بناء خطاب إسلامي يستوعب ظروف المرحلة التاريخية التي تمر بها أمة الإسلام.
إن الشخصية المسلمة اليوم في أمس الحاجة إلى الإحياء والبعث من جديد، لأن ربح رهان التقدم والنهوض بواقع المسلمين موقوف على ذلك، وهذه الورقة هي دعوة لإعادة صياغة الإنسان عامة، ورد الاعتبار لإنسانيته التي عبث بها الماديون والإباحيون، وصيروه مسلوب الإرادة، وخاوي الضمير، يحكمه الصراع، ويوجهه الجشع، ويسيطر الشذوذ في حركاته وسكناته.
رجاؤنا كبير وشوقنا غزير، في أن نسمو بالإنسان من جديد، وننتقل بالشخصية المسلمة من التخاذل والارتهان، إلى الاعتصام بحبل الفرقان، الذي به تحيا ويعود لها العزّ والتمكين في الأرض، وتسترجع مجدها المسلوب، وأملنا أكثر أن تعيش البشرية في حضن القيم الإسلامية العالمية نشوة النصر على قيم الفكر الذي حطم إنسان الزمان، إنها لحظة الانعطاف عن جنون المرحلة التي يعيشها البشر، إلى مسار الرشد المحتوم. وهي لحظة صار واجباً على كل لبيب أن يتفطن لها، وإذا بقينا على حالنا، نتجرع ويلات التردي، وبؤس الانحطاط القيمي، فإننا بذلك نسلك درباً مجهولاً لا يعلم مصيره إلا الله.
—–
الهوامش:
(1) المدخل الثقافي في دراسة الشخصية، د محمد حسن غامري، المكتب الجامعي الحديث، 1989، ص 66.
(2) ينظر كتاب الشخصية الإنسانية في ضوء القرآن الكريم، أحمد عبد الحميد غراب، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985.
(3) نحن والإسلام، نجيب الكيلاني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1422/2001، ص16 – 17.
(4) [سورة طه: 39].
(5) [سورة طه: 41].
(6) معالم في الطريق، سيد قطب، بيروت: دار الشروق، 1409/1988، ص21.
(7) القيم التربوية والمجتمع المعاصر، عبد المجيد بن مسعود، كتاب الأمة، العدد 67، رمضان 1419، ص 130.
(8) حتى يتحقق الشهود الحضاري، عمر عبيد حسنة، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1412/ 1991، ص 10 -11.
(9) نحن والإسلام، نجيب الكيلاني، مرجع سابق، ص 9.
(10) أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة، د طه جابر العلواني، دار السلام، الطبعة الأولى 1425/ 2004، ص 93 -94.
(11) مقالات في التفكير المقصدي- رؤية في إطار معرفة الوحي، عمر عبيد حسنة، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1420/1999، ص50.
(12) نحن والإسلام، مرجع سابق، ص 17.
(13) أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة، مرجع سابق، بتصرف، ص48.