وفديناه بذبحٍ عظيم
في كل عام، وفي موسم الحج وما يتعلق بعيد الأضحى من الشعائر والعبادات والدروس، تتردد على المنابر وحلقات الوعظ قصة خليل الله إبراهيم عليه السلام الذي أمره الله بذبح ابنه الوحيد إسماعيل ثم ما كان من افتدائه بذبح عظيم.
وقد لاحظت أن الخطب والمواعظ والدروس تؤكد على التنويه بإبراهيم عليه السلام وإخلاصه لله واستعداده للتضحية بأعز ما يملك في الدنيا وهو الولد الذي منحه الله على كبَر وبعد أن اشتد عود الغلام وبلغ مبلغ القدرة على السعي وتنفيذ المهمات.
ولاحظت أن الخطب والمواعظ عن الإخلاص والتضحية عند سيدنا إبراهيم لا تلتفت إلى هجنة الأمر بقتل الولد. فالله سبحانه نهى عن قتل الأولاد {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151]. وقد جاء القرآن بما يؤكد ويوثق هذه الممارسة الشنيعة عند المشركين من عبدة الأصنام {وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137] فالقرابين البشرية وتقديم الأولاد قرابين لإرضاء الآلهة هي من عادات وممارسات الأقوام الوثنية القديمة وشعائر دياناتها وهي تزيين الشركاء. فكيف نفهم قصة إبراهيم وأمر الله له بقتل ولده؟ وكيف نستجلي منها العبر والدروس؟
ولا شك أن تقديم القرابين البشرية لإرضاء الآلهة في ديانات الأقوام الوثنيين كانت عادة منتشرة وشعائر وثقها دارسو التاريخ وعلماء الآثار. فالفينيقيون وأهل قرطاج واليونان والرومان والآشوريون والكلدانيون وغيرهم عرفوا ومارسوا شعائر تقديم القرابين البشرية في صورة من صورها.
لقد كان قوم إبراهيم عليه السلام من عبدة الأصنام والأوثان {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِين} [الأنعام: 74] وهم الذين قالوا {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] بعد ما واجههم بتفاهة ما هم عليه من منطق سقيم. {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95].
أراد الله سبحانه أن يكون خليله أبو الأنبياء نموذج المحبة والطاعة لربه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} [البقرة: 165]، وأراد أن يضع حداً لهذه الخرافة المنتشرة وأن ينهي هذا السفه والخبال المتمثل في قتل الأولاد. فأمر خليله عليه السلام أن يذبح ابنه. والله سبحانه يأمر بما لا يريد أن يكون لحكمة يسعى المؤمن أن يفهمها ويستجلي دروسها. فهو سبحانه لا يقيد أقواله وأفعاله شيء، يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. وقد قرر ابن عاشور في تفسيره أن أمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء وليس المقصود به التشريع، إذ لو كان تشريعاً لما نسخ قبل العمل به لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء. والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزم إبراهيم وإثبات علوّ مرتبته في طاعة ربّه.
فاستجاب إبراهيم استجابة المؤمن المستسلم لأمر ربه. فخليل الله لا يتردد في أمر كان يفعله المشركون طواعية استجابة لأمر الكهنة وسدنة معابدهم. فبرهن إبراهيم على إخلاصه وعلى ثباته والصدق في الطاعة ونال بذلك شرف الصدق {وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104-105] ونال إسماعيل شرف الصادقين الصابرين {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]{إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} [مريم: 56] ويتابع الشيخ ابن عاشور قوله: وحصلت حكمة الله من ابتلائه، وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]. وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكراماً لإِبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رُؤَى المنام يعقبها تعبيرها إذ قد تكون مشتملة على رموز خفيّة وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقّي هذا التكليف الشاقّ عليه وهو ذبح ابنه الوحيد.
وفي هذا الموقف جاء النداء {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]. لتظهر الحكمة وينجلي الإشكال. ففي هذا الفداء البيان من الله تعالى بإنهاء قتل الأولاد والقرابين البشرية. وتأسست سنة جديدة أن رضا الله سبحانه لا يكون بالقتل العبثي وإنما يكون بصدقة فيها معنى الاستمتاع بأكل ما أحل الله من الطيبات وفيها كذلك معنى التكافل والتراحم {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} [الحج: 37].
فعندما نذكر سيدنا إبراهيم عليه السلام وما يتعلق من شعائر الحج بقصة إخلاصه وضرب المثل في الطاعة لربه. وعندما نذكر سنة الأضحية في عيد الأضحى، لا بد أن نربط هذه الشعائر بقصة إبطال القرابين البشرية التي عانت البشرية منها الكثير وأهدرت الكثير من دماء الأبرياء، فجاء دين الله لينقذ البشرية من سفاهات الوثنية وافتراءات سدنة المعابد ويعيد للروح الآدمية كرامتها وحرمتها {وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137].
وحتى نتبين أهمية الربط بين قصة إبراهيم عليه السلام وقضية إبطال عادة القرابين البشرية، لا بد أن نذكر أن هذه الممارسة لم تتوقف عند الأقوام البدائيين بل استمرت عند كثير من الأقوام. وقد استغربت عندما قرأت أن طقوس القرابين البشرية لا تزال تمارس في مجتمعات كثيرة حول العالم إلى عهد قريب. ويذكر المؤرخون أن أهل مصر زمن الفتح الإسلامي كانوا يقدمون كل عام فتاة لنهر النيل يقدمونها قرباناً للخصب ورجاء الخير، وأن عمر بن الخطاب هو الذي أمر بوقف هذه الممارسة. وكان العرب في الجاهلية يدفنون بناتهم أحياءً {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8-9] وكانوا ينذرون لأصنامهم أولادهم كما جاء في الرواية عن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم أنه نذر أن يهب للأصنام عاشر أولاده.
ولا ننسى بالطبع أن عقيدة النصارى في المسيح عليه السلام والتي تحمل سمات التفكير الوثني الروماني، ساهمت في انتشار وممارسة فكرة القرابين البشرية بشكل كبير. فقد افترى النصارى على الله سبحانه أن له ولداً وأضافوا إلى ضلالهم أن الله قدم دم ابنه المسيح فداءً لخطيئة آدم التي حملها الجنس البشري من بعده وحملوا إثمها ووزرها. ولم يكن هناك من وسيلة لتحصل والمغفرة والخلاص من لعنة الخطيئة إلا بإهدار دم المسيح فوق الصليب. وكما قال أحد الباحثين: لقد فاق المسيحيون كل من سبقهم إذ قدّموا ربهم قرباناً ليكفر عن ذنوبهم. وقد حملت أحداث الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش وقتل آلاف النساء من المسيحيين أنفسهم في أوربا بتهمة الاشتغال بالسحر والتخابر مع الشيطان، حملت كل هذه الأحداث واستبطنت فكرة القرابين البشرية ومارستها بعنف وإجرام غير مسبوق.
ولا ننسى كذلك أن ما وصلت إليه البشرية اليوم من إهدار للروح الإنسانية بالقتل والتدمير العبثي الذي تنشره أسلحة الدمار الشامل والذي يتجاوز بقتله للمدنيين والأطفال وتدميره للقرى والمدن أي منطق للتبرير والتفسير. فلا ننسى في هذا السياق أن قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مازالت تحمل الدرس الضروري للبشرية لإعادة فكرة الحرمة للدم البشري وشناعة سفكه إلى الوعي الإنساني. وما زالت قصة إبراهيم عليه السلام تمثل معين القيم الإنسانية الخالدة التي يجب على المسلم اليوم أن يعيها ويعتز بها، فهي القادرة على أن تصلح ما أفسدته الحضارة المادية التي أهدرت قيمة الإنسان وأعلت قيم اللذة والشهوة وعبادة القوة والسيطرة.