طـوبـى لـلـغـربــاء

1٬309

“بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ” (رواه مسلم).

لا بد لفهم معنى الحديث النبوي، من تحديد معنى الغربة ومقتضياتها ليرسم كلام النبوة بعد ذلك أهم معالم الشخصية المؤمنة وأهم صفات القلب الذي يستشعر العبودية لله وخضوعه له.

فالغربة هي الشعور بالوحشة والانقباض يعتري القلب والنفس عندما تحيط بالمرء ظروف وأوضاع لا تناسبه أو لا تنسجم مع ثقافته وأسلوب حياته. والغربة كذلك هي الشعور الفياض بالحنين والشوق لأجواء حبيبة يتصورها المرء ولا يعيشها، ويفكر فيها ولا يجدها في واقع الحياة.

والغربة هي ذلك الشعور بالتوحد والانفراد يستشعره من علت همته بين قوم ارتضوا الانشغال بسفاسف الأمور، ويستشعره من تذوق حلاوة الحق وأبصر أنواره بين قوم غشت ضمائرهم الشهوات والجهالات وأعمت أبصارهم الشبهات، فليس يجد بينهم من يستشعر معه الاطمئنان والراحة والتوافق والانسجام.

فالغرباء هم الذين تمسكوا بدينهم والتزموا بمقتضيات عقيدتهم ولم يؤثر في تمسكهم والتزامهم وحشة تنأى بهم عن الأنس بالناس وانفرادٌ يثيرون به استغراب الحمقى واستنكار الرعاع.

لقد بدأ هذا الدين غريباً عندما أنزله الله هدىً للناس وسط جاهلية جهلاء وعصبية عمياء، فكان نبينا صلى الله عليه وسلم وكان صحابته من حوله المثل الأعلى لكل غريب فارق الناس بإيمانه ووجهته واهتمامه، وإن عايشهم في الوطن والديار.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من حوله غرباء حين كانوا في دار الأرقم لا يبلغون الأربعين، يلتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون عنه دينهم يعبدون الله مستخفين. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من حوله غرباء عندما جهروا بدعوتهم فاستقبلتهم ألسنة الناس بالإيذاء والتكذيب والاستهزاء. واستقبلتهم نظراتهم بالاستغراب والازدراء في خضم جاهلية استشرت وعمّت وتمكنت من النفوس. ولكن الصحابة الكرام لم يركنوا إلى الضعف ولم يبالوا بالعناد وواجهوا الجاهلية باستعلاء الإيمان.

وكان شعور الغربة في نفوس أولئك الغرباء، وشعور التميز بما أكرمهم الله به من إيمان، هو الذي أزكى في قلوبهم شعلة الجهاد وحمية البلاغ والدعوة، فلم يركنوا إلى قرابة حرصوا على إدامة ودها، ولم يطمئنوا إلى دنيا أيقنوا أنهم مرتحلون عنها، فحنت نفوسهم إلى ريح الجنة وكرامة الشهادة.

إن شعور الغربة هو الذي يحفظ على المؤمن تمسكه بدينه وعقيدته حين يعود الإسلام غريباً كما بدأ، حين يصبح المؤمنون به والملتزمون لحدوده قلّةً لا يأمنون على أنفسهم. وحين ينصرف السواد الأعظم من البشر عن تعاليمه وقيمه وهديه، وحين يصبح المسلم منفرداً لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً، فهو عالم بين جهال وصاحب سنة بين أهل بدع وداعٍ إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والشهوات، آمر بالمعروف و ناهٍ عن المنكر بين قوم أصبح المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً.

فالغريب بالحق يجد أنسه بالله ويطمئن قلبه لذكر الله ويعيش في معية الله فلا تؤلمه الوحشة من الناس ولا يجد لذة في الأنس بالناس فقد ملأ الإيمان قلبه ومشاعره فلم يبالِ بعد ذلك فقد شيء.

إن شعور الغربة وما يعنيه بالنسبة إلى المسلم من الاعتزاز بالحق والاستعلاء بالإيمان، هو الذي يمنع المرء من الوقوع في عقلية من ينتظر القبول من الناس حتى يرضى عن نفسه، كما يفعل المبهورون المنهزمون. فهو واثق من قيمه ومبادئه ولا يبالي أقَبِل الناس به أو عذلوه وأقصوه. فليس سخط الناس بالذي يحمله على ترك ما عرفه بالدليل والبرهان وما تيقن أنه الاستجابة الجادّة الملتزمة بالخضوع للحق والهدى والصلاح.

فالغريب منشغل بتزكية نفسه واكتساب ما يستطيع من مهارات الكفاية بأوسع معانيها وآفاقها، وما يجعله قادراً على القيام بواجب الوقت بكفاءة مهما يكن المجال الممكن ضيقاً محصوراً. ولكنه لا يحصر ما يكتسبه من مهارات بالممكن في لحظة أو فترة. ولا يجعل الممكن في الوقت واللحظة نهاية المطاف في الإعداد والاستعداد يحدوه أمل وثقة بفضل الله يعمل لاكتساب خبرات ومهارات التمكين ويعلم أن التمكين بيد الله يمن به على من يعلم أنه مؤتمن على دين الله بصبره وثباته وجديته في الأخذ بدين الله بقوّة.

والغريب يجد أنسه في كتاب الله تلاوةً وفهماً وتدبراً. والغريب يجد متعته كذلك في صحبة كتاب يتواصل من خلاله مع عطاء أجيال من العلماء والمفكرين الذين دوّنوا خلاصة خبراتهم وتجاربهم، فيستغني بها عن بذل الجهد في اكتشاف ما سبق إليه الأولون، ويظفر بالمعرفة التي لا ينالها الكسالى الذين لا يقرؤون.

وما أشد وما أقسى غربة المؤمن حين يجد نفسه بين مسلمين ملتزمين بالعبادات والشعائر ولكنهم يستبطنون صبغة الحياة المادية الغربية التي تجعل الحياة مضمار تنافس وتسابق على الاقتناء والاستهلاك ومغالاة في اعتصار المتعة واللذة وإعلاء شأنها. والتكاثر والتفاخر بالزينة وعلامات الفخامة والأناقة في خضوع مذل لثقافة النظام العالمي الفاجر الذي يستنزف الخيرات والموارد ويعمل على توسيع الهوة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء. ما أشد غربة المؤمن بين قوم تبلدت مشاعرهم تجاه الظلم والمعاناة وغطت بصائرهم دعاية الزور فلم يروا عوار الحضارة السائدة وظنوا أن صور العبادات والشعائر تكفيهم وترفع عنهم إثم الرضا بالباطل والاستكانة للظالمين.

إن غربة صاحب الحق بين أهل الباطل هي التي تحمل المرء على الاعتزاز بالإسلام وأهله، والكراهية والنفور من الباطل وأهله. وهي التي تحمل المرء على الالتحام مع كل ما يربطه ويقربه إلى أهل الحق الذين شاركوه غربته. وفي الأثر: “لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا تجالس إلا من تذكرك بالله رؤيته، ويزيد في علمك منطقه، ويرغبك في الآخرة مجلسه”.

إن شعور الغربة بالحق بين أهل الباطل يمنع المرء أن يخالط الناس ويغشى نواديهم راضياً مشاركاً بما يتورطون به من فسوق واستهزاء بآيات الله طمعاً في رضاهم ورغبة في العزة بهم. وهو في ذلك يحذر أن يكون من المنافقين الذين قال الله فيهم {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 138الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا 139 وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا 140} [النساء]. إن مجالسة المستهزئين بآيات الله الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً مع السكوت عن سفاهتهم هو أول مراتب النفاق الذي يفقد القلب حميته لله واعتزازه بدين الله ونفوره من الاجتراء على محارم الله.

وفي نهاية المطاف لا بد أن يتذكر الغرباء أن التواضع والتلطف بالناس والإدراك لمجالات المشترك الإنساني والثقة بالفطرة مهما غشتها الضلالات والانحرافات،يفتح باب الأمل لعودة الشاردين بعد أن أثبت الغرباء أنهم جديرون بالتمكين مؤتمنون على الهدى لم يخدعهم علو الباطل ولم يشعروا تجاهه بالهوان والصغار.