الأمميون
خواطر حول فتح الشام
الحمد لله حمداً كثيراً على نعمه التي لا تحصى، وعلى فضله الذي لا يعلو عليه فضل، وعلى مِنَّتهِ بعباده الضعاف العجالى. الحمد لله على فتحه المبين ونصره العظيم.
الشام: حاضرة الدنيا ومُنى الأفئدة ومتعلق القلب والروح … الشام: ملتقى الرسالات ومهد الحضارات وأقدم المدن … الشام: يعجز اللسان أن يعبر عما يهيج في القلب ويحمله الفؤاد.
سقط الأسد وفُتحت الشام بمحض فضل الله وكرمه. انهارت دمشق الأسد وولدت دمشقنا من جديد، فالحمد لله أولاً وآخرا.
بغض النظر عما تكشف من أحداث سقوط نظام الطاغية وما لم يتكشف بعد، وعن الاستعدادات الداخلية للفاتحين وعلاقاتهم الخارجية، بغض النظر عن كل ذلك، فهذا فتح عظيم من الله فاجأ الجميع، العدو قبل الصديق. ويكأن الله يريد أن يثبت قيوميته على خلقه، وأنه المتصرف الأعلى، وأن مقاليد الدنيا بيده، وأنه يأتي بالنصر في الوقت الذي يشاء على الكيف الذي يشاء وعلى يد من يشاء. وقد شاء الله أن يكون هذا النصر على يد ثوار الثورة السورية وفي مقدمتهم التيار الجهادي في الأمة وعلى يد هذه النسخة من هذا التيار بالذات. هذا التيار الذي راكم خبرات عبر تجارب في أزمنة متعاقبة وجغرافيات مختلفة. فلم يكن تياراً محدد الملامح عبر الزمان، أو كما يُريد المستعمر أن يصفه، بل تياراً ارتكز إلى الرفض الجذري للاستعمار وبنيته في المنطقة وميّز نفسه بهدفه الأسمى “هدم المنظومة” مع التساهل في وضع أولوية لمحاولة جادة ورصينة للتعرف على هذه المنظومة أو مساءلتها: ما هي هذه المنظومة على الحقيقة؟ هل هي فقط جيوش وحكومات؟ وهل الهدم وحده يكفي أم لابد له أن يقترن ببناءٍ يحيا معه معاش الناس؟ كيف ندعو الناس إلى ما نعتقد؟ هل ندعوهم أم نحملهم على الاعتقاد به، أم هناك معادلة أخرى أكثر تركيباً؟ ما هي ضوابط حرمة الدماء وما عاقبة التساهل فيها؟ كل هذه الأسئلة وأكثر تم القفز عليها في البداية، لكنها سرعان ما عاودت الحضور في كل محطة من محطات النزال. فتعددت الاتجاهات الجهادية على طيف واسع متشكل عبر الزمن، من أعلى درجات الغلو والتسطيح إلى درجات عالية من الانضباط والكياسة.
بين الفتح المبين والخطاب المستكين
مثّل فتح الشام أعلى درجات الانضباط والكياسة في التيار الجهادي الذي استطاع أن يوّحد رايات الفصائل بالعصا والجزرة إلى أن منّ الله عليه بهذا الفتح المبين. لكن الخطاب الذي يتبناه قائده اليوم يوصف بالمتساهل للغاية إلى ما يمكن وصفه بالخطاب المستكين والمفرِّط في كل ثابت. وهنا مهم استحضار أمرين: الأول، هو الوضع الحرج للشام والثاني دورنا في التعامل مع هذا الخطاب.
من الناحية الميدانية، فحتى كتابة هذه الكلمات، ما يزال هناك تهديداً على ثلاث جبهات شامية، الشمال الشرقي من قسد بدعم أمريكي، ومن الجولان في الجنوب من الصهاينة، ومن الساحل الغربي من فلول النظام والقاعدة الروسية. فلم يستتب الأمر بعد وما تزال المناوشات مستمرة هنا وهناك. كذلك لا توجد كتلة بشرية كافية للمهام الأمنية على طول البلاد وعرضها بالإضافة إلى عدم القدرة على توفير عدد الوزراء الكافي للحكومة المؤقتة من أجل إدارة معاش الناس. هذا داخلياً. أما خارجياً تواجه القيادة الحالية تهديداً وجودياً لها كقيادة سياسية بسبب إدراج هيئة تحرير الشام على قوائم الإرهاب الدولية. بالإضافة إلى التربص الإقليمي الذي يحضر أوراقه ليستعد للانقضاض المتمثل في العلن حتى الآن من محور العربي الصهيوني.
أضف إلى ذلك السرعة غير المسبوقة في التحول الذي أحدثه فتح الشام. كل هذا وأكثر يقول إن الضغط على القيادة في دمشق فوق قدرتها على إدراك جميع جوانبه ناهيك بالتعامل معه بحنكة. لذلك، ما نشهده من خطاب من قيادة دمشق يمكن أن يوصف بأنه “خطاب الصدمة”. يعزوه البعض لبراغماتية كبيرة لقيادة دمشق، لكن واقع الحال يقول إن الصدمة هي الأكثر تأثيراً من البرغماتية.
يمكن من وصف الحال تفهم هذا الخطاب، لكن من الخطورة غض الطرف عنه ناهيك عن اعتياده وقبوله. بل من المهم العمل المتنوع لرفضه ولإعلاء الثوابت. فالأقصى قضيتنا والجولان كما فلسطين أرضنا والمحتل جائر وثوابت الدين لا تفريط فيها. وتعاملنا مع إخواننا من الطوائف المختلفة من أصل ديننا ومن تجلي إرثنا الثقافي المتنوع في حاضرة الشام عبر الزمن، وليس تعامل من يريد تجاوز اللحظة، أو من يحافظ على حقوق “الأقليات” ذلك المصطلح الاستعماري الدخيل منذ بداية القرن التاسع عشر، والذي تلوكه الألسنة اللبرالية ولا نقبله لأهلنا.
يتنوع هذا الرفض في تجليه، من الألوان المختلفة له في الفضاء الرقمي إلى التجلي الحقيقي له في حركة الواقع عبر شباب الجامعات والمظاهرات وغيرها من الفعاليات. ولا يقصد بالرفض هنا الضغط السلبي على القيادة في وضعها الحالي، بل المدافعة الإيجابية وترك مساحة للسياسي من أجل المناورة، وطمأنته أن الشارع مستيقظ يشد عضدك فاستمسك بالذي بُذلت الدماء من أجله.
إعادة تبلور تيار الأمة ومشروع إقامة الدين
منذ خبر الفتح يغمر الأمة بمختلف جغرافيتها شعور عام بالفرح والانتماء لهذا الفتح. شعور عابر للقطرية، بل هو عند البعض شعور تملك، هذه اللحظة لنا، ملكنا، تمثلنا، تعبر عن ضميرنا. بعد كل هذه اللحظات الصعبة من انقضاض على الثورات إلى انتصار الطوفان وما تبعه من معاناة أحبابنا في غزة، تشرق هذه الأرض وتبعث أملاً فسيحاً لهذا التيار العريض الذي لا يمكن وصفه بالأوصاف المتهاوية التي طالما حاول الغرب بأدواته الأكاديمية فهم واقعنا وإعادة تشكيله وفق منظوره. فالسعداء ليسوا “الإسلاميون” أو “الإسلام السياسي” أو “الجهاديون” بل هم جموع هذه الأمة التي قد تختلف مع هذه المسميات وغيرها. على الرغم من أن الله كتب هذا الفتح على يد من ينتمون إلى التيار الجهادي، إلا أن شعور النصر يتجاوز هذا الفصيل.
إنه شعور التيار العام للأمة الذي يسعى لإقامة الدين على مقتضى مراد الله عز وجل. إنه الفلاح البسيط في أرضه في مصر، والأم التي تربي أبناءها في اليمن والتاجر الرحالة في المغرب، والأكاديمي صاحب الهم في أمريكا، والطبيب الهارب من ضيق الحال في بلده إلى أوربا، والطالب الجامعي الذي ترك أحد فروع الطب والتحق بأحد فروع الهندسة لتقديره أن الأمة أحوج له، والسياسي الذي يحمل همّ أمته في تركيا وماليزيا، والمقاتل الذي يدافع عن أرضه وشرف الأمة في فلسطين والسودان. هؤلاء هم السعداء وإخوانهم في ربوع الأرض.
مستويات التحليل، بين الأمة والاستراتيجيا
تزاوج كل من: نشوة الفرح بالفتح والانتصار، بالسرعة التي حدث بها هذا الفتح قد يؤدي إلى تنحي الرشد في قراءة الواقع ومآلاته، وعدم إدراك صعوبة اللحظة وتركيبها، ومن ثم المبالغة في المآلات ورفع أسقف التوقعات. إدراك هذا أمر محمود، لكن مهم النظر إليه بمنهجية مركبة.
مهم النظر لهذا الحدث الجلل على مستويين: المستوى الاستراتيجي والمستوى الأممي.
على المستوى الاستراتيجي مهم النظر إلى هذا الفتح عن قرب وفهم دينامياته وكيفية حدوثه والأطراف الفاعلة على الأرض وتصنيفها: من العدو ومن الصديق؟ ومن يحتمل أن يعادي ومن يحتمل أن يهادن ومن يمكن أن يصبح صديقاً؟ أيضاً تحركات هذه الأطراف وتحالفاتها ومصالحها التي تسعى لتحقيقها. ولا يحدث ذلك بدون رسم خرائط الواقع ورصده والتفاعل معه. وهذا لازم لمن يتداخلون مع الحالة الشامية في هذه الفترة أو مستقبلاً. والتفريط في ذلك تقصير لا يُقبل. هذه صخرة الواقع التي لا مناص من التعامل معها على بصيرة.
وفق هذه الموازين ووفق عالم الأسباب ندرك أن القادم صعب وأن التحديات جسام. فموازين القوى مختلة لصالح العدو. وأن هذا النصر هشّ ولا يمكن أن يقوم بذاته دون التحام أممي يسعى لتغيير موازين القوى لصالحه. هذا عالم الأسباب الذي يجب علينا إدراكه والسعي والبذل والتضحية من أجل تغييره.
أما من المستوى الأممي فينظر إلى هذا الحدث الجلل في سياق حركة الأمة كلها من أجل التكليف الإلهي الذي كلف الله هذه الأمة به: إقامة الدين.
الأمة المسلمة منذ قرنين في حالة تيه لا تخطئها العين. تيه سببه وشكله تفريط الأمة، وهجوم المستعمر عليها. تيه أمرض الأمة لكنه لم يقض عليها ولم تمت. ليس لخصيصة فيها دون الأمم إلا لأنها تخرج من كتاب. حاولت الأمة النهوض مرة بعد مرة، من الحركات الإسلامية على تنوعها بانتصاراتها وانتكاساتها إلى الثورات إلى فتح أفغانستان إلى الطوفان وأخيراً فتح الشام. لا يفهم الغرب هذه الخصيصة في أمة الإسلام، إذ أن الأمر لا يتعلق بمجد تليد نرنو إلى إعادته أو إحيائه من جديد. بل هو الدين الذي يأمرنا بأن نقيم مراد الله وفق الزمان والمكان الذي نعيش. إنه ارتباط الدنيا بالآخرة وعلاقة الوحي بإعادة الأرض إلى الجادة والنفس إلى الفطرة. فمن لا يدرك الآخرة وارتباطها بالدنيا وأن من خلقهما إله واحد لا يدرك حسابات أمة الإسلام؛ لأن عالمه هو دنياه ومرشده هو عقله الجمعي المحدود والقاصر والساعي إلى طمس فطرة وجود الخالق.
وفق هذه الحركة الأممية ووفق هذا المنظور الكلي فنحن أمام فتح عظيم يتيح أملاً فسيحاً ويعيد تشكيل الوعي الجمعي للأمة بأنها أمة واحدة على اختلاف جغرافياتها ولغاتها ولهجاتها. أمة تجاوزت مشاريع وأفكار حاولت تقزيمها لإعادة تعريفها. مشاريع الدول القومية والحدود القطرية والمخيال اللبرالي الحداثي. وأفكار ثوب الحرية المزين لجسد الطغيان والاستعباد.
أملاً فسيحاً يجعل ساحة الفعل ليست الشام أو غزة أو غيرها من جغرافيات الجهاد فقط، بل يتعدى ذلك إلى ساحات الفعل الأرحب الذي يبدأ من القلب إلى الأسرة وما حولها من تشكيلات اجتماعية إلى ساحات إعادة تشكيل نُظم الحياة المختلفة لتكون منسجمة مع مراد الله وعدله الذي غاب عن البشرية بتيه الأمة المكلفة بتجسيد هذا العدل ودعوة كافة الناس إليه. إنه الانبعاث الذي يُعلي الشعور بالمسؤولية الفردية والجمعية لدى أبناء هذه الأمة لينظر كل منا فيما وضعه الله فيه ليعمل على إعادة تشكيله وفق مراده عزّ وجل.
لذلك، مع تشوق أبناء الأمة للذهاب للشام ولكل أرض محررة من أجل العمل عليها، فإنه لا يسع طاقات الأمة كلها أن تتجه إلى مكان واحد أو أماكن محدودة، بل على الأمميين أن تتوزع طاقاتهم وتتكامل بين من في مُكنته الذهاب والتداخل مع هذه الأرض الجديدة ومن يرى ما في يده وما وضعه الله فيه ويعمل على إقامة دينه وفق مراده ووفق بوصلة الأمة.
والله من وراء القصد.
24 جمادى الآخر 1446هـ
26 ديسمبر 2024 م