أريد فتوى

188

لقيني صاحبي، وبعد السلام وشيء من الكلام قال: أريد فتوى بشأن المعاملات المالية التي تجري عبر شاشة الكمبيوتر في أسواق المضاربات، هل هي حرام أم حلال؟

قلت: لست خبيراً في هذا الباب من التعامل حتى تطلب مني هذا لأتنطع للجواب على هذه المسألة بغير علم .

قال: نعم أعرف أن الفتوى كلمة كبيرة تتحرج منها، ولكن قل لي كيف تشعر تجاه هذا الأمر؟

قلت: أشعر أن السؤال مغلوط وطرح الأمر بهذا الشكل هو مشكلة بحد ذاته، والسؤال المغلوط ليس له جواب.

قال: لم أفهم، فماذا تعني أن السؤال خطأ، أليس من واجب المسلم أن يسأل عن أي أمر أحرام أم حلال قبل أن يقدم عليه؟

قلت: هذا صحيح ولكنه في نفس الوقت هو شرك يقع فيه الناس عند تبسيط الأمور بشكل مخل. فكثيراً ما يطرح الناس سؤالاً يبدو بسيطاً بريئاً ولكنه في الوقت نفسه يضع إطاراً مغلوطاً لتناول الموضوع، أو يتجاهل الإطار الصحيح الذي ينبغي أن توضع فيها التفاصيل، فيكون الجواب مهما كان اتجاهه سلباً أم إيجاباً محض تمويه.

قال : هات بعض الأمثلة.

قلت : أعود إلى سؤالك عن المضاربات المالية عبر شبكات الإتصال، فلو أن صورة المسألة أن رجلاً اشترى سهماً من أسهم شركة بمبلغ من المال ثم باعه بعد فترة فربح شيئاً ما، هل هذا حلال أم حرام؟ فهذه الصورة البريئة تقترح أن كل ما تغير عند استعمال شبكات الاتصال عبر الكمبيوتر هو شكل إجراء البيع والشراء وتفاصيل التوثيق ليس إلا.

ولكن هذه الصورة البريئة البسيطة تخفي وراءها كارثة، ولعل الأدهى أن كثيراً ممن يخوض في هذا الشرك فيمضي في الكلام على عماية.

ولعلها مسؤولية السائل قبل كل شيء أن يعلم أن للمال وظيفة اجتماعية، فهو مال الأمة في رعاية مالكه، فلا جناح أن يجني المالك الربح من أي تعامل يقوم على العدل. ولكن الأهم أن مصالح الأمة هي المعيار الأول للقضية كلها. والآية الكريمة تقرر وظيفة المال: ” …أموالكم التي جعل الله لكم قياماً ” . فهناك مصالح لابد من تحقيقها ليقوم المجتمع، وإذا غاب المال لم تتحقق المصالح ولم تقم للأمة قائمة ولم تسد كفاية من تأمين المرافق وفرص العمل لينتفع الكل بالكل.

ففي غياب هذه النظرة المقاصدية لوظيفة المال أي جواب عن تفاصيل التعامل لايغني شيئاً عن الكارثة التي تحل بالأمة إذا جلس كل صاحب ثروة مهما كانت كبيرة أوصغيرة خلف شاشة الكمبيوتر وقرر أن يصب بما عنده من موارد في هذه الشركة أو تلك، والنتيجة أن الأمة لا تملك مالاً يقوم بحاجاتها، بل تساهم هي في دوران وتغذية نظام عملاق آخر لا علاقة له بالأمة ووظيفة المال فيها .

وقد يكون من عقابيل هذا التوجيه أن الأمة تـُحرم المال وتحرم تراكم الخبرة الفنية اللازمة لإدارته واستثماره، وتكرر تجارب خيبة الأمل والفشل ويلجأ الناس إلى الحل السهل بالاستثمار في أسواق ليس من برنامجها ولا ما تفكر فيه تأمين فرص العمل الشريف لأبناء الأمة وتنمية خبراتها في القيام بمصالحها.

فأسألك بالله هل هناك جواب سهل مباشر لمثل هذا الموقف . فهذا بالذات ما أعنيه بأن السؤال المغلوط لا جواب له . وإذا كنت لا أعلم تفاصيل الاجراءات الفنية لا أتنطع بالقول حرام أو حلال . ولكني أعلم أن هذا الإطار الكلي المقاصدي الجامع المتمثل في تحرير وظيفة المال في الأمة هو الأساس ويمثل البداية الصحيحة لتناول الموضوع ابتداءا من السائل الذي اتمنه الله على مصالح الأمة وانتهاء بالمفتي الذي يتناول تفاصيل القضايا الإجرائية للتأكد من انطباقها على مقياس العدل.

ولازلت أذكر سؤالا كان يتردد بشكل بريء عن تحويل الأموال من بلد إلى بلد هل هو حرام أم حلال. فالصياغة البريئة تتساءل عن رجل جمع نقوده وسافر إلى بلد آخر فهل عليه من شيء يلام لأجله.

وتمضي الأيام لنعلم أن هذا السؤال البريء يعبر عن ممارسة أدت إلى كارثة اقتصادية حرمت الأمة من أموالها وفقدت الغطاء النقدي للعملات الأجنبية لقضاء المصالح وتدهورت قيمة العملة وزاد التضخم وأصبح الفقير ذو العيال لايستطيع أن يشتري بما كان بالأمس القريب يكفيه ليعيش بالكفاف لشهر ما يستطيع أن يسد حاجته لأسبوع فهل نستطيع أن نتجاهل معاناة الفقراء واتساع أعدادهم والضنك الذي يعيشون فيه. وهل ينكر عاقل أن ممارسة أصحاب الأموال كانت من جملة ما عجل بالكارثة وضيع كفايات الأمة ومواردها وصبّها في إطار آخر لا علاقة له بمصالح الأمة من قريب أو بعيد .

إن إختزال ((اسلامية)) أي تصرف إلى فتوى مختصرة – حرام أو حلال – هو مرض يجب أن نعده العدة لمواجهته بما يليق من الدأب والصبر والبحث والدراسة، وقبل كل شيء بامتلاك البصيرة العملية التي تتحسس مواقع التصرفات في نسيج الأمة ومآلات الأفعال في كيانها حتى نحسن السؤال فنشارك في بناء التوجه المقاصدي العملي لتلمس مواضع الصواب في العمل، والله المستعان .

 

11-04-2006/13-10-1427