إشارات وتنبيهات
نستعير العنوان من كتاب ابن سينا (الإشارات والتنبيهات) لنسلك في هذا مقال منهج الإشارة إلى الشيء/الظاهرة من خلال التنبيه إلى الاشتباك القائم بين المتشابهات.
يقسم الزمن لغة وعلماً إلى ثلاثة أزمان، من زاوية الفعل والحركة أو من زاوية الوجدان النفسي في انفعاله مع الحدث، زمن ماضي، وزمن حاضر، وزمن مستقبلي.
فالماضي: هو ذاك الذي لم يعد موجوداً.
والحاضر: هو هذا القائم الذي هو في طريقه للانقضاء.
أما المستقبل: فهو ذاك القادم الذي لم يوجد بعد.
التعريفات المستخرجة من الوصف هي توصيفات ظاهرية تكشف عن طبيعة المعرف أكثر مما تكشف عن الظاهرة المركبة في ذاتها.
فالقسمة الزمنية تستند إلى معيار الوجود بالنسبة للملاحظ المعرف في تفاعله معها، وسيتبين لنا أن ما ينعدم وجوده بالنسبة لإدراكاتنا لا يستلزم كونه معدوم وجودياً.
يبدو للكثيرين بأن مفهوم الحاضر نفسه لا يفيد معنى واضح الدلالة، فهو وإن كان واقع معاش لكنه واقعياً وذهنياً صعب الإمساك به لهشاشته الوجودية؛ فاللحظة التي تقول فيها بأنها الآن تكون عندئذ ماضياً تجاوزه الحاضر.
فالحاضر لا يملك كثافة وجودية في ذاته وإن كان يملك ثقلاً وجدانياً ضاغطاً على الذات، وهذا ما حدا بالبعض للتشكك في اعتبار الزمن مفهوماً ذا حقيقة واقعية، ناهيك عن كوّن الماضي والمستقبل في التعريفات يبدوان كمفاهيم مجردة متعالية حسياً على تموضعهما العيني في الواقع كصفة ثابتة لزوماً لكل ما هو موجود واقعياً.
يختفي الحاضر فور الإشارة إليه، فهو عصيّ على الإمساك به حتى لكأنه واقع متخيل في شهوده المحسوس.
القديس أوغسطين فيما أذكر قسم الزمن كله بمعيارية الحاضر، فأصبح الزمن ثلاثي الحضور: حاضر الحاضر، وحاضر الماضي وحاضر المستقبل،
ولكل حضور مجاله الوظيفي في بنية العقل؛ فالذاكرة هي خزان حاضر الماضي، والتيقظ والانتباه لمجريات أحداث الواقع هو حاضر الحاضر، في حين أن التوقع هو ما يشكل حاضر المستقبل، وكل تلك الوظائف هي وظائف في الحاضر حتى وهي لحظتها تعيش زمن الماضي تذكراً أو زمن المستقبل توقعاً.
قد توحى هذه القسمة الزمنية بدلالة الحاضر إلى أن مفهوم الزمن نفسه هو مفهوم نفسي، فالذاكرة انتقائية كما أن التوقع عادة يكون رغبوياً، والانتباه لا يشذ عن هذا فهو متعلق غالباً بالعائد المصلحي أو بدفع المضرة.
أتصور عند مراجعة مفاهيم الزمن الفلسفية، بأنها منظور ذاتي متفاوت من فرد إلى آخر وفق درجة انفعاله مع الأحداث ضمن إطار عام كلي ضابط لوضعية الزمن داخله، في حين أن البحوث العلمية المعاصرة تشتق في العديد من النظريات العلمية تصوراتها الكلية على أرضية ما تتوصل إليه من قطعيات في مفهوم الزمن ذاته.
ففي المدرسة القديمة تجد أن القول بأزلية الزمن مستوحى من القناعات النظرية للتصورات الكلية، أي أنه جزءٌ تتحدد دلالته ضمن إطار الكل السابق عليه، لكن ما يرشح منه خارج إطاره القديم يفسد معناه في ضوء التطورات الحديثة، فأزلية الزمن التي كانت تدرس في المتون العقدية والكلامية في باب صفات الله وأفعاله كمفتاح لتعليل القدر وتأويل الفعل، تفترض مفاهيماً ضمنية لها تداعياتها العملية على الحاضر.
فالحاضر يبسط هيمنته المصادرة للزمن الماضي وللزمن المستقبلي في ضوء القول بأزليته، فما هو كائن ليس إلا استمرار لما كان في الماضي.
وعليه فالحاضر هو صورة ظرفية لديمومة الماضي المتخفية في باطنه وهو ما يشكل المستقبل بحكم الصيرورة الثابتة.
يوجد اتجاه مخالف للاتجاه القديم، يرى أن المستقبل لا غيره هو من يهيمن ويصادر على الحاضر والماضي معاً من جهة رؤية وجهة الإنسان في العمل.
فالإنسان وحده من يعمل بكل جهد ليحقق ما لم يوجد، على عكس بقية المخلوقات الحيوانية؛ فالإنسان مستقبلي بوظيفته وجوهره، أي هو ذاك الذي يطمح في تطوره لجعل المستقبل حاضراً وجودياً.
فبدلالة الزمن يتضح الفرق المائز بين الإنسان وغيره، وفي رأيي هو تمييز إدراكي من عمق التكوين البنيوي، فالحيوان يعيش حاضره ولا يتطلع إلى المستقبل كما أنه لا يحن إلى ماضيه.
أما الإنسان فهو الوحيد الذي يستخرج من ماضيه أجمل ما فيه، وينتقي من حاضره أحلى ما فيه من أجل بناء مستقبل يكون أبدع مما كان وَمِمَّا هو كائن.
وبهذا نقول بأن الإنسان هو سعي متواصل ومثابر لما يجب أن يكون بدلالة ما كان وما هو كائن.
ومن هنا قول بعض الفلاسفة بأن الإنسان هو مستقبل محض.
لكنني أرى بقوة أنه ماضي كذلك بما لا يقل عن كونه مستقبل.
فالتفريق يكمن في أن رؤية الإنسان على أنه ماضي لها دلالة من جهة التكوين المتحكم في الاختيارات والاتجاهات وليس من جهة الوظيفة.
فبين سكونية الماضي وحركية المستقبل يتحدد الإنسان كفعل ونشاط.
ليس هناك حاضر مستقل بوجوده عن وجود ماضيه، وذات الإنسان تركة لهذا الماضي، أو بتعبير هيجل “الكون هو ما قد كان” بمعنى أن ما هو كائن بالفعل في الحاضر ليس إلا ما قد كان بالقوة في الماضي على شكل عوامل وعناصر كامنة فيه.
هذا لا يسلب الحرية جوهرها بتخيل أن الماضي ثابت في حتميته ووجوده، فالماضي منه ما كان نتيجة لنشاط الإنسان ذاته ومنه ما هو قيد داخل الإنسان.
عند هذا الصعيد يستحسن أن نستدل برؤية برغسون المماثلة لرأي هيجل مع زيادة في التوضيح، فهو يعتبر كذلك الحاضر حصيلة مكمونات الماضي مع تأكيده الصارم على استحالة تكرار الماضي بذاته مرة أخرى لعلة تكمن في أن الزمن ذو صيرورة متجددة دائمة التجدد، فحتى لو سلمنا بأن انشغالاتنا في الحاضر متحددة جوهرياً بالموروثات من الماضي فإنه يسارع للقول إن قليلاً جداً منها يرشح إلى مستوى التصورات العقلية وأغلبها ينطمر عميقاً في لاوعينا الباطني.
التجدد والتغيير هو الثابت الوحيد في حركة الزمن.
فالحالة / الوضعية أو الصورة الظاهرة على سطح الزمن الظرفي الحضور عند تلك الصورة هي حالة استثنائية فيما يتكرر من ظواهر عبر الحقب التاريخية.
يجب أن ننتبه إلى أن الثبات الدائم ضمن تيار الزمن المتجدد لدى برغسون هو ثبات مكبوت عميقاً في العمق الإنساني وغالباً غير مدرك حتى بالنسبة لحامله، فهو ماضي ثاوي في باطن الحاضر؛ أي ما كان لايزال حاضراً فيما هو كائن، فهو سلبي في سكونه التكويني رغم أنه قابل للتحول إلى إيجابي في فعله متى ما استدعاه الموقف من الذاكرة والوجدان الدفين ليلعب دوراً على سطح الوجود كحدث وسلوك.
يشبه الماضي هنا بنية الصخور المتراكمة طبقياً، فالنحت الطبيعي يهذب من شكلها ولكنه لا يذيبها كلياً في مجرى الزمن المتعاقب.
- الماضي ما كان وانتهى، وهو بذلك ما أصبح عصياً على التغيير والتبديل أو البعث من جديد.
- ومع هذا فهو ذاك الحاضر فينا حضوراً أبدياً.
- نحن من يضفي المعنى عليه ونحن من يحدد له قيمته.
والضمير نحن ليس إلا ذات الحاضر العيني.
مال بعضهم إلى الجزم بأن المستقبل هو وحده من يمكنه أن يعطي الماضي معناه ويكسبه قيمته الحديثة بما يحتاجه منه لنفسه، وهذا الجزم مرده إشكاليات الحاضر التي ذكرت أعلاه وباعتبار أن العمل في الحاضر يراد به المستقبل لعدم وجود كثافة وجودية لهذا الحاضر.
نستنتج من قولهم إن:
- الماضي هو صنيعة المستقبل في ابتعاثه من جديد وهنا تبرز عبارتهم البديعة بأن الماضي هو مستقبل المستقبل وأظنها لهايدغر (أظنها في الزمان والوجود).
- المستقبل لا يوجد من الماضي رغم أن الماضي ثابت الحضور في المستقبل بالمعنى المذكور أعلاه.
- الماضي هو من يولد من رحم المستقبل، أو أن المستقبل هو من يوجد الماضي ويضفي عليه جدارة الحياة من جديد. الملاحظ أن هذه النتيجة معاكسة لحركة العلوم والطبيعة؛ فالماضي بحكم أسبقيته الزمنية وبفعل قانون العلية السببية يملك قدراً من الحتمية في تداعي الظواهر بعضها من بعض، وهذا الثبات الحتمي في العلل هو ما يمكن من تحديد وكشف قانون العمل، فالعلم ينظر إلى الأمام منطلقاً من السابق إلى اللاحق، أو مما كان تجاه ما هو ممكن، في حين أن الفعل الحر للإنسان الذي ينطلق مما يريده في المستقبل ليعيد بناء وبعث ما كان في الماضي بما يحتاجه المستقبل لمستقبله.
هنا يمكنني القول بأن؛
- الانتباه في الحاضر يجعل التوقع مهيمناً في توليده لكينونة التذكر.
- فالماضي ليس ما تحقق، بل ما يمكن أن يتحقق في المستقبل بما يضفيه المستقبل من معنى وقيمة على ما يريده من ماضيه.
- فالأزل المستقبلي يعطي معنى ويضفي قيمة على ماضي الأزل يتجاوز بها ماضيه.
- فكأنه حدث لم يكتمل يحتاج إلى إتمام العمل لكماله.
الصخب الدائر في الساحات العربية حول الماضي والتقاليد والسلف يعالج بطريقة تتصور أن الشعوب حمقاء جامدة في أطلالها، والحق أنها شديدة الحركية وباحثة عن المعنى والقيمة، وكل الصخب حول التراث مبعثه التطلع للمستقبل، أو يمكن القول إن النظر إلى الغد البعيد يتطلب نظرات إلى الأمس القريب.