التحديات الموضوعية أمام الخطاب الدعوي

338

أخذ موضوع تجديد الخطاب الديني مساحة واسعة من النقاش والتداول في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، وقد كان التركيز منصباً على تجديد الخطاب من ناحية علاقته بمشاكل الحضارة والأمة وواقعها بين الأمم وأمام الغرب، وموقف الخطاب من قضايا التقدم والنهضة والفاعلية.

ولكن لم يحظ الخطاب الدعوي بالدرجة نفسها من الاهتمام؛ أي الخطاب المعني بتذكير ودعوة الناس للدين وتجديد صلتهم بربهم ودينهم، وبالتالي عن مساحات التجديد المطلوبة لتمكين هذا الخطاب من التفاعل أكثر مع واقع الناس المتغير.

وأهم ما يخدم هذه المسألة هو الوعي بالتحديات الموضوعية القائمة في الواقع والتي تعيق الخطاب الدعوي من أداء مهمته كما ينبغي، خاصة التحديات المرتبطة بواقع الشباب وأزمة التدين الشبابي كما تحدَّثت المقالات السابقة.

وفي هذا المقال سنتحدث عن بعض جوانب التحديات القائمة أمام الخطاب الدعوي، مركزين على القضايا المتصلة بواقع التدين الشبابي وتغيراته، ضمن إطارين هما: ذوبان الحواضن الاجتماعية، وأثر مواقع التواصل الاجتماعية.

ذوبان الحواضن الاجتماعية

ذكرنا في المقال الأول الذي تناول موضوع أزمة التدين الشبابي كيف أن هناك حالة من التغير في نمط التدين الشبابي، يتجه بشكل أساس نحو التفلت من أنماط التدين السائدة، والتمرد على التربية الدينية الموروثة، ومحاولة تجاوز خطاب العلماء، ولكن إذا ما أردنا أن نفهم ذلك من ناحية أثره الاجتماعي، فهو سيعني حدوث نوع من الذوبان للحواضن الاجتماعية السائدة الحاملة للدين.

ومعنى الحواضن الاجتماعية للدين هو الإطار الاجتماعي الذي يتحدد ضمنه نمط تدين معين، ويعرِّف الفرد نفسه من خلاله، ويتخذه مرجعية له بالتماشي مع الحالة الاجتماعية المحيطة التي تعزز شكل التدين الذي يتخذه الفرد وتقدِّم له الشعور بالأمان والاستقرار النفسي.

عند ذوبان هذه الحواضن، يتحول التدين من كونه أمراً يشترك فيه الالتزام الفردي بالالتزام الجماعي إلى شكل من الالتزام الفردي المحض، بمعنى أن الخيارات الدينية لا تعود مسألة التزام اجتماعي بقدر ما هي قرارات يتخذها الفرد.

قد يُفهم هذا الأمر في سياق المجتمعات الغربية مثلاً، كالحالة التي وصفها أوليفيه روا في كتابه عولمة الإسلام حين وصف واقع الجاليات المسلمة هناك، ولكن كيف يكون الحال في سياق مجتمعاتنا العربية التي ما زال التدين يتخذ فيها مكانة كبيرة، وإن وجدت حالة الذوبان الاجتماعية هذه؟

هنا نستطيع أن نصف المسارات الي تتخذها حالة الذوبان هذه بالنسبة للفرد باعتبارها نوعاً من المناورات لبروز النزعة الفردانية؛ أي نزعة التعبير عن الذات في مقابل المجتمع الذي يعتبر نواة الحواضن الاجتماعية، والتي يمكن أن ينشأ عنها استقلالية وتفرد ناضج، أو مجرد حالات تمرد.

هناك عدة تجليات لهذه المسارات، مثل تغير شكل العلاقة مع الجنس الآخر سواء كان ذكراً أو أنثى، حيث تتسم شكل العلاقات بين الجنسين في الحواضن الاجتماعية الدينية التقليدية بنوع من المحافظة والفصل، ومن هنا يتخذ الفرد مساراً للتمرد على هذا الفصل، أو إعادة تعريف شكل علاقته مع الجنس الآخر، وأعتقد أن المسار لا يمكن استيعابه بدون مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت الفرصة أمامه.

عوداً إلى الفكرة الرئيسة من هذا المقال، ولا نريد أن نتوسع أكثر في المسارات المختلفة للنزعة الفردانية، لا بد من الإشارة للعلاقة بين ذوبان الحواضن الاجتماعية وأثر ذلك على الخطاب الدعوي، والكيفية التي يمكن أن يستجيب فيها الفرد لهذا الخطاب وينعكس على تدينه.

أهم ما يتصف به الفرد الذي تتجلى فيه النزعة الفردانية هو أنه لا يعير أهمية للالتزام لجهة تعلو عليه وتحدد له معايير ونواهي وغير ذلك مما يتصف به أي نمط التزام اجتماعي، هذا الالتزام الذي يتَّسم به الخطاب الدعوي الوعظي، ويوصي الفرد بالالتزام بمجموعة من المعايير والأوامر والنواهي التي تتحقق ضمن إطار فردي واجتماعي يحدده الالتزام والانضباط بتلك المعايير.

في حين أن النزعة الفردانية تجعل الفرد أميل للسير وراء خياراته الشخصية التي تنسجم مع حاجاته الفردانية، بمعنى أنه لا يعنيه الالتزام بمعايير موضوعية خارجة عن ذاته أو منضبطة بإطار اجتماعي يكون ملزماً فيه، بقدر ما يميل إلى خياراته الذاتية التي تتسق مع إشباع حاجاته، سواءً كانت هذه الخيارات دينية أو غير دينية.

لذلك نجد أن الكثير ممن يتمثل النزعة الفردانية يميل للاستماع لخطاب ديني دعوي مختلف عن الخطاب الوعظي التقليدي؛ مثل خطاب الدعاة الجدد كعمرو خالد، بحكم أن هذا الخطاب يربط الدين بحاجات الفرد اليومية والفردية، وفي الوقت نفسه لا يقدم خطاباً يجعل الفرد مضطراً للتخلي عن خياراته الفردية التي تنسجم مع رغباته وحاجاته.

وهنا تكمن إحدى التحديات التي تواجه الخطاب الدعوي اليوم، في كيف يمكن أن ينسجم ويتلائم مع تغير طبيعة الفرد وبروز النزعة الفردانية، وفي الوقت نفسه لا يكون مضطراً لتقديم تنازلات جوهرية في خطابه ومتطلبات التدين اللازمة عنه.

مواقع التواصل الاجتماعي

أعتقد أنه لا يمكن فهم الحالة المعاصرة من دون أخذ مواقع التواصل الاجتماعي والثورة التقنية في عين الاعتبار، خاصة بعد انتشارها الواسع وتحولها إلى جزء لا يتجزأ من حياة الناس اليومية.

وقد أشرنا تحت بند ذوبان الحواضن الاجتماعية كيف ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل حاضنة جديدة للفرد المتمرد أو الخارج عن الحواضن الاجتماعية التقليدية، وذلك لما تيسره من بيئة اجتماعية تتجاوز البنية الهرمية للمجتمع وتتفلَّت من الرقابة الاجتماعية، وهو ما يشكِّل تحدياً للخطاب الدعوي والتدين أيضاً.

ولكن هناك جانب آخر مهم في هذا السياق، فقد يقول أحدهم أن هناك العديد من المشايخ والدعاة قد انخرطوا في مواقع التواصل الاجتماعي، وفتحوا حسابات لهم فيها لينشروا أفكارهم ودعواهم، وبالتالي أين الفرق في ذلك؟

ولتوضيح هذا الجانب لا بد من طرح هذا السؤال: ما الفرق بين أن يكون الخطاب الدعوي في المساجد، وأن يكون في إحدى وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة؟ أو بصياغة أخرى، ما الفرق بين المنابر الدعوية التقليدية، والمنابر الدعوية التي تُقام على صفحة فيسبوك أو حساب سناب شات مثلاً؟!

أهم ما يميز المنابر الدعوية التي كانت قائمة خارج مواقع التواصل الاجتماعي هو أن مساحة المنافسة مع الأفكار الأخرى داخل البيئة نفسها يكاد يكون ضئيلاً جداً؛ بمعنى أن من يقيم مجلساً أو درساً أو خطبةً حول موضوع ديني معين، فهو على علم ودراية بأن من سيأتي إلى هذا المجلس هو قادم للاستماع لهذا الخطاب بعينه، كما أنه سيأتي مستمعاً وليس معقِّباً ومشجباً على ما يقوله الخطيب أو الشيخ.

فمن يحضر خطبة الجمعة مثلاً لن يكون مستمعاً لخطابات عديدة في الوقت نفسه، وإنما إلى ذاك الخطاب وفي ذاك المسجد، وحتى مساحة الاختيار بين المساجد أو المختلفة تبقى دائرةً داخل الإطار الديني المتعارف عليه، ولن تخرج عنه بطبيعة الحال.

وهنا يكمن الفرق، فمن يدخل إلى مواقع التواصل الاجتماعي فسيكون منفتحاً على خطابات عديدة في عدة مجالات تنافس بعضها بعضاً ولا تنتظم ضمن دائرة فكرية أو معرفية معينة، بل يتداخل في الديني وغير الديني، الموضوعي والشخصي، التقليدي والتحديثي، وغير ذلك.

فمثلاً يمكن أن يمر المتلقي في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي على منشور يتحدث عن موعظة دينية أخلاقية، لينتقل في المنشور الذي بعده إلى مدونة تفنِّد فكرة تقليدية رائجة، ليمر بعد ذلك إلى أشخاص يتجادلون حول رأي فقهي ما، وهكذا.

مما يعني أنه أصبح هناك العديد من المساحات والخطابات التي يمكن أن تنافس الخطاب الدعوي.

وبالإضافة إلى ذلك، تتسم طبيعة المجالس الدعوي خارج مواقع التواصل الاجتماعي بأنها موجَّهة إلى جمهور متجانس نوعاً ما في توجهاته الفكرية وفي اعترافه بشرعية من يتلقى منه العلم والدروس، ولكن أول ما يتَّسم به فضاء مواقع التواصل الاجتماعية هو أنها لا تحتوي جمهوراً متجانساً بالضرورة، بل هناك أنماط عدة من الأفراد الذين تجمعهم بالضرورة توجهات فكرية موحَّدة يمكن أن يتفقوا عليها، مما يعني أن الخطاب الدعوي اليوم قد أصبح مطالباً في أكثر من أي وقت مضى بأن يأخذ في حسابه هذا الاختلاف وهذه الفروقات الفردية.

 وهذا يقتضي أمراً مهماً، وهو أن أي فكرة أو خطاب يُقدَّم عبر هذه المواقع فهو معرَّض للنقد والاعتراض في أي وقت، وذلك بالدرجة نفسها التي يمكن أن يتلقَّى فيها القبول والترحيب، لأن مساحة التعليق على الفكرة قد باتت متاحة، والمنابر الأخرى أيضاً مفتوحة بالدرجة نفسها كذلك.

*** *** ***

من خلال ما سبق، وما نريد أن نقوله في هذا المقال، هو أن التحديات الموضوعية للخطاب الدعوي قد أصبحت أكبر مما سبق، وهو ما يقتضي وعياً جاداً من قِبَل الدعاة لتقديم خطاب قادر على الاستجابة لهذه التحديات.

ونقول تحديات موضوعية لأنها متعلقة بظروف وسياقات خارج مضمون الخطاب الدعوي ذاته، ولكنها تؤثر على هذا المضمون وتفتحه أمام معيقات ينبغي عليه تجاوزها حتى يتمكَّن من التكيف معها.

وهذه التحديات التي تحدَّث عنها المقال تتقاطع بشكل كبير مع أسباب حدوث الفجوة بين التدين الشبابي والعلماء والدعاة، وما لم يتم تدارك هذه المعيقات فسيبقى هذا الخطاب لاحقاً للواقع وغير قادر على الاستجابة لمتطلباته وحاجاته.