التفوق والإنجاز

198

عندما يفتخر الأذكياء والمتفوقون بإنجازاتهم ومساهماتهم فإن هذا يثير الاحترام والإعجاب والتقدير، فالنجاح مرتبط دائماً بالدأب والمثابرة والصبر والثبات والمغامرة. أما الكسل وخور العزائم فمرتبطة دائماً بالفشل والإخفاق. فما أجمل أن يسمع المرء من الأذكياء والمتفوقين خطاب شحذ العزائم واستنهاض الهمم والاستنفار لمعالي الأمور. ولكن هذا الخطاب على ضرورته وأهميته قد يؤول إلى عكس ما يرجوه صاحبه من الحفز والتشجيع، وتكون نتيجته مزيداً من الإحباط والشعور باليأس وبالدونية والعجز والاستخذاء.

لا بد من معرفة المخاطبين وتقدير الواقع الذي يعيشونه، لاستنهاض همتهم للتحرك إلى العمل والعطاء من النقطة التي يقفون عندها ومن الحال الذي يمتلكون فرصه وإمكانياته، أو الحال الذي يكابدون ويعانون ظروفه ومشكلاته. فخطاب التحفيز والتشجيع حين يتجاهل حال المخاطبين وواقعهم ينقلب إلى رسالة تحرك مشاعر الخيبة والحسرة والعجز والإحباط.

عندما يطالعنا الأذكياء والمتفوقون من المسلمين عبر مقاطع مسجلة في وسائل التواصل الإلكترونية ليشرحوا ما وصلوا إليه من تبوّء مراكز علمية أو إدارية في مؤسسات وشركات غربية ضخمة أو ما توصلوا إليه من إبداع واختراع، فإن هذا ولا شك يساهم في تحدي الصورة النمطية السلبية التي يصورها الإعلام الغربي المتحيز ضد الإسلام والمسلمين. ويثير مشاعر الفخر والإعتزاز بما قام به مسلمون ملتزمون من إنجازات ومساهمات. إن رسالة التشجيع والتحفيز مفهومة تماماً عندما توجه هذه المقاطع إلى المسلمين المقيمين في بلاد الغرب وهم يمتلكون فرصة التأهيل العلمي والمهني. ولكن أكثر من يشاهد هذه المقاطع في بلاد المسلمين يستقبل رسالة مختلفة تماماً. إنها رسالة الإحباط والشعور بالعجز والهوان لما تعانيه شعوب البلاد المسلمة من القهر والاستبداد والفساد حيث تعمل سياسات الدول في الداخل والخارج على حراسة التخلف والدفع بعملية هجرة العقول إلى أقصاها.

إن من أهم سلبيات المقاطع التي تتحدث عن إنجازات المسلمين في بلاد الغرب هي تلك الرسالة المستترة التي توحي أن ما يستحق التكريم والإشادة والاحتفال هي المساهمات في نموذج الحياة الغربي الذي يوجه إبداعات الإنسان وأولوياته ومزاجه الاستهلاكي.

لا بد أن ننتبه إلى أن الذين يعملون بدأب وصمت على تأمين الكفايات الضرورية لاستمرار الحياة الكريمة للأمة هم الذين يستحقون التكريم والإشادة والاعتراف بالفضل. وإن غياب هذا الأمر في ثقافة الأمم والشعوب يمثل البداية للانهيار والقابلية للخضوع والانكسار.

   لقد خاطب القرآن الكريم المؤمنين بعد القرح الأليم الذي أصابهم في معركة أُحد بقوله:

{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران: 139] ليرشدهم إلى البداية الصحيحة في معالجة أي أمر. فالمؤمن يستشعر العزة والاستعلاء بالإيمان وقيم الإيمان وليس بامتلاك أي أمر آخر. وأول ما يجب على المؤمنين أن يتذكروه هو موقعهم من الكون وخصوصية دورهم الموكل إليهم في بيان الهدي الرباني الذي تزكو به الحياة ويتأصل به الخير. فقيمة المؤمن في نفسه تنطلق من معرفته قيمة الحق الذي كُـلِّف ببيانه وتمثيله وإبرازه، وليس من مقدار القوة ومدى التمكين الذي يتمتع به. فالقوة والتمكين يتداولها الناس بقدر رباني تحكمه سنن التدافع والتداول. ومن الخطأ أن يربط المؤمن بين التمكين وبين امتلاك الحق والمشروعية. ومن الخطأ أن يغفل المؤمن عن مصدر اعتزازه واستعلائه المتمثل بالإيمان وقيم الإيمان والحق والخير.

لا بد من تحديد الوجهة ومجال العمل والانجاز ومعيار الاعتزاز والاستعلاء، حتى لا نقع في ما سماه الدكتور المسيري رحمه الله ‑الاختراق الثقافي‑ حين تخضع الأمة طواعيةً لمقاييس غريبة عن هويتها الحضارية ووظيفتها الكونية، وتستبطن توجهات الانجاز وتحصر مجالات الريادة والإبداع في ما يصب في خدمة نموذج حضاري مفارق لمنظومة القيم الإنسانية ولا يعتبر الأولويات التي يجب على المسلم أن يتحراها في نشاطاته الفكرية والعملية.

فالذين يتلقون رسائل التفوق لنموذج الحياة الغربي بتلهف من قال: { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] لا بد أن يدركوا أن الذين أوتوا العلم ينذرونهم بالويل والهلاك. فقارون هذا العصر لن يكتفي بإبراز الزينة بل يريد تجريد الأمم والشعوب من كل عناصر الكفاية والاستقلال.

وقد وقفت في أدبيات التقنية المناسبة على نص خطير لا بد من التمعن في دلالاته وانعكاساته على المستوى الفكري والعملي. ويصور هذا النص مشكلة حقيقية تعاني من مآلاتها شعوب دول العالم الثالث بشكل عام وشعوب دول العالم الإسلامي بشكل خاص، ومما يرتبط بنموذج التنمية، النظام التعليمي وبرامج الإعداد المهني.

“وقد بينت كثير من الدراسات التي تناولت بالتحليل النظام التعليمي وعلاقته بالتنمية في كل من الهند وبعض الدول الإفريقية ودول أمريكا اللاتينية، أن مناهج التعليم التي تحاكي نظام التعليم الغربي تعمل على استنزاف الإمكانيات الفكرية والعلمية المحلية لتصب في خدمة النخبة المنحازة لنموذج الاستهلاك الغربي. فالإعداد العلمي والمهني يربط المتعلمين بحاجات ومشكلات مجتمع النخبة ويؤهلهم للمشاركة في حلها. وفي الوقت نفسه لا تهتم المناهج بالتعريف بالإمكانيات والموارد المحلية فيجد المتعلم نفسه غريباً في بيئته التي نشأ فيها ولا يستطيع ‑نظراً لطريقة تأهيله العلمي والمهني- أن يساهم في تنمية محلية حقيقية، ولا يجد له مجالاً إلا أن يلتحق بأفواج المهاجرين إلى أطراف المدن وعشوائيات الفقراء، أو اللاجئين إلى الدول التي تستطيع استثمار تأهيلهم العلمي وكمون إبداعهم التقني. وتكون النتيجة ‑كما تشير الدراسات‑ أن تذهب النفقات على التعليم في بلاد العالم الثالث هدراً فلا تساهم في تنمية حقيقية للأغلبية الساحقة من السكان الفقراء.” اه

إن على المسلم الذي أنعم الله عليه بفرص التعلم ووهبه إمكانيات الإبداع، أن يفهم قضية الإبداع والإنجاز انطلاقاً من مفهوم -فرض الكفاية‑ والذي يعني أن يستشعر أصحاب الإمكانيات مسؤوليتهم عن حاجات الأمة في كل مجالات وجودها المادية والفكرية والاجتماعية، بما يحقق الكفاية ويؤكد الاعتزاز بهوية الأمة وثقافتها. فلا بد أن ينطلق الأذكياء وأصحاب الإمكانيات من فهم لواقع أمتهم وأولويات حاجاته ليخدموه ويقدموا له ما يساهم في تخفيف معاناته ومشكلاته.

أما الإبداع والإنجاز الذي يساهم في حل مشكلات مجتمع النخبة المتمثل في النموذج الاستهلاكي الغربي، ويساهم في دفع ورفد إنجازاته التقنية التي لا تعود على الفقراء إلا بمزيد من الإرهاق، فلا أجد فيه ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز إلا على المستوى الفردي من تحقيق الذات والنشوة بالنجاح.